محمود فنون
الحوار المتمدن-العدد: 3504 - 2011 / 10 / 2 - 17:29
المحور:
القضية الفلسطينية
في يوم في منتصف شهر تشرين الثاني من عام 2001م ,كنا نجلس على منصةاحتفال ,بمناسبة ذكرى انطلاقة الجبهة الشعبية القيادة العامة , ويجلس بجانبي عضو لجنة مركزية بارز من حركة فتح .
ويتوالى المتحدثون ,وكانت انتفاضة الاقصى مشتعلة ,وهدير الجماهير في الشوارع ,وصوت الرصاص يلعلع من كل مكان.فسألت جاري بيني وبينه:
-هل لك دور في قيادة هذه الانتفاضة؟
-لا!
-وهل للجنة المركزية دور كهيئة في قيادة هذه الانتفاضة؟
-لا...اصلا اللجنة المركزية لم تجتمع حتى الآن للوقوف امام الانتفاضة,وعلمت اننا لم نجتمع كي لا نتهم من الطرف الآخر اننا ورائها.
بعد اقل من ساعة التقيت مع عضو مكتب سياسي من الجبهة الديموقراطية وهو صديقي
وسألته:هل قيادة الجبهة الديموقراطية تشارك في قيادة الانتفاضة؟
قال:نعم وبكل تاكيد وكل قيادات الفصائل تشارك.
هل انت تشارك ؟قال نعم طبعا مثلي مثلك ,ولا كيف؟
قلت له :انا في لجنة الطواريء الوطنية والاسلامية ولكن لا انا ولا غيري نقود شيئا ملموسا في فعاليات هذه الانتفاضة ,فاعلياتها العادية اصبحت اقل بكثير من السابق كما ترى ,وتسير على مسلك محدد ...يذهب الشباب ويضربون الحجارة فيسقط الجرحى والشهداء ثم نقوم في اليوم التالي بتشييعهم في جنازات مهيبة ويتكرر الحال اضرابات واعتصامات ومهرجانات تقيمها الفصائل ونحن في اللجان نصدر البيانات وندعو الى الجنازات ونحدد وقتها ومسارها واحيانا الاهل والجماهير لا يحبذون جدولتنا للموضوع فنلحق بهم كأفراد وحتى اننا كنا نسير في خلف الجمهور,ثم نشارك في مهرجانات العزاء ونلقي الكلمات وبعضهم كان يهنيء اهل الشهيد باستشهاد ابنهم .واستطرادا للحديث مع رفيقي من الديموقراطية قلت له:وانا اقول امامك ان لا قيادة فتح ولا الشعبية ولا الديموقراطية ولا حماس ولا الجهاد, تقود فعاليات الجماهير فهذه انتفاضة متروكة وتسيرها القواعد الشعبية بمعزل عن القيادات وتخطيط وتوجيه القيادات .
واستطرادا ,فقد تداعت فصائل العمل الوطني للقاءات بعد تفجر الانتفاضة واخذت تلملم نفسها في صيغ واطر لتعبر عن وحدة القوى الوطنية ,وكانت حركتي حماي والجهاد الاسلامي متحفظتين من المشاركة في مثل هذه الاطر .
اما سبب التحفظ فيعود الى وجود عدد غير قليل من كوادرهما في سجون السلطة ,والى خشية كوادر الفصيلين من ملاحقات السلطة كما حصل في انتفاضة النفق وكما هو حاصل حتى حينها,حيث لا زال مئات الكوادر في السجون.
وتمت حوارات بين فتح وحماس, كما تم بين اللجان المشكلة ومسؤولي الامن في رام الله وفي كل مكان,فحصلت حماس والجهاد على تطمينات متكررة وجرى معها اتصالات محلية ومركزية ,الى ان رأت نفسها منخرطة ومشاركة في الشارع ثم في اللجان الشعبية ,واخذت تلملم نفسها وشتاتها بعد الضربات الامنية التي كانت تعاني منها من كل من السلطة الفلسطينية وسلطات الاحتلال.
وكذلك لملمت بقية الفصائل شتاتها وانصارها الى الفعاليات الجماهيرية للانتفاضة والمناسبات الوطنية الاساسية ارتباطا بحركة الجماهير الهادرة في الشوارع والتي تضم كل تلاوين الشعب الفلسطيني واجياله في كل المدن الفلسطينية المسماة مناطق الف.
الجماهير الغاضبة في الشوارع:
تراكم الاحتقان والغضب الشعبي الفلسطيني مبكرا بعد اوسلو ,وظل يتراكم الى ان تفجر في انتفاضة النفق التي تمكنت السلطة من السيطرة عليها عند سقف معين,ولكن الحالة الشعبية ولاسباب عديدة اهمها الاحساس بالفشل وانكشاف ما تمخض عنه اتفاق اوسلو وما تلاها ,وستمرار هدر الكرامة الوطنية من قبل الاحتلال وصولا الى زيارة شارون لاللاقصى التي قصمت ظهر البعير.
اكتشفت الجماهير من تجربتها الخاصة ورغم كل اشكال التضليل والتزييف .
اكتشفت ان مجيء السلطة لم يمثل أي درجة من درجات التحرير :ولم تحدث تنمية ولم تنتهي الحاجة للعمل في اقتصاد واستيطان الاحتلال ,ولم تبنى مؤسسات وطنية محلية جديرة بان تكون ادارة للشعب الفلسطيني بل كانت ادارة فاسدة وفي كثير من الاحيان والمواقف كانت ادارة متعالية عن الجماهير وظالمة بالضافة الى انها فاسدة ومهلهلة.
ويتوجب ان نضيف هنا الى ان الكثير من الاحتقانات في نفوس الجماهير نتجت عن ادارة السلطة وخاصة التنسيق الامني وتسليم الاشخاص والمجموعات المطلوبة للاحتلال كما المشاركة من خلال التنسيق المني في تصفية العديد من الكادرات الكفاحية من حماس والجهاد الاسلامي.
ان مجيء السلطة لم يمثل أي درجة من درجات التحرير: :فالاستيلاء على الاراضي ظل مستمرا وبناء المستوطنات في الضفة الغربية ظل مستمرا وشق الطرق الالتفافية كذلك ,والدوريات والاعتقالات التي تمثل المظهر المباشر لعلاقة الاحتلال بالجمهور ,كما الحواجزو المعابر والتحكم بالحركة الداخلية والخارجية للانسان والبضائع . وكثير من الاهانات لرجال السلطة والقيادات السياسية للشعب الفلسطيني على الحواجز والمعابر وبشكل مذل.كل هذا اصبح مدركا يوما بيوم واصبح كذلك ملموسا الى درجة ان التضليل لم يعد يفيد ولا حتى الاوهام .
ان الاحتلال جاثم على الصدور والسلطة الفعلية هي بيد الاحتلال في كل المفاصل الرئيسية.
انه لم يعد يظهر أي ضوء في نهاية النفق الذي ادخلونا فيه باتفاقات اوسلو سيئة الصيت.
ثم جاءت زيارة شارون التي مثلت الكبسولة التي فجرت قنبلة الاحتقان المتراكم ووجهته باتجاه الاحتلال.
هكذا انفجرت الحالة الشعبية ممزقة اوراق اوسلو تحت اقدامها وتدوسها (ولكن في نفس الوقت كانت المنظومة القيادية ىتلملمها وتحافظ عليها قبل ان تتمكن الجماهير من اتلافها )
انتفاضة الاقصى حركة شعبية جبارة
لقد تصاعدت حركة عظيمة في الشوارع منذ الايام الاولى ,متحديةجبارة ,وتعكس جبروت الشعب الفلسطيني وسعيه للانعتاق ومستعدة لتقديم كل التضحيات الموجبة,تتقدم نفسها ويتقدمها زعماؤها الميدانيين ومعهم القيادات التقليدية التي تمثل فصائل الحركة الوطنية ,والتي تشكلت في اللجان الوطنية والاسلامية كما اسلفنا.
تصاعدت ورفعت شعاراتها التي اخترقت حواجز الاتفاقيات واصحاب الاتفاقيات,وهتفت بسقوط اوسلو وهتفت بشعارات ضد السلطة وسوكها الامني والتنسيق الامني ,ونددت في كل مكان بقيام اجهزة الامن باعتقال الوطنيين وترك العملاء يسرحون ويمرحون.
لقد انتظمت الجماهير في الايام الاولى بل والاسابيع الاولى في تيار عارم تعبر عن سخطها على شارون وعلى الاحتلال ,ولكنها استنفذت ذاتها في تحركات لا اصطدام فيها مع العدو .
فالعدو اعاد انتشار قواته وفقا لاتفاق اوسلو خارج مناطق الف (في القرى كذلك خفف تواجده اليومي وقلص نفقات حضوره الى الحدود الدنيا)واصبح يتواجد في نقاط محصنة تشرف مباشرة على بعض مداخل المدن ففي منطقة بيت لحم كان يتواجد في نقتطين في القبة وفي عش الغراب التي عاد وانسحب منها لاحقا,
النقطة الاولى عبارة عن برج اسمنتي عالي وشدشد التحصين ,يقترب منه الشباب الى ادنى مايمكن ويرجموه ,وبداخله جندي يطلق عليهم قنابل الغاز والرصاص الحي فيوقع الجرحىو الشهداء ,فتسارع الجماهير الى حمله, وتبدأ مرحلة الاستعداد لاتمام مراسيم الدفن المهيبة,في جنازة يشارك فيها عشرات الالاف من الرجال والنساء ياتون من كل المواقع المحيطة.
وحتى منتصف تشرين ثاني بدأت الحركة الشعبية الواسعة في التناقص,فلم يجد الناس ما يريدون من اشتباك مع الاحتلال كما كانت تجربة الانتفاضة الاولى.ولم ترشدهم قيادتهم التي لا تقودهم الى وسائل اخرى ,ومع ذلك لم يقبلوا فكرة استراحة المحارب التي طرحها عرفات بغد عودته من باريس .
هنا بدأ التوجه لحمل السلاح ولكن بشكل علني وفي مناطق الف .
ان هذا التوجه هو توجه اصيل بالاساس ويعتمد على فكرة ان اسرائيل لا تفهم سوى لغة الرصاص ,وان ما اخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة ,وهو يستند على فكرة مضاعفة كلفة الاحتلال مهما غلت التضحيات .
ان هذا التوجه يؤشر بقوة على القفز عن اتفاقات اوسلو التي رسخت سلاما بين القيادة والاحتلال .
وادى الى ضعف بنية السلطة امام سلطة المسلحين من فتح ابتداء ثم من كل الفصائل لاحقا.
ان اطلاق الرصاص على مواقع ومستوطنات العدو قد الهب الحالة المعنوية الجماهيرية في الداخل ,كما رفع معنويات الشعب الفلسطيني في الخارج في كل مكان ,والتي كانت تشاهد مقاتلي فلسطين على ارض فلسطين يطلقون النار باتجاه العدو.
ان هذا الجزء من ظاهرة السلاح كان عفويا مئة بالمئة, وانساقت له الاطراف ميدانيا بفعل ضغوط القاعدة التي رأت من واجبها ان تكون جزءا من هذه الظاهرة ,وشاركت فيها كل من فتح وحماس والجهاد الاسلامي والجبهة الشعبية ,وشارك معهم في بعض الاحيان افراد من جهاز الامن الوطني وبعض الاجهزة .انه اطلاق النار من بعيد (طخ اعراس وليس طخ اقناص)
ولم تفكر القيادة بالحضور لتنظيم مثل هذا الاستعداد العالي للنضال حتى لو كان الثمن هو الشهادة او ظلام السجون .وظلت هذه الظاهرة مستمرة وتشكلت لها الكتائب الى ان بدأت المداهمات في آذار 2002 م حيث اندثرت دون اثر .اندثرت دون اثر بعد ان قدم رجالاتها التضحيات الجسام التي تفوق الحد شهداء وجرحى واسرى ,وكانوا وظلوا(في فتح والشعبية) دون الحد الادنى من الرعاية بما في ذلك الرعاية الانسانية .
اما الشكل الثاني من استعمال السلاح فهو حسب اصول مقاتلة العدو المتفوق عددا وعدة وحضورا وامنا :انه الاستعمال السري وفي عمليات مفاجئة,والعمليات الانتحارية في مراكز وتجمعات الاستيطان الصهيوني في اراضي فلسطين المحتلة عام 1948.
لقد كان هذات الشكل مستنكرا من قبل قيادة السلطة ,فبعد كل عملية كان رؤوس هرم السلطة يعبرون عن استنكارهم للعمل وتضامنهم مع الضحايا وتهدد الفاعلين بالويل والثبور وعظائم الامور .
وكلما ازداد الميل لحمل السلاح اواستعمال السكاكين كانت الحكة الشعبية المتحفزة تتناقص في الشارع سوى في تشييع الجنازات.او للتعبير عن الاستنكار لسبب او لآخر .
وظهرت نغمة تدين عسكرة الانتفاضة ,وتحاول القول ان اشكال انضال السلمي هي الافضل دون ان يقولوا كيف سيكون هذا النضال السلمي ,سوى التجمهر وابداء الرأي ورفع الرايات بما لا يسبب للعدو اية ازعاج .ان النضال الجماهيري هو شكل اساسي من النضال وفي كل المراحل ,ولكن ليس مثل كل مرة يتم فيها توتير القوس بفعل عوامل ذاتية وموضوعية وما ان ينطلق حتي نصفق له ونتفرج عليه.
ان الامر ليس كما هو الحال في أي بلد آخر ,انه احتلال استيطاني اجنبي, تمكن من قسمة المهمة الامنية ليجعل جزءا منها بيد السلطة الفلسطينية, واعاد انتشار قواته,ووجد طريقة لتحرك المستوطنين خارج مناطق الف وكذلك مناطق باء في كثير من الاحيان ,وحاصر الجماهير وكثف المضايقات وقطع اوصال البلاد بالحواجز المنيعة وعذب الناس عليها ,بدون رحمة حتى انه منع الحوامل من العبور الى المدن حيث المستشفيات فولد بعضهن على الحواجز ومات بعضهن الآخر ,كما مات مرضى.
انه احتلال يقصف المواقع بالطائرات والدبابات, وما كان يفعل هذا حتى في الانتفاضة الاولى قبل اوسلو.
انه لم تتشكل قيادة فعلية لقيادة الكفاح الوطني المتاجج في الاراضي المحتلة جميعها, والذي شارك فيه جماهير 1948 في البداية ودفعوا ثلاثة عشر شهيدا وعددا كبيرا من الجرحى .وتنبه البعض الى ان هذا المد الجماهيري الهائل, والاستعدادات العالية للتضحية, واستعداد آلاف الشباب لحمل السلاح,ان هذه الانتفاضة تستحق ان يكون لها قيادة توازيها ,وتشكل لها الموجه السياسي وقيادة الاركان وتكون في صف الجماهير ولكن هذا لم يحصل .
حال الحركة الفلسطينية
فالحركة الفلسطينية مفككة حتى وان كان الشارع موحدا ,والقيادات الفلسطينية التقليدية لا تستطيع ان تتحول الى قيادة كفاحية وتحت الارض (الا آحادأ معروفين, بعضهم استشهد والباقي اعتقلوا) .
اما القيادات الشبابية الميدانية ,فقد بذلت جهدها واستشهد معظمها وطورد الباقي ,وما ان جاء الاجتياح حتى همد كل شيء في هبة الاقصى مع استمرار مظاهر الكفاح المتفرقة في حدودها الدنيا ومعظمها بسيطرة الngos .
النتيجة المرة
وفي السياق تم تبديد الانتفاضة وكانها لم تكن وبدون آثار سياسية ,ولا ومطلبية .
لقد دفع شعبنا تضحيات جسام .ولكنه لم ينجح في فرز وضع قيادي يتناسب مع المهمة الجسيمة ومع استعداده العالي للتضحية في سبيلها.
#محمود_فنون (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
اليوتيوب
لينكدإن
تيلكرام
تمبلر
بلوكر
الموبايل
