أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - محمد المثلوثي - السيرك الانتخابي في تونس..-اليسار يريد انقاذ النظام-















المزيد.....


السيرك الانتخابي في تونس..-اليسار يريد انقاذ النظام-


محمد المثلوثي

الحوار المتمدن-العدد: 3509 - 2011 / 10 / 7 - 15:07
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    



برغم الهرسلة الاعلامية والحملة الدعائية التي قامت بها السلطة والأحزاب لحث السكان على التسجيل في القوائم الانتخابية فان نصف الناخبين المفترضين قد امتنعوا، لهذا السبب أو ذاك، عن "القيام بواجبهم كمواطنين واعين ومتحضرين". ويمكن للمتابع أن يلاحظ الهوة الكبيرة بين الهرج السياسي الذي تقوم به الأحزاب ووسائل الاعلام وبين اللامبالاة التي تميز الجزء الأعظم من السكان، لامبالاة سلبية حينا، لكن لامبالاة ايجابية في كثير من الأحيان. حيث نشهد، خاصة في الأوساط "الشعبية"، ظاهرة عامة من رفض الأحزاب سواء من خلال التشهير الصريح بهذه الأحزاب ووصفها بكونها متسلقة وانتهازية و"راكبة على الثورة" وتستعمل المال السياسي لاستدرار عطف الناخبين والمناصرين. أو من خلال حالة عدم الثقة في خطابات الساسة والتندر بوعودهم المنتفخة. كذلك تصل اللامبالاة الايجابية في أحيان عديدة الى حالة من التمرد على السلم الاجتماعية التي تحاول الأحزاب والنقابات فرضها باسم "حماية البلاد من الفوضى" أو "حماية الاقتصاد الوطني من الانهيار" أو "خطر العصابات المنظمة والمجموعات الارهابية" أو "انجاح التحول الديمقراطي"...الخ. وتمظهر ذلك خاصة في تواصل الاضرابات العمالية والاعتصامات ورفض الانصياع لقانون الطوارئ الذي أعلن الوزير الأول أن الحكومة ستطبقه بكل حزم، والأمر الصادر عن قيادة اتحاد الشغل بوقف كل أشكال النضال النقابي. واضافة لدعوات المقاطعة الصريحة المعلنة من كثير من المجموعات والناشطين والشباب على صفحات الفيسبوك، تميزت بداية الحملة الانتخابية بتمزيق اللافتات الاشهارية لكل القوائم الانتخابية في عديد الأماكن، بل وصل الأمر الى طرد بعض الأحزاب ومنعها من القيام بحملاتها الانتخابية. وهو ما اضطر العديد منها الى الالتجاء سواء لأجهزة القمع أو لانشاء ميليشيات حماية خاصة لتأمين اجتماعاتها وحماية رموزها.
كل هذا يعكس، بمستويات مختلفة، حالة رفض كبير للسيرك الانتخابي الذي تريد السلطة فرضه على الجماهير، ووعي متفاوت بأن هذه الانتخابات لا تمثل سوى اعادة ترتيب للنظام السائد ومعركة بين الأحزاب ومراكز القوى داخل هذا النظام لتحديد نصيب كل طرف من كعكة السلطة السياسية القادمة وفق قدرة كل طرف على جر قطيع أكبر من الجمهور وراءه، وانه لا علاقة لهذه الانتخابات بالمسار الانتفاضي، بل انها جاءت لوقف هيجانه واستعادة شرعية النظام بتغيير بعض رموزه واعادة صياغة ديكوره الديمقراطي. كما أن هذه اللامبالاة تعكس عدم الثقة المعمم في النخبة السياسية القديمة منها والجديدة التي أثبتت أن لا هدف لها الا الحصول على مكان في السلطة، وأنها اذ تغلف طموحها السلطوي ذاك بالشعارات البراقة والوعود الطنانة، فانها عاجزة تماما على التصدي الفعلي للمشاكل العميقة التي تعانيها الجماهير.
فالبطالة التي يتبجح مهرجو السياسة بأنهم وجدوا لها البلسم الشافي والحل السحري تتعاظم يوما بعد يوم. والخدمات الاجتماعية والصحية العمومية تزداد تدهورا، وغلاء الأسعار المتصاعد يفقد كل الزيادات الاسمية في الأجور قيمتها. كما تزداد مظاهر الفقر والجوع وحملات الهجرة السرية. وفي مقابل المليارات التي تنفقها الحكومة والأحزاب لانجاح الحملة الانتخابية، نجد بؤر الفقر تزداد توسعا ومظاهر الجريمة والتسول والدعارة تستفحل لتصبح ظاهرة يومية عادية لا تجد السلطة لها من حل سوى مزيد ابراز أجهزة قمعها لأنيابها وتبرير مزيد تغول آلة البوليس والجيش. ورغم ما سارعت اليه الأقطاب العالمية لرأس المال (الاتحاد الأوروبي، الولايات المتحدة الأمريكية، دول الخليج) من عمليات ضخ للأموال في خزينة الحكومة، فان هذه الأخيرة تبدو عاجزة تماما على الاستجابة لمطالب التشغيل وتحسين المقدرة الشرائية للأجراء أو تحسين الخدمات العمومية. ولا يبدو أن هامش المناورة الذي تتوفر عليه قادرا على مساعدتها في ادارة أزمتها الخانقة. كما لا يبدو أنها قادرة في المدى القريب على استعادة "هيبتها" واعادة ترتيب أجهزة قمعها وفرض "الانضباط" على السكان، خاصة في المناطق المسماة داخلية مثل القصرين وسيدي بوزيد وقفصة وفي الأحياء "الشعبية" بما في ذلك في العاصمة نفسها. هذا الواقع يجعل من نجاح السلطة والأحزاب والنقابة في جر الجمهور الى السيرك الانتخابي مسألة مصيرية وحاسمة بالنسبة للسلطة. اذ من خلال هذه الانتخابات، وبغض النظر عن نتائجها والتوازنات السياسية التي ستخلقها داخل السلطة السياسية، سيحاول النظام اعادة "الأمن" وضبط حالة الانفلات الشعبي واستعادة الثقة لجهازه البيروقراطي والاداري. وليس غريبا أن أهم عنصر في دعاية الأحزاب هو الدعوة لعودة "الأمن" و"فرض القانون" وانهاء "حالة التسيب" بما يسمح للاستثمارات المحلية والأجنبية باستعادة الثقة في بلادنا، وهذا غير ممكن بالنسبة لهم، بدون الخروج مما يسمونه "الشرعية التوافقية" (أي الشرعية التي صنعتها صفقة انشاء الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة وقبول الأحزاب والنقابة بحكومة السبسي) الى "الشرعية الانتخابية"، وبالتالي خروج السلطة من وضعها "المؤقت" الحالي الى وضع مستقر يسمح لها بفرض "النظام" وعودة عجلة الاقتصاد الى دورانها العادي. واذا ترجمنا هذا على أرض الواقع، فانه يعني وقف النضالات الجماهيرية المنفلتة عن التأطير الحزبي والنقابي وفرض خضوع الكادحين وقبولهم بعودة آلة الاستغلال الى سالف نشاطها، بحجة أن السلطة الجديدة المنبثقة من صناديق الاقتراع "الديمقراطية" سيكون لها كل الشرعية "الانتخابية" للقمع "القانوني" "وفق المعايير الدولية لحقوق الانسان" و"العقيدة الجديدة لأعوان البوليس" لكل حركة جماهيرية لا تخضع للأحزاب والنقابات ولا تكون في اطار "القانون" وسلطة الدولة.
وكعادتها سارعت الأحزاب اليسارية الى عكاظيتها الثورية الممجوجة حول "التحول الديمقراطي" و"سلطة الشعب" و"الجمهورية الديمقراطية الاجتماعية" و"التصدي لخطر الاسلاميين" و"الحفاظ على المكاسب الحداثية لشعبنا" و"تحرير الرأس المال الوطني من سطوة الرأسمال الطفيلي والعائلات الفاسدة"، كل هذا طبعا بالمرور عبر صناديق الاقتراع وانتخاب الشعب لممثليه "الحقيقيين"، من أجل صياغة دستور يضمن للشعب الكريم الحرية والحق في الشغل والسكن والصحة والتعليم (وهي حقوق "مكفولة" بنص الدستور القديم) وضمان عدم عودة الديكتاتورية وارساء التداول السلمي على السلطة (أي تداول السلطة سلميا بينهم وبين أحزاب اليمين). تلك هي وصفة اليسار "لاستكمال مهام الثورة"، هي في الواقع لا تختلف في شيئ عن وصفة اليمين. وحتى اللهجة الخطابية الثورية عند هذا اليسار قد تركت مكانها للخطابات الديمقراطية "المعتدلة" و"المسؤولة" و"القبول باللعبة الديمقراطية" (وهي لعبة بالفعل) وتهيئة الجمهور للقبول بالأمر الواقع والعودة للمنازل وممارسة "حقهم في الانتخاب" (حقهم في اختيار أسيادهم الجدد) في كنف الهدوء وعدم تعطيل "المسار الديمقراطي" ولعب دور "المواطن الصالح" الذي يكتفي بوضع ورقة في صندوق الاقتراع ليترك للساسة المنتخبين "بشكل ديمقراطي شفاف" مهمة تنفيذ برامجهم العملاقة التي ستقضي على البطالة والفقر والتفاوت الطبقي اللعين، فقط من خلال الارادة الطيبة لهؤلاء الساسة، وبفضل الضمير الثوري الحي لتلك الأحزاب وزعمائها الذين يتقنون تدبيج الخطابات التلفزيونية النارية. بل ان هناك أطرافا يسارية تزيد على أوهامها وهما اضافيا بادعائها أنها تشارك في هذه المهزلة الانتخابية بدون أوهام، وانها فقط تريد استغلال مساحة الدعاية الانتخابية للترويج لبرامجها الثورية و"الاتصال" بالجماهير لبث "وعيها الثوري" في صفوفها. طبعا، فهذه الأطراف تنسى، أو تتناسى أن الآلاف المؤلفة من الجماهير التي تقاطع الانتخابات وتواصل نضالاتها بأشكال مختلفة لم تكن بحاجة لهذا "الوعي الثوري جدا" لتفهم حقيقة هذه الانتخابات وأهدافها.
ومثلما مثلت هذه الأحزاب اليسارية، بشراكة علنية مع أحزاب اليمين، صمام أمان للنظام من الانفلات الجامح للجماهير وما أثبتته من جدارة في لعب لعبة استعاب الحركة وتوجيهها وجهة الاصلاحات السياسية وعقد الصفقات مع النظام واضفاء الشرعية عليه بانشائها لما سمي بالمجلس الوطني لحماية الثورة الذي تحول بمرسوم حكومي الى الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة التي عوضت الفراغ الذي تركه حل البرلمان ومجلس المستشارين. وبمثل ما مثلته من قوة تخريب للثورة وبث الأوهام حول المجلس التأسيسي الذي تتفاخر بكونها كانت من الأوائل الذين رفعوا هذا المطلب، فان هذه الأحزاب اليسارية تواصل الآن مسيرتها المضادة للثورة بمزيد بث الوهم حول المشاركة في هذا السيرك الانتخابي وما يسمى بالانتقال الديمقراطي، والمساهمة في نشر الروح البرلمانية ومحاولة وأد كل نفس ثوري في صفوف الجماهير.
ولعل المتأمل في البرامج التي يسوقها هؤلاء اليساريين يلاحظ بوضوح حجم الأوهام التي يبثونها والتي لا تختلف، الا في لهجتها، عن برامج اليمين. فنجد عند هذا الحزب شعار "بناء اقتصاد وطني مستقل"، وهم يعرفون مسبقا أن هذا الشعار خاو وفاقد لأي مضمون فعلي. اذ من جهة فان "اقتصادا مستقلا" في ظل النظام العالمي للرأسمال هو من قبيل اليوطوبيا الوهمية وخطابا شعبويا بائسا (فاقتصاد أكبر دولة رأسمالية، الولايات المتحدة الأمريكية، ليس مستقلا)، ومن جهة أخرى فان وصف اقتصاد بأنه "وطني" لا يضيف أي تعريف جديد لهذا الاقتصاد، بما أن كل الاقتصاديات في العالم هي اقتصاديات "وطنية"، أي أنها تجمعات قطرية للرأسمال في مواجهة المنافسة العالمية، وأن "وطنية" الاقتصاد لا تنزع عنه طابعه الرأسمالي، أي طابعه المتناقض الذي يقود دائما الى الاختلالات وفوضى المنافسة والاستغلال الطبقي وما يصاحبه من فقر وبطالة..الخ.
كما نجد عند حزب يساري آخر شعار "من أجل تنمية جهوية متوازنة"، وهم يعرفون مسبقا أن التنمية الرأسمالية هي بطبيعتها تنمية غير متوازنة. فالأساس والشرط المسبق للاستثمار الرأسمالي هو المردودية الاقتصادية وليس التوازن بين الجهات أو الفئات الاجتماعية. والمردودية الاقتصادية ليست معطى قطريا، بل عالميا، أي مرتبطا بمستوى المردودية الاقتصادية في السوق العالمية. وهذا يعني أن اتجاه الاستثمار الرأسمالي مرتبط بمستوى الربحية الذي يمكن أن يوفره هذا القطاع أو ذاك وهذه الجهة أو تلك، ولا علاقة له بحسن نية السياسيين أو برغباتهم وبرامجهم الملفقة. فعدم التوازن في الاستثمار الرأسمالي بين الجهات ليس مرده سياسات خاطئة لبن علي، مثلما يريد أن يوهمنا اليسار كما اليمين، فنحن نعرف أن بن علي، بصفته الخادم الطيع لمصالح رأس المال ومنفذا لآليات اشتغاله، قد أعطى الامتيازات الجبائية الخيالية والاعفاءات من المساهمات في الصناديق الاجتماعية وغيرها من الامتيازات لجلب الاستثمار الداخلي والأجنبي الذي كان أولوية في البرامج الاقتصادية للدولة، غير أن كل هذا لم يكن ميزة تفاضلية يمكنها اجتذاب رأس المال بما أنها امتيازات توفرها تقريبا كل الدول في العالم، بما في ذلك الدول الصناعية المتطورة. كما أنهم يفسرون عدم التوازن الجهوي بغياب ما يسمونه البنية التحتية في "المناطق الداخلية"، ويدعون الى اقامة مشاريع ضخمة، تتكفل بها الدولة، لخلق "فرص عمل" جديدة من جهة، ولانشاء شبكة طرقات وسكك حديدية...الخ تشجع الرأسمال على الذهاب لتلك المناطق. طبعا، هذا حلم كل بورجوازي صغير يحاول مواجهة الكارثة الرأسمالية بمزيد تعميمها. لكن هذا المنطق يخفي الحقيقة الماثلة أمام أعينهم، وهي أن المناطق "المرفهة" التي عم فيها الاستثمار الرأسمالي وتتوفر على "بنية تحتية" نموذجية للاستثمار، هذه المناطق بالذات ليست فردوسا الا لجزء من سكانها، أما الأغلبية المتكومة في الأحياء "الشعبية" والقرى والبلدات المتمركزة على أحزمة هذه المدن فانهم لم يجنوا من الاستثمار الرأسمالي الموعود الوطني منه والخارجي الا الفقر والبطالة وانتشار الجريمة والتسول والدعارة. وهكذا فانهم لا يعيدون عدم التوازن الى سببه الجذري والعميق، أي الاستثمار الرأسمالي ذاته، بل انهم يحلمون بمداواة الاختلال بمزيد دعم وتوسيع الاستثمار الرأسمالي المتسبب الأصلي في هذا الاختلال. على رأي الشاعر العربي: "وداوني بالتي كانت هي الداء".
وهذه الأحزاب اليسارية، كما اليمينية، تحاول ايهام الناس أنه بالامكان حل معضلة البطالة، ليس بتغيير أسلوب الانتاج الراسمالي المنتج، بطبيعته، للبطالة، بل بتطويره وتدعيمه وتعميمه على كل الجهات. وهذا يعني أن البطالة ناشئة، حسب رأيهم، عن ضعف تطور الرأسمالية وغياب الصناعات الثقيلة وتقلص القطاعات "المنتجة". وهم بذلك يحاولون اخفاء حقيقة كون البطالة ليست سوى نتيجة حتمية للتطور الرأسمالي نفسه. فاضافة لكون البطالة ظاهرة مستحدثة تاريخيا، وجدت بظهور أسلوب الانتاج الرأسمالي ذاته، فالبطالة في المجتمعات الماقبل رأسمالية كلمة بلا معنى، فان التطور الرأسمالي بالذات هو الذي يحيل جزءا متعاظما من البشرية على البطالة، وكل تطوير تقني وتكنولوجي، في ظل الرأسمالية، يعني أوتوماتيكيا مزيدا من البطالة وتعويض الآلة والروبوات والحواسيب لليد العاملة الحية. وهكذا مرة أخرى، فهم يريدون الغاء النتيجة بمزيد تثبيت السبب. يريدون الرأسمالية لكنهم لا يحبذون الفقر والاستغلال والتفاوت الطبقي. يريدون تطوير الاستثمار الرأسمالي ولا يرغبون في البطالة. يريدون أسلوبا في الانتاج يقوم على الربح والمنافسة ولا يريدون عدم التوازن الاجتماعي والجهوي. انهم في الخلاصة يدعمون السبب الكامن وراء العلة لكنهم يريدون التخلص من المرض. ذلك هو بالذات جوهر التفكير البورجوازي الصغير الذي لا يرى في الرأسمالية الا جانبها "الايجابي" (والذي هو مطمحه الخاص)، جانب التطور والثروة والرفاه..الخ، وفي المقابل فان الجانب "السلبي"، جانب الفقر والاستغلال والبطالة والكوارث البيئية..الخ، يظهر له وكأنه شيئ طارئ على الرأسمالية، جانب يمكن التخلص منه بمزيد تطوير الرأسمالية، ولا يرى فيه جزء ملازما لهذا الأسلوب الخاص في الانتاج.
وهذا ينسحب أيضا على شعارهم حول "بيئة سليمة والقضاء على التلوث". فمطمح البورجوازيين أنفسهم هو القضاء على التلوث. اذ أن التلوث آفة تشمل المجتمع كله، وتدمير البيئة والموارد الطبيعية يهدد الرأسماليين أنفسهم، ذلك أن الانتاج الرأسمالي يقوم على استهلاك تلك الموارد الطبيعية، وخطر نضوبها يهدد الاستثمار الرأسمالي بمثل ما يهدد البشرية ككل. لذلك فان تدمير البيئة ليس ناشئا عن سوء نية البورجوازيين، أو كأنه أمر مخطط له سلفا من طرف أشخاص أشرار، وأنه لمقاومته يجب توفر أشخاص خيرين حكماء يمكنهم تسيير الاقتصاد وتلافي الكارثة البيئية المحدقة، أو كأن الأمر يتعلق برغبة هذا الديكتاتور الجشع أو ذاك الحزب اليميني المتطرف او الاقتصاديين الليبراليين في تدمير البيئة وصناعة التلوث.
الأمر، في الواقع، لا يتعلق بالأشخاص أو سياسات الأحزاب، بل بالميكانيزمات التي يعمل وفقها الانتاج الرأسمالي. فهذه الآليات الداخلية التي تشتغل وفق منطق المردودية الاقتصادية والمنافسة والانتاج من أجل الربح هي التي تدفع الرأسماليين الى توسيع الانتاج بشكل دائم ومتسارع، أي أن الرأسمالية قد أوجدت نمطا عالميا في الانتاج لا يتجه لتلبية حاجات البشر، بل الى الانتاج من أجل الانتاج نفسه بدون حد يمكن وضعه بشكل مسبق وواعي. اي أن الشرط المسبق للانتاج ليس تلبية حاجة محددة سلفا، يتوقف الانتاج عند حدود تلبيتها، بل انتاج أقصى ما أمكن من البضائع لحصد أقصى ما أمكن من الربح. والحاجة الى هذا الانتاج أو ذاك يتم خلقها فيما بعد، عبر آلة الاشهار والتسويق. أي أن الرأسمالية تنتج أولا، ثم تعتني بعد ذلك بخلق الحاجة لما أنتجته. وهذا يقود الى غياب أي حد يحد الانتاج أو يوقفه الا الحد الذي يخلقه الانتاج نفسه، أي عائق القدرة على الاستهلاك الفعلي لذلك الكم المتعاظم من البضائع. هذا النمط من الانتاج غير القابل للضبط أو التوقف عند حد معين هو ما يجبر البورجوازيين، رغما عنهم، على استنزاف الموارد الطبيعية وخلق اختلالات بيئية غير قابلة للاصلاح. وهكذا، وعلى الضد مما يروج له اليسار واليمين، فان التصدي لمعضلة التدمير اليومي للبيئة لا يتعلق بوضع حزب "ثوري" مكان آخر "رجعي"، أو وضع أشخاص "وطنيين" مكان آخرين "عملاء"، ولا هو موضوع أخلاقي يمكن حله بالعودة الى قيم دينية او عقائدية من أي نوع، ولا بانتخاب ثلة من الحكماء ليخطوا لنا دستورا يضمن لنا بيئة سليمة (والدستور القديم يتضمن هذه "الضمانات" الحقوقية). فتدمير البيئة سيتسارع ولن يوقفه سن أفضل الدساتير أو تطبيق أقصى القوانين الزجرية، أو القيام باصلاحات أو ترقيعات أو صعود اليمين أو اليسار الى سدة الحكم. وعلى العموم فالرأسمالية تتجه نحو وضع المشكل البيئي كنفقة اضافية تضاف لنفقات الانتاج. والشركات "الملوثة" تتجه الى تقديم التعويضات على ما تتسبب فيه من آفات. بل ان الرأسمالية قد أصبحت تقايض الناس بين البيئة وتوفير الشغل. وأصبحت محاولات وقف المشاريع "الملوثة" تصطدم بخسارة "مواطن الشغل". فلو فكرنا مثلا بوقف عمل شركة الفسفاط في كل من قفصة وقابس وصفاقس فان أول من سيعارض ذلك هم العمال أنفسهم وليس الرأسماليين.
هذه هي، في الواقع، الدائرة المغلقة والعبثية للانتاج الرأسمالي. وداخل هذه الدائرة فان الحلول الاصلاحية تناقض بعضها البعض ولا تقود الا الى مزيد الاختلالات والكوارث. لكن اليسار بقي يراوح ضمن نطاق هذه الدائرة بالذات. وهذا لسبب بسيط، كون اليسار نفسه هو الوجه الآخر لليمين، أي وجهان لعملة واحدة، عملة النظام الرأسمالي وهو يواجه تناقضاته التي تزداد استعصاءا.
واذا كانت خطابات اليسار وبرامجه تتجه قدما نحو التماثل مع خطابات وبرامج اليمين، فذلك لأن النظام الرأسمالي العالمي نفسه لم يعد يملك أمامه خيارات عديدة ولا مجالات جديدة للتنفيس عن أزمته العاصفة. وهذا ما يجعل الحلول الاصلاحية من داخل هذا الأسلوب في الانتاج تفقد شيئا فشيئا قدرتها العملية على التحقق. فأسلوب الادارة "الاشتراكي"/الكينزي المعتمد على تدخل الدولة واعطاء الأولوية للقطاع "العام"، الذي اعتمدته الرأسمالية الى حدود السبعينات، قد سقط ولم يعد بالامكان أن يمثل حلا للأزمة. كذلك أسلوب "الاقتصاد الحر" المسمى نيوليبرالي، والذي يعتمد على تقليص دور الدولة في حدود القمع والجباية وتحرير الأسواق، والذي اعتمدته الرأسمالية منذ بداية السبعينات وتعمم عبر ما سمي ببرامج الاصلاح الهيكلي، هذا الأسلوب يقود الرأسمالية اليوم الى أعظم أزماتها. وهكذا لم يبق لمتحذلقي السياسة وبائعي البرامج الانتخابية يمينهم ويسارهم سوى ترديد مقولات فارغة من محتواها من نوع "العدالة الاجتماعية" و"الكرامة" و"الحرية" و"الديمقراطية"..الخ بدون أن يتجرأ أي منهم على الالتفات الى الأساس الماثل تحت أقدامهم، الأساس الذي بدون وضعه موضع السؤال فلن نتقدم خطوة واحدة للخروج من هذا النفق الذي يسجننا فيه النظام الرأسمالي.
وفي مقابل هذا التهريج السياسي، والوضع الكاريكاتوري للنخبة السياسية وأحزابها المتناسلة، فان تقدم الموجة الثورية لا يفترض مقاطعة هذا السيرك الانتخابي ورفض الذهاب كالقطيع وراء الدعاية الاعلامية ورمي بضائع البرامج الحزبية في المزبلة فقط، بل انه يفترض تطوير النضالات الاجتماعية لعموم الكادحين ورفض أي هدنة طبقية تحت أية ذريعة أو أي تبرير. كما يفترض تخلص الحركة الثورية من أي تأطير حزبي أو نقابي يسيجها في حدود النظام الاجتماعي القائم. وهذا ليس حلما، بل ان بذراته الأولى قد أوجدتها الجماهير في معمعان تجربتها، وما المطلوب اليوم سوى تطوير تلك البذرات لتنضج أكثر وتستفيد من أخطائها السابقة وتتخلص من أوهامها التي كبلتها، وأول هذه الأوهام التي يجب التخلص منها هو وهم البرلمانية، أي التوهم بامكانية تغيير جذري في الأوضاع بالمرور عبر صناديق الاقتراع بطريقة "سلمية" و"حضارية". فالبرلمانية والانتخابوية والتداول السلمي على السلطة ليست سوى فخاخ منصوبة في طريق الثورة. واذا لم تتخلص الحركة الثورية ضد النظام الرأسمالي من هذه الأوهام فانها ستتفسخ مرة أخرى في مقاعد البرلمانات والحكومات والمجالس البلدية والصالونات السياسية، لتتحول الى متصرف جديد في الرأسمال ومطبق ذليل لقوانينه الاقتصادية وآليات اشتغاله المدمرة والتي من شأنها اعادة انتاج نفس الكوارث الاجتماعية التي انتفض الجمهور ضدها.



#محمد_المثلوثي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هل ستسلم الثورة نفسها للسياسيين (جزء ثالث)
- بيان 1ماي لنواصل رفع مشعل الثورة
- هل ستسلم الثورة نفسها للسياسيين (الجزء الثاني)
- هل ستسلم الثورة نفسها للسياسيين (الجزء الأول)
- مشروع من اجل جبهة الفقراء
- انتفاضة تونس بين التحرر الفعلي وخطابات الساسة
- حول اللجان الشعبية
- تنظيم حزبي أم تنظيم كوموني؟
- حول الشيوعية وبرنامجها التاريخي
- التاريخ بين العلم والديالكتيك
- نقد العلمانية (3)
- نقد العلمانية (2)
- نقد العلمانية (1)
- ماركس والماركسية
- ايران: الثورة، ومحاولات الالتفاف


المزيد.....




- صواريخ إيران تكشف مسرحيات الأنظمة العربية
- انتصار جزئي لعمال الطرق والكباري
- باي باي كهربا.. ساعات الفقدان في الجمهورية الجديدة والمقامة ...
- للمرة الخامسة.. تجديد حبس عاملي غزل المحلة لمدة 15 يوما
- اعتقال ناشطات لتنديدهن باغتصاب النساء في غزة والسودان من أما ...
- حريات الصحفيين تطالب بالإفراج عن الصحفيين والمواطنين المقبوض ...
- العدد 553 من جريدة النهج الديمقراطي بالأكشاك
- التيتي الحبيب: قراءة في رد إيران يوم 13 ابريل 2024
- أردوغان: نبذل جهودا لتبادل الرهائن بين إسرائيل والفصائل الفل ...
- النسخة الإليكترونية من جريدة النهج الديمقراطي العدد 551


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - محمد المثلوثي - السيرك الانتخابي في تونس..-اليسار يريد انقاذ النظام-