أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نقوس المهدي - مخامرات عباس الرابع















المزيد.....

مخامرات عباس الرابع


نقوس المهدي

الحوار المتمدن-العدد: 3486 - 2011 / 9 / 14 - 09:09
المحور: الادب والفن
    


مخامرات عباس الرابع
نقوس المهدي




(إذا رأيتم السحاب تطلع من المغارب فللوقت تقولون انه سياتي مطر، فيكون هكذا، وإذا رأيتم ريح الجنوب تقولون انه سيكون حر، فيكون، يا مراؤون تعرفون أن تميزوا وجه الأرض والسماء، وأما هذا الزمان فكيف لا تميزونه) كتابة قديمة



لا أدري على وجه التحديد لماذا أصاب بدوار الشوق كلما تذكرت الماضي، دوار تواكبه أسراب من الذكريات الكظيمة التي تثير في النفس دفقا من الحنين حد الاكتئاب، وتتربص بي الأحزان الدفينة منتظرة انهزامي ..

لا أود أن أشغلكم بمشاكلي الصغيرة، لأن لكل منا ما يكفي لصرع حصان، ولعل ذلك هو القاسم الذي يوحد بين بني البشر، نخبئ الإتعاب الى حين، نعتقها، نستقرئ أوجاعنا وعذاباتنا في عيون الآخرين، حيث لا وقت للتذكر ولا وقت للتنكر، ونكتمها حيث لا وقت لسماع الترهات، وحيث لا وقت هناك لامتطاء الذكريات ..

اما بالنسبة لي فتخامرني كتابة قصة تكون بدايتها:

باسم الله
عندما تغيب الأمطار يحضر الجوع العظيم لكل شيء، تتشقق الأرض ويغزونا الشوق للاضطهاد والسلب، وحده الماء الذي ينهمر كدموع الصبايا يمسح فائض بؤسنا وتعاستنا، ويملأ بطوننا، ويغسل أدراننا، حيث لا شيء غير الأمطار يشغل بال الناس، فحينما يدلف الوالد الى البيت يعلن بفرح طفولي أن رياحا عاتية تهب من ناحية القلب، والبرد يتسلل حادا من مسام الجلد متماهيا في العظام، باعثا فيها قشعريرة مريرة، والطيور تتقافز واجفة مرتجفة في المدى الواسع باحثة عن ملجأ، والسحاب يتدلى من قبة السماء كبالونات تحيل الفراغ الى براري اسطورية تتعرى في فضاء صاخب ككائنات تتدلى من حبل السرة،

الى المنزل عدت، دخلت، سلمت، وجلست، واتخذت متكأ بين الحاضرين في القبة، كانت هناك جماعة، غرباء وأقارب وأحباب تنبعث منهم روائح الحقول والتراب والأنعام والألفة، الثوم والبصل والعرق، الشيح والزعتر والند، التين والزيتون والسمن البلدي، يوحدهم الجهل والفقر والقناعة وعشق الأرض وقلة ذات اليد ، ليسوا أغنياء تماما ولا فقراء بالتمام، لكنهم ممن يكملون وجباتهم بالفلفل الحريف كما يتندرون، يتجادلون ويضحكون وينتظرون الأمطار، لكنهم يقهرون الحياة بأشد أسلحتهم فتكا: الصبر والقناعة، غرباء والاب والعم وفقيه القرية، عالمها ومعلمها، حكيمها وحجتها وطبيبها، قارئ رسائلها ومفتي ديارها، يفتحون أبواب الإنصات، ويغلقون باب السؤال، ويتتبعون أحاديث مبهمة عن شروط الصوم والحج والنكاح ومبطلات الوضوء والصلاة، والارث والزكاة وأنماط الإنتاج .

كان الفقيه يتكلم ويطقطق بأنامله على حبات شبيهة بجنزير العجلة، كنت أقرأ الخواطر على محيا الحاضرين جملا غير موقعة بالنطق، لكنها ممهورة بإيمان عميق بالأرض والإنسان والأشياء الحميمة والصداقات القديمة، وفي ساحة الذكريات متسع للجميع ..

فيما ينبعث من راديو مركون في الزاوية صوت مطربة تتغنى عن قلبها الجريح المشوي بغدر الحبيب، وأنا دماغي توشك أن تنفجر من كثرة سماعي لهذا الزفت، وعمي فاغر فاه غير فاهم لما تقول، بينما يتجرع كأسه جرعة جرعة ويتلمظ، محدثا مع كل رشفة قرقرة، ويدفع بالكاس على صفيح الصينية النحاسية ذات الأرجل المبرومة، وينفث من فيه خيطا من الدخان حلزونيا رفيعا كثيفا كسنين الجرب المثخنة بالجراح والأوصاب والظمأ والقهر المبين .

كانت هناك كلاب.. بعضها باسط ذراعيه بالوصيد لا تكاد نظراتها تستقر على حال، وبعضها رافعة قائمتها الخلفية وتتبول، والبعض يشتم مؤخرة كلبة، وجراء تجري وتلهو، وجراء ترضع، كنت أرمي لهذه المخلوقات القانعة بين الفينة والأخرى بقطع من الخبز فتتعارك، وكنت استماع بهذا الهراش الأخوي، وأفكر في أن كلاب الفقراء تأكل خبزا جافا، وكلاب الطبقات المتوسطة تأكل خبزا مغموسا، بينما كلاب الأغنياء لا تأكل لا هذا ولا ذاك ..

- زد الشاي والنعناع وهيء لنا كأسا برزته.. لا شئ أحلى من كأس منعنعة من شربها يموت ومن لم يشربها يموت .
- إنه الجفاف بالأرض والقلوب، لا شئ يحلو هذه الأيام إلا هذه الكأس التي تحلقنا حولها قبل ان يطوح بنا هذا الزمن اللعين الى المقابر ومدن الصفيح نستجذي من هم أقل منا صبرا ..
- ويرزقكم من حيث لا تعلمون
- عشت طول حياتي ولم اشاهد مثيلا لهذه الايام !! . عقب اخر
- زمان ابن زمان.. قل الحياء وفسدت الاخلاق
- سبحان الله!! علق أحد الحاضرين
- قال الفقيه:
"أربعة في الدنيا ليس فيها أمان
البحر والنار والسلطة والزمان"
- لا ادري من اين يأتي هؤلاء القوم بمثل هذا الكلام، لا شك ان الخرافة لعبت بأدمغتهم، وقلت أشياء عن الأمية والجهل والقناعة، وأشياء أخرى لم أتذكرها
اغضب هذا الكلام أبي، وقال
- على كبر سني لم ار جيلا بمثل هذه الاخلاق!!
- إنها علامة من علامات القيامة.. أردف الفقيه

لا زلت أتذكر ذلك اليوم الذي عدت فيه بالشهادة الابتدائية، كانت أمي تضحك وترقص وتزغرد، وزوجة عمي تلوي عجيزتها التي تشبه سلة البطاطا وترقص على طست الغسيل، والبيت تفوح منه روائح الطبيخ مدة سبعة أيام بنهاراتها ولياليها

"ضحكت سيدتي حتى ظهرت الاسنان
يالهي
جواهر لم تدخل قط مزادا علنيا"
هكذا تردد "فاطمة الزحافة"، وكذلك كانت أمي، وجهها كاللجين كان، والمحيا قمر تموزي، القد زيتونة، والشعر كالسيسبان، والعيون واحة من الأمنيات، والجسد نهر من الليونة سبح الوالد في صفائه فاصطاد احد عشر حوتا .

يقولون إن الحسن إذا زال تبقى حروفه، وأمي كانت أجمل فتيات الدوار على الإطلاق، لاتعرف الفرق بين الألف وعكازة جدي، ولا بين اللام وعصا الطبل، تصارع الفتية من اجل صفاء عيونها، هي الآن غزا الشيب مفرقها .

أمي يا حرارة الفصول
جميلة أنت كحلوة النبع
كاليناصيب وفض البريد
كالشوق المعسكر في الترائب
كانتهاء سنين الجدب
كأوهام الطفولة
واللقاءات الحميمة
هي ذي مفاتن المحبة
وفاتحة الهذيان
والعشق الطاعن في الغياب
واحتمالات اشتعال النشيد
لك أنت أعلن اني العاشق لكيمياء الحقيقة
وللأشياء البسيطة ألفتي
أتوحد في شهقة الكبرياء
وأسقط الصريع المتأجج على الرصيف
أراوح بين تضاريس هذا النزيف
في لغة تنادم في براءتها شحوب من يزرعون لهفتهم في حنايا الرغيف
لك المحبة ذاتها
والأشواق ذاتها
والحب ينشر أهدابه على هذا العشق الأليف .

كنت وقتها أستخف بمهن الجيش والتعليم والتمريض والبريد والتجارة والنجارة، وتصفعني كلمات الوالد أكتافك كأكتاف البغل خير لك إن أصبحت دركيا
لكنه الزمن
يعطي اللوز لمن لا أسنان له .

كنت أعي أن أبي يهيئني للبيض، فالبقرة لا يمكن ان تلد الا عجلا، والبطة تبيض فرخا عواما، والدجاجة لا تعطي ماسا، والكلبة تلد أكثر من أثداءها، والغني يلد طفلا غنيا، لكن الفقراء من أمثالنا كالقطط تأكل جراءها .

انتهت الأغنية، وانتهت النشرة الجوية، وانتهى قارئ النشرة الجوية، الذي كان يبدل قصارى جهده ليبدو حازما وصادقا، تحدث عن أمطار وهمية قادمة من ناحية البحر، ورياح تنطلق تدريجيا من الجنوب الغربي صوب الشمال الشرقي، وذكر في الختام وعلى وجه التمام أسماء مدن ومداشر ليختفي كما ظهر، وانطلقت من جديد أغنية عاطفية مملة ..

اسكت عمي الجهاز بعصبية، وخيم الصمت على المكان، الا من أصوات ممطوطة ترتشف سائلا مترعا بالهموم، وتنفث على اثر كل جرعة نصيبا من الأوجاع، بينما هم غارقون في بحور أحلامهم وإحزانهم المعتقة وآمالهم المحبطة .

كان عمي يرى الأسود أسودا، والأبيض أبيضا، وأن الله واحد لا شك فيه، والحج على إطراف مراكش، وتكفي بضع سويعات للوصول إليه، وفرنسا على مرمى حجر من طنجة، ويتوهم أن القرض الفلاحي قردا فعلا، وأن الكون هو الرحامنة، والاغاني إما حوزية أو لا شئ، إما "للشيخ بن حمامة" أو لا أحد، ويراهن على أن "عيطة بن كبورة" تساوي وحدها كل هذا الركام من الأغاني، وأن الخمر حرام والتدخين حرام، والمشي من دون جلباب او جلابيب حرام، وحينما يكيل يوفي الكيل جيدا .

خرج الوالد ليعاين الطبيعة، كان الإضطراب الذي بات الى حين يحرك لواعج الامل في أعماقه قد انفرج تماما، وظهرت من خلال سجف السحاب زرقة السماء الصافية، وتسللت أشعة الشمس بمرونة بالغة لتلامس وتبلط بحنان لطيف كل الأشياء التي تقع عليها، وتبعث في نفوس الصبية المسرات والافراح، وحدهم أبي وأمثاله كانوا يغارون منها، وكانت كل ذرة من نورها الوهاج تقع في عيونهم تثير في دواخلهم فيضا من الغيظ والتقزز والمرارة، اختصر الحزن طريقه الى تقاسيمه، وشرد بخياله بعد ان استوت الشمس في قبة السماء شعلة من نار، ولاح على مرمى البصر عراء سهول الرحامنة بأحجارها وتلالها وخيامها الجرداء القاحلة، حتما كان اليرقان يهجع في أوصال تلك الجمادات المستكينة السادرة تحت رحمة صهد القيلولة، والشجيرات التي كانت تفرق أغصانها الكالحة في الفضاء، وتسمق لبضعة مليمترات لم تكن تلك الطبيعة تحرك سواكنها فبدت رزينة كأصنام مرمرية في علب من زجاج . ثم دخل إلى البيت محملا بأسى ما رأى، ليروي لنا عن سنين الجوع والظلام والقهر التي عاشها في صباه دون ان يجد ما يسد به رمقه، ويبتسم لسنين الزرع والضرع الآتية لا ريب فيها .





كتابة اولى1982
كتابة ثانية 2011



#نقوس_المهدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أوطان آيلة للسقوط
- التوك توك - أقصوصة
- فتية على الحافة.. ونصوص اخرى
- شهادة من مظاهرات 20مارس - 4 -
- شهادة من مظاهرات 20مارس - 3 -
- شهادة من مظاهرات 20مارس - 2 -
- شهادة من مظاهرات 20مارس -1-
- تكتيك
- العقيد في متاهته
- تنظيم القاذفان في ليبياستان
- العقيد الهمام وابنه زيف الأحلام
- القذافي بين ليبيا والفوبيا
- مصر التي في خاطري...
- يا أيها الغالب في مدائحي
- حتى انت يا جابر عصفور
- المدام ذات الكعب العالي - أقصوصة
- مقامات العنين والبهكنة
- رمز السندباد في شعر محمد علي الرباوي -2-
- محمد علي الرباوي; ما يشبه الشهادة أو أقل
- رمز السندباد في شعر محمد علي الرباوي


المزيد.....




- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نقوس المهدي - مخامرات عباس الرابع