أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - خالد أبو شرخ - الصهيونية (22) .. الإستعمار الإستيطاني حتى عام 1948م















المزيد.....


الصهيونية (22) .. الإستعمار الإستيطاني حتى عام 1948م


خالد أبو شرخ

الحوار المتمدن-العدد: 3481 - 2011 / 9 / 9 - 20:46
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


قبل ظهور الحركة الصهيونية، لم يكن ثمة استيطان يهودي في فلسطين. فأعضاء الجماعات اليهودية (الذين لم يتجاوز عددهم 25 ألفاً) كانوا يقطـنون في التجمـعات المدنية، وبخاصة مدن القدس وطبريا وصفد، وقد استقروا في فلسطين لأسباب دينية لا علاقة لها بالمشروع الصهيوني، ولم يكن هناك وجود للاستيطان الزراعي الذي لم يبدأ إلا عام 1878م عندما توجهت مجموعة من يهود القدس, بعد حصولها على دعم خارجي, إلى السهل الساحلي حيث تمكَّنت من تأسيس مستوطنة "بيتاح تكفا", ومع ظهور حركة "أحبّاء صهيون" وبداية موجات الهجرة الاستيطانية عام 1880، أمكن تأسيس عدد من المستوطنات الزراعية, فتم عام 1882م تأسيس مستوطنات " ريشون لتسيون"، و"زخرون يعقوب"، و"روش بينا", وفي سنة 1883م، أُسِّست مستوطنتا يسود "همعلية" و"إكرون"، وأُقيمت مستوطنة "جديرا" عام 1884م.

غير أن هذه المستوطنات لم تلبث أن تعرضت لخسائر فادحة ولجأت إلى الاعتماد على الدعم الخارجي، وبخاصة "البارون روتشيلد", وقد مكَّن هذا الدعم المستوطنات القديمة من الاستمرار، كما مكَّن من إقامة ثلاث مستوطنات أخرى عام 1890 "رحوبوت"، و"مشمار هياردن"، و"الخضيرة", ولكن مع إقامة تنظيمات صهيونية توطينية ابتداءً من عام 1891م، انتهى دور "البارون روتشيلد" وانتقلت مسئولية رعاية المستوطنات إلى الجمعية الاستعمارية اليهودية "بيكا" التي عملت في البداية على تزويد المستوطنات القائمة بالقروض المالية، وإقامة المزارع التدريبية للعمال الزراعيين، وذلك بعد أن نقلت هذه المسئوليات من رجال "البارون روتشيلد", وحتى سنة 1898م، كان قد تم تأسيس 22 مستوطنة يهودية ,بلغت مجموع مساحاتها نحو 200 ألف دونم, وبلغ مجموع سكانهاآنذاك 4900 نسمة تقريباً.

ومع انعقاد المؤتمر الصهيوني الثاني 1898م, وإقرار قانون المنظمة الصهيونية العالمية، أخذت هذه المنظمة على عاتقها كل الشئون المتعلقة باستيطان فلسطين, وبذلك انتهى ما يُسمَّى "الصهيونية العملية" أو "التسللية". وبدأت هذه المنظمة نشاطها الفعلي عام 1901م مع تأسيس الصندوق القومي اليهودي. وأسهم تأسيس مكتب فلسطين برئاسة "آرثر روبين" عام 1907م, في زيادة نشاط هذه المؤسسة حيث باشرت أعمالها الفعلية عام 1908م بتأسيس مشروعها الأول وهو مزرعة "أم جوني" في الجانب الغربي لنهر الأردن جنوب بحيرة طبرية، وفيما بعد شرقي النهر في المستوطنات التي أصبحت تحمل اسم "كينرت دجانيا". ومع بداية الحرب العالمية الأولى عام 1914م، كان هناك 47 مستوطنة يهودية في فلسطين أُقيمت 14 منها بدعم من المنظمة الصهيونية بإشراف مكتب فلسطين.

وتُعتبَر مرحلة الانتداب البريطاني على فلسطين (أي وضع فلسطين في قبضة الراعي الإمبريالي) المرحلة الذهبية للصهيونية, فبعد صدور وعد بلفور عام 1917م, ومنح القوة الإمبريالية الغربية دعمها القوي للمشروع الصهيوني وبداية موجة الهجرة الصهيونية الثالثة 1919م وإعلان شرعية الهجرة 1921م، وتأسيس قسم الاستيطان في المنظمة الصهيونية الذي حل محل مكتب فلسطين، وتنامي الوجود السياسي للحركة الصهيونية، توسعت النشاطات الاستيطانية واكتسبت أبعاداً أيديولوجية مع تبلور الأنماط الأساسية الثلاث للمستوطنات: "الكيبوتس" و"الموشاف" و"القرى التعاونية" أو "تعاونيات الطبقة المتوسطة".

وقد أخذت النوايا السياسية لعمليات الاستيطان في الاتضاح للفلسطينيين، الأمر الذي فجّر عمليات المقاومة، حيث هوجم عدد من المستوطنات التي أُقيمت في الجليل الأعلى ("تل حاي" و"كفار جلعادي")، وبدأت عام 1929م أول دراسة علمية لخدمة أغراض التخطيط الاستيطاني على المستوى القطري.

ومع صدور الكتاب الأبيض عام 1930م، قرَّرت المنظمة الصهيونية الإسراع في عمليات الاستيطان وفي إقامة نقاط قوية في المناطق التي لم يسكن بها المستوطنون الصهاينة في السابق، وذلك بهدف خلق خريطة سكانية يهودية تشمل أوسع مساحة جغرافية ممكنة للاستعداد لاحتمال طرح تقسيم فلسطين، حيث جرى تركيز عمليات الاستيطان باتباع مبدأ الزراعة المختلطة للمساعدة في عمليات الاكتفاء الذاتي الغذائي للمستوطنة في أعقاب تأزم الأوضاع داخل فلسطين. ويُطلَق على المستوطنات التي أُقيمت خلال تلك الفترة اسم "السور والبرج" (بالعبرية: "خوما" و"مجدال") وصفاً للطابع العسكري لتلك المستوطنات التي ترافقت مع بداية الثورة الفلسطينية عام1936م.

وفي غضون الحرب العالمية الثانية وبعدها، أُقيم نحو 94 مستوطنة. وبعد انتهاء الحرب، اتجهت الجهود الاستيطانية للتوسع الجغرافي لاستيطان منطقة النقب في عامي 1946م و1947م، ومرت أنابيب المياه إلى هذه المستوطنات من المناطق الوسطى في فلسطين. ونشطت الوكالة اليهودية في فترة الانتداب في تنظيم عمليات الاستيطان وأقامت لذلك عدداً من المشاريع الاستيطانية الخاصة ابتداءً من سنة 1930م وحتى الحرب العالمية الثانية. ومن هذه المشاريع مشروع الألف عائلة الذي تم بمقتضاه إقامة عدة مستوطنات في السهل الساحلي، وكذلك مشـاريع توطين اليهود المشـردين في أعقـاب عام 1933م.

واستمرت محاولات الاستيلاء على الأراضي في أية بقعة يمكن الوصول إليها، إلا أن التركيز كان على المناطق السهلية بشكل عام حيث تتميَّز الأراضي بالجودة ووفرة المياه. وحتى عام 1948م، كان حوالي 25% من المستوطنات اليهودية موجودة في منطقة سهول الخضيرة، ونسبة 12% منها في سهول يافا، و17% في سهول طبريا والحولة وبيسان، و11% في سهل الجليل الأسفل ومرج ابن عامر، و4% في كل من منطقتي الجليل الأعلى ومرتفعات القدس. أما منطقة النقب، فقد بلغت نسبة المستوطنات اليهودية فيها 9% تقريباً من إجمالي المستوطنات اليهودية. وبلغت مساحة الجزر التي أُقيمت عليها إسرائيل في فلسطين حسب خطوط الهدنة عام 1947م حوالي 20.700.000 دونم منها 425 ألف دونم مسطحات مائية.

وقد تزايد عدد المستوطنات في الفترة من 1822م و 1899م ليصبح 22 مستوطنة استوطنها 5210 مستوطنين، وزاد في الفترة 1900م و 1907م ليصبح 27 مستوطنة اتسعت لـ 7000 مستوطن، وزاد ليصبح 47 مستوطنة في الفترة 1908م و 1914م حيث وسعت 12 ألف مستوطن. وارتفع عام 1922م فأصبح 71 مستوطنة وسعت 14,920 مستوطناً. وفي عام 1944م، وصل عدد المستوطنات إلى 259 مستوطنة ضمت 143,000 مستوطناً. وعند قيام الدولة الصهيونية كانت تضم 277 مستوطنة.

موجات الهجرة الإستيطانية إلى فلسطين

يطلق الصهاينة على هجرتهم إلى فلسطين كلمة "عالياه" وهي كلمة عبرية مشتقة من "يعلو"، والمهاجرون هم "عوليم". ولكلمة "عالياه" العبرية معان عدة أولها "الصعود إلى السماء"، وثانيها "الصعود لقراءة التوراة في المعبد أثناء الصلاة"، وثالثها "الصعود إلى إرتس يسرائيل بغرض الاستيطان الديني". وفي العهد القديم، نجد أن الذهاب إلى فلسطين يعبَّر عنه بعبارة "الصعود إلى الأرض"، ومن هنا كانت التسمية "عالياه" من "العلا"، أما الذهاب إلى مصر فيعبَّر عنه "بالنزول إليها"، أي أن المصطلح العبري مرتبط بطقوس دينية عديدة وله إيحاءات عاطفية. وقد كانت للعالياه أغراض عديدة في التقاليد اليهودية، فمثلاً كانت تتم بغرض الشفاء من الأمراض وللتخلص من الفقر، كما كان الكهول يهاجرون لاعتقادهم أن الدفن في أرض الميعاد يجلب ثواباً كبيراً. وكان البعض "يعلو" إلى "إرتس يسرائيل" بغرض دراسة التوراة.

وقد استخدمت الحركة الصهيونية هذا المصطلح الديني وجردته من بُعده الإيماني المجازي وأطلقته على حركة الهجرة الصهيونية من شرق أوربا إلى فلسطين في العصر الحديث، وفي هذا تعمية أيديولوجية, فـ "العالياه" مصطلح ديني يصف أفعالاً فردية وأوامر يُفترض فيها أنها ربانية ذات قداسة معينة من وجهة نظر من يقوم بها، ولا يمكن إطلاقه على ظاهرة اقتصادية اجتماعية سياسية يقوم بها فريق من الصهاينة لا يؤمن معظمه بالعقيدة اليهودية, ومن هنا فإننا في دراستنا لظاهرة هجرة اليهود إلى فلسطين سنسقط تماماً كلمة "عالياه" الدينية ونستخدم مصطلح "الهجرة الاستيطانية الصهيونية", ومما له دلالته أن كلمة "هجيراه" العبرية كلمة محايدة تؤدي نفس المعنى، ولكن الحركة الصهيونية تؤثر استخدام المصطلحات التقييمية على المصطلحات الوصفية حتى يمكِّنها فَرْض غمامات أيديولوجية (ومن هنا استخدام مصطلح "يريدا" أي "الارتداد" للإشارة إلى اليهودي الذي يهاجر من إسرائيل).

والاستيطان هو الدعامة الأساسية للمشروع الصهيوني، ولذلك تحاول الحركة الصهيونية أن تدفع اليهود إلى تلك الهجرة وتيسرها لهم.

تُقسَّم موجات الهجرة الصهيونية إلى خمس موجات فيما بين عامي 1882 و1944:

الموجة الأولى:
استغرقت الموجة الأولى السنوات من 1882 إلى 1903 تقريباً، وضمت عدداً يصل من 20 ـ 30 ألف مهاجر (بمعدل 1000 مهاجر كل عام). وقد جاءت الأكثرية الساحقة من المهاجرين من روسيا ورومانيا وبولندا (أي من يهود اليديشية)، وقد ارتبطت تلك الموجة بتعثُّر التحديث في تلك البلاد وصدور قوانين مايو، وقد تمت هذه الهجرة تحت رعاية جماعة "أحباء صهيون" و"البيلو" بتمويل المليونير روتشيلد, وكان الطابع الاجتماعي العام للمستوطنات التي أقاموها طابعاً رأسمالياً تقليدياً حيث كان اليهود يمثلون "أرستقراطية زراعية مصغرة" يستغلون العمال من اليهود والعرب الذين يعملون بالأجر على السواء. ويبدو أن الأحوال قد ساءت جداً بهذه الجماعات، ولذا كانوا من مؤيدي مشروع شرق أفريقيا الاستيطاني. كما أن اليهود المتدينين الذين كانوا يقيمون في فلسطين من قبل (فيما يُطلَق عليه "اليشوف القديم") لم يرحبوا بهم بسبب سلوكهم العدواني تجاه اليهود العرب، ولإثارتهم المشاكل بين الأقلية اليهودية والأغلبية العربية. وكان من أسباب سخط اليهود المتدينين استخدام المهاجرين اللغة العبرية في حديثهم اليومي الدنيوي (فقد كانت العبرية حسب التصور الديني لغة دينية وحسب), كما أثارت مشكلة دينية في سنة "شميطاه" المفروض فيها إراحة الأرض المقدَّسة وعدم زرعها. ومما هو جدير بالذكر أن عدد اليهود الذين هاجروا إلى الولايات المتحدة في تلك الفترة كان أكثر من نصف مليون، أي أن عدد المهاجرين إلى فلسطين كان حوالي 2% من مجموع المهاجرين اليهود عامة.

الموجة الثانية:
استغرقت الموجة الثانية السنوات من 1904 إلى 1914 تقريباً وضمت عدداً يتراوح بين 35 و40 ألفاً من اليهود (بمعدل 3000 مهاجر سنوياً) معظمهم من العمال الروس, وقد ارتبطت تلك الموجة تاريخياً بالاضطرابات السياسية التي سادت روسيا بعد هزيمتها على يد اليابان. وينحدر معظم أعضاء هذه الموجة من أصول يديشية، وقد كانوا يعيشون في مدن صغيرة ("شتتل") الأمر الذي ترك أثره في تفكيرهم وتصوراتهم, ومما يُذكر أن أفراد الصفوة الحاكمة في إسرائيل ("بن جوريون" و"أشكول") كانوا أعضاء فى الموجة الثانية, ويتميَّز أعضاء هذه الموجة بأنهم حَمَلة أفكار الصهيونية العمالية كما عبَّر عنها "سيركين" و"بوروخوف" المطالبة بالاعتماد على الذات، ممارسة العمل اليدوي، وإبراز الهوية اليهودية, وقد ترجمت هذه الأفكار نفسها في شكل مؤسسات عسكرية زراعية استيطانية مثل "الكيبوتس"، وفي شكل الإصرار على التحدث بالعبرية (التي كانوا لا يعرفونها لأنهم كانوا يتحدثون اليديشية) وعلى فلكلور يهود اليديشية الذين كانوا يعتبرونه التراث اليهودي, وبينما اعتمد أعضاء الموجة الأولى على الفلاحين العرب ولم يقووا على الاستمرار دون معاونة المليونير اليهودي "روتشيلد"، نجد أن أعضاء الموجة الثانية (أصحاب فكرة اقتحام الأرض والعمل) كانوا يعتبرون فلسطين لا بمنزلة ملجأ وحسب وإنما بمنزلة قاعدة إستراتيجية لتنفيذ المشروع الصهيوني.

وجدير بالملاحظة أن عدد اليهود الذين تركوا روسيا القيصرية وبولندا والنمسا ورومانيا في الفترة من عام 1882 ـ 1914 (التي تغطي الموجتين الأولى والثانية) بلغوا أربعة ملايين، على حين كان عدد اليهود في فلسطين عشية الحرب العالمية الأولى 90.000 وضمنهم أعضاء "اليشوف" القديم. وأثناء الحرب، هاجر أكثر من نصفهم إلى الولايات المتحدة .

الموجة الثالثة:
تُعَدُّ الموجة الثالثة استمراراً لسابقتها (وكانت تضم بين أعضائها "جولدا مائير") وقد استغرقت السنوات من 1919 إلى 1923 تقريباً (لم تكن هناك هجرة أثناء الحرب)، وضمت حوالي 35 ألف يهودي غالبيتهم من روسيا وبولندا من أبناء الطبقة العاملة ممن كانوا متأثرين بالفكر الاشتراكي والتعاوني فأسسوا "الكيبوتسات" و"الهستدروت", وجدير بالذكر أن الزيادة النسبية في هذه الموجة تعود إلى أن الولايات المتحدة كانت قد أخذت في تطبيق نظام النصاب (الكوتا) أو العدد المصرح به لأعضاء فئة اجتماعية أو قومية ما بالهجرة، وهذا ما جعل أبواب الولايات المتحدة مغلقة نسبياً. وقد أسَّس أعضاء هذه الموجة جماعة "الحارس الفتي", وبانتهاء الموجــة الثــالثـة نجـد أن عـدد اليهــود الذين قرروا الهجرة إلى فلسـطين لم يــزد عن 80 ألفــاً من مجمـوع يهــود العـالم البـالغ عددهم آنئذ 15 مليوناً، وهذا مع الأخذ في الاعتبار أن الفترة من 1920 إلى 1924 شهدت نزوح 12% من المستوطنين عن فلسطين.

الموجة الرابعة:
وتُسمَّى أيضاً هجرة "جرابسكي" (نسبة إلى رئيس وزراء بولندا المعروف بمعاداته لليهود واليهودية) وقد استغرقت هذه الموجة السنوات من 1924 إلى 1931 تقريباً، وضمت حوالي 82 ألف يهودي غالبيتهم من روسيا وبولندا. وكان الطابع الغالب على تلك الموجة أن أفرادها كانوا من البورجوازية الصغيرة أو كانوا رأسماليين أُمِّمت أموالهم (رأسماليون دون رأسمال) فكانوا مجموعة من صغار التجار , ولعل أصولهم البورجوازية الصغيرة وعزوفهم عن العمل في الزراعة يفسر سبب امتلاء" تل أبيب" فجأة بالحوانيت بحيث أصبح يخص كل خمس عائلات حانوت, وكان وضعهم الاقتصادي السيئ يجعل منهم أداة ضغط على الحركة الصهيونية، وهو ما شكَّل أساساً لانتقاد "جابوتنسكي" للأسلوب المتدرج للحركة الصهيونية ومطالبته بإقامة الدولة اليهودية فوراً على كل أراضي فلسطين تحت الانتداب بالإضافة إلى الضفة الشرقية لنهر الأردن, وقد هاجر معظم أعضاء الموجة الرابعة إلى فلسطين بغرض الربح الاقتصادي وبسـبب التشدد في تطبيق نظام النصاب في الولايات المتحدة, وقد نزح عن فلسطين كثير منهم (أكثر من 33% من عدد المهاجرين حسب بعض التقديرات) بسبب سوء الأحوال الاقتصادية, وقد لاقى أعضاء هذه الموجة الكثير من الصعوبات من جانب أعضاء الموجات السـابقة بسبـب اختــلاف الانتماء الاجتماعي.

وتجدر الإشــارة هنــا إلى أنه بانتهــاء الموجــة الرابعة، بلغ عـدد اليهــود الموجــودين في فلسطين 174.000 وحسب (منهم 30 ألفــاً من اليشـوف القديم يمثلون 16% من عدد السكان), وهذا هو كـل العـدد الذي هاجــر خـلال مـدة 50 عاماً، أي بمعدل 2500 يهودي كل عام من مجموع يهود العالم الذي بلغ آنذاك 16 مليوناً.

الموجة الخامسة:
واستغرقت الموجة الخامسة السنوات من 1932 إلى 1944 تقريباً وضمت حوالي 265 ألف يهود، وهو أعلى رقم بلغته أفواج المهاجرين إبان الانتداب. وترتبط تلك الموجة باستيلاء النازيين على السلطة، ولذا كانت غالبية أعضائها من بولندا وألمانيا والنمسا وتشيكوسلوفاكيا، أي وسط أوربا، بينما كان المهاجرون حتى الموجة الرابعة من شرقها.

وقد كان أعضاء هذه الموجة من الرأسماليين وأرباب المهن الحرة ذوي ثقافة عالية وكان بينهم 25.130 مهاجراً يحمل كل واحد منهم أكثر من ألف جنيه. وقد دخل فلسطين في عام 1935 وحده 6309 من هؤلاء الأثرياء, وقد أثر هذا في الحركة الصهيونية، فالتكوين الطبقي الجديد شد من أزر الصهاينة التصحيحيين باتجاههم الرأسمالي الفاشي, وقد وظَّف المهاجرون رؤوس أموالهم في فلسطين، وأسفر ذلك عن نمو كبير في الصناعة الصهيونية، وخصوصاً صناعات النسيج والصناعات الكيميائية والمعادن, كما نمت عملية إنتاج وتصدير الحمضيات نمواً كبيراً وتضاعف عدد المؤسسات الصناعية, ومع الحرب العالمية الثانية وإغلاق أبواب المنافسة ضد البضائع الأجنبية أخذت الصناعة الصهيونية فرصتها التاريخية للتوسع والازدهار (كانت حصة الصناعة من الناتج الكلي للاقتصاد الصهيوني عام 1936 نحو 26%، ارتفعت هذه النسبة بتأثير الحرب حتى بلغت 41.3% عام 1945. ويُقال إن هذه الفترة هي التي شهدت تشييد البنية التحتية للكيان الصهيوني).

وقد استمرت الهجرة بعد ذلك، ووصل إلى فلسطين 192 ألف مهاجر، وجاء بعد الحرب العالمية مجموعة من 161 ألفاً معظمهم "مهاجرون غير شرعيين". ولعل من المفيد في هذا المضمار أن نذكر أن معظم من نجوا من معسكرات الاعتقال والإبادة لم يستوطن فلسطين وإنما شق طريقه إلى الولايات المتحدة أو إلى إحدى دول العالم الأخرى.

والملاحَظ أن هذه الموجات المتكررة تسببت في إفساد البناء الاقتصادي الفلسطيني وفي تحويل أعداد كبيرة من الفلاحين الفلسطينيين إلى عمال غير مؤهلين وإلى تفشِّي البطالة بينهم لأن أبواب الصناعات الجديدة الصهيونية كانت موصدة دونهم, على عكس العمال في جنوب أفريقيا الذين كانوا يُقتَلعون من قراهم وقبائلهم ويُقذَف بهم في المدن أو على مقربة منها, ولكن الاقتصاد الجديد كان يستوعبهم، لأن الهجرة الأوربية إلى جنوب أفريقيا كانت استيطانية ولم تكن إحلالية, وقد كانت انتفاضات الفلسطينيين المختلفة (وخصوصاً انتفاضة 1936) تعبيراً عن السخط العربي على الهجرة اليهودية.

ولابد من الإشارة إلى أن الإحصاءات السابقة ليست على جانب كبير من الدقة لأن الحركة الصهيونية (وإسرائيل من بعدها) تجعل أعداد المهاجرين إلى فلسطين أسراراً عسكرية تتلاعب بها حسبما يتفق مع أهوائها الإعلامية, فمثلاً نجدها أحياناً تضم أعداد السائحين والحجاج إلى إحصاءات المهاجرين، كما تتعمد إغفال ذكر عدد المهاجرين إلى خارج فلسطين أحياناً أخرى.

ومع هذا، يمكن القول بأن عدد اليهود في فلسطين عام 1948م قد بلغ 649.623 يهودياً, ولو جمعنا هذا العدد في عائلات تتألف الواحدة منها من خمسة أشخاص لكان العدد 129,927 عائلة، بينما كانت الأملاك القومية اليهودية المشتراه حتى عام 1948م لا تتسع إلا لنحو 32,521 عائلة يهودية، أي أن هناك 97,406 من العائلات الفائضة عن القدرة الاستيعابية التي يُفتَرض وجودها في الأملاك الصهيونية وفقاً للحسابات التي أجراها الصهاينة أنفسهم, ومن هذا نستنتج أن الغرض الأساسـي أو النتيجـة الحتمية للهجرة اليهوديـة هي طرد الشـعب الفلسطيني، أي أنها هجرة "إحلالية" بالضرورة، بل إن هذه الهجرة لا يمكن رؤيتها إلا بوصفها الترجمة السكانية للعنف الصهيوني, وقد احتل المهاجرون المنازل العربية التي تركها سكانها، بل كانوا يتسابقون عليها للحصول على المساكن الجيدة في الأحياء الجديدة, أما الذين وصلوا فيـ مرحلة متأخرة، مثل اليهود الشرقيين، فقد حصلوا على منازل عربية قديمة آيلة للسقوط .

أهداف وسمات الإستيطان الصهيوني في فلسطين

تنطلق الحركة الصهيونية من أن اليهود شعب واحد بلا أرض، وأن فلسطين أرض بلا شعب. ومن ثم يرى الصهاينة أن فلسطين هي المسرح الذي يتحقق فيه الشروع الصهيوني، وأنها في واقع الأمر ملك للشعب اليهودي، سواء كان يشغلها الفلسطينيون أم لا.

ووضع هذه الرؤية الأسطورية موضع التنفيذ لم يكن أمراً سهلاً، إذ أن المستوطنين الصهاينة حلّوا في أرض لا يعرفونها وهي أرض مأهولة بالسكان، ومن هنا كان من الضروري أن يُنظِّموا أنفسهم بطريقة صارمة، وأن تكون لهم مؤسساتهم الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية لوضع المشروع الصهيوني موضع التنفيذ. فتم تأسيس الوكالة اليهودية ومهمتها القيام بمعظم عمليات التخطيط والتطبيق الفعلي لهجرة وتدريب المستوطنين وتأمين كل ما يحتاجونه من وسائل وأدوات إنتاج وخدمات للمهاجرين, وكانت مهمة الصندوق القومي اليهودي شراء الأرض لصالح الفلسطيني, وتُعتبَر المؤسسة العسكرية والتنظيمات شبه العسكرية من أبرز القواعد التي تضطلع بتطبيق المخطط الاستيطاني الصهيوني والمحافظة على استمرار العملية الاستيطانية وحمايتها. فتقوم المؤسسة العسكرية بتعبئة الجماهير وتجنيدهم حول فكرة الاستيطان باعتبارها المثل الأعلى للمواطن الإسرائيلي, أما التنظيمات العسكرية وشبه العسكرية مثل "الهاجاناه" و"الناحال" فتقوم بأدوار الحراسة والأدوار الأمنية ورفع الروح المعنوية.

ويمكن القول بأن الأهداف والسمات الأساسية للاستيطان الصهيوني هي ما يلي:

1 ـ يهدف الاستيطان الصهيوني إلى أن تحل الكتلة البشرية (اليهودية) الواحدة محل السكان الأصليين فهو استعمار إحلالي، وإحلاليته هي سمته الأولى والأساسية .

2 ـ حدَّدت منظمة "الهاجاناه" جوهر الإستراتيجية الاستيطانية عندما أكدت (عام 1943) أن الاستيطان ليس هدفاً في حد ذاته، وإنما هو وسيلة الاستيلاء السياسي على البلد، أي فلسطين. وقد استمرت هذه السياسة قبل وبعد عام 1948، أي أنها العنصر الأساسي الثابت في الإستراتيجية الصهيونية. ومن ثم عرَّف "بن غوريون" الصهيونية بأنها الاستيطان، وهو مُحق في ذلك تماماً. ولذا يمكن القول بأن الاستيطان هو نفسه التوسع الصهيوني، لا يوجد أيّ فاصل بينهما. وهـذه هـي السمـة البنيـوية الثـانية من سمـات الاسـتيطان الصهيـوني.

3 ـ ثمة سمة بنيوية ثالثة يتسم بها الاستيطان الصهيوني هي أنه ليس مشروعاً اقتصادياً وإنما مشروع عسكري إستراتيجي، ولذا فهو لا يخضع لمعايير الجدوى الاقتصادية، ولابد أن يموَّل من الخارج والخارج يمكن أن يكون الدياسبورا اليهودية الثرية (أي الجماعات اليهودية في العالم) أو الراعي الإمبريالي.

4 ـ يتسم الاستيطان الصهيوني بأنه استيطان جماعي عسكري بسبب الهاجس الأمني (استجابة لمقاومة السكان) ولأن جماعة المستوطنين ترفض الاندماج في المحيط الحضاري الجديد الذي انتقلت إليه .

5 ـ ارتبط انتشار المستوطنات بحركة الهجرة اليهودية، وهو ما جعل إستراتيجية الاستيطان تتخذ خطاً متوازياً مع الخطوات التي قطعها المشروع الصهيوني لجذب المهاجرين اليهود واقتلاعهم من البلاد التي أقاموا فيها.

6 ـ من المُلاحَظ أن المؤسسات الاستيطانية الصهيونية تقف على رأسها بدلاً من أن تقف على قدميها (ويمكن أن نسميها الهرم الاستيطاني الصهيوني المقلوب)، فقد كان هناك مزارع "الكيبوتس" وهي تنظيمات زراعية هدفها الاستيلاء على الأرض التي ستُزرع وتكوين طبقة مزارعين يهود, كما كان هناك "الهستدروت"، وهو نقابة عمال تهدف إلى خَلْق الطبقة العمالية (وذلك على خلاف النقابات العمالية التي لا تظهر إلا كتعبير عن وضع قائم بالفعل). ثم كانت هناك جماعات الحراس المختلفة مثل "الحارس" و"الهاجاناه" و"البالماخ" وهي تنظيمات عسكرية تهدف إلى خَلْق الشعب اليهودي (أي أن الجيش يسبق الشعب، أو كما قال شاعر إسرائيلي: كل الشعوب تملك سلاح طيران إلا في إسرائيل حيث يوجد سلاح طيران يملك شعباً), بل إن الجامعة العبرية نفسها أُسِّـست بادئ الأمر كمبان وهيئة تدريس في انتظار الطلبة, ويمكن سحب هذا المنطق على كل الحركة الصهيونية، فهي قد بدأت بتأليف الحكومة التي كان هدفها الأساسي إقامة الدولة التي كانت ترمي أساساً إلى تجميع السكان (حكومة فدولة فشعب), وما من شك في أن هذا يعود إلى أن الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة هي صيغة غير يهودية تم تهـويدها لتجنيد المـادة البشرية التي رفضت هـذه الصيغة أو تملَّـصت منها, كما أن الأصول الطبقية لبعض العناصر البشرية المستوطنة صعَّبت عليهم الاضطلاع بوظائف معينة، ولذا كان حتمياً أن يسبق عملية الاستيطان مؤسسات استيطانية مختلفة، مهمتها جذب المستوطنين وتدريبهم. كما أن من أهم سمات الاستيطان الصهيوني أن الكيان الاجتماعي الصهيوني في فلسطين لم يكن متكاملاً، بل كان في مرحلة بداية التكوُّن والتشكُّل، ولم يكن هدف المستوطنين الاندماج في المجتمع القائم بل إقامة كيان اجتماعي وسياسي مستقل.


يتبع



#خالد_أبو_شرخ (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عودة إلى موضوع الهولوكوست
- الصهيونية (21) .. التخطيط للتطهير العرقي
- الصهيونية (20) .. الإرهاب الصهيوني حتى عام 1947م
- الصهيونية (19) .. الدولة اليهودية الوظيفية
- الصهيونية (18).. سمات المشروع الصهيوني
- الصهيونية (17)..موقف الجماعات اليهودية
- الصهيونية (16).. المدارس الصهيونية
- الصهيونية (15).. الشراكة مع النازية
- الصهيونية (14).. وجه آخر للاسامية
- الصهيونية (13).. العلاقة مع الدين اليهودي
- الصهيونية (12).. تغييب العربي عامة والفلسطيني خاصة
- الصهيونية (11).. اليهودي النقي
- الصهيونية (10).. رؤى عنصرية
- تعقيباً على الإبراهامي والحافظ
- الصهيونية (9).. السمات الإستعمارية
- الصهيونية (8) .. أيدولوجية أم حركة تحرر قومي
- الصهيونية (7) .. وليدة الإمبريالية
- الصهيونية (6)..هزيمة العقل التنويري اليهودي
- الصهيونية (5) .. حركة التنوير - الهسكلاة -
- فيتوريو إبن فلسطين, فلترحلوا يا إرهابيين


المزيد.....




- الصفدي لنظيره الإيراني: لن نسمح بخرق إيران أو إسرائيل للأجوا ...
- عميلة 24 قيراط.. ما هي تفاصيل أكبر سرقة ذهب في كندا؟
- إيران: ماذا نعرف عن الانفجارات بالقرب من قاعدة عسكرية في أصف ...
- ثالث وفاة في المصاعد في مصر بسبب قطع الكهرباء.. كيف تتصرف إذ ...
- مقتل التيكتوكر العراقية فيروز آزاد
- الجزائر والمغرب.. تصريحات حول الزليج تعيد -المعركة- حول التر ...
- إسرائيل وإيران، لماذا يهاجم كل منهما الآخر؟
- ماذا نعرف حتى الآن عن الهجوم الأخير على إيران؟
- هولندا تتبرع بـ 100 ألف زهرة توليب لمدينة لفيف الأوكرانية
- مشاركة وزير الخارجية الأمريكي بلينكن في اجتماع مجموعة السبع ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - خالد أبو شرخ - الصهيونية (22) .. الإستعمار الإستيطاني حتى عام 1948م