أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمد السعدنى - عندما لاتؤدي المقدمات إلي نتائجها















المزيد.....

عندما لاتؤدي المقدمات إلي نتائجها


محمد السعدنى

الحوار المتمدن-العدد: 3491 - 2011 / 9 / 19 - 22:17
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


كانت‮ ‬ الصحيفة لاتزال في يده وقد طواها علي صفحة‮ ‬الإعلان الذي وقع في دائرة اهتمامه‮ ‬فأولاه اعتباراً‮ ‬فوق ماعداه من مهمات وأولويات ومصالح أخر‮. ‬دلف في تؤدة وثبات إلي ردهة الاستقبال الفاخرة،‮ ‬كانت خطواته الواثقة تنم عن‮ ‬رجل جاد هو علي أعتاب أمر جلل،‮ ‬بينما تهدلت علي جبهته العريضة خصلات شعر فضي،‮ ‬نزع عن عينيه نظارته الشمسية ومال بجزعة في إيماءة متعاليه يسأل عن مدير عام الشركة‮. ‬كان محظوظاً‮ ‬إذ بعباراته المقتضبة وحسن هندامه بدا مهيباً‮ ‬ومؤهلاً‮ ‬لتجاوز كل مايمكن أن يصادف‮ ‬غيره من لجاجة موظفي الاستقبال وتعالي خدم المكاتب المصطنع وعديد الأسئلة المقتحمة الباردة،‮ ‬فأشاروا علي الفور إليه،‮ ‬وتطوع أحدهم باستدعاء المصعد فتثاقلت خطوات صاحبنا إمعاناً‮ ‬في التكلف عله يكمل بادي اهتمامه ويفتح له الباب‮. ‬
كانت جلسته في مواجهة مدير عام الشركة تشي بملامح رجل مهم فكانت حفاوة المدير وترحابه،‮ ‬وقبل أن تكتمل ابتسامته بادره صاحبنا‮: ‬أليس ذلك هو إعلانكم لطلب مدير إقليمي لفرع الشركة في روما،‮ ‬وقبل أن يجيب،‮ ‬أكمل صاحبنا معاتباً‮: ‬ولماذا لم تحددوا الراتب والبدلات والمكافآت في الإعلان كما حددتم كل الشروط والمواصفات والمؤهلات المطلوبة لشغل الوظيفة؟ واستجمع المدير كل خبرات البيروقراطية التي أهلته للجلوس علي الكرسي الكبير والتي علمته كيف يتسيد مثل هذه المواقف ومن اللحظة الأولي،‮ ‬إذ كيف يسمح لموظف محتمل هو بالضرورة سيكون مرءوساً‮ ‬له حال استخدامه بأن يساءله ويناقشه؟ هذا بالطبع خارج شروط اللعبة،‮ ‬وعليه أن يسترد زمام المبادرة ويصحح الأوضاع ويلزم صاحبنا حجمه لايتعداه أو يغادر إطاره،‮ ‬فسأله في حزم‮: ‬هل قرأت كل شروط الوظيفة؟ ودونما أن يترك له فرصة الرد عاجله‮: ‬وهل أحضرت معك أصول وصور كل الشهادات والمستندات المطلوبة؟ وأكمل من فوره‮: ‬وهل أنت جاهز لأداء الاختبارات الآن حالاً‮ ‬فوراً؟ نظر إليه صاحبنا في تردد بدا معه مدي انكماشه في مقعده وندت من شفتيه كلمات متقاطعة متلعثمة لم يعرها المدير أي اهتمام،‮ ‬لكنه قدر أنه الآن استعاد سيطرته المفترضة علي الموقف وامسك بالموظف المحتمل من تلابيب حاجته واضطراره فألزمه حجمه ومقداره،‮ ‬وبدا حاسماً‮: ‬من فضلك الإجابة بنعم أو لا فقط حرصاً‮ ‬علي الوقت،‮ ‬وانهالت الأسئلة وتلاحقت الإجابات علي النحو التالي‮: ‬هل لديك خبرة بأعمال الكمبيوتر والشبكات والإنترنت؟ لا،‮ ‬هل لديك شهادة دولية في أعمال الكمبيوتر؟ لا،‮ ‬هل تجيد الإنجليزية؟ لا،‮ ‬هل تجيد الإيطالية؟ لا،‮ ‬هل لديك خبرة دولية سابقة في الأعمال المطلوبة؟ لا،‮ ‬هل لديك شهادة عليا كما هو مدون في الإعلان؟ لا،‮ ‬وهنا استشاط مدير الشركة وخرج عن هدوءه المصطنع وتبدي انفعاله في كلمات حانقة‮: ‬لماذا إذن تقدمت إلي الشركة وطلبت مقابلتي،‮ ‬وهنا جاءت كلمات صاحبنا لتتوج الحدث الدرامي بمشهد الختام الذي هو قمة في الكوميديا السوداء والساركيزم‮ " ‬السخرية‮": ‬جئت لأطلب منكم ألا تعملوا حسابي في هذه الوظيفة‮. ‬انفجر الجميع في الضحك حتي دمعت عيونهم،‮ ‬فقد كان ضحكاً‮ ‬كالبكاء‮. ‬هكذا كانت المفارقة وهكذا جاءت النكتة‮.‬
والنكتة لاتأتي من فراغ‮ ‬وهي‮ ‬غالباً‮ ‬تنفيس عن إحساس بالوجع يصدر عن ضمير جمعي حائر ووعي عام مؤرق يرفض الواقع حوله فيعمد للسخرية من مفرداته ويعرض برموزه‮. ‬فإذا كان من طبيعة الأشياء ومعيار صحتها أن تؤدي المقدمات إلي نتائجها،‮ ‬فإن النكتة تبدأ دائماً‮ ‬بمقدمات خاطئة أو‮ ‬غير معقولة لاتؤدي أبداً‮ ‬إلي ماوصلت إليه من نتائج،‮ ‬وهنا تقع المفارقة وتلذع السخرية ويكون الضحك‮.‬
شئ من هذا يحدث في حياتنا العامة،‮ ‬تبدوا معه النخبة من الساسة والمثقفين والكتاب والناشطين وقيادات الأحزاب والنقابات والعمل العام وبعض المسئولين،‮ ‬مثل صاحبنا في النكتة السابقة والذي لايمكن أن يؤدي ما اعتمده من مقدمات إلي ما يمكن أن يرجي من نتائج،‮ ‬فيأتي حوارهم وكلامهم وأفكارهم ومعالجاتهم للحال والطارئ من قضايا واهتمامات الشأن العام نوعاً‮ ‬من المفارقة وشكلاً‮ ‬مستحدثاً‮ ‬من أشكال النكتة الحريفة الساخرة الموجعة‮. ‬
المدهش أن كلنا ذلك الرجل الذي ذهب إلي الشركة دون مقتضي أو ضرورة ودون سند من مؤهل أو خبرة أو كفاءة،‮ ‬وإذا به يطلب ألا يعملوا حسابه في الوظيفة المعلن عنها،‮ ‬وسواء ذهب أو لم يذهب،‮ ‬فالأمر سيان،‮ ‬إذ هو خارج أي احتمال،‮ ‬ورغمها وإمعاناً‮ ‬في السخرية والمفارقة فقد كلف نفسه عناء الانتقال وتجشم مغبة الحوار ليعتذر لهم وكأنهم كانوا في انتظاره يترقبون تقدمه ومجيئه،‮ ‬حيث مستقبل الشركة ونشاطها وأعمالها جميعها تتوقف عليه‮. ‬
إذا كان هذا هو تفكيره وإذا كانت هذه هي تصرفاته كما أشارت النكتة،‮ ‬فلابد أن عقل صاحبنا بطل النكتة،‮ ‬شبيه النخبة ومثالها قد أخذته سنة من النوم فداعبته أحلام وأوهام،‮ ‬وعندما لفحته شمس الحقيقة فبدلاً‮ ‬من أن يفيق ليعيش الواقع،‮ ‬يواجهه ويصححه ويقوي دعائمه،‮ ‬أخذ يتمسك بالحلم الخادع ويعاقره ويستمرؤ الهلاوس ويحلق في أوهام الخيال وفنتازيا العالم السحري البديل‮.‬
وهنا كان لابد للضمير الجمعي العام أن ينتج النكتة ليسخر من واقعه ويعريه ويدينه ويضحك عليه في نفس الوقت وبنفس القدر الذي يتندر فيه ويسخر من صاحبنا والإعلان والمدير والشركة والإجراءات وتنكر التفكير للواقع وتنافيه مع سليم العقل وتناقضه وصحيح الإدراك‮. ‬وتأمل مفردات ذلك الحدث المفارقة وتفاصيله الساخرة،‮ ‬ثم حاول إسقاط ذلك علي واقعنا العام المعيش تأتيك الصورتين في تطابق مدهش‮.‬
الغريب أننا من كثرة تكرار اللامعقول في حياتنا العامة وتواتر وقائعه وأحداثه وأحياناً‮ ‬تنوع مفرداته مع احتفاظها بالرمز نفسه والمعني ذاته،‮ ‬بدونا وكأننا أصبنا بحول عام‮ ‬وضمور في أعصاب البصر وعطب في ضمير البصيرة أصبحت معه الرؤية ملتبسة والصور متداخلة والمشهد حائر متبلد ومرتبك‮. ‬وبدلاً‮ ‬من إعادة التفكير في تفاصيل الصورة وأسباب واقعها المشوه،‮ ‬وبدلاً‮ ‬من إعادة النظر في أفعالنا وأفكارنا وما أقترفته أيدينا،‮ ‬نظل في مماحكة مع الإطار والبرواز ووضع الصورة،‮ ‬بينما الخطأ فيما أحدثناه من اختلاط الألوان وخلل مقاييس الرسم والنسب والأحجام وتجاوز قانون الضوء والظل وتهافت فنون التشكيل والتركيب وقواعد وأساليب العرض هو الأولي بالدراسة والأوجب للحذف والجرح والتعديل‮. ‬الخلل في المقدمات قبل النتائج،‮ ‬وعلينا إعادة النظر وإعادة التفكير واعتماد قواعد جديدة للعبة التي تآكلت أطرافها واهترأت ملاعبها واستبد باللاعبين الملل والإرهاق والتعب،‮ ‬ورغمها لاتزال الفرصة قائمة والظروف لاتزال مواتية والوقت لايزال يمنينا بمتسع لمحاولات ممكنة‮.‬
ولا أحسبك في حاجة لتعديد أمثلة تثبت لك أننا جميعا ذلك الرجل،‮ ‬فيكفيك أن تنظر إلي مايكتب في كثير من الصحف وماتشاهد في الفضائيات العربية وماتتابعه في حياتك اليومية من أنشطة الأحزاب والتعليم والأسواق والانتخابات والوزارات والمؤسسات والهيئات العامة،‮ ‬لتري ظلال هذا الرجل وأفعاله وقد احتلت المشهد العام بمثل هذا النمط الغريب من التفكير وتلقائيته ومستهجن السلوك ولامعقوليته‮.‬
وهذا النمط من عادم التفكير كما فعل صاحبنا،‮ ‬لايؤدي إلي الارتجال والإكتئاب والإغتراب والانتهازية وتدني مستويات الإنتاج وضعف معدلات التنمية ومخاصمة المستقبل وتغول قيم السوق والاحتكار والعشوائية وتآكل هياكل المؤسسات والفوضي فحسب،‮ ‬وإنما يبعد بنا عن التغيير والإصلاح والنهضة وقيم العدالة والإنسانية والمواطنة،‮ ‬وأخطر مافيه هو أنه يهدد مفهوم الدولة وكيانها قبل استقرارها وتقدمها‮. ‬
لذا أنصحك قبل أن تضحك للمفارقة والنكتة وتدين الواقع وتتندر عليه‮ ‬أوتنسحب منه،‮ ‬أعد النظر وراجع أفكارك وتصرفاتك،‮ ‬وتأكد بأن معظم مشكلاتنا تبدأ عندما لاتؤدي المقدمات إلي نتائجها‮.‬



#محمد_السعدنى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- البحث العلمى وإدارة المعرفة
- إستراتيجيات إنتاج وإدارة المعرفة
- الوعي الزائف والعقل البديل
- مبدعون على الشاطئ الآخر
- الموتى لا يروون حكاياتهم
- المثقف المجتمع والسلطة
- إناللا هاموهى تونبلكا فيرينا
- العلم ساحر الغيوب
- البرتقالة الرخيصة
- معجزته ليست في ذاتها
- لن تخبو نار بروميثيوس
- أوهام التعليم العالي وخطاياه
- مطعم القردة الحية
- صفحات في ذاگرة التراث
- ذهنية -خراسان- وأصولية السياسة
- أقروا الماجنا كارتا وخذوا كل المقاعد
- إنتاج وإدارة المعرفة
- »فصل المقال فيما يكتب عن الدستور أو يقال
- ضرورات الثورة ومحاذير الفوضي
- الكومبرادور يحاول إغتيال الثوره


المزيد.....




- الطلاب الأمريكيون.. مع فلسطين ضد إسرائيل
- لماذا اتشحت مدينة أثينا اليونانية باللون البرتقالي؟
- مسؤول في وزارة الدفاع الإسرائيلية: الجيش الإسرائيلي ينتظر ال ...
- في أول ضربات من نوعها ضد القوات الروسية أوكرانيا تستخدم صوار ...
- الجامعة العربية تعقد اجتماعًا طارئًا بشأن غزة
- وفد من جامعة روسية يزور الجزائر لتعزيز التعاون بين الجامعات ...
- لحظة قنص ضابط إسرائيلي شمال غزة (فيديو)
- البيت الأبيض: نعول على أن تكفي الموارد المخصصة لمساعدة أوكرا ...
- المرصد الأورومتوسطي يطالب بتحرك دولي عاجل بعد كشفه تفاصيل -م ...
- تأكيد إدانة رئيس وزراء فرنسا الأسبق فرانسو فيون بقضية الوظائ ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمد السعدنى - عندما لاتؤدي المقدمات إلي نتائجها