أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مدحت صفوت محفوظ - الطريق إلى الثورة.. رؤية في كيفية بناء الثورة في رواية -السائرون نياما-















المزيد.....

الطريق إلى الثورة.. رؤية في كيفية بناء الثورة في رواية -السائرون نياما-


مدحت صفوت محفوظ

الحوار المتمدن-العدد: 3479 - 2011 / 9 / 7 - 23:21
المحور: الادب والفن
    


"أينما وليت وجهك
فثمة وجه عزة،
يداها في البحر المالح،
وقدماها في أرض الصعيد،
وملء البحر أنفاسها الطاهرة"
ستنا الطاهرة الشيخة زليخة

السرد، من وجهة نظرنا، نمذجة لغوية درامية للواقع، سواء كان الواقع واقعا آنيا حاضرا، أو واقعا حقيقيا، أو فنتازيا، أوتاريخيا. وبالنسبة للأخير، الواقع التاريخي، فإن التاريخ وسيلة من وسائل الإنسان لمحاولة التعرف على ذاته، ومن ثم فإن معرفة التاريخ ينبغي أن تخدم الحاضر والمستقبل، وليس تحطيمهما. ولقد تنامت ظاهرة الانفتاح على أطروحات التاريخ واستثمارها في العديد من الأعمال الروائية المصرية، عن طريق "كتاب الرواية التاريخية" منذ أن عرف العرب هذا الفن حتى مطلع القرن الحادي والعشرين. وقد حاول الروائيون، جاهدين، رصد التحولات الكبرى التي تمس النسيج الوطني المصري من خلال عدة اتجاهات قرائية للتاريخ، فعمد كل كاتب، من خلال موقعه الاجتماعي وموقفه الفكري، إلى استخدام أدواته وآلياته؛ لتقديم رؤيته التي تنوعت ما بين قراءة جديدة للهوية والذات والواقع، وبين محاولة كشف بثور الحاضر، وأمراضه، والبحث عن علاج باستخدام القناع التاريخي، الذي تحول من ضرورة رقابية إلى آلية إبداعية واختيار حر، ووصولا إلى اجترار الماضي لتثبيت دعائم الحاضر بمحاولة تأصيل ظواهره كعلاقتنا بالغرب.
ومثلما كان اللجوء إلى التاريخ بمثابة المعادل الموضوعي لمشاكل الحاضر، وكونه قناعا نبحث من خلاله أسباب العلة وسبل العلاج، كان اللجوء إلى التاريخ، أيضا، أحد اشكال مناهضة العولمة لما تحويه اللحظة العالمية الراهنة من حراك وتغير في موازين القوى عما كان عليه في منتصف القرن الماضي، وتغيرت تبعا لذلك آليات تعامل الدول الكبرى مع الدول الصغرى، فتحولت من الغزو العسكرى إلى المثاقفة القسرية، وفرض أنماط معرفية معينة على الدول الصغرى، لا تحتاجها متطلبات اللحظة التاريخية الراهنة، كما دعمت تلك الدول الإثنيات العرقية في محاولة لتفتيت الهويات الوطنية الأم أو إضعافها على أقل تقدير، فقدر للرواية التاريخية مواجهة الداخل ومعالجة مشاكل المجتمع جنبا إلى جنب مع مواجهة الخارج متمثلا في العولمة وتحدياتها على الواقع المصري الراهن. فبدأ الكتّاب يركزون على الخاص والذات في رصد ظواهر المشهد المصري، التي أصبحت قراءته، أو نمذجته، عند الروائيين موازية لقراءة الوطن ليس فقط لإنقاذ التاريخ من التشوه؛ بل المحو أيضا.
الروائيون إن اجتمعوا على التاريخ كبنية دلالية بالغة الثراء والتنوع، إلا أنهم قد اختلفوا في استخدامه، فمنهم من رأى فيه بنية دالة تتعامل مع مسألة الهوية المصرية وتشكيلاتها المتعددة، وما يعتريها من تحديات إلى جانب ما يتم كشفه من حين لآخر من لحظات إنسانية دالة تحتوي على مكونات جديدية في نسيج الهوية المصرية، ومن الروائيين من استخدم التاريخ في تأصيل قضايا داخلية وخارجية، إذ يستدعى الكاتب الماضي ليضع تلك القضايا في بنيتها الأشمل، ويتبع خصائصها لصناعة كيان موازٍ للحاضر، وتعددت التقنيات والآليات من كاتب لغيره، ومن نص لآخر، ونرى أن عملية الكشف عن جوهر العودة للتاريخ عند الروائيين، وبيان قدرة الأعمال الروائية على طرح الأسئلة الصحيحة المتعلقة بحياتنا وقيمنا ومفاهيمنا للأشياء وعلاقتنا بالآخر، وذلك بعيدا عن الإجابات المسبقة التى نمتلكها من أزمنة وعصور قديمة ونصر على ملاءمتها لواقعنا الحالي دون مراعاة لشرطي الزمان والمكان، نراها أمرا ملحا وضروريا لفهم الرواية التاريخية التي أصبحت تمثل ظاهرة في الوقت الراهن.
أعتقد أن الرواية في مصر كانت رواية تاريخية في منشأها، ربما منذ عام 1891 ، أي منذ كتابات "جرجي زيدان" و"محمد فريد أبو حديد"، وصولا إلى "أب" الرواية المصرية والعربية "نجيب محفوظ" و"ثلاثيته" التاريخية، "عبث الأقدار"، "رادوبيس"، و"كفاح طيبة". وفي عام 1963 يصدر الأديب سعد مكاوي رائعته "السائرون نياما" – محور هذه الورقة- متخذا التاريخ كقناع اجتماعي، مسقطا إياه على الواقع أو قضاياه، ومن بعد ذلك يفتح الباب الإبداعي للعديد من الأعمال الروائية المرتكزة على التاريخ. ولصعوبة الحصر سنشير فقط لبعض النماذج والأعمال الروائية التاريخية، فقد نشر جمال الغيطاني "الزيني بركات"، ونشر فتحى إمبابى "نهر السماء"، وكتب محمد جبريل "من أوراق أبي الطيب المتنبى"، و"قلعة الجبل". وهناك ثلاثة مبدعات لكل منهن ثلاثة روايات تاريخية؛ حيث أصدرت نجوى شعبان "الغر" و"نوة الكرم" و"المرسى"، ولسلوى بكر "البشمورى" وكوكو سودان كباش" و "أدمانيوس"، ولرضوى عاشور "ثلاثية غرناطة" و"قطعة من أوروبا" و"فرج". فيما قدم صنع الله إبراهيم للمكتبة الروائية "القانون الفرنسي" و"العمامة والقبعة"، بينما نشر عبد الوهاب الأسواني "كرم العنب"، ولا يفوتنا أن نذكر روايتي "واحة الغروب" لبهاء طاهر، و"عزازيل" ليوسف زيدان.
وعلى الرغم من طول القائمة، إلا أن رواية "السائرون نياما" لها خصوصيتها، الفنية والرؤيوية، وربما تعود هذه الخصوصية إلى اجتهاد سعد مكاوي في تقديم الرواية باعتبارها رواية واقعية من نوع خاص، أكثر منها تاريخية، كما يقول خيري دومة، وربما لرؤية بعض النقاد أنها اسقاط مباشر على الضباط الأحرار وصراعاتهم وعلاقتهم بالشعب.
وأيا كانت الأسباب، فإن محور اهتمام هذه الورقة سينصب حول كيفية الوصول بالشخوص إلى الثورة في نهاية الرواية، وكيفية تقديم الأحداث، والأجواء المحيطة بالحدث التي أدت بالمصريين إلى الثورة، ثأرا لكرامتهم وبحثا عن طعامهم، وخطوة في طريق وجودهم وتواجدهم، فالثورة تعني التغييرات الفجائية أو الجذرية، وأحيانا العنيفة، لحكم قائم ولنظامه الاجتماعي والقانوني، وتنوعت المفاهيم بين اكتمال الرؤية والتغير الكاسح، ويشير المفهوم إلى التغيرات الراديكالية غير السياسية أيضا. وبطبيعة الحال لا تخرج الثورة كنبت شيطاني، أو يمكن انتاجها دون توفر شروط موضوعية، وتتنوع هذه الشروط بين سياسية، اجتماعية، اقتصادية، وثقافية.. الخ. وقد راعى سعد مكاوي في بناء النص هذه الشروط، وقدم لها بشكل روائي، وبآليات سردية في المقام الأول.
تنقسم الرواية إلى ثلاثة أجزاء، تحمل عنواين "الطاووس"، "الطاعون"، و"الطاحون" على الترتيب. وينتهي الجزء الأول، المكون من عشرين بابا، بعدما "سئمت الطواويس من عرض مفاتنها في ظلال الرياحين، ونامت الظباء في بيوتها الحجرية، وخفت في ممرات القصر وأبهائه خطوات الطواشية والحشم والجواري". ويبدأ الجزء الثاني، الطاعون، والمكون من أربعة عشر بابا، بالفئران التي ملئت البلد أكثر من العادة، والأنفار تصيدها في الغيط وتأكلها مشوية، وهي نفس الفئران التي رآها يوسف، صبي أيوب صانع الحوانيت، ترقص في ميت جهينة، وربما هي نفس الفئرات التي ترعى في زنازين سجن القلعة. الفئرات التي ستنشر الطاعون الذي سيتسبب في وفاة جيل كامل من أجيال الرواية، فالبداية من عم سليمان أبو طاسة، الذي يموت حين ينهي له الشيخ خليل غزل "الزعبوط"، فيخرجا الشيخان "خليل والمرعوش" صائحين: الطاعون.. الطاعون.. الطاعون!
أما الجزء الأخير، الطاحون، والمكون من عشرين بابا، فلعنوانه أكثر من إشارة، الأولى الطاحون كمكان شهد العديد من الحوادث علّ أهمها اغتصاب الإدريسي لفاطمة التي انجبت من خلاله ابنها الوحيد محمد.
-أما أنا فلم يلمسني إلا بعد زواجي بسنوات طويلة.. وكنت أظنه يئس من مطاردتي ومن قوله لي: إن غالب أبتر ولن يكون له ولد ولا بنت، ثم كبسني مرة في عز الظهر في الطاحون القديم، ولم أحمل قبلها أو بعدها إلا تلك المرة. ومحمد يا أم نور قد لا يكون ابن غالب المسكين، بل ابن الكلب نفسه.
ذلك الحادث الذي منع زواج محمد من نور ابنة محسنة زوجة عيسى، كون نور ابنة الإدريسي في الأساس. أما الإشارة الثانية لعنوان الجزء الثالث فهي الطاحون كدلالة، من الطحن، التي ستطحن الأخضر واليابس، لتبدأ الثورة التي تنتهي بها الرواية.
لم يأتِ التقسيم، بعناوين أجزائه، اعتباطيا، وليس ببعيد عن رؤية الرواي الكلية في تقديمه لثورة المصريين على الظلم، والتي مرت، حسب أحداث الرواية، بثلاث مراحل هي:
-مرحلة الاحتجاج السلبي.
-مرحلة المقاومة غير المنتظمة.
-مرحلة الثورة.
تشير الدراسات الحديثة في مجال العلوم السياسية إلى أهمية المقاومة والاحتجاج السلبيين في تعديل مسار النظام الحاكم وتعديل سياساته، كذلك في شحن الناس وتدريبهم التدريجي على الثورة، كما تشير بعض الدراسات إلى الدور السلبي الذي تلعبه المقاومة السلبية أحيانا، وهو تفريغ شحنات الغضب المكبوتة في صدور الجماهير، ومن ثم تأجيل الاعلان عن أية أفعال ثورية من ناحية، ومن ناحية ثانية بسط السلطة القائمة للمزيد من نفوذها، وتوهم الناس بالتكيف مع الأزمات من ناحية أخرى. وتتعدد آليات الاحتجاج السلبي من النكتة، ووسائل السخرية والاستهزاء، إلى الدعاء، الصلاة من أجل شيء ما، كذلك الصيام، تعليق إشارات معينة، اطفاء الأنوار في وقت محدد، والمقاطعة، كما تشمل الرسائل والشكاوى والمكاتبات إلى الحاكم ومعاونيه.
ورواية "السائرون نياما" جاءت محفزة من أولى صفحاتها، ومتضمنة بعض الأساليب وآليات المقاومة السلبية، كان أكثرها استخداما الدعاء، والسخرية، والسباب والشتائم. فها هو يوسف الصبي يدعو على بلباي، سلطان البلاد، الذي تولى العرش حديثا؛ حيث يقول في ابتهاج "عقبى له يوم يجهز له هو الآخر نعشه". كما تتكرر عبارة "للظلم نهاية" و"للظالم يوم" في مواقع متعددة، كان أبرزها مشهد أيوب وعمر وهما "ينفضان هموم النهار على عتبة الغيبوبة في قارب صغير يعاني بحاره المسطول في السيطرة على شراعه ويسهر على جمرات موقده غلام خفيف الحركة وثاب المهارشة، كأن في فمه سبعة ألسن". وأثناء الحوار يتمتم عمر "ولكل ظلم نهاية" فيرد أيوب "بودي أن أصدقك" في محاولة تشكيك في هذه النهاية، أو التشكيك في جدوى الدعاء الذي يؤكد عليه الصبي ويطالب "معلمه" أن يصدقه، فيأتي رد المعلم أيوب رابطا بين تصديق جدوى الدعاء ونغزات الحشيش "يريد ابن المائعة أن أصدق نغزات الحشيش في مخك يا عمر، يريد أن أكذب أصابع الدنيا المغروسة في عيوننا". تلك إشارة واضحة إلى اعتبار الدعاء حيلة الضعفاء، المغيبين، "المسطولين" سوء بتناول الحشيش أو بتأثير فقهاء السلطان.
كما للدعاء دوره في تفريغ الغضب، يأتي السباب كحل ثان للتعبير عن خوالج النفس والمشاعر الدفينة، والتنفيس عن المكبوت؛ حيث تسأل ستنا زليخة أيوبَ عن السلطان الجديد، بلباي، "شفت الملعون الجديد يا أًيوب؟" ولايقتصر السباب على السلطان؛ بل ينال القضاء الفساد باعتباره جزءا من النظام وآلية من آليات استبداده، الذي يصف أيوبُ أحد قضاته بالعجل، ثم يقول "نطق ابن خربة الذمة بالحكم على عيسى قبل أن ينظر في قضيته! وظلت عين الحانوتي على القاضي وهو يهز رأسه في أسى: والله ما غشاش إلا عمتك". كما لا يقتصر السابا على عامة الناس؛ بل يكاد يكون اللغة الرسمية والمتبادلة بين أركان النظام، فبظلم والي القاهرة يحدث الجاشنكير عن السلطان "بابن المجنونة" و"المجنون"، ويكررها خير بك الدوادار عندما يحدث شيخ الأمناء ناعتا بظلم بابن العوراء.
يتجاذب العامة وأفراد النظام والمقربين من السلطان أطرافَ السخرية من رأس النظام/ السلطان، فأيوب يسخر قائلا "صاحب هذا الشارب آلة في يد خير بك" فيما يتندر الخدم عليه "لماذا لا ينام الدوادار معهما ونرتاح نحن من ايقاظه كل ليلة؟" فضلا عن أن "النسوان في الحمام كن يتكلمن عنه هذا الصباح. وامرأة جيزاوية من بلدياتنا قالت إن زوجها يقسم أن الدوادار الكبير يشخط فيه الشخطة فتسيب مفاصله!" ذلك حد رواية ست الكل زوجة أيوب.
أما المرحلة الثانية: المقاومة غير المنظمة، وهي المرحلة التي تجاوزت القول إلى الحدث وانتقلت من الكلام إلى الفعل، وإن اتسم الفعل بالعنف والاصطباغ بلون الدماء من زواية، ومن زواية ثانية اتسم بعدم الاتساق في سياق منظم ومنتظم، فجاءت أحداث المقاومة غير متتابعة، ومتقطعة زمنيا، وغير متصلة مكانيا، وبدت وكأنها رد فعل لشخوص معينة تجاه حوداث معينة من قبل أفراد معينين تابعين للسلطة.
يأخذ الشيخ خليل بزمام المباردة ويعلن عن مواجهته للمماليك وبعد أن خطف أحد المماليك العمامة، فقام الشيخ بضرب المملوك وساقه أمامه إلى زقاق الناضوري.
-لو كانت المخطوفة زوجة واحد منكم لنفر عرق الغضب، لكنها عمة الشيخ خليل! نشتري له عمة جديدة وننجعص في الكراسي ونشد في الجوزة وننام عن عربدة أولاد الحرام في البلد.. لا.. أنا لن أقبل هذا بعد اليوم.. أنا وحدي بغير سلاح إلا غضبي، أخفت اليوم مملوكا بسيف وحصان وعنجهية! قلت له هاتها يا ابن اللئيمة وشدته يدي من حزامه فجاءت به أمامي على الأرض.. ووقف تحت الربع كله يتفرج! وما كان معي إلا غضبي!
وبعد أن قام بعض المماليك بخطف "عزة" أخت خالد "بائع كيزان الخروب" من الحمام عارية، يعلن خالد عن توعده "لابد أن أشرب دمهم ولابد من عزة سالمة العرض" ليتحول بعدها إلى أحد أفراد مقاومة المماليك في زي بهلول يلبس المرقع ويحلق رأسه "زلبطة". كذلك قاما أيوب وزين الدين بخطف "الخلبوص" الفقيه الراقص "الشيخ عباس" الذي تحول، بعد ذلك ببركة ستنا زليخة، فقيها ناسكا حقا. قضى بقية عمره في طاعة وتعبد حتى مماته، وفي يوم جنازته، يأتي واحد من الكبار المتعالين ناحية الجنازة، ولا يطيق صبرا حتى يفسح له الطريق، وبعد انفعال يسقط الفارس من فوق حصانه فيهيج في اتجاه النعش، ممزقا الجلود بلسعات كرباجه المحنقة الفظيعة، ولم يهدأ غله إلا بعد أن أصاب النعش نفسه، فيقررا يوسف وصديقه الشيخ زكريا خطف المملوك وقتله، "نعم. يختفي ابن البهيمة وننكر عند اللزوم أننا شفنا سحنته.. نصيب ووعد يا شيخ عباس".
المرحلتان السابقتان لم تكونا سوى مهاد لحالة أكبر، واستعداد لفعل أعظم، ففي الجزء الثالث من الرواية تتطور الأحداث، فبعد أن يحل الجوع والفقر بكافة أنحاء البلاد، وتفرغ خزائن الدولة، تأتي الشرارة الأولى وبداية الثورة؛ حيث "الأهالي في منفلوط وغيرها قطعوا الطريق وذبحوا الملتزمين ودحروا تجريدة الوالي، ونعم الرجال!" وبدأ الناس في ميت جهينة في التجمهر حتى وصفهم حسن بصوت ينضح بالثقة "نحن كثيرون، وعندنا حد الكفاية من البلط والفوؤس والمناجل والنبابيت والسكاكين أيضا.. وأول جرأة تكفي لتوليد ألف جرأة". وتجمع الناس "مد وجزر من رجال ونساء من كل الأعمار. والسكين الطويلة في يد الولد حسن الأكتع". كما كانت "الأرض على مدى الأفق تشغى تحت شمس سبتمبر بناس كالنمل". وتتصاعد موجة الاحنجاج والغضب، لتصل إلى لحظة نزع الفتيل الثوري، إذ الإدريسي في انتظار عسكر الجيزة لانقاذه، وفي لحظة الاعلان عن قدوم العسكر "صرخة عاتية، وبالبلطة المرفوعة في يد نور، تقدمت وثبتت قدميها، ونصبت طولها، لكن قبل أن يدهمونا تقبل يا أبتاه التحية. وأخذت نفسا عميقا، كبيرا، في شهقة عالية، وضربت ضربتها".
جدير بالملاحظة، على الرغم من حالة الغضب التي تعم البلاد، وتملأ نفوس جميع الناس من الطبقات الوسطى والدنيا، إلا أن أرباب السلطة وأركان النظام انشغلوا بالمؤامرات والدسائس، فبعد تولي بلباي بستين يوما يأتي تمربغا، ثم خير بك ليوم واحد، ثم قايتباي، وقانصوة، وطومان باي. ولم نلحظ أي اهتمام من أي واحد من هؤلاء بالسؤال عن الرعية، أو حتى الحديث إليهم أو عنهم، وتكاد تخلو الرواية من مثل هذه الخطابات، عدا التفاتة قانصوة حين سألته جلبهار عن كيفية تدبير المال، فقال:
-أنا عندي مخ. ومن الزيادة والنقصان يفيض السمن والعسل، أزيد في خراج الأرض وفي زكاة التجارة وفي الجزية المقررة على أهل الذمة، وفي المكوس على وفاء النيل، وعلى بيوت البغايا، وكل ما يتراءى لي أن أفرض عليه مكسا، وأنقص في الوقت نفسه ما لا داعي له من الجسور والترع والكتاتيب وأرزاق الولاة والقضاة والنظار والكتاب والحصون.
يوضح النص السابق رؤية السلطة تجاه الشعب، تلك الرؤية المستندة على تصور "المكانة" حسب مفهوم ماكس فيبر، وتعني المكانة مجموعة السمات الاجتماعية التي حُولت إلى متتالية من التشكيلات التحليلية المعينة للمكانة؛ حيث المرسل والمرسل إليه يسند كل واحد منهما لنفسه وللآخر الصورة التي يكونها عن مكانته الخاصة ومكانة الآخر. ويبدو أن قانصوة وضع لنفسه مكانة "الخزينة" وبقية الدولة "شعبا وأركانا" مكانة العبيد الذين لا هم لهم سوى زيادة ما يصب في "الخزينة"، قانصوة في مكانة الراعي والشعب في مكانة البقرة الحلوب التي يجب حلبها ليل نهار؛ لتدر لبنا، جبنا، سمنا، زبدة، وقشدة.
وبحكم أن الطبقة البرجوازية هي الحليف الأبرز للسلطة والداعم لها والمدافعة عنها، تتبنى هذه الطبقة رؤية السلطة في كل شيء، ورؤيتها تجاه الشعب تحديدا؛ بل تصبح أكثر حدة من السلطة في خطاباتها وتشددها، فالملتزم حمزة الأب يرى في رجال الفلاحين عبيدا، وفي نسائهم جوار مباحة، ويرث الإدريسي وابنه حمزة نفس الرؤية. وحين تبدأ الثورة في أولها ضد الإدريسي، يبدو أكثر انفعالا وحدة تجاه الناس، وتتضح رؤيته من مفرداته، "تمدون أيديكم الوسخة على الغالي وحيدي"، "سيكون مأتم حمزة أربعين ليلة يا ميت جهينة وأفعصك فعصا"، "يعيش ويعيدها أرانب في الجحور"، ويتحدث عن داره "وطئت حرمتها الأقدام المتشققة". ونتبين من الألفاظ "الأيدي الوسخة، أفعصك فعصا، أرانب" المكانة التي نسجها ابن الملتزم لنفسه ولعائلته قياسا بمكانة الرعاع الأرانب أصحاب الأقدام المتشققة.
ختاما، ثلاثون عاما، وزمن مكرر، وظروف واحدة، هي كل ما يحتاجه الشعب كي ينهض ليبدأ ثورته ضد المماليك أو ضد استبداد الحكم العسكري. فما صورته الرواية، خلال ثلاثين عاما "1468- 1499" من عمر سلطنة المماليك التي حكمت تاريخ مصر والشرق 267 سنة، من أحداث شملت فسادا سياسيا، اقتصاديا، واجتماعيا، وحوت أعمال قتل ونهب وسلب لثروات الشعب، كما بدت واضحة ممارسات السادية السلطانية على الشعب المسالم، ومع امتلاك بعض الشخوص الروائية للوعي الكافي، والإرادة، كانت هذه العوامل، مجتمعة، كفيلة بأن تخطو بالأحداث نحو الثورة/ الناتج الطبيعي للأسباب السابقة، وتسير بالشخوص تجاه تقرير التحرر من القيد المملوكي، وناحية الاعلانعن وجودهم، فالآن الآن وليس غدا، السائرون نياما.. ينهضون.



#مدحت_صفوت_محفوظ (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الطوطمية وصينية التحرير
- حركات المقاومة الوطنية في مصر البطلمية
- تفكيك الاستبداد في -الحارس- لعزت القمحاوي


المزيد.....




- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مدحت صفوت محفوظ - الطريق إلى الثورة.. رؤية في كيفية بناء الثورة في رواية -السائرون نياما-