أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - خالد أبو شرخ - الصهيونية (28) .. نظرية الأمن الإسرائيلية (1)















المزيد.....


الصهيونية (28) .. نظرية الأمن الإسرائيلية (1)


خالد أبو شرخ

الحوار المتمدن-العدد: 3498 - 2011 / 9 / 26 - 04:12
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


الهاجس الأمني وعقلية الحصار, عبارتان تردان في الخطاب السياسي العربي, لوصف إحدى جوانب الوجدان الإسرائيلي، وهو الانشغال المرضي بقضية الأمن, وقد وُصف هذا الانشغال بأنه مرضي, لأنه لا يتناسب بأية حال مع عناصر التهديد الموضوعية (فالشعب الفلسطيني شعب موضوع تحت حكم عسكري قاس، وموازين القوى العسكرية بين إسرائيل والدول العربية, في صالح إسرائيل, كما أن أكبر قوة عسكرية في العالم، الولايات المتحدة، تقف بكل صرامة وراءها.
وفي محاولة تفسير هذا الوضع، يذهب بعض الدارسين, إلى أن تجربة الإبادة النازية, قد تركت أثراً عميقاً في الوجدان اليهودي والإسرائيلي, بحيث تَجذَّر الخوف من الإبادة في الوجدان, وأصبح شيئاً من قبيل العقدة التاريخية, أو العقد النفسية الجماعية, المتجذرة في العقل الجمعي اليهودي, رغم زوال العناصر الموضوعية, وقد يكون لهذا التفسير بعض المصداقية، وبخاصة أن الصهاينة والإعلام الغربي, قد حوَّلوا الإبادة النازية ليهود الغرب إلى ما يشبه الأيقونة, التي لا علاقة لها بالزمان أو المكان, وجعلوها مركز ما يُسمَّى التاريخ اليهودي, ويرى البعض أن عقلية الحصار, هي بعض بقايا ورواسب الوجود في الجيتو اليهودي في أوربا، وأن يهود أوربا (وبخاصة شرق أوربا), عاشوا عبر تاريخهم لا سيادة لهم, ولا يشاركون في أية سلطة، معرضين دائماً لهجوم الأغيار عليهم.
وبسبب هذا الهاجس الأمني وعقلية الحصار, تؤكد إسرائيل دائماً أنها قلعة مسلحة, لا يمكن اختراقها، قوة لا تقهر، قادرة على الدفاع عن نفسها, وعلى البطش بأعدائها، ولكنها مع هذا مهددة طيلة الوقت بالفناء (ومن هنا أسطورة ماتسادا وشمشون).
ولكن كل هذه الأسباب, قد تفسر حدة الهاجس الأمني وعقلية الحصار, ولكنها لا تفسر سبب وجوده وتجذره, ونحن نذهب إلى أن الهاجس الأمني, قد يكون حالة مرضية, ولكنه في نهاية الأمر ثمرة إدراك عميق وواقعي, (واع أو غير واع) من جانب المحتمع الإسرائيلي لواقعه.
لقد أدرك هؤلاء المستوطنون, أن الأرض التي يسيرون عليها, ويدَّعون ملكيتها منذ آلاف السنين, هي في واقع الأمر ليست أرضهم, وليست أرضاً بلا شعب كما كان الزعم، وأن أهلها لم يستسلموا كما كان متوقعاً منهم، ولم تتم إبادتهم كما كان المفروض أن يحدث, بل إنهم يقاومون وينتفضون ويتزايدون في العدد والكفاءات, ولم يكفوا عن المطالبة بشكل صريح بالضفة والقطاع وبحق العودة, وقرارات هيئة الأمم المتحدة الخاصة بحق العودة, لا تزال سارية المفعول. ولم تُقبل إسرائيل عضواً في المنظمة الدولية إلا بعد تعهدها بتنفيذ هذه القرارات, ويساندهم في هذا كل الشعوب العربية, ومسألة العجز العسكري العربي, والتفوق العسكري الإسرائيلي ليسا مسألة أزلية، وقد أثبتت حرب 1973 ثم المقاومة في لبنان، وبعدها الانتفاضة أن العرب قادرون على أن يعيدوا تنظيم أنفسهم, ويهاجموا المستعمر ويلحقوا به خسائر فادحة.
ثمة إحساس عميق بأن العربي الغائب لم يغب، هذا يعمق إحساس المستوطنين الصهاينة, بأن دولتهم كيان مشتول، فُرض فرضاً على المنطقة بقوة السلاح، وهم أول من يعرف أن ما أُسِّس بالسيف يمكن أن يسقط به, ومما يعمق مخاوفهم إحجام يهود العالم عن الهجرة, والتكلفة المتزايدة للتكنولوجيا العسكرية, كل هذا يولِّد الهاجس الأمني المرضي وعقلية الحصار المرضية, وهي حالة لا علاج لها داخل الإطار الصهيوني.
والهاجس الأمني وعقلية الحصار, يحددان كثيراً من جوانب السلوك الإسرائيلي، فبسبب هذا الهاجس لابد من زيادة القوة العسكرية, والدعم الاقتصادي, والتفوق التكنولوجي, والمزيد من السيطرة على الأراضي, وبسبب حجة الأمن يطالب الإسرائيليون, بالاحتفاظ بالضفة الغربية وقطاع غزة, وإنكار حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره. وباسم هذا الهاجس الأمني, يحق للإسرائيليين اللجوء للإغلاق الأمني, للقرى الفلسطينية وحصارها وتجويعها, وفي أية مفاوضات مع العرب, يطرح الإسرائيليون دوماً بند الأمن والأخطار, التي تتهددهم, وضرورة وجود محطات إنذار مبكر ومناطق فصل, وعندما تعقد أية اتفاقية مع العرب, يصر الإسرائيليون على ضرورة امتحانهم, للتأكد من نيتهم خوفاً من الخديعة, دون أن يكون من حق الفلسطيني أو العربي أن يفعل المثل, في هذا الإطار يتم التمييز بين المستوطنات السياسية, التي يمكن التخلي عنها والمستوطنات الأمنية, التي يجب الاحتفاظ بها (وبالتالي بقسم كبير من أراضي الضفة والقطاع), وتمت عملية غزو لبنان باسم السلام من أجل الجليل, وتنعقد المفاوضات مع سوريا بسبب أمن إسرائيل, بل إن الدولة الصهيونية بسبب الهاجس الأمني, تسمح وبشكل قانوني بدرجة من الإجبار, والضغط البدنيين للحصول على معلومات من الفلسطينيين, أما ممارسة الإجبار والضغط البدنيين بشكل غير قانوني فهذا أمر مفروغ منه.
والهاجس الأمني يقف أيضاً عقبة كأداء في المجال الاقتصادي, إذ يضع الإسرائيليون الاعتبارات الأمنية, قبل اعتبارات الجدوى الاقتصادية, ومن ثم فهو يعوق عمليات الخصخصة, التي تتطلب جواً منفتحا,ً يسمح بتدفُّق رؤوس الأموال والخبرات والعمالة والسلع, بل إنه يمكننا القول بأن الهاجس الأمني, يشكل عائقاً ضخماً في مجال التطبيع، إذ أن الإسرائيليين حينما تتدفق عليهم العمالة العربية والبضائع, تبدأ مخاوفهم الأمنية, في التهيج فيخضعون كل شيء للاعتبارات الأمنية, بما يحول دون تدفق العمالة والبضائع.

تُعَد نظرية الأمن القومي, في إسرائيل ذات مركزية خاصة, بالنسبة للدولة, فالمشروع الصهيوني مشروع استيطاني , مبني على نقل كتلة بشرية لتحل محل الفلسطينيين, وتغيبهم وتلغي تاريخهم وتستولي على أرضهم، وهو ما لن يتحقق, إلا من خلال العنف والقوة العسكرية وخلق الحقائق الاقتصادية والسياسية والاستيطانية، وهذا هو الإطار الحقيقي الذي تدور داخله نظرية الأمن الإسرائيلي, وما عقلية الحصار سوى نتاج لهذا الوضع البنيوي، أي أن نظرية الأمن الإسرائيلي والهاجس الأمني. يفترض أن الصراع حالة دائمة.
هذا الإدراك يعبِّر عن نفسه, في كثير من المفاهيم, التي تشكل ركائز نظرية الأمن في إسرائيل, التي تدور جميعها حول فكرة إلغاء الزمان والارتباط بالمكان, فهناك فكرة الأمن السرمدي، أي أن أمن إسرائيل مهدَّد دائماً، وأن حالة الحرب مع العرب حالة شبه أزلية، وأن البقاء هو الهدف الأساسي للإستراتيجية العسكرية الإسرائيلية, وقد عبَّر "حاييم أرونسون" عن هذه الرؤية, في إحدى دراساته بالإشارة إلى ما سماه "حرب المائة عام" (1882 ـ 1982)، أي الحرب الدائمة بين العرب والصهيونية, وهو يذهب إلى أن هذه الحرب لا تزال مستمرة، ويُفسِّر هذا الاستمرار على أساس, أن إسرائيل بلد غربي حديث يعيش في وسط عربي, لا يزال يخوض عملية التحديث, ومن ثم فهو معرَّض للقلاقل ولا يمكن عقد سلام معه, وتوقع "أرونسون" أن تستمر الحرب لفترة أخرى, إلى حين الانتهاء من تحديث العالم العربي, وقد تحدَّث "موشيه ديان" عن"لا خيار"، فعلى المستوطنين أن يستمروا في الصراع, إلى ما لا نهاية (وأسـطورة ماتساداه الشمشـونية تعـبير عن هذه الرؤية المظلمة).
وقد استخدم "إسحق رابين" تعبير "الحرب الراقدة", لوصف العلاقة القائمة بين إسرائيل والمحيط العربي، كما استخدم الكثير من القيادات الإسرائيلية, تعبيرات مشابهة, مثل تعبير "الحرب منخفضة الحدة"، حيث تشير كلها إلى غياب الحدود الواضحة, بين حالة الحرب وحالة السلم, في علاقة الدولة الصهيونية بمحيطها.
ويرى كثيرون من أعضاء المؤسسة العسكرية الإسرائيلية, أن التوجه نحو السلام, مجرد مرحلة انتقالية يلتقط العرب فيها أنفاسهم, ليعاودوا القتال, ومن ثم يصبح من الضروري محاصرة العنصر البشري الفلسطيني وقمعه بضراوة (كما حدث أثناء الانتفاضة، وكما يتبدَّى في المفهوم الإسرائيلي للحكم الذاتي), أما بالنسبة للعرب فلابد من ضربهم باستمرار, لبث روح اليأس فيهم, وإقناعهم بأن الاستمرار في تبنِّي الصراع العسكري كوسيلة لاستعادة الحقوق غير مجد.
وإذا كان الزمان تكراراً رتيباً لا يأتي بالسلام أو بالتحولات الجذرية، لا يبقى إذن سوى المكان، الثابت الذي لا يعرف الزمان, وبالفعل نجد أن الأرض تشكل حجر الزاوية في الأيديولوجية الصهيونية, وفي نظرية الأمن الإسرائيلية، فالأرض الخالية من العرب، أي من الزمان العربي، هي المجال الحيوي الذي يمكن توطين الشعب اليهودي فيه, وتحويله إلى عنصر استيطاني, يقوم على خدمة المصالح الغربية, في إطار الدولة الوظيفية, وبدون الأرض, سيظل الشعب اليهودي شعباً شريداً طريداً، بلا سيادة سياسية أو اقتصادية, والأرض التي يستولي عليها الصهاينة, لابد أن تُعقَّم من زمانها التاريخي العربي، لكي تصبح أرضاً بلا زمان، أي أرضاً بلا شعب.
لكل هذا نجد أن نظرية الأمن الإسرائيلية تؤكد البعد المكاني (الجغرافي ـ اللاتاريخي ـ اللازمني), بشكل مبالغ فيه وتهمل البعد التاريخي (الزماني ـ الإنساني), وإن قبلته فإنها تفعل ذلك صاغرة, وتحاول الالتفاف حوله تماماً, مثلما تلتف الطرق الالتفافية الصهيونية حول القرى العربية, ولذا فنظرية الأمن الإسرائيلي تدور داخل فكرة الحدود الجغرافية الآمنة (ذات الطابع الجيتوي), التي تستند إلى معطيات جغرافية, مثل الحدود الطبيعية (نهر الأردن ـ هضبة الجولان ـ قناة السويس), وقد اقترح "حاييم أرونسون" ما سماه "الحائط النووي"، أي أن تقبع إسرائيل داخل حزام مسلح تحميه الأسلحة النووية, وهي فكرة بسيطة مجنونة، تتجاهل العنصر البشري الملتحم بالجسد الصهيوني نفسه, ولا تختلف فكرة المستوطنات "القلاع المحصنة" كثيراً عن الحائط النووي، وهي سلسلة من المستوطنات التي تحيط بحدود إسرائيل في الضفة الغربية وقطاع غزة, ومرتفعات الجولان والنقب، وهي مُستوطَنات أمنية مختلفة عن تلك التي أقيمت لأسباب دينية أو اقتصادية.
وتحافظ هذه المستوطنات, على العمق الإستراتيجي للمراكز البشرية والاقتصادية, وتحول دون تعرُّض إسرائيل للهجمات العربية، كما أنها تحقق النصر في حالة الهجوم, بأقل قدر ممكن من الخسائر في الجانب الإسرائيلي، وتوفر الفرصة للقوات الإسرائيلية, للقيام بأعمالها الانتقامية والتوسعية, في الدول العربية المجاورة.
وتأكيد عنصر الأرض, يظهر في انشغال التفكير العسكري الإسرائيلي, بمحدودية العمق الإستراتيجي للدولة الصهيونية، فإسرائيل في التصور الصهيوني كلها منطقة حدودية، ومن ثم لا يمكن السماح مطلقاً, بأن تدور الحرب في أرض إسرائيل, ولذا لا يوجد مكان لعقيدة دفاعية في الفكر العسكري الإسرائيلي، نظراً لأن أيَّ فشل في العقيدة الدفاعية, سيؤدي حتماً إلى اختراق إسرائيل نفسها, ومما عمق هذا الإحساس إدراك القيادة الإسرائيلية, ضعف القاعدة السكانية الإسرائيلية, بالنسبة للقوة البشرية العربية, ومن هنا ضرورة تفادي الحرب الفجائية, وضرورة تحصين الحدود بعدد من المُستوطَنات, وضرورة السبق لتوجيه الضربة الأولى, من خلال حرب خاطفة لتجنب الحرب الطويلة والحرب الاستنزافية, لأن إسرائيل لا تتحمل التعبئة العسكرية الشاملة لفترة طويلة، وضرورة إلحاق خسارة فادحة سريعة بالطرف العربي, المهاجم لئلا تُجبَر إسرائيل, على تقديم تنازلات سياسية أو إقليمية.

وإزاء مشكلة غياب العمق الإستراتيجي للدولة, يُحدِّد الفكر العسكري الإسرائيلي, ما يُسمَّى "ذرائع الحرب" على نحو فريد, فالدولة الصهيونية تعتبر كل دولة عربية, مسئولة عن أي نشاط فدائي ينطلق من أراضيها، وازدياد هذا النشاط, يُعَد ذريعة من ذرائع الحرب, ويضاف إلى هذا الذرائع التالية:
1 ـ قيام حشود عسكرية عربية على أي جانب من حدود إسرائيل.
2 ـ تغيير ميزان القوى العسكرية على حدود إسرائيل الشرقية, نتيجة دخول قوات دولة أخرى إلى الأردن، أو قيام وحدة سورية الطبيعية, أو إنشاء أو قيام دولة فلسطينية, معادية على حدود إسرائيل.
3 ـ تهديد الأمن الإسرائيلي بسبب حصول الأطراف العربية, على أفضلية نوعية في سباق التسلح (مثل التسلح النووي).
4 ـ إغلاق المضائق أو الممرات المائية، أو أية خطوط بحرية أو جوية.
5 ـ تحويل مصادر المياه في لبنان أو في الجولان أو الأردن, بطريقة ترى إسرائيل أنها تهدد الأمن الإسرائيلي.

لقد حددت الحركة الصهيونية, فكرة الأمن بشكل جغرافي وأسقطت العنصر التاريخي، وتصوَّرت أنه عن طريق الاستيلاء, على قطعة ما من الأرض, أو على هذا الجزء من العالم العربي, أو ذاك وعن طريق التحالف مع الولايات المتحدة والقوة العسكرية, فإنها تحل مشكلة الأمن, وتصل إلى الحدود الآمنة, ولكن الانتصارات الإسرائيلية, التي كانت ترمي لتحقيق الأمن, كانت تؤدي إلى نتيجة عكسية على طول الخط، حتى وصلت التناقضات إلى قمتها مع انتصار 1967، وكان لابد أن تُحسَم هذه التناقضات، وهو الأمر الذي أنجزت القوات المصرية والسورية يوم 6 أكتوبر 1973 جزءاً منه, ثم اندلعت الانتفاضة الفلسطينية لتُبيِّن العجز الصهيوني.
ومع هذا تجدر الإشارة, إلى أنه ثمة اختلافات داخل المعسكر الصهيوني, في مدى هيمنة مقولة الأرض, ويمكن القول بأن صهيونية الأراضي (الليكودية), تعبير عن هذا التمركز الشرس حول الأرض, وإهمال الزمان والتاريخ. أما الصهيونية الديموجرافية أو السكانية (العمالية), فهي تعبير عن إدراك الوجود العربي والزمان العربي, وربما استعداد للتعامل معه، وإن كان التعامل يظل في إطار المطلقات الصهيونية، وهي أن أرض فلسطين، أي إرتس يسرائيل في المصطلح الصهيوني، هي ملك خالص للشعب اليهودي وحده (كما تنص على ذلك لوائح الوكالة اليهودية والصندوق القومي اليهودي), ولكن إن اختلف الصهاينة بشأن بعض التفاصيل, فثمة إجماع صهيوني راسخ بأن أمن إسرائيل يتوقف على الدعم الغربي لها، وبخاصة الدعم الأمريكي، ولذا لا يوجد أي اختلاف بشأن هذه النقطة.
والحقيقة التي فاتت الزعامات الصهيونية أن أمن إسرائيل, يمثل مشكلة كيانية لأن إسرائيل كيان مزروع بلا جذور، ممول من الخارج من قبل يهود الغرب والدول الإمبريالية الغربية، لا يتفاعل مع الواقع التاريخي العربي المحيط به, ولكي تُدافع إسرائيل عن أمنـها، أي كيانها، يضطر الكيان الاستيطاني الشاذ, إلى أن يعسكر نفسه عسكرة تامة, ليتحول إلى المجتمع"القلعة" الذي تجري العسكرية في عروقه, والذي لا توجد فيه أية فواصل بين الشعب والجيش, وما تنساه الزعامات الصهيونية, أنه بغض النظر عن مقدار الأمن, الذي سيصل إليه هذا المجتمع, وبغض النظر عن حجم انتصاراته, فإن عليه أن يخوض الحرب تلـو الحرب, ليدافـع عن أمنه "المهدد" وذلك بسـبب الحركة الطاردة في المنطقة, لقد بدأ الاستيطان الصهيوني مستنداً إلى أسلوب المستوطنات ذات السور والبرج, وعاش المستوطنون داخل هذا الأمن المؤقت, يحلمون بالأمن النهائي, وقد صعَّدت المؤسسة الصهيونية آمالهم بأن "السلام سيحل عن قريب" وخاض المستوطنون، ومن بعدهم الدولة الصهيونية، عدة حروب ليصلوا إلى الأمن النهائي والحدود الآمنة, إلى أن وصل يوم 6 أكتوبر 1973م, وكانوا لا يزالون واقفين وراء قناة السويس, خلف سور وبرج كانا يعرفان باسم "خط بارليف", الذي كان يحيط بالحدود الآمنة المفترضة, ثم تحولت إسرائيل بأسرها إلى أسوار وأبراج وطرق التفافية, يحيط بها حزام أمني في لبنان وسلسلة من المستوطنات في الجولان، ومعابر مسلحة مع السلطة الفلسطينية.
إنتصار القوات المصرية والسورية في أكتوبر وانتفاضتين فلسطينيتين, (ولا تزالا مستمرتان في صور أخرى في المجتمعات وبعض النقاط الساخنة), وانتصار المقاومة اللبنانية أثبت أن نظرية الأمن الإسرائيلي، كما حددتها المؤسسة العسكرية، لا أساس لها ولا سند، فسقطت أجزاء كبيرة من العقيدة الصهيونية, وانكشف الغطاء عنها.
إن التعريف الصهيوني للأمن شجرة عقيمة، فالحدود الجغرافية الآمنة, لا يمكنها أن تهزم التاريخ، والأمن لا يتحقَّق داخل المكان وحسب، عن طريق الآلات والردع التكنـولوجي، وإنما يتحقَّق داخل الزمان، فالأمن الدائم والنهائي والحقيقي, علاقة بين مجموعات بشرية تعيش داخل الزمان, وليس أسطورة لا تاريخية, تُفرَض عن طريق الردع التكنولوجي, والدولة الصهيونية غير قادرة على تحقيق الأمن لشعبها أو للآخرين, ومع هذا نجحت المؤسسة الحاكمة, في إقناع الجماهير الإسرائيلية أنها لا يمكن أن تتعايش إلا داخل الكيان الشاذ، وليس أن صهيونية هذا الكيان هي السبب, في انعدام أمنه, وهي السبب في الزج بالجماهير الإسرائيلية, في حروب متتالية، فلا أمن إلا من خلال إطار ينتظم كل سكان المنطقة, ولا يستبعد الإسرائيليين أو الفلسطينيين, أما الأمن الذي يتجاهل الواقع فهو أمن مسلح مؤقت، هو سلام مبني على الحرب, يهدف إلى فرض الشروط الصهيونية.
وقد شبَّه أحد الكتَّاب الإسرائيليين, نظرية الأمن بأنها عبادة وثنية للعجل الذهبي (الشيء ـ المكان), الذي رقص حوله العبرانيون مهملين عبادة الله الحق، المتجاوز للطبيعة والمادة والمكان.

طرأ على مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي, بعض التعديلات نتيجة الحروب العربية ـ الإسرائيلية، والمتغيرات والمعطيات الجغرافية والسـياسـية الناجمة عنهـا، وما تغيَّر عبر هذه السنوات, فقط أدوات تحقيق هذا الأمن, ولكن ليس بمعنى التغيُّر الكامل أو الإحلال, وقد تطور مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي عبر عدة مراحل:
* قام مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي, في مرحلته الأولى على مفهوم "الضربة المضادة الاستباقية"، الذي كان يرتبط بانعدام العمق الإستراتيجي لإسرائيل, وينطلق هذا المفهوم من مقولة مفادها أن من الحيوي عدم السماح مطلقاً بأن تدور الحرب في أرض إسرائيل، بل يجب نَقْلها وبسرعة إلى أراضي العدو, يقوم على شن حرب استباقية إذا حاول العدو (العربي) التصرف في أرضه, على نحو يقلق إسرائيل مثل المساس بحرية العبور, أو حشد قوات على الحدود الإسرائيلية, أو حرمانها من مصادر المياه, ولذا كانت عملية تأميم قناة السويس, تستدعي عملاً عسكرياً, تمثَّل في عملية "قادش" أو ما نسميه "العدوان الثلاثي".
* تطـوَّر مفـهوم الأمن القـومي الإسرائيلي, لتظهر نظرية "الحدود الآمنة". وهي نظرية وُضعت أُسسها قبل 1967م, لكنها تبلورت بعد حرب 1967م، وقد شرحها "آبا إيبان" وزير الخارجية آنذاك, بأنها نظرية تقـوم على حدود يمكن الدفــاع عنهــا, دون اللجــوء إلى حرب وقائية, ويُلاحَـظ في هذه النظريــة غلبة المكان على الزمان بشكل تام، إذ يُنظَر للشـعب العــربي باعــتبار أنه يجـب القضـاء علـيه تماماً أو تهميشه، فنظرية الحدود الآمنة إعلان عن نهاية التاريخ (العربي).
* أكدت حرب 1973م فشل معظم نظريات الأمن الإسرائيلي المكانية, وهو ما استدعى تكوين نظرية جديدة, هي نظرية "ذريعة الحرب"، وتذهب هذه النظرية إلى أن إسرائيل, لن تتمكن بأي شكل من الأشكال" من الامتناع عن تبنِّي إستراتيجية الحرب الوقائية" وتوجيه الضربات المسبقة" في حال تعرُضها لتهديد عربي.
وأضافت إسرائيل إلى هذا التصوُّر مفهوم حرب الاختيار، ومفهوم ذريعة الحرب كمبررات لشن حرب, من أجل تحقيق مكاسب سياسية أو أمنية مزدوجة المعايير, كما تم تطوير إستراتيجية الردع النووي, لذا شهدت هذه الفترة عَقْد اتفاق التعاون الإستراتيجي بين إسرائيل والولايات المتحدة عام 1891م, من ناحية والذي تَوافَق من ناحية أخرى مع صعود اليمين الأمريكي, الذي كان يسعى إلى تصعيد المواجهة مع الاتحاد السوفيتي, وقد شُنت في تلك الفترة الهجوم على العراق ثم لبنان ثم تونس، في حين أوكلت باقي المهام الأمنية, لجهاز السياسة الخارجية وجهاز الاستخبارات الإسرائيلية, اللذين قاما بجهودهما لإجهاض الكفاءات العسكرية العربية, كما قاما بأنشطة مشبوهة في أعالي النيل والقرن الإفريقي وغيرها.

ولكن الانتفاضة الفلسطينية والمقاومة في الجنوب اللبناني, حولت الأنظار عن مفهوم الحرب الخاطفة, إذ طرحت إمكانية "حرب طويلة", تعتمد على الاحتكاك المباشر, على الأرض التي يُفترض أنها لا شعب لها ولا تاريخ, ولذا فقد نظر الصهاينة إلى الانتفاضة, باعتبارها حرب عصابات شعبية غير مسلحة, تهدف إلى تحقيق أهداف سياسية معادية لإسرائيل، هي فك الجيب الاستيطاني الصهيوني، الأمر الذي يعني طَرْح قضية شرعية الوجود وبحدة, بل إن الانتفاضة هدَّدت البُعد الوظيفي، إذ أن الجيش الصهيوني فَقَد هيبته, وأثبت عجزه عن خوض الحرب الطويلة, وهي نقطة قد تكون فاصلة, في حالة نشوب صراع مع العرب, وإذا كانت الدولة الوظيفية, قد فَقَدت مقدرتها على قمع المواطنين الأصليين داخلها، فكيف سيمكنها أن تضطلع بوظائفها القتالية الأخرى؟



#خالد_أبو_شرخ (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الصهيونية (27) .. الديموقراطية الإسرائيلية
- الصهيونية (26)..الإرهاب الصهيوني من عام 1967م وحتى إعلان الم ...
- الصهيونية (25).. الإرهاب الصهيوني حتى عام 1967
- الصهيونية (24).. التطهير العرقي في فلسطين أعوام (49-48-47)19 ...
- الصهيونية (23).. التطهير العرقي في فلسطين أعوام (47-48-49)19 ...
- الصهيونية (22) .. الإستعمار الإستيطاني حتى عام 1948م
- عودة إلى موضوع الهولوكوست
- الصهيونية (21) .. التخطيط للتطهير العرقي
- الصهيونية (20) .. الإرهاب الصهيوني حتى عام 1947م
- الصهيونية (19) .. الدولة اليهودية الوظيفية
- الصهيونية (18).. سمات المشروع الصهيوني
- الصهيونية (17)..موقف الجماعات اليهودية
- الصهيونية (16).. المدارس الصهيونية
- الصهيونية (15).. الشراكة مع النازية
- الصهيونية (14).. وجه آخر للاسامية
- الصهيونية (13).. العلاقة مع الدين اليهودي
- الصهيونية (12).. تغييب العربي عامة والفلسطيني خاصة
- الصهيونية (11).. اليهودي النقي
- الصهيونية (10).. رؤى عنصرية
- تعقيباً على الإبراهامي والحافظ


المزيد.....




- القوات الإيرانية تستهدف -عنصرين إرهابيين- على متن سيارة بطائ ...
- الكرملين: دعم واشنطن لن يؤثر على عمليتنا
- فريق RT بغزة يرصد وضع مشفى شهداء الأقصى
- إسرائيل مصدومة.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين بجامعات أمريكية ...
- مئات المستوطنين يقتحمون الأقصى المبارك
- مقتل فتى برصاص إسرائيلي في رام الله
- أوروبا.. جرائم غزة وإرسال أسلحة لإسرائيل
- لقطات حصرية لصهاريج تهرب النفط السوري المسروق إلى العراق بحر ...
- واشنطن.. انتقادات لقانون مساعدة أوكرانيا
- الحوثيون: استهدفنا سفينة إسرائيلية في خليج عدن وأطلقنا صواري ...


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - خالد أبو شرخ - الصهيونية (28) .. نظرية الأمن الإسرائيلية (1)