أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ملف حول قيام الدولة الفلسطينية و القضية الكردية وحقوق الأقليات وحقها في تقرير المصير في العالم العربي - سعيد مضيه - الدولة الوطنية من حلم إلى كابوس















المزيد.....



الدولة الوطنية من حلم إلى كابوس


سعيد مضيه

الحوار المتمدن-العدد: 3511 - 2011 / 10 / 9 - 14:25
المحور: ملف حول قيام الدولة الفلسطينية و القضية الكردية وحقوق الأقليات وحقها في تقرير المصير في العالم العربي
    


1 – أيهما أهم برأيك، بناء دولة مدنية على أساس المواطنة بدون تمييز قومي أو ديني واحترام حقوق جميع القوميات والأديان، أم بناء دول على أساس قومي و أثنية ، بغض النظر عن مضمون الحكم فيها؟

تبخيس الإنسان يمثل أسوأ ما تحدر إلى مجتمعاتنا من عصور الظلام واستقر في الوجدان الجمعي. والمعروف أن مجتمعات الشرق كافة لم تقطع الحبل الصري الذي يربطها بعالم العصر الوسيط؛ فلم تستقر معالم الحداثة في البنى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لهذه المجتمعات. وغالبا ما يجيّر التبخيس على أبناء الأقليات العرقية أو الدينية او الطائفية والعشائرية، وقد يرتد التبخيس على الذات فيتجلى تجريحا للنفس وتعطيلا للعقل، يتجليان خنوعا لطغيان الحكم وقبولا بهدر الحقوق والتسليم بالاستلاب باعتبار ذلك هو القضاء والقدر.
تحدر إلينا من التراث الفكري للعصر الوسيط ثقافة انسحاق واستلاب تتمثل في تبخيس البشر وتعميم نهج القهر والهدر الاجتماعيين، وحرمان الجماهير من تقرير المصير الوطني من خلال توأمة الدين والحكم السلطوي. رصد المنور عبد الرحمن الكواكبي، في كتابه "طبائع الاستبداد" أن "الاستبداد يربي الناس على الأخلاق الملعونة، فهو يجبر الناس على استباحة الكذب والخداع والنفاق والتذلل وإماتة النفس، ونبذ الجد وترك العمل... ويربط أكثر علماء تاريخ الأديان بين الاستبداد السياسي والاستبداد الديني". ضمن هذا الواقع المزري تبرز في مقدمة مهام النهوض الوطني توفير الشروط المادية والروحية لاستعادة النقاهة النفسية والعقلية ووضع الأفراد على درب الوعي واستيعاب الواقع من أجل التأثير فيه كقوة إيجابية، وتعميم المساواة في حقوق المواطنة.
وحيث يعم الجور أفراد المجتمع المهدور كافة ، من مختلف الطوائف والعرقيات والعشائر يأتي رد الفعل احتجاجات على أسس من العصبية الطائفية أو العشائرية أو الإقليمية. تغض النظر عن حكم النخبة الملتفة حول الحكم والمستغلة للمال العام ، فترمي القومية الكبرى بمفاسد الحكم ، وتوجه ضد جماهيرها نيران حملاتها الساخطة، كي تبرر دعوات القطيعة فالانفصال. وعلى غرار العصر الوسيط، حيث قائد التمرد ضد السلطان الجائر يمارس الاستبداد ضد الأتباع ، وحيث يقيم نظام حكم مستبد وأسرة مالكة تتعالى على أفراد " الرعية" في حال الظفر بالشوكة ، فإن زعماء الطوائف والعشائر والأعراق في العصر الراهن ينشئون نظما تشترط على الأفراد الحماية مقابل الولاء. الولاء وليس الكفاءة هو مؤهل الانتماء للنظم العصبية. لم يكن الأفق النضالي في العصر الوسيط يتجاوز الاستبداد إلى الديمقراطية ؛ فالأخيرة وليدة مجتمع حداثي وأدوات إنتاج وأسلوب إنتاج يقوم عليها علاقات اجتماعية من طراز جديد حداثي..

أشار لينين على كادحي الشرق المبادرة الى نقل شعوبهم إلى الحضارة أولا وبعد ذلك يشرعون في شن النضال الطبقي. حذر الشيوعيين القادمين من مجتمعات الشرق" إنكم ستواجهون مهمة لم تواجه قط شيوعيي العالم ؛ وبالاستناد إلى النظرية العامة للشيوعية وممارستها عليكم أن تتكيفوا مع الظروف الملموسة التي لا يوجد لها مثيل في أوروبا .عليكم أن تتمكنوا من تطبيق نظرية وممارسة الاشتراكية في ظروف يشكل المزارعون أغلبية السكان ،حيث المهمة تتمثل في شن النضال ضد بقايا العصور الوسطى ، وليس ضد الرأسمالية . ومثل هذه المشاكل لن تجدوا لها حلولا في أي كتاب شيوعي...". وأهملت المشورة اللينينية ، أو بالأدق مسخت تحت وطأة الاستبداد الستاليني وقوالب شروط الانضمام إلى الأممية الشيوعية ، تلك التي حكمت بالكسل الذهني على نشاط الشيوعيين في البلدان التابعة، وفرضت أفكارا غريبة عن الواقع المتعين لمجتمعات الشرق. ولهذا فإن نضالات الشيوعيين وتضحياتهم السخية لم تجد التقدير المستحق من قبل جماهير ينحصر وعيها في أن "من يحكم يطاع " ومن يخرج على الحاكم يرمى بالزندقة ويشهر به خارجا على الجماعة. تشكلت بنية كولنيالية أعاقت تطور مجتمعات الشرق وأبقت على العلاقات الاجتماعية المتخلفة والتقييمات والمعايير العائدة إلى عصور الظلام. وفي كتابه "أزمة حضارة أم أزمة البرجوازية العربية " أكد المناضل والفيلسوف الراحل، مهدي عامل، " ليس التراث في وجوده الراهن سببا للتخلف ، بل هو وليد هذا التخلف ، أي أثر من آثاره".

وكشفت هزيمة حزيران مدى تغلغل تخلف عصر الظلام في شتى مسامات الحياة الاجتماعية العربية. تكررت الانتقادات الذاتية بعد نكسة حزيران لتتكسر موجاتها على صخرة المحافظة السياسية، وليبقى القديم على قدمه حالة من العفوية والارتجال والانفعالية المعطلة للعقلانية وليتأرجح الفرد بين النزق والخمول. مجتمع التسلط وهدر كرمة الإنسان ومواطنته يضع القوة المحركة للمجتمع طوع أمر مؤسسة العصبية وهيكلياتها التقليدية. تفرض مؤسسة الحكم قوانين وتمارس أنماطا إدارية جوهرها القهر والإملاء، ينداح على بقية مؤسسات المجتمع العصبية، فيتأسس نظام السلطة فيها على مرتبية يحتل الزعيم المركز فيها ، ويفرض على الجميع السمع والطاعة. وتمارس العلاقة السلطوية عبر جميع هيئات المجتمع وتندرج على الطفل والمرأة، وتسري في عروق الحياة الاجتماعية ، فيمارسها المعلم على التلاميذ والطلبة في مختلف مراحل العملية التعليمية، ليساهم في إعادة علاقات القهر والخنوع في الحياة الاجتماعية؛ وتسري التسلطية كذلك في مفاصل الأحزاب والجمعيات الأهلية والمنظمات غير الحكومية. هدر الفكر يهدر الوجود الإنساني، يقود إلى فقدان السيطرة ، وإفلات زمام تسيير الحاضر واستشراف المستقبل وصناعته. يردّ الهدر نشاط الكيان الإنساني إلى مستوى نشاط عصبي يضبط وظائف الأكل والنوم والجنس والانفعال، ولا يرقى إلى الإبداع والتجاوز. وكما أكد خبير علم النفس الاجتماعي ، الدكتور مصطفى حجازي، فقد " أثبتت الأبحاث الحديثة على الدماغ البشري أن البيئة الرتيبة الخالية من المثيرات والإثارات ، كما هو الحال في أنظمة القمع والمنع والتحريم ، تعمل على ترقيق القشرة الدماغية ، وبالتالي إلى تدهور الكفاءة الذهنية. ويتجلى ذلك في قصور التخطيط والانتباه وصناعة القرار وحل المشكلات وتشكيل الخيارات وتنفيذها . ترقيق القشرة الدماغية تحد من الضبط العقلي مما يفتح السبل أمام غلبة السلوك الانفعالي الاندفاعي".

تفترض الماركسية أن الدولة عنصر أساس من حياة المجتمع الروحية، وتعكس حياته المادية. كانت الدولة الوطنية حلما راود الجماهير، باعتبارها الحرية والسيادة والتنمية والتقدم، كما عبرت عن ذلك حركات التحرر الوطني التي غطت أكثر من قرن من التاريخ، فأصبحت كابوسا لمعظم المجتمعات نظرا لاستبداد النظام وازدرائه للجماهير المقهورة وإغفاله لحاجاتها. فلا غرابة والحال على ما هو عليه أن يتكرر في تقارير التنمية الاجتماعية للأقطار العربية أن التنمية هي الفريضة الغائبة في عالم العرب. وما أكثر القيود المفروضة على الإنتاج الأدبي والفني! وكم هي مهينة القيود المفروضة داخل الأكاديميات العلمية ، حيث تحرّم أبحاث في العلوم الإنسانية، ويمنع الباحثون من تناول المشكلات الاجتماعية المتفاقمة أو الحديث عنها. وكم من فساد وقبح يتغلغل في الجامعات! فالأزمة عامة والخراب شامل .

كان لإسرائيل ولم يزل تأثير سلبي على الأوضاع في العالم العربي كافة. ومنذ حزيران 1967 كثفت إسرائيل وحلفاؤها الامبرياليون تصدير الأزمات وترويج الثقافة المنحطة داخل المجتمعات العربية ، وعلى رأسها النزاعات العرقية والطائفية والعشائرية والقطرية. كونت إسرائيل تحالفات مضمرة وصريحة، مباشرة أو غير مباشرة مع القوى المحافظة العربية وغير العربية في المنطقة، ومع النظام الكولنيالي المتسيد فيها.
إن قراءة الواقع الاجتماعي من هذه المنطلقات يظهر أن تصفية التمييز بين المواطنين على أسس من الانتماءات القديمة، و تعميم حق المواطنة والمساواة بين الجميع يشكل أحد
المهمات الرئيسة لولوج درب التقدم. ضمن هذا المسعى يبدأ التحديث للمجتمع، فتتضافر مهمات التحرر الوطني والتنمية الاجتماعية ، البشرية والمادية، وإشاعة الديمقراطية وتمتين العمل المشترك العربي ضمن برنامج النهوض الوطني، وإطلاق الطاقات المحولة لأفراد المجتمع . وضمن البرنامج الوطني للتغيير، ولقطع الطريق على مكائد القوى المعادية تحتل مرتبة أولى مهمات تحسين الأوضاع الاجتماعية للأقليات ويميز لصالح أبنائها في الوظائف العليا ، وتتخذ إجراءات زجرية رادعة بحق كل من ينفخ في كور العصبية من أفراد أو منظمات، إلى جانب إدخال تغييرات جوهرية تعزز حق المواطنة للجميع.

2- كيف ترى سبل حل القضية الفلسطينية وتحقيق سلام عادل يضمن الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني وفقا للمواثيق الدولية ومقررات الأمم المتحدة؟
يسود مجتمع الاستيطان اليهودي منذ بداياته في القرن التاسع عشر ذهنية ازدراء المواطنين العرب والحقد عليه . وقد كتب أحد هعام ، أحد زعماء الصهيونية في هذا الشأن بعد زيارة قام بها إلى فلسطين. كما أن فرويد، عالم التحليل النفسي الشهير ، كتب رافضا التوقيع على تأييد الاستيطان اليهودي بفلسطين وقال".. وأقر مع الأسف أن تعصب مواطنينا غير الواقعي يتحمل نصيبه من المسئولية في إثارة الارتياب لدى العرب . لا يمكنني أن أبدي أي تعاطف ممكن مع تدين مؤول بطريقة خاطئة". القهر يترك لدى القاهر نظرة متعالية مزدرية تجاه المقهور . ونجد انعدام التعاطف مع الضحية بارزا لدى الصهاينة في جميع مراحل تنفيذ المشروع الصهيوني بفلسطين. وهذه حقيقة اولى.
ولدى مراجعة ظروف نشأة الحركة الصهيونية تبرز أمامنا جملة حقائق جوهرية ما كان لها أن تغيب عن البال: فقد تزامن تشكل الصهيونية ، حركة سياسية وفكرا، مع تشكل الاحتكارات وبروز النزعة الكولنيالية للامبريالية في بلدان الغرب. الحركة الصهيونية حركة امبريالية في المقام الأول ، ارتبطت عضويا بأقوى دولة نزاعة للهيمنة على المنطقة العربية ، وأبدت الاستعداد لتقديم أقصى ما بحوزتها من إمكانات لدعم النظام الكولنيالي ، ليس في فلسطين فقط ، إنما في عموم الأقطار العربية. قبل بروز الحركة الصهيونية انتشرت في أوروبا الدعوة لعودة اليهود إلى فلسطين وبناء دولتهم هناك وإعادة بناء الهيكل كشرط لعودة المسيح وتدشين الألفية السعيدة والأخيرة من حياة البشر على الأرض. تفسيرات التوراة، وما نشأ عليها من تسميات " أرض الميعاد" و" "الوطن التاريخي لليهود" وكل ما يتردد جهارا على لسان ليبرمان في الوقت الراهن فقدَت مصداقيتها وتهاوت تحت أضواء التأريخ الموضوعي والنزيه لفلسطين القديمة. أسفر فكر الاستشراق عن تلفيقات هي مجرد توطئة لفرض الهيمنة الامبريالية على بلدان المنطقة.
تحالفت الصهيونية مع المسيحية الأصولية ولاهوتها، لاهوت الألفية؛ ومن تحالفهما برز لورد بيلفور وصدر وعده أحد العناصر الشيطانية المؤثرة في مصير الشرق كافة، وليس فلسطين وحدها. ونشط داخل جيوش الغزو الكولنيالي لاهوت المسيحية الأصولية ودخل الكليات العسكرية، كي يبرر الغزو الكولنيالي ويمنحه مشروعية وقداسة. فالصهيونية وإسرائيل والسلفية الأصولية مرتبطة عضويا بالعسكرتاريا الامبريالية ، خاصة التجمع الصناعي ـ العسكري في الولايات المتحدة.
في كناب أصدرْتُه في آب الماضي بعنوان" هيكل الأبارتهايد أعمدة سرابية وسقوف نووية"،
قدمْتُ عرضا لمعطيات الدراسات التاريخية التي تثبت زيف الأعمدة التي يرتكز عليها النشاط الصهيوني بفلسطين ، مثل انقطاع صلات اليهود الغربيين والشرقيين عن الإسرائيليين القدامى ، وأنهم نسل أعراق منها عربية وفينيقية اعتنقت الديانة اليهودية ، شأن الأعراق التي اعتنقت الإسلام أو المسيحية ولا تشكل شعبا أو قومية ممتدة الجذور بفلسطين . كم بينت الدراسات التاريخية أن فلسطين لم تنشأ عليها دولة داوود وسليمان، ولم تمتد دولة مركزها فلسطين إلى ما بين الفرات والنيل ، وأن عبارة " من النيل إلى الفرات" محرفة ومترجمة بما يتناقض كليا مع المعنى الحقيقي للنص في التوراة القديمة .

والحقيقة الجوهرية الثالثة تؤكد أن المشروع الصهيوني درج على أرض فلسطيني مشروعا اقتلاعيا للسكان الأصليين. وقبل المؤتمر الصهيوني الأول (1897) بعدة عقود راجت المقولة الكريهة " أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، تكرس نهج المجازر الجماعية وسيلة لتصفية الوجود العربي في فلسطين، ولهم في نكبات الهنود الحمر بالأرض الجديدة مثالا هاديا. وضعت في حقبة الانتداب البريطاني مخططات تهجير العرب من قراهم ومدنهم.
والحقيقة الرابعة تجزم ، وكما أكدت التجربة العملية منذ منعطف القرن التاسع عشر أن الصهيونية اعتمدت الإرهاب والعنف ضمن وسائل تنفيذ أهدافها. وهي تستغل كل فرصة سانحة كي تشن الهجوم المسلح ، وتبقي على عوامل الاشتباك المسلح قائمة. استثمرت التوترات والاستفزازات التي اختلقتها ودبرتها كي تعزز الذراع العسكرية لدولة إسرائيل والدخول في صراعات مسلحة تغتصب من خلالها المزيد والمزيد من الأراضي الفلسطينية. تفقد إسرائيل قيمتها ووظيفتها لدى مسانديها إذا ما توصلت إلى تسوية شاملة وعادلة مع الشعب الفلسطيني.
تطور في المرحلة الراهنة من النشاط الكوني للرأسمال المعولم مواقف يمينية متطرفة في دول الغرب، المساندة لنهج إسرائيل طبقا لمقولات المسيحية الأصولية. ومن مثال جريمة بريفيك في أوت اوبه في دولة النرويج أقدم شاب على عملية إطلاق رصاص عشوائي أردت ستة وسبعين فتى وفتاة، حسب التقديرات النهائية للشرطة، وهم يتبعون حزب العمال النرويجي وكانوا يقيمون مخيمهم الصيفي . ساعتان والقاتل بريفيك ينفذ بدم بارد عملية اصطياد الفتيان والفتيات، ويلاحق بطلقاته من يهرب إلى البحر. وما إن تناقلت الأنباء خبر الجريمة المروعة ضد فتيان وفتيات يلهون في منتجع صيفي، حتى شرعت شبكات الانترنت تبث فقرة مطولة كتبها السفاح،بريفيك، أشادت بإسرائيل، وتضمنت اقتراحه إقامة تحالف بين اليمين المتطرف في أوروبا وإسرائيل، التي تشكل في نظره "أحد أعمدة الحضارة الأوروبية في صراع حياة أو موت مع الإسلام الهمجي".
لا بد أن الذهنية التي دمجت مصائر الفتيان والفتيات وقعت فريسة سهلة لدعاية التطرف اليميني العالمي. ومع أن مفهوم القلعة الأمامية للحضارة الأوروبية بوجه البربرية الإسلامية صاغه هيرتسل قبل أكثر من قرن، فإن تسريبه إلى ذهنية شاب ساذج وسطحي المعرفة لم يتم بصورة تلقائية . الجريمة اختمرت في ذهن القاتل، ومثلما أطلق زناد بندقيته فقد أطلق زناد فكره الإجرامي وقائع قريبة العهد.
وحقيقة أخرى تؤكد أن الصهيونية غير واثقة من إيديولوجيتها . هي تدرك أن الفكر الصهيوني يستند إلى اختلاقات الفكر الاستشراقي وتأويلاته للتوراة. يدرك ليبرمان أنه مجرد قاطع طريق مدجج بالسلاح يمارس لصوصيته حيث تغيب فاعلية القانون الدولي الإنساني. وبعد أن تكشف تمرد الحفريات الأركيولوجية في فلسطين على مقولات التوراة وثبت بطلانها نزعت الصهيونية ودولة إسرائيل قناع المسكنة وكشفت عن منطويات فاشية وراحت تتصدى بضراوة للرأي المعارض، تحاصره بحملات مكشوفة من التجني واختلاق الأكاذيب وتدبير المكائد. اضطر البروفيسور إيلان بابه مؤلف كتاب " التطهير العرقي في إسرائيل" إلى ترك وظيفته الأكاديمية والرحيل خارج إسرائيل . ويتعرض للمضايقات عدد من الأساتذة الجامعيين بسبب التعبير عن معارضة النهج اليميني في إسرائيل. في داخل إسرائيل تزداد ضراوة الفاشية في السياسة والمجال الأكاديمي وفي الثقافة . ويمارس الصهاينة وأنصارهم داخل الولايات المتحدة وأوروبا أعمال العنف ضد المعارضين لسياسات إسرائيل الاستيطانية. كما يتعرض الأكاديميون الأميركيون المعارضون لنهج إسرائيل لحملات تشهير واضطهاد تصل حد الفصل من العمل واغتيال السمعة العلمية وحتى التصفية.
وبالمقابل تنبري شخصيات مؤثرة لقطع صلتها بالمؤسسة الصهيونية وتشارك في النضال المناهض للأبارتهايد.
من جماع هذه الحقائق وأخرى غيرها يخرج التفكير العقلاني أن النضال الفلسطيني جزء عضوي من النضال المناهض للسيطرة الكولنيالية ، وهو يتفاعل مع النهوض الديمقراطي التحرري في المنطقة. اعتبر النضال الفلسطيني ذات يوم رأس حربة النضال العربي، وما زال البعض يعتقد ذلك؛ ويردد البعض دعوة الانتفاضة الثالثة . النضال الفلسطيني حركة جماهيرية متصاعدة تتفاعل مع نضالات شعوب المنطقة كافة ضد الهيمنة الكولنيالية للامبريالية ومن اجل التطور المستقل والديمقراطية. كما أن الشعب الفلسطيني ، شان بقية الشعوب تتناوب نضاله نوبات نهوض وانتكاس، بالتفاعل مع هبوط وتصاعد النضال التحرري لشعوب المنطقة . ومن حق الشعب الفلسطيني أن يظفر بدولة مستقلة ، ولكن ذلك ترى فيه إسرائيل وحلفاؤها في اليمين العالمي حتفها .
تدرك قوى الامبريالية في شتى مراحل تصديها للنهوض العربي التقدمي طوال قرن من الزمن ارتباط مصير نفوذها في المنطقة وسيطرتها على مصادرها من الطاقة بدعم إسرائيل . كما تدرك إسرائيل ان عناصر التخلف في المجتمعات العربية والوجود الامبريالي بالمنطقة حلفاء استراتيجيون لها، وأن توطد دعائم الديمقراطية والتحرر والتنمية والوحدة القومية خطر جدي يتهددها . وتأكد هذا بالملموس في الهبات الشعبية التي ميزت المنطقة العربية في الأشهر الأخيرة. إسرائيل لا توجه الضربات للشعب الفلسطيني ومقاومته فقط ، ولا تواجه العرب في ميادين القتال وحسب. وقد تكسرت رقاب عشرات الآلاف ممن رفضوا هاتين الحقيقتين أو تجاهلوهما .
قدم المؤرخ إيلان بابه معطيات تؤكد إخلال الأمم المتحدة وممثليها في فلسطين عام 1948 بالبنود الواردة في قرار التقسيم ، حيث تجاسر بن غوريون منذ البداية على تجاهل قرار التقسيم وكذلك قرارات الهدنة . ولدى صدور قرار محكمة العدل الدولية حول الجدار العنصري سجل القاضي بالمحكمة، نبيل العربي ، الذي يشغل حاليا منصب أمين عام الجامعة العربية، تحفظاته بصدد عدم استشارة القانون الدولي في قرار التقسيم وفي العديد من قرارات لاحقة صدرت عن المنظمة الدولية . وطالما لا تقبل إسرائيل القرارات الدولية وتنتهك الاتفاقات الدولية مثل اتفاقيات جنيف وتعلن جهارا نوايا طرد الفلسطينيين بصفتهم "غزاة ومحتلون" يغدو من حق الفلسطينيين التراجع عما وافقوا عليه من تنازلات والمطالبة بتطبيق بنود الشرعية الدولية بحذافيرها. وهذا الرأي لم أستشر بصدده حزبا او هيئة سياسية أو حقوقية.
وعلى كل حال فإن حل المشكلة الفلسطينية يأخذ مضمونا معينا في كل مرحلة من تطور مجتمعات المنطقة، وإحداث التبدل في موازين القوى بين جبهتي الصراع.

3 - كيف تقيّم الموقف الأمريكي والدول الغربية المناهض لإعلان دولة فلسطينية مستقلة بعد خطوة الزعيم الفلسطيني وتوجهه إلى الأمم المتحدة لتحقيق ذلك؟
أميركا تدعم جرائم الحرب الإسرائيلية وتدافع عنها في المحافل الدولية ، وأميركا تصمت وتفرض الصمت حيال ممارسات إسرائيل ضد السجناء الفلسطينيين داخل سجونها . سجناء يقبعون في زنازين انفرادية لمدة عشر سنوات. وسجناء مصابون بالسرطان لا تدعهم يفارقون الحياة بين أحبتهم. وسجناء أمضوا أزيد من ثلاثين عاما في السجون المظلمة والرطبة.
الموقف الأميركي من الصراع الدائر على أرض فلسطين خال من الإنسانية، أملته مصالح استراتيجية لقوة امبريالية ذات نزعة للهيمنة الكونية. بذريعة رفض عرفات إملاءات أميركا وإسرائيل في كامب ديفيد اعتبره الرئيس الأميركي ، بوش ، مشكلة وليس حلا وتمت تصفيته بموافقة أميركية . وتجاوب الرئيس الفلسطيني محمود عباس لأقصى حد مع عروض الوساطة الأميركية بلا طائل .
ظلت جهود " التسوية السلمية" تتمحور حول إقناع الفلسطينيين أن مساحة طموحاتهم المسموح بها، وملامح حل قضيتهم القومية محكومة ليس بالحق في تقرير المصير، ولا بالشرعية الدولية، إنما بسقف المواقف التي تتفق عليها الإدارة الأمريكية وحكومة الاحتلال الإسرائيلية، باعتبارها مرحلة في عملية التقليص التدريجي للوجود الفلسطيني على أرض وطنه تمهيدا لتصفية هذا الوجود. جرى توريط الطرف الفلسطيني في دوامة مفاوضات عبثية طوال عشرين عاماً من الضياع. من خلال ذلك انتزع ملف القضية الفلسطينية عمليّاً وسياسيّاً من قواعد المنظومة الدولية ، ومن حيزها الأممي والقانوني القوي المُدعم بقرارات دولية ومرجعيات حقوقية واضحة ، لتغدو كرة تتقاذفها سياسات الخداع والكذب والتستر على الاستيطان والتهويد. وبذلك حرم الفلسطينيون من عناصر القوة الوحيدة المتوفرة في أيديهم؛ ولهذا وجد عباس نفسه أمام خيارين إما خيانة قضية شعبه أو إيقاف الملهاة ؛ فاختار البديل الثاني .

4- ــ ما هي برأيك الأسباب الرئيسية للموقف السلبي من قبل الدول الكبرى تجاه إقامة دولة كردية مستقلة، تجمع أطرافها الأربع في دول الشرق الأوسط، وهو مطلب شعبي كردي وحق من حقوقهِ ، ولماذا يتم تشبيه الحالة الكردية على أنها إسرائيل ثانية من قبل بعض الأوساط الفكرية والقومية في العالم العربي ؟


لا شك أن النزعات القومية الشوفينية الملازمة للقومية الكبرى في كل دولة من دول المنطقة قد أثارت استياء الجماهير الكردية وزينت لها حمل السلاح. تم استعداء قوميات الكرد والأمازيغ والجنوب السوداني بسبب شوفينية القومية الكبرى التي انتعشت مع تغييب الديمقراطية في ظل أنظمة الاستبداد العربي. واليوم تبرز أمام الشعب الكردي وقواه السياسية إمكانية فعلية لممارسة النضال السلمي لتحقيق مطالبه المشروعة في إقليم كردستان تركيا. وترد الأنباء من هناك بتوفر إمكانات تطوير نضال اللاعنف في مواجهة العنف الحكومي التركي, وإجبار السلطة التركية على تنفيذ الأهداف العادلة والمشروعة للشعب الكردي.
أما إيران فلم تتوقف عن توجيه الضربات العسكرية إلى المناطق الحدودية وإلى الريف الكردستاني بذريعة وجود قوات مقاتلة للكُرد من إقليم كردستان إيران في المناطق الجبلية العراقية القريبة من الحدود الإيرانية. إيران ومنذ عقود تصادر حقوق الشعب الكردي القومية في إقليم كردستان إيران وتعرض المناضلين فيه إلى خطر الاعتقال والقتل أو الحكم بالإعدام مما يثير غضب الشعب الكردي في إيران ويدفع به إلى المزيد من النضال لانتزاع حقوقه المشروعة كما حصل في العراق.
النزعة القومية ، وليس الدين، هو ما يوجه سياسات الحكم الإيراني. ونظرا لشوفينية الحكم في إيران فقد تورط في نزاع داخلي تسبب في إحداث جرح دام يستنزف طاقات إيران ويوفر لخصومها الأمريكان فرص اللعب في المياه العكرة المحيطة بها.

الدول الكبرى لا تحترم حق تقرير المصير ، علما بأن هذا الحق لا ينبغي أن يترجم انفصالا؛ قد تدفع الدول الكبرى إلى الانشقاقات والفتن الداخلية ، بهدف إضعاف بلدان المنطقة واستنزاف طاقاتها وثرواتها وإيجاد أسواق دائمة للسلاح . ومن مثال جنوب السودان يتبين نفاق الدول الكبرى في ادعاء العطف على قضايا الشعوب. لم تحصل الدولة الجديدة غير مقعد بالأمم المتحدة، وتركت الجماهير تعاني الحرمان وتواصل الصراعات مع الشمال. الدول الكبرى شجعت عناصر من الأكراد على الدخول في صراعات انفصالية تستثمرها ـ دول الغرب ـ في إشغال الدول واستنزافها وزرع العداوات بين شعوب المنطقة وتوفير أسواق دائمة للسلاح الأميركي والبريطاني والفرنسي. وهي تدعم الأكراد في إيران حتى وقتنا الحاضر . بالطبع يتطلب الحكم في القضايا القومية متابعة تفصيلية وعيانية ، كي يطرح الشعار الملموس في الظرف الملموس ، حسب تعبير لينين

ان تهمة التواطؤ مع إسرائيل والصهيونية مادة للمناكفات السياسية لدى العاجزين عن الدخول في حوارات مثمرة قائمة على الحقائق؛ ونظرا لتغييب الحوار والنظرة العقلانية في مقاربة الخلافات في الوسط الثقافي العربي فان كل طرف يستسهل رمي الآخر بتهمة التواطؤ مع إسرائيل؛ ونجد مساعي إسرائيل تشجع زراعة الشكوك والأحقاد بين تلاوين الطيف المناهض للسيطرة الامبريالية على مقدرات المنطقة وموقعها الاستراتيجي. ونفخت في الخلافات الطائفية لدرجة الغزل مع دول محافظة وتغليب الانتماء الطائفي السني على التضامن مع القضية الفلسطينية ، وذلك لتعزيز التحالف الموضوعي مع الأنظمة الكولنيالية المحافظة في المنطقة .
من ناحية مبدئية لا ينكر منصف ، ناهيك عن أصحاب النظرة الأممية المؤمنة بصداقة الشعوب ووحدة نضالها ، عدالة مطلب الأكراد في إقامة دولتهم الموحدة ، خصوصا وهم يقطنون منطقة جغرافية مترابطة. والعراق في حله للمشكلة الكردية أخيراً يقدم نموذجاً يقتدي به من قبل الشعب الكردي في إيران وتركيا وكذلك الكُرد في سوريا.
غير أنمن الضروري اليقظة من جهود تخريبية يقوم بها الموساد الإسرائيلي. فكما أنه يثير الفتن داخل المجتمعات العربية فإننا لا نكتشف العجلة إذا ما قلنا أنه يواصل مساعيه لإحداث الفتن في كل بلدان المنطقة ، فيما بين الشعوب الكردية ، وبينها وبين القوميات التي يجاورونها. يقال أن للموساد الإسرائيلي دور في عمليات العنف الموجهة ضد المسيحيين وتهجيرهم من العراق وإيران . تريد الصهيونية أن تكرس الادعاء بأنها تخوض الصراع باسم الحضارة المسيحية ـ اليهودية ضد البربرية الإسلامية؛ ولهذا الغرض تضيق الخناق على المسيحيين في فلسطين لحملهم على الهجرة ثم تزعم أن حماس تطرد المسيحيين من فلسطين!!
وتشاع أقاويل عن تعاون مع مسئولين أكراد وعربا من شاكلة احمد الشلبي وكنعان مكية ـ وهما على صلة قوية مع المسيحية الأصولية في أميركا ـ ومع مسئولين أكراد كذلك. وقد برر مسعود برزاني علاقاته مع إسرائيل بالعلاقات التي تربط مصر والأردن بإسرائيل . ويعمل خبراء أمنيون إسرائيليون في حماية أنطمة خليجية. وأفادت دراسات ، نرجو ان تكون غير صحيحة ، أن إسرائيل نشطت، منذ بداية احتلال العراق عام 2003، بنشر ضباط إسرائيليين لإعداد الكوادر الكردية، العسكرية ، وتوجد بعثات أمنية إسرائيلية منذ عام 2005، داخل معسكرات قوات البيشمركَة الكردية العراقية، بمهام تدريب وتأهيل متمردين أكراد من سوريا وإيران وتركيا.
غير أن هذه الوقائع لا تطعن في مشروعية تشكيل دولة قومية موحدة للأكراد.

الدول الكبرى تستغل النزعات الشوفينية لأغراضها الامبريالية؛ وهي لا تخفي رغباتها في تقسيم روسيا والصين والهند والبرازيل وإيران ومصر . وصدرت وثيقة إسرائيلية في ثمانينات القرن الماضي تتضمن مخططا لشرذمة الأقطار العربية إلى دويلات . كما تضمن مشروع الشرق الأوسط الجديد مخططات من هذا القبيل . دول الغرب ترمي إلى تحويل إسرائيل إلى دولة إقليمية تتحكم في دويلات محيطة. ومن الطبيعي أن تقف بالمرصاد لكل مسعى للتوحد بين أقطار عربية ، وبين الأكراد كذلك. الدول الكبرى ليست على استعداد للدخول في نزاعات حادة وعلنية مع دول مثل تركيا، ولم تكن كذلك مع إيران الشاه في السابق كرمال عيون الأكراد ودولتهم القومية الموحدة. ومن جانب آخر فإن الإبقاء على بؤر التوتر والنزاعات بالمنطقة عامل تتذرع به قوى الامبريالية لفرض وجودها في منطقة استراتيجية تحتوي منابع الطاقة الضرورية لاقتصادها.



5- هل يمكن للتغيّرات الراهنة في المنطقة - الانتفاضات والمظاهرات الأخيرة – من أن تؤدي إلى خلق آفاق جديدة أرحب للقوميّات السائدة کي تستوعب الحقوق القوميّة للأقليات غير العربية مثل الأكراد، إلي حدّ الانفصال وإنشاء دولهم المستقلة ؟

بسبب ضعف وسائل الاتصال وانعزال الجماعات البشرية خلف المعازل الطبيعية فقد نشأت في المنطقة تشكيلات مذهبية متنافرة لم تستطع التعايش والتكيف مع قيام الدول الحديثة. السلفية الدينية وفدت إلى المنطقة من تصدير الحكم البريطاني في الهند، بغية تفتيت المقاومة الوطنية للحكم الكولنيالي البريطاني. ويشهد تاريخ المنطقة أن بريطانيا قد دعمت بلا تحفظ في أوائل القرن الماضي حركة الإخوان في الجزيرة العربية( غير حركة الإخوان المسلمين مصرية المنشأ)، وساعدتها على تدمير حكم سلالة ابن رشيد لصالح السعوديين.
ومما لاشك فيه ان إسقاط الأنظمة السلطوية انتصار للديمقراطية بمعنى اتساع فاعلية الحركات المستقلة للجماهير . والتحرك المستقل للجماهير يدخلها في تجارب اجتماعية وسياسية تعزز لديها التوجه لحل الخلافات بالوسائل السلمية وتمتين أواصر الصداقة والتعاون بين شعوب الجوار. إن شعبا يضطهد شعبا آخر لا يكون حرا؛ كما أن تحرر الجماهير من سيطرة المصالح الأنانية التي تلهم الصراع مع الآخرين من شأنه أن يعزز قيم الديمقراطية ويوسع مداها لكي يشمل الحق بالمساواة والاحترام المتبادل . فالديمقراطية، كما ورد سابقا ظاهرة حداثية تمد جذورها على أنقاض علاقات القهر والهدر الملازمة للعصر الوسيط ضمن شرؤوط التقد الاجتماعي.

يميز الماركسيون بين الدين كأحد أشكال الوعي الاجتماعي المشروط بمستوى تطور الواقع الاجتماعي ومدى سيطرة الإنسان على واقعه الطبيعي والاجتماعي، وبين التأويل المغرض النفعي (الإيديولوجي) للدين لمصلحة الطبقات الحاكمة التي سخرت الدين وكيفته بحيث يعزز سيطرتها الطبقية، بما أخرجه عن طبيعته الإنسانية كدعوة لبناء مجتمع قائم على مكارم الأخلاق. وإذا كان وعي الناس وعواطفهم وأخلاقهم وعاداتهم تحددها الظروف الخارجية، فانه يصبح من البدهي أن تغيير هذه الظروف وحده يمكن أن يغير وعي الناس. فليس هناك إنسان خالد أو "طبيعة إنسانية خالدة". والديمقراطية ليست كتلة صماء تتشكل دفعة واحدة ، بل هي تطور عضوي لقيم إنسانية ومعايير سلوك وعلاقات اجتماعية متقدمة تربط البشر بغض النظر عن انتماءاتهم العرقية أو الدينية آو الطائفية.

6- هل تعتقدون بأنّ المرحلة القادمة ، بعد الربيع العربي، ستصبح مرحلة التفاهم والتطبيع وحلّ النزاعات بين الشعوب السائدة والمضطهدة، أم سندخل مرحلة جديدة من الخلافات وإشعال فتيل النعرات القومية والتناحر الإثني ؟

إن ذلك يتوقف على نشاط قوى التغيير الديمقراطي في المنطقة ، أحزابا سياسية ومثقفين ديمقراطيين. فلا تشكل عملية التحرير من هدر الاستبداد وحدها مرساة الخلاص؛ إذ لا بد من عملية تحرر ذاتي تواكبها تستأصل عوامل الهدر الذاتي التي ابتلعها المرء تحت ضغط الاستبداد. آنذاك يقف الفرد والمجموع واعيا بالضرورة، وقد استفاق من المخدر الذي غيب وعيه وهمش حاضره. نأمل أن يكون بانتظار منطقتنا حقبة من التطهر الذاتي والنقاهة من رضوض الاضطهادات البوليسية والعرقية والطائفية المترسبة عبر الأجيال والقرون. القوى التي تحكمت بمنطقتنا واستنزفت ثرواتها وساندت الأنظمة الاستبدادية وحكمت على أوسع الجماهير الشعبية بالحرمان والفاقة وبالتصحر الوجداني .. إن هذه القوى لم تستسلم ولم تقلع عن حبك الدسائس لتمزيق وحدة الجماهير على قاعدة فرق تسد. وما لم تبرأ الجماهير من رضوض القهر وتنتفض على ممارسات الهدر ، هدر الوعي والتفكير والإرادة، فإن خطر عودة الأنظمة المستبدة الخاضعة للهيمنة الأجنبية يظل قائما.
في حال تكبيل العقل بالقيود فانه يظل مدركا أنه مكره على الرضوخ، يرفض ابتلاع المهانة والاستلاب. أما الهدر الذي يغيب العقل ويعطل التفكير، فمن المتعذر ملاحظته والتمرد التلقائي ضده. الوعي والتفكير نقيضان لأنماط السلوك العفوي. موت التفكير هو النكوص والتقهقر، والدخول في فئة الشعوب المستغنى عنها، بينما التفكير هو الحياة المليئة المتجددة المستوعبة والظافرة والصانعة لمكانتها ومصيرها. والتفكير مراتب وأنماط ، أرقاها وأقدرها على استيعاب الحياة الاجتماعية هو التفكير الجدلي. إن تغيير المجتمع عملية لا تتم تلقائيا ولا تتحقق بناء على الطلب؛ إنها تمارس وفق خطة تتفاعل فيها نظرية التغيير مع ممارسة التغيير، ويتفاعل خلالها التنظيم والوعي. وهذا لن يتحقق بصورة تلقائية ، بل يتطلب حزبا سياسيا طليعيا ينقل إلى الجماهير وعيا طبقيا ينهي تبعيتها للأسياد التقليديين، ويدفعها لنشدان التعاون والصداقة مع نظيرها الطبقي بين القوميات والطوائف المجاورة.
تلقي هذه الضرورة على عاتق أحزاب التغيير الديمقراطي مسئولية التنسيق فيما بينها وعقد اجتماعات التشاور والتضامن المتبادل كي تكون الطلائع الحقيقية لحركة تشمل شعوب المنطقة تجمع ولا تشتت ، وتنسق حملات التحرر والديمقراطية والتنمية والتعاون فيما بين الحركات الشعبية . لا قيمة للمعرفة ولا للثقافة إن بقيت بمنأى عن الجماهير الشعبية ؛ ولا فضل لمثقف إن لم يتوجه مباشرة إلى الجماهير ويلتصق بهمومها ويكابد مشكلاتها.
يعارض الفكر الماركسي الجبرية ويعتبرها فرضية ضارة بالتطور الاجتماعي لأنها تسلب الإنسان إرادته وعقله وتجمد طاقته على العمل الفاعل في الطبيعة والمجتمع. كما أن طبيعة الحياة البشرية تدحض الجبرية ؛ لطالما رَفَضَ العقل البشري الترويض وتمرد عليه متحايلا محتفظا بمناعته، مطورا ريادته لآفاق المعرفة المعززة لسيطرة الإنسان على بيئته. وكل ما تحقق من تقدم علمي وتطور اجتماعي ، وكل ما أنجز من قدرات إنتاجية تحقق بفضل الإرادة الموجهة للتطوير الدؤوب لأدوات الإنتاج وإرادة الكشف والاختراع والاستخدام الأمثل للعقل.
تعطي الخطة التنظيمية الأولوية لتربية فئة مؤلفة من الثوريين الواعين للهدف والمستعدين لجميع ضروب التضحيات. التركيز على الطليعة الثورية لا يعني أن الثورات تنشأ بمشيئة فئة الثوريين المحترفين، ولا «تصنع» الثورة أو تجر معها الجماهير المستلبة والخاملة لتضعها بصورة عفوية أمام الثورة كأمر واقع. رأى لينين أن المعيار الحقيقي للوضع الثوري هو «ألا تريد الفئات الدنيا من المجتمع أن تعيش حسب الطريقة القديمة، وألا تستطيع الفئات العليا أن تعيش حسب الطريقة القديمة». وبما أن الثورة لا تتم بصورة تلقائية ولا تنضج مع الموسم مثل الثمر، تتضح على وجه التحديد أهمية وضرورة التحضير للثورة وتهيئة مقدماتها. وعلى رأس المقدمات بناء حزب التغيير الثوري أو جبهته. فهذا الحزب الذي يعتبر طليعة الثورة، يستحيل عليه قيادة وتوجيه الزخم الثوري ما لم يضم في صفوفه كوادر واعية لضرورات المرحلة، متمرسة في التنظيم والتثقيف والتعبئة والحشد، كوادر تكتسب ثقة الجماهير وتنال مصداقيتها. الحزب يفشل في قيادة الثورة حتى النصر إذا لم يكن منظما بصورة تضمن صحة اتجاه سياسته الطبقية، وما لم يكن لديه الكوادر الواعية والمتمرسة في التنظيم والقادرة على نقل الوعي الثوري للجماهير، التي تنطلق في رحاب النشاط السياسي الثوري لأول مرة في حياتها، مساهمة في الثورة أو حليفة لها، والتي تضاعف مرات ومرات حجم الكتل الشعبية التي تنبري للنشاط وتحتاج إلى التنظيم والانضباط مع المجرى الثوري والمصلحة العامة.



#سعيد_مضيه (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بعض الملاحظات على كتا ب -رؤية بديلة للاقتصاد الفلسطيني من من ...
- الديمقراطية الأميركية معاقة بالكساح
- أضواء العلم على تفجيرات نيويورك
- مزيد من الأضواء على أخطر مؤامرات اليمين الأميركي ضد البشرية
- إعادة القضية الفلسطينية إلى الأمم المتحدة
- سوريا ديمقراطية متحررة وتقدمية
- جريمة بريفنيك في النرويج نذير وعبرة
- كل شيء يهون حيال استقلالية القرار الوطني !
- فلسطين .. العراق وعالم الغاب
- لصراع تغذيه المصالح ويتفيأ بظلال الدين
- وفي إسرائيل تنشط فرق البلطجة
- وقائع التاريخ وأزمة إسرائيل الوجودية
- خلف دخان التفاوض إسرائيل وحلفاؤها يجسدون الحلم الصهيوني
- استنهاض الحركة الشعبية (3من3)
- استنهاض الحركة الشعبية(2من3)
- استنهاض الحركة الشعبية (1من3)
- الامبراطور أوباما عاريا
- رضاعة النازية مراجعة نقدية لمسيرة بائسة (2من2)
- رضاعة النازية .. مراجعة نقدية لمسيرة بائسة
- أمية الدين أداة هدم وتدمير بيد الثورة المضادة


المزيد.....




- لم يسعفها صراخها وبكاؤها.. شاهد لحظة اختطاف رجل لفتاة من أما ...
- الملك عبدالله الثاني يمنح أمير الكويت قلادة الحسين بن علي أر ...
- مصر: خلاف تجاري يتسبب في نقص لبن الأطفال.. ومسؤولان يكشفان ل ...
- مأساة تهز إيطاليا.. رضيع عمره سنة يلقى حتفه على يد كلبين بين ...
- تعويضات بالملايين لرياضيات ضحايا اعتداء جنسي بأمريكا
- البيت الأبيض: تطورات الأوضاع الميدانية ليست لصالح أوكرانيا
- مدفيديف: مواجهة العدوان الخارجي أولوية لروسيا
- أولى من نوعها.. مدمن يشكو تاجر مخدرات أمام الشرطة الكويتية
- أوكرانيا: مساعدة واشنطن وتأهب موسكو
- مجلس الشيوخ الأمريكي يوافق على حزمة من مشاريع القوانين لتقدي ...


المزيد.....

- حق تقرير المصير للإثنيات القومية، وللمجتمعات حق المساواة في ... / نايف حواتمة
- نشوء الوعي القومي وتطوره عند الكورد / زهدي الداوودي
- الدولة المدنية والقوميات بين الواقع والطموح / خالد أبو شرخ
- الدولة الوطنية من حلم إلى كابوس / سعيد مضيه
- الربيع العربي وقضايا الأقليات القومية / عبد المجيد حمدان


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ملف حول قيام الدولة الفلسطينية و القضية الكردية وحقوق الأقليات وحقها في تقرير المصير في العالم العربي - سعيد مضيه - الدولة الوطنية من حلم إلى كابوس