أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان حسين أحمد - الروائي زهير الجزائري في أمسية ثقافية بلندن (3)















المزيد.....


الروائي زهير الجزائري في أمسية ثقافية بلندن (3)


عدنان حسين أحمد

الحوار المتمدن-العدد: 3490 - 2011 / 9 / 18 - 11:59
المحور: الادب والفن
    


سقط حاكم مستبد وعاشت البلاد فترة فوضى لمدة عشر سنوات
الكل يريد أن يروي قصته، ولكن هناك شحّة في المستمعين

نظّم غاليري "ARK" أمسية ثقافية للروائي والصحفي العراقي زهير الجزائري الذي عاد إلى العراق بعد غربة طويلة امتدت لربع قرن من الزمان. أدار الأمسية الشاعر والإعلامي العراقي عوّاد ناصر الذي وصف الجزائري بأنه "واحد من كتّابنا النادرين من حيث ثنائية حياته الشخصية ونتاجه الإبداعي على وجه التحديد". فالجزائري الذي يمتهن العمل الصحفي منذ سنواتٍ طوالا قد أصبح لاحقاً رئيساً لتحرير صحيفة "المدى" العراقية التي أضفى لمساته الإبداعية عليها قبل أن ينتقل ليصبح رئيساً لوكالة "أصوات العراق" التي ترسخت هي الأخرى في العراق وأخذت دورها الواضح ضمن الساحة الإعلامية في عراق ما بعد التغيير. أشار عواد ناصر في تقديمه المقتضب بأن "أحدهم" قد كتب في موقع ثقافي في دمشق موضوعاً مستفِزاً عن "أدباء المنافي السياحيّة" فشعر ناصر وكأنّ هذا الكلام موجّه له شخصياً ولأصدقائه الذين غادروا العراق في أوقات زمنية مختلفة إبان سنوات الحكم الدكتاتوري في العراق فكتب ردّاً لا يخلو، هو الآخر، من خشونة واستفزاز إذ قال:" نتشرّف نحن أبناء المنافي أن نحمل جوازات سفر محترمة في العالم، وليس جواز سفر عراقي يُبصَق فيه على وجوهنا عندما نقف على حدود العالم". وأضاف ناصر: "نحن نغبط زملاءنا أيضاً لأنهم في الداخل مثلما هم يغبطوننا لأننا في الخارج. هم يحسدوننا لأننا تخلصنا من غابة الوحوش والضواري، بينما يقف آلاف العراقيين على أبواب السفارات الأجنبية يستجدون الفيزا واللجوء السياسي. وعندما يتحدثون في السياسة يشيرون إلى ثقافة الداخل والخارج وكأنها ثقافة منقسمة إلى نصفين متباعدين".

ثنائية الداخل والخارج
استهلّ الجزائري حديثه من النقطة التي انتهى إليها ناصر وهي "ثنائية الداخل والخارج" حيث قال: "كلنا يعرف ميل العراقيين إلى الانشقاق، ففي العراق هناك ثنائيات معروفة مثل السُنّة والشيعة، العرب والكرد وما إلى ذلك. وهذه الانقسامات هي التي دفعت حنا بطاطو لأن يخصص فصلاً كاملاً أسماه "عراقيان إذن ثلاثة أحزاب" في إشارة واضحة إلى مَيل العراقيين إلى الانشقاق والتكتل وراء مصدّات فكرية يعتقدون أنها توفر لهم نوعاً من الحماية التي تَقيهم من صروف الزمان وتقلباته الكثيرة في العراق". يعتبر الجزائري أن هذه الانشقاقات، سواء عن الحُكّام أو عن بعضهم بعضا، ايجابية لأنهم أصحاب فكر ورأي، ولا حرج في أن يُعزِّز الإنسان أفكاره التي يؤمن بها.
قبل أن يحزم الجزائري حقائبه ويعود إلى عراق ما بعد التغيير قال بأن العراقيين المنفيين، أدباءً ومثقفين وسياسيين وما إلى ذلك، كانوا ينظرون إلى العراقيين ككتلتين إحداهما في الداخل والأخرى في الخارج. وأناس كتلة الداخل إما صامتون أو هم جزء من ماكنة السلطة الإعلامية، ولكن بعد مرور سنوات في المنفى بدأنا نميّز أصواتاً متغيرة في الداخل تنسف الصورة النمطية التي رسمناها سابقاً. ومع ذلك فقد ظلت صورة الداخل والخارج قائمة.
أشار الجزائري إلى تجربته الشخصية حينما عمل رئيساً لتحرير صحيفة "المدى" وقال: "إن المشاعر السائدة لدى الادباء والمثقفين في الداخل بأنهم قد أصبحوا موظفين يعملون لدى المثقفين القادمين من المنافي". وعزّز هذا الرأي من خلال الإشارة إلى أن الطبقة السياسية العليا في غالبيتها إضافة إلى الإعلاميين العراقيين الذين عادوا من الخارج قد احتلوا فعلاً أغلب المناصب الموجودة في الدولة، الأمر الذي أفضى من دون شك إلى الإحساس بهذا التمايز بين الداخل والخارج.
أكد الجزائري بأن طرفي النزاع ليس لديهم فكرة واضحة عن الآخر وعزا السبب إلى انقطاع الجدل بين الخندقين المتنازعين على مناصب الدولة الجديدة ومغرياتها. لقد ارتضى الجزائري أن يكون جسراً بين الطرفين يستمع إلى شكاوى كل طرف على حدة. فالمنفيون في الخارج يقولون إننا تغرّبنا وعانينا وتحملنا الكثير من المشكلات ولم نحصل على أي شيء، فيما يقول "المنفيون" في الداخل بأنهم تحملوا سنوات الحكم الدكتاتوري وحروبه العبثية والحصار الطويل الذي فُرِض على العراق لأكثر من عقد ونصف العقد بينما لم يحصلوا على حقهم الطبيعي من المناصب والوظائف التي خطفها القادمون من المنافي الأثيرة.
أورد الجزائري مثالاً من حياته الشخصية وقال بأن مثقفي الداخل لا يعرفون طبيعة العذاب الذي يعاني منه كاتب عراقي منفي أنجز حتى الآن عشرين أو ثلاثين كتاباً لكن ابنه لا يستطيع أن يقرأ أياً من هذه الكتب الكثيرة لأنه لا يجيد القراءة باللغة العربية. وأضاف بأن فكرة الداخل والخارج موجودة لدى مثقفي الداخل أيضاً وذكر مثالاً على التصادم الحاصل بين جيل الرواد والجيل الجديد، إذ يعتقد الجيل الجديد بأن جيل الرواد هو الذي يذهب لوحده إلى المهرجانات والأنشطة الثقافية العربية والعالمية، وأنه هو الذي يوصد الأبواب بوجه الطاقات الشابة ورموز الجيل الجديد، بينما يرى جيل الرواد بأن الجيل الجديد هم شباب ولم تكتمل تجاربهم الإبداعية بعد، لكنهم يريدون أن يتسلقوا بسرعة وأرجع هذا الانقسام إلى غياب الجدل في الحياة الثقافية التي أعقبت سقوط النظام الدكتاتوري في العراق من جهة وإلى الانقطاع الحاد بين المثقفين العراقيين في الداخل من جهة أخرى. وحينما سأل الجزائري عن الشاعر عبد الرحمن طهمازي أجابه بعض الأصدقاء بأنهم لم يروه منذ عشر سنوات تقريباً وهم يسكنون في مدينة واحدة!
يُعرَف المنفي من أشياء كثيرة من بينها احترام النظام والالتزام بالقوانين والصوت الخافت وما إلى ذلك من أمور يتعلّمها المنفي تدريجياً، غير أن الجزائري يرى بأن النزعة النقدية هي الشيء الذي يميز هذا العائد لوطنه حيث ينتقد كل شيء تقريباً: لماذا لا يقف الناس في الطابور؟ لماذا لا يحترم المارة الإشارات المرورية؟ لماذا يستعمل الناس هذه الألوان الصادمة وغير الجميلة للبنايات والمنازل؟ وسلسلة طويلة من الأسئلة والانتقادات التي تكشف في طبيعتها تعلّم المنفي أشياء حضارية كثيرة حتى من دون أن يتعمّد ذلك.
الملاحظة الأخرى التي ساقها الجزائري في هذا الصدد هي هيمنة اللون الترابي على بغداد وبقية المدن العراقية. فالعراق قد أصبح مغبراً جداً ويكاد يكون اللون الخاكي هو سيد الألوان قاطبة. ومن الصعوبة بمكان أن تتحس عين المنفي كل لون على حدة، وربما يحتاج المنفي إلى ستة أشهر لكي يميز ألوان الطيف الشمسي ويتحسسها كلاً على انفراد.
أشار الجزائري إلى أحد المواقف الطريفة التي مرّ بها في بغداد فبينما هو يتفحص إحدى القماصل خاكية اللون مرّ به رجل عابر لا يعرفه وضربه على يده قائلاً: "أما مللت من هذا اللون الخاكي"!

قصص مبتورة
أراد زهير الجزائري أن يردم الهوّة التاريخية بينه بوصفه منفياً وبين الوطن الذي شهد الكثير من الأحداث والمتغيرات. لم يشعر المواطن العراقي في الداخل بالتغيرات التي حدثت في العراق لأنها كانت تدريجية، ولكن المنفي يشعر بها ما أن يطأ بقدميه أرض العراق خصوصاً إذا كان قد مرّ على غربته ربع قرن من الزمان. لذلك حاول الجزائري أن يردم هذه الفجوة التاريخية بينه وبين الوطن فلا غرابة أن يتحوّل إلى مستمع يصغي إلى قصص الآخرين وحكايتهم العديدة التي تحتشد في ذاكرتهم. الكل يريد أن يروي قصته، ولكن هناك شحة في المستمعين. أدرك الجزائري على وجه السرعة بأنه يجب أن يتحول إلى مستمع جيد لكي يسد الفراغ الذي حصل في ذاكرته على مدى ربع قرن، ولكي يدوِّن هذه الأحداث في كتاباته الإبداعية لاحقاً. كان الناس، رواة القصص، يأتون إليه حتى من دون أن يطلب ذلك، ويسردون على سمعه قصصاً عجيبة وغريبة، لكنها، مع الأسف، قصصاً متداخلة، مقطّعة الأوصال.
يعتقد الجزائري بأن عملية سرد القصص هي جزء من السلوك الإنساني منذ بدء الخليقة وحتى الآن. فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي يتميز عن بقية الكائنات الحية الأخرى بخصلة التفكير، غير أن هذه الخصلة تبقى عاجزة عن التحقق إذا لم يتكلم الإنسان. وقد أخذ الكلام أشكالاً وأساليب متعددة بدأت برسومه البدائية على جدران الكهوف وانتهت إلى هذه الأنماط السرديّة المألوفة التي نتبعها بين أوان وآخر كلما دعتنا الحاجة إلى ذلك. اكتشف الجزائري أن العراقيين يتوفرون على مخزون كبير من القصص، لكنهم لا يستطيعون روايتها جميعاً مثل قصص السجون وعذابات المعتقَلين وحكايات الحروب المروِّعة. وأورد مثالاً في هذا الصدد بأن العراقيين بدأوا يتحدثون عن قصص وحكايات معركة الأنفال التي خيضت ضد شعبنا الكردي في شمال العراق الأمر الذي دفع بعض الناس للتساؤل عن السبب الذي منع العراقيين من الحديث عن هذه المعركة تحديداً. لا شك في أن الخوف من السلطة كان السبب الأول والأخير الذي منع العراقيين من تداول تلك الفظاعات التي ارتكبها النظام الدكتاتوري السابق في حينه ضد أبناء جلدته في معظم المحافظات العراقية، وليس ضد كردستان تحديداً.
لاحظ الجزائري بأن القصاصين أو الرواة في كل أنحاء العالم تقريباً لديهم سياقات في روي قصصهم وسردها إلى المتلقين، إلا أن العراقيين يسردون لمستمعيهم، إن توفروا، قصصاً مبتورة ومتداخلة تكشف عن الكم الكبير من القصص التي تحتشد بها رؤوسهم، كما تكشف في الوقت ذاته عن أوضاعهم النفسية غير المستقرة التي تقف حتماً وراء هذا التداخل اللامنطقي. لقد حاول الجزائري أن ينظّم هذه القصص المتشابكة، ولكنه لم يفلح في ذلك حتى الآن، ولكنه سوف يجد حتماً طريقة ما لكتابة هذه القصص أو تذويبها في نص إبداعي.

الصخب اللغوي
أورد الجزائري أمثلة عديدة على الصخب اللغوي أو الكلامي من بينها الاجتماع الأول للجمعية الوطنية، فبعد أن تحدث السيد عجيل الياور والدكتور إياد علاوي وغيرهما من الساسة الجدد منح مدير الجلسة الفرصة للآخرين لكي يعبروا عن آرائهم وكان هناك اثنا عشر ميكروفوناً. يؤكد الجزائري بأنه لم يسمع أصواتاً، وإنما عواء حقيقي أو نتف جمل غير مترابطة. الكل يريد أن يتكلم دفعة واحدة. تركهم مدير الجلسة يتحدثون جميعاً إلى أن تعبوا هم أنفسهم من هذا التداخل العجيب في الأصوات ثم دق على الطاولة وأمرهم بالهدوء والحديث تباعاً. تكشف هذه الملاحظة من دون شك بأن الساسة الذين كانوا معارضين للنظام السابق يحتاجون أيضاً إلى دكتاتور لكي يُسكتهم وينظِّم أحاديثهم المتداخلة.
يرُّد الجزائري نقص الخبرة لدى الشخصية العراقية عموماً إلى عدم التراكم، أي أن تجارب الحاضر لا تتراكم ولا تنضاف إلى تجارب الماضي بسبب هذا القطع أو البتر الذي طال قصصنا وحكاياتنا، ولكي ننتج خبرة حياتية حقيقية لابد أن نحيل تجارب الحاضر إلى تجارب الماضي بطريقة عقلانية صحيحة تكشف عن نوع من التكامل المنطقي. يعتقد الجزائري بأن هذه التقاطعات تبدو وكأنها مستمدة من تقاطعات الحياة العراقية وتشظّي الشخصية العراقية نفسها.

الولع بقراءة التاريخ
أما الانشقاق أو التشظي الآخر الذي عاشه الجزائري بعد عودته إلى العراق فهو حياته كصحفي من جهة حيث يتخذ من هذه المهنة وسيلة لكسب رزقه اليومي، وبين اهتمامه بقراءة كتب التاريخ. صحيح أنه كان يقرأ كتباً تاريخية من قبل، لكن ولعه الآن ازداد، كما ازداد ولع الناس الآخرين بقراءة كتب التاريخ ربما لأنهم يريدون أن يعرفوا موقعهم ومكانتهم من هذا التاريخ. كان الجزائري يعيش الأحداث اليومية والتاريخية على حد سواء، ولكنه كان يشعر بالتيه بين هذين الشكلين، اليومي الفوضوي والتاريخي المنظّم. لقد توصل الجزائري إلى نتيجة منطقية مفادها أن الحاضر الذي نعيشه بكل دمائه ومصائبه يمكن أن ينكتب بجملتين لا غير وهما:" سقط حاكم مستبد وعاشت البلاد فترة فوضى لمدة عشر سنوات". خلص الجزائري في هذا المحور تحديداً إلى أن التاريخ كله، أو جزء كبير منه، أكاذيب، وهو نوع من المصادفات والأحداث غير المنطقية التي رتبها المؤرخون على وفق سياقات منتظمة بحسب عقائدهم الفكرية التي أسست لهذا التناقض الذي يعيشه الكاتب.
من بين التشظيات الأخرى التي كان يعيشها الجزائري هو التناقض بين الذاكرة والعين. فعبر عين الذاكرة كان الجزائري وأقرانه في المنفى يتذكرون شارع الرشيد دكاناً دكاناً، وإذا فلت منهم محلاً سرعان ما يعودون ويقبضون عليه بواسطة عين الذاكرة الافتراضية التي لا يفلت منها شيء تقريباً. أما العين الحقيقة فقد تنخذع في كثير من الأحيان وقد أورد الجزائري أمثلة عديدة في هذا الصدد مثل بعض الأمكنة التي أضاعها في شارع الرشيد أو الكرادة أو مدينة النجف التي ولد فيها وكانت القبّة هي نقطة ارتكازه الوحيدة التي قادته إلى بعض المعالم الأساسية من ذكرياته القديمة.

التجارب المؤجلة
توقف الجزائري عند ثقافة الخوف التي تأصلت لدى العراقيين. فالقصص التي أشرنا إليها سابقاً لم تروَ جميعها، فلا أحد يجرؤ على رواية القصص أو التجارب الحقيقية التي أجلّها العراقيون إلى حقبة لاحقة بسبب نوازع الخوف التي تستوطن أعماق الشخصية العراقية. وأشار الجزائري إلى قصة ابن عمه الذي عاش في سرداب لمدة تسع سنوات وكان في حينه هارباً من الخدمة العسكرية، وقد كيّف حياته في هذا السرداب الذي أصبح مكاناً لعمله ودراسته، إذ جمع العديد من كتب الطب الشعبي وقام بدراستها دراسة تفصيلية أسفرت لاحقاً عن تأليفه لعدد من كتب الطب الشعبي من بينها السم الأبيض، وهو السكر، والسم الاسود وهو الشاي وما إلى ذلك من إصدارات طبية كما يذهب هذا الشخص المختبيء. وإضافة إلى مؤلفاته المخطوطة فقد كان هذا الشاب المختفي تحت الأرض يمارس مهنة تصليح الراديوهات والتلفزيونات. وكان يطل على العالم الخارجي بواسطة مرايا رتبها المختبيء بطريقة مدروسة تتيح له أن يرى أقدام المارة في الأقل ويعرفهم بواسطة هذه المرايا. يؤكد الجزائري بأن هذا الشخص العراقي المختبئ لمدة تسع سنوات لم يكتب تجربته الشخصية لأنه يخشى من عودة صدام حسين والوضع السابق برمته فيتعرض إلى ما لا تُحمد عقباه. فالذاكرة العراقية تختزن في طياتها أن صدام حسين قد اعتاد على ظاهرة الاختفاء والعودة إلى الحكم، لذلك فإن العراقيين لا يجرأون على تدوين تجاربهم الشخصية أو نشرها في الوسائل الإعلامية المتاحة. وقد لعبت فترة الاختطافات والاغتيالات دوراً مهماً في ترسيخ هذه الخشية لأن المجرمين الذين يخطفون أو يغتالون هم أناس غير مرئيين كما أن السلطة لم تكشف عن بعض هؤلاء المجرمين المتورطين في عمليات القتل فلا غرابة أن يتجسّد مفهوم الخوف من الآخر الذي ظل مجهولاً. وقد أفاد السياسيون من هذا الخوف ووظفوه لمصلحة أحزابهم وكتلهم السياسية، ففي كل مرحلة انتخابية كانوا يروجون أخباراً كاذبة عن انقلاب عسكري الأمر الذي يدفع الطائفة إلى الاصطفاف الغريزي إلى جانب السياسيين الذين كانوا يمثلونهم في الدورة السابقة. وهذا الخوف هو الذي شجّع على العودة إلى الانتماءات الطائفية والقبلية كما عزّز الانشقاق بين مكونات الشعب العراقي.

بثّ الإشاعات
أشار الجزائري إلى أن السلطة العراقية قد تعمدت بث مجوعة من البرامج عن فترة حكم صدام حسين قبل مظاهرة 25 شباط في محاولة واضحة للإيحاء بأنه إذا اختل الوضع السياسي في العراق فإن صدام حسين سوف يرجع إلى سدة الحكم من جديد. كما أشاعوا فكرة المندسين الذين تسللوا بين المتظاهرين الأمر الذي خلق حالة رهيبة من الشك بالآخر الذي يمكن أن يكون مندساً أو فرداً من أفراد القاعدة. أورد الجزائري بعض الأمثلة التي عززت مفهوم الخشية من الآخر. ففي الانتخابات الأولى التي حدثت عام 2006 أُشيع عن وجود قناصين على أسطح بعض المنازل، كما أن الهاونات سوف تستهدف المراكز الانتخابية وتقصفها في أثناء الشروع بعملية الانتخابات، وأن مجموعات مسلحة معينة سوف تفتش الناس الذين انتخبوا وسوف يقطعون كل إصبع ملطخ باللون البنفسجي! لقد ساهمت هذه الإشاعات، كما يذهب الجزائري، إلى تعزيز الخوف عند بعض العراقيين ومن بينهم هو وأسرته التي تتكون من ستة أشخاص. وعلى الرغم من رغبتهم الأكيدة في الذهاب إلى الانتخابات إلا أنهم كانوا يخافون من الإشاعات الكثيرة التي تسربت إلى الشارع العراقي ومع ذلك فقد قرروا الذهاب بعد ساعة من بدء الانتخابات على افتراض أن عمليات القنص والقصف سوف تتوقف بعد ساعة من الزمن. وحينما أطل الجزائري من النافذة ليرى المراكز الانتخابية شاهد العديد من طوابير النساء التي تمتد لمسافات طويلة فشعر هو وأسرته بالخجل ولم يجدوا بُداً من الذهاب إلى المراكز الانتخابية للإدلاء بأصواتهم.
ذكر الجزائري بأن مفهوم الخوف قد ترسخ في ذروة الحرب الأهلية وصار الذهاب بالتاكسي نوعاً من المغامرة. وإذا كان الإنسان مضطراً فلابد أن يراوغ السائق لكي لا يكتشف هويته المذهبية. وذات مرة أراد الجزائري أن يذهب إلى حلاق لكي يقص شعره، ولكنه كان يخشى سائق التاكسي، مثلما كان السائق يخشاه أيضاً، وكان كلاً منهم يراوغ الآخر ويحكي حديثاً عاماً مثل "هذا البلد ما ينعاش بي"، وفي أثناء هذه الأحاديث العامة سأله الجزائري إن كان يعرف حلاقاً أميناً لا يسبب له مشاكل هو في غنى عنها فـأخذه إلى حلاق "مسيحي" في الكرادة!
ونتيجة لهذا الخوف المرعب الذي نشأ في عام 2006 فإن عمليات التبضع كانت تتم عبر سطوح المنازل في بغداد، بينما احتل الأطفال الشوارع والأزقة ينقلون الأخبار من محلة إلى أخرى. وكانت المليشيات تريد أن تؤسس "طالبان" في كل حي فلا غرابة أن تشاهد "مَلَكان" أنثوياً ممزقاً لأن الظلاميين لايقبلون بعرض تمثال بلاستيكي لامرأة جميلة ترتدي ربطة عنق وملابس طويلة محتشمة!

صوت شذى حسّون
توقف الجزائري في ختام محاضرته عند ملاحظة شديدة الأهمية ففي خضم هذه المخاوف انطلقت مسابقة الـ "ستار أكاديمي" فترك الناس كل هذه المخاوف القبيحة جانباً والتفتوا إلى شيء جميل يوحّد العراقيين من الطرفين حيث صوّت لشذى حسون سبعة ملايين مواطن كانوا يدفعون النقود بغية إيصال هذا التصويت. والغريب في الأمر أن رجال الدين لم يعترضوا على شذى حسوّن، المطربة الجميلة التي كانت ترتدي العلم العراقي المكتوب عليه عبارة "الله أكبر" لأنهم أدركوا أن الشارع العراقي أكبر منهم ومن توجهاتهم المذهبية الضيّقة. أما الملاحظة الأخيرة التي سأنهي بها هذه التغطية فتتمحور حول الجزائري نفسه الذي كان يائساً من الجيل الشاب الذي لا يعرف شيئاً حتى قائد شعبي محبوب مثل عبد الكريم قاسم، طيّب الله ثراه، كما أنه هذا الجيل لا يعير اهتماماً للتيارات السياسية الموجودة لأنه يعتقد بأن "التيّار الكهربائي" هو أهم من هذه التيارات السياسية التي لم تعنَ إلاّ بمصالحها الحزبية والشخصية الضيقة.
بقي أن نقول إن زهير الجزائري من مواليد النجف عام 1942. درس الأدب الألماني وعمل في الصحافة منذ عام 1968. رأس صحيفة "المدى" ووكالة "أصوات العراق". أصدر حتى الآن ستة عشر كتاباً من بينها "حافة القيامة، أوراق جبلية، مدن فاضلة، كتاب الأنفال الخائف والمخيف، وحرب العاجز: سيرة عائد، سيرة بلد.



#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إلى السيد نوري المالكي، رئيس مجلس الوزراء المحترم
- شركة الناصر للطيران
- الأحزاب الدينية والسينما العراقية
- الشخصية المنشطرة وتعزيز الأمكنة الافتراضية
- الحقوق المائية
- رواتب البرلمانيين العراقيين
- القرصنة والابتزاز
- مُحفِّزات أعمال الشغب والعنف في بريطانيا
- الجادرجي في أمسية ثقافية بلندن يتحدث عن تأثير ثورة 14 تموز ع ...
- صلاح نيازي يرصد التغييرات التي طرأت على الأدب والفن بعد ثورة ...
- عبد المنعم الأعسم يتحدث عن ثقافة التسامح
- تحديات الإعلام العراقي في الداخل والخارج
- الصدمات و الكراهية في السياق العراقي
- قاسم حول: -المغني- فيلم متميز في مضمونه وشكله وقيمه الجمالية
- خالد القشطيني يقرأ بعض حكاياته ويوقّع كتابه الجديد -أيام عرا ...
- الواقعية الجديدة في -زهرة- بارني بلاتس
- -حديث الكمأة- لصبري هاشم أنموذج للرواية الشعرية
- أسرار فرقة الدونمه ودورها في المجتمع التركي الحديث (3-3)
- الدونمه بين اليهودية والإسلام . . . مسوّغات العقيدة المُزدوج ...
- الدونمه بين اليهوديّة والإسلام (1-3)


المزيد.....




- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...
- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ
- روسيا.. إقامة معرض لمسرح عرائس مذهل من إندونيسيا
- “بتخلي العيال تنعنش وتفرفش” .. تردد قناة وناسة كيدز وكيفية ا ...
- خرائط وأطالس.. الرحالة أوليا جلبي والتأليف العثماني في الجغر ...
- الإعلان الثاني جديد.. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 الموسم ا ...
- الرئيس الايراني يصل إلي العاصمة الثقافية الباكستانية -لاهور- ...
- الإسكندرية تستعيد مجدها التليد
- على الهواء.. فنانة مصرية شهيرة توجه نداء استغاثة لرئاسة مجلس ...
- الشاعر ومترجمه.. من يعبر عن ذات الآخر؟


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان حسين أحمد - الروائي زهير الجزائري في أمسية ثقافية بلندن (3)