أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني - عزو محمد عبد القادر ناجي - التعليم في سوريا في عهد الملك فيصل وتطورات الوضع الداخلي السوري 1918-1920















المزيد.....



التعليم في سوريا في عهد الملك فيصل وتطورات الوضع الداخلي السوري 1918-1920


عزو محمد عبد القادر ناجي

الحوار المتمدن-العدد: 3478 - 2011 / 9 / 7 - 08:26
المحور: الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني
    


الحكومة الفيصلية عملت على تحقيق الإستقرار في بلاد الشام بعد خروج العثمانيين منها ، عمل النظام على إرسال البعثات الطلابية للخارج ونشطت حركة الترجمة بشكل كبير ، وعمل النظام على تقوية الجيش السوري من خلال وزير الدفاع يوسف العظمة وظهر التجنيد الإجباري وحلت اللغة العربية محل اللغة العربية محل العثمنانية وتبديل المصلحات إلى العربية والإستعانة بالخبرات العربية من أصحاب الخبرة من مصر والمغرب العربيي وبلاد الرفدين وأنشئ دستور جديد على أحدث طراز وتشكل مؤتمر تأسيسي بأسلوب ديمقراطي روعي فيه الكفاءآت دون أي تعصب أو طائفية ، كما روعي حق النساء في الإنتخابات ، وسعت الحكومة لتطوير الزراعة والصناعة والتجارة ، وتم تشجيع التعليم وأنشئ ديوان المعارف ال>ي عني بالتربية والتدريس وأنشئ المجمع العلمي للإشراف على دار الكتب العربية والترجمة والتقيف ، وأحياء المعاهد العليا مثل مستشفى الحقوق والمعهد الطبي ، وتأسست المدارس وأرسل المتفوقون للدراسة في الخارج ، وأصدرت مجموعة من الصحف مثل المفيد والأردن والدفاع والكنانة واسان العرب والراية والوطن والإخاء وحمص
، والإلتقاء مع الصحافة المصرية والغربية ، واهتمت الدولة بافتتاح الكلية الطبية وكلية الحقوق وتفعيل مدرسة عنبر لتخريج الطلاب وبعثهم للجامعة ، لكن الآمال تبددت بسبب عدم الاستقرار الداخلي بسبب التدخلات الخارجية التي عملت لها فرنسا وبريطانيا من أجل تقسيم منطقة الشام والهلال الخصيب بينهما وفق اتفاقية سايكس بيكو

أهم الصعوبات التي تعرضت لها هذه الحكومة عدم تحديد منطقة النفوذ لحكومة الملك فيصل بسبب تدخلات الجنرال اللنبي من خلال العمل على تقسيم سوريا إلى مناطق عسكرية ضمن منطقة نفوذ فوضعت إدارة فرعية في شمال سوريا وأخرى في الأردن وفلسطين ، وأخرى في دمشق ، للعمل على تقسيم سوريا وفق اتفاقية سايكس بيكو ، والصعوبة الأخرى هي الضغوط الخارجية من خلال مؤتمر السلم في باريس على أساس مبادى ولسون وأن الأنتداب هو أحد أهداف الدول الكبرى لتطوير منطقة الهلال الخصيب ، وقد شارك الملك فيصل في هذا المؤتمر لكن الحلفاء اعتبروه ممثلا للحجاز وليس لمنطقة الهلال الخصيب ، خاصة وأن لورانس العرب ادعى أنه من ممثلي العرب على أساس مرافقته للملك فيصل ، وقد تمسك الحلفاء بمبادئ اتفاقية سايكس بيكو كما أن هناك تدخلات صهيونية من خلال في المؤتمر من خلال ارسال وفد للحركة الصهيونية إلى باريس لتسوية موضوع الوطن القومي لليهود في فلسطين ، وقد أيد الحلفاء المبادرة الصهيونية حول موضوع الدولة الصهيونية في فلسطين ، ، رغم أن لجنة كراين التي شكتها عصبة الأمم وبعثتها إلى سوريا أوصت بضرورة وحدة سوريا بجميع أجزاءها ، ولم تتدخل الولايات المتحدة للحيلولة دون تقسيم المنطقة العربية وتركتها للحلفاء وهذا ما تأكد في مؤتمر سان ريمو في إيطاليا ، وتجدر الإشارة هنا أن بعض أعضاء لجنة كراين كانوا يودون إرسال بعض الطلاب للدراسة في الولايات المتحدة وخاصة من الفتيات لكن التقاليد حالت دون ذهابهم هناك ،

عدم الاستقرار الداخلي كانت من الصعوبات التي واجهت الحكومة السورية ، منها القومية العربية التي طغت على على قرارات الحكومة التي تبناها الملك فيصل ، فجرى تشكيل المؤتمر السوري ال>ي ضم أعضاء من كل منطقة الهلال الخصيب والذين أكدوا على وحدة الهلال الخصيب بكامله مع ضرورة أن يكون هناك وحدة اندماجية كاملة لكل منطقة بلاد الشام مع وحدة فيدرالية مع بلاد الرافدين لكن تحت حكم ورئاسة واحدة ، وقد أيدت جميع الأحزاب والجمعيات ، وتبنت حكومة رضا الركابي الذي كان رئيس وزراء الملك فيصل ، لكن السلطات الفرنسية والإنكليزية حالت دون تشكيل هذه الوحدة ، مما حذا بالسوريون إلى الاتفاق مع القوات العثمانية ضد العدو المشترك لإبعاد خطر الحلفاء عن سوريا والإعلان عن استقلال سوريا بكامل أجزاءها من خلال مقررات المؤتمر السوري وأن يكون الملك فيصل ملكا عليها جميها وضمان حقوق الأقليات الدينية والقومية وتشكات حكومة جديدة برئاسة هاشم الأتاسي ، لكن الجنرال غورو رفض مقررات المؤتمر السوري وبعث إنذاراَ إلى الملك فيصل بضرورة قبول مقررات اتفاقية سايكس بيكو ، مما حذا بالملك فيصل إلى ترك الأمر لوزير دفاعه يوسف العظمة الذي جمع القوات السورية وتصدى للقوات الغازية لكن الهزيمة واتته مع رفاقه واستشهد مع عدد كبير من الأبطال السوريين الذين رفضوا أن يدخل الفرنسيون دمشق دون معركة ودون أن يقدموا دمائهم من أجل سوريا وحريتها وكرامتها

وحول تطورات الوضع السياسي في سوريا منذ دخول الملك فيص دمشق يشير علاء السيد إلى ذلك بقوله :
عند انتهاء الحرب العالمية الأولى عام 1918 ، انسحبت القوات التركية وحلفاءها الألمان من سوريا ، وقد كان تعدادهم قد وصل إلى عشرة آلاف جندي ألماني ، وخمسة عشر ألف جندي تركي ، وحوالي اثنا عشر ألف جندي عربي موالين للعثمانيين ، وقد أقام الجنود الألمان بحلب ما سمي وقتها قشلة الألمان في منطقة مساكن السبيل الحالية ، وهو موقع عسكري تحول إلى ثكنة طارق بن زياد حاليا ، ويجري العمل على تحويله إلى فندق ومنتجع في المستقبل القريب .

عندما انسحب الأتراك من دمشق ، سارع الأمير سعيد الجزائري حفيد الأمير عبد القادر الجزائري، إلى إعلان قيام حكومة عربية بدمشق على كامل أراضي سوريا الطبيعية برئاسته وتحت راية الشريف حسين، ، وكان مقيما في دمشق ويتبع له حوالي الخمسة عشر ألف رجلا من المغاربة والجزائريين ،.

و طلب الجزائري من رئيس بلدية بيروت عمر الداعوق رفع العلم العربي فقام برفعه ، كما طلب من بطريرك الموارنة تشكيل حكومة في جبل لبنان مركزها بعبدا ورفع العلم العربي عليها ، فتلكأ بانتظار الدعم الفرنسي الموعود.

كان العلم العربي يحمل ألوانا أربعة ، الأخضر رمزا للفاطميين ، والأبيض رمزا للامويين ، والأسود للعباسيين ، وأما الأحمر فهو شعار أسرة الحسين الهاشمية .

و في شتاء عام 1918 ، دخلت من الجنوب قوات الثورة العربية التي تحمل راية الشريف حسين وبقيادة الشريف ناصر شقيق الشريف حسين وعم الأمير فيصل ، والمؤلفة من رجال عدة عشائر عربية أهمها عشيرة الرولا من فخذ عنزة ، بزعامة الأمير منير الشعلان ، وعشيرة الجبور بزعامة الأمير طراد الملحم والمتواجدة حتى الآن في حمص ، وعشيرة عنزة في وادي سرحان في العقبة بزعامة الشيخ عودة بن حرب وغيرها من قوات عشائرية ، وبقيادة غير مباشرة من الضابط البريطاني لورنس ، الشهير بلورنس العرب .

ثم دخل الجنرال البريطاني اللنبي سوريا ، قادما من القدس ، بعدما صرح فيها تصريحه الشهير ( الآن انتهت الحروب الصليبية ) ، والتقى الجيشان في دمشق .

لم يطل عمر حكومة الأمير سعيد الجزائري إلا يوما واحدا فقط، فقد قام لورنس بخلعه ، وتعيين الدمشقي شكري باشا الأيوبي ، وهو من سلالة صلاح الدين ، حاكما عسكريا ، وكان في السبعين من عمره في ذلك الوقت .

دخل الأمير فيصل دمشق وكان شابا في الثالثة والثلاثين من عمره ، على جواد ابيض يحيط به ألف وخمسمائة فارس ، واستقبلته الجماهير بحماس منقطع النظير .

أفهم الجنرال اللنبي الأمير فيصل بأنه هو القائد العام ، وفيصل هو مجرد قائد في القوات المتحالفة ، وافهمه ان سلطته تنحصر فقط على المناطق الداخلية ، ولا علاقة له بالساحل وببيروت وجبل لبنان وفلسطين ، ورضخ فيصل أمام الأمر الواقع ، كان قرار اللنبي هو النافذ .

و قد عرف عن فيصل تردده وضعف إرادته وسرعة تغيير رأيه ، وعدم قبوله الرأي والمشورة ، وتساهله وتسامحه الشديد ، ونبله مع أعدائه ،كان مسرفا مبذرا في إنفاق المال ، محبا لمظاهر التفخيم ، لقد كانت شخصيته أثرة تسحر من حوله ، ولم يعرف عنه انه غضب أبدا ، يأكل قليلا ويدخن كثيرا .

انسحبت القوات التركية شمالا ، واجتمع القواد الأتراك في فندق بارون بحلب كمقر لقيادة الجيش ، وقام الأتراك بتوزيع كميات من الأموال الذهبية ، مرسلة إليهم من الحكومة التركية بغية دفعها للعشائر العربية قصد كسب ولائها ، وزعوها على جنودهم بدلا من رجال العشائر ، وتنتشر قصة شعبية بين أهالي منطقة كفر حمرة قرب حلب ، ان الجيش التركي دفن هذه الأموال الذهبية في تلك المنطقة ، للعودة إليها لاحقا ، ويأمل الكثير من أهالي المنطقة حتى الآن بالعثور عليها .

و استمرت القوات البريطانية في التقدم شمالا ، حتى التقت بآخر القوات التركية الخارجة من سوريا بقيادة القائد التركي مصطفى كمال الذي لقب لاحقا بأتاتورك ، وقامت معركة عنيفة ، بينها وبين الجيش البريطاني قرب حلب في منطقة سميت فيما بعد قبر الإنكليزي ، وضمت القوات البريطانية المقاتلة جنودا إنكليز وهنود واستراليون .

وقبر الإنكليز هو في الحقيقة نصب تذكاري لجنود اللواء الهندي الخيال الخامس عشر ، الذين توفوا في تلك المعركة في نهاية عام 1918 ، مع قائدهم الجنرال هولدين ، وذلك النصب معروف باسم قبر الإنكليزي رغم عدم وجود قبر فيه ، وتلك المعركة كانت آخر معارك الحرب العالمية الأولى في الشرق الأوسط .

و قد دفن قتلى الجيش البريطاني في مدفن خاص ، يقع حاليا أمام معمل العوارض الإسمنتية بداية حي الشيخ مقصود ، وكان من بين القتلى جنود هنود مسلمين ، دفنوا إلى جانب الجنود الإنكليز والاستراليين ، مع وضع إشارة الهلال على قبورهم لتمييزها .

و تقوم الجالية البريطانية سنويا حتى هذا التاريخ، وبحضور السفير البريطاني ، في الساعة الحادية عشرة في يوم الحادي عشر من الشهر الحادي عشر ، وهو تاريخ إعلان نهاية الحرب العالمية الأولى بزيارة هذه القبور ووضع الزهور عليها.

عندما دخل الشريف مطر قائد القوات العربية حلب ، عين كامل باشا القدسي واليا عليها ، وهو من أشراف حلب ، ومن ذات العائلة التي أنجبت الدكتور ناظم القدسي الذي تسلم لاحقا رئاسة الجمهورية السورية ، أما الجنرال اللنبي ، فقد عين الضابط العراقي الموالي للبريطانيين جعفر العسكري حاكما عسكريا فعليا بدلا من كامل باشا القدسي .

أما في منطقة الاسكندرونة فقد قام إبراهيم هنانو ، وكان أمين سر ولاية حلب بتشكيل حكومة وجيش صغير تحت علم الشريف حسين في بلدته كفر تخاريم وتقع على الحدود التركية الحالية ، ودخلت قواته إنطاكية ورفعت عليها العلم العربي .

وحمى هنانو ، الذي كان متزوجا من سيدة تركية ، الجنود الأتراك المنسحبين ، ومنع تمزيق العلم التركي ، وقال : ( ان هذا العلم أظل العرب والمسلمين ستة قرون ويجب ان يبقى محترما ، والشعب التركي أخ للشعب العربي وان تفرقا ) ، وقد قدر له الأتراك موقفه هذا لاحقا ودعموا ثورته ضد الفرنسيين .

وفي حماه تشكلت لجنة من الوجهاء وانتخبوا بدر الدين الكيلاني رئيسا لحكومة محلية ريثما يدخل الجيش العربي حماة ، وطلب الكيلاني من سامي الحراكي تشكيل حكومة عربية في معرة النعمان التي كانت تابعة إلى حماة ، وفي حمص تشكلت حكومة محلية برئاسة عمر الاتاسي ، وكان من أعضائها رجل الدين المسيحي الوطني : الخوري عيسى اسعد .

و كانت القوات الفرنسية قد بدأت بالوفود إلى سواحل سوريا واستلام المواقع من الجنود الإنكليز ، وتمركزت قيادتها في جزيرة أرواد ، واستقرت في ميناء اسكندرونة شمالا، واحتلت بيروت جنوبا ، ولم تدخل العمق السوري .

أما الجنرال اللنبي فقد أمر بإنزال العلم العربي المرفوع في بيروت وكافة المدن الساحلية بعدما احتلتها القوات الفرنسية، فاحتج فيصل على هذه الإهانة وهدد بالاستقالة ، فنصح مستشارو اللنبي بمهادنة فيصل ، خوفا من إثارة المتاعب مع الأهالي ، فأبلغ اللنبي فيصلا ان هذه الإجراءات مؤقتة وسينظر بالأمر لاحقا ، وانطلت الخدعة على فيصل .

و طلب اللنبي من فيصل إصدار الأوامر لهنانو كي تسلم الحكومة العربية في إنطاكية المدينة للفرنسيين ، فامتثل هنانو لأوامر فيصل بعدا اقنعه ان الوجود الفرنسي مؤقت .

و شكل فيصل أول حكومة عربية صورية لم تكتب لها الحياة الفعلية ، ورئسها الضابط السابق في الجيش العثماني ، الدمشقي علي رضا الركابي ، وضمت ثلاثة وزراء من جبل لبنان ، ووزير من بيروت ، ووزير من دمشق ، وساطع الحصري من حلب ، ووزير الدفاع من العراق ، محاولا الإيحاء ان هذه الحكومة تمثل سوريا الكبرى وليست حكومة على الأجزاء الداخلية من سوريا .

و كان تعداد جيش فيصل يبلغ حوالي الثمانية آلاف وخمسمائة رجل ،و عندما حاول وزير الدفاع تسليحهم رفض البريطانيون إمدادهم بالسلاح .

و جال فيصل على المدن السورية وفي زيارته لحلب شتاء عام 1918 خطب فقال : ( ان لحكومات فرنسا وبريطانيا اليد البيضاء في مساعدتنا ، ولا ينسى العرب فضل معاونتهم ) .

ثم توجه من حلب إلى طرابلس حيث قوبل بحماس منقطع النظير ، أكد خلاله أهالي طرابلس أنهم جزء من سوريا ، وعندما

وصل إلى بيروت ، لم يكن لجميع الأهالي ذات الحماس ، فقد كان بعضهم مواليا لفرنسا بشكل كامل .

و دعي فيصل نهاية عام 1918 إلى أوربا للمشاركة في مؤتمر الصلح الذي انعقد بعد الحرب العالمية ، فغادر بيروت باتجاه مرسيليا في فرنسا ، والتقى فيها مع لورنس قادما من انكلترا ، وكان لورنس مرتديا الزي العربي ، فرفض الفرنسيون استقبال لورنس رسميا ما لم يرتدي الزي العسكري البريطاني بصفته ضابطا بريطانيا لا عربيا ، فما كان من لورنس إلا ان غادر فرنسا الى انكلترا ، بعدما رد الوسام الذي قلده إياه الفرنسيون سابقا أثناء الحرب ، وتابع فيصل زيارته لفرنسا من دونه ، حيث قلده الجنرال الفرنسي غورو وساما رفيعا في ستراسبورغ على الحدود الالمانية .

و كان لهذه الحركة من لورنس بعدما رفض خلع الرداء العربي ، التأثير الكبير على الأمير فيصل ، ويبدو ان لورنس كان يعرف كيف يؤثر على فيصل .

شعر فيصل بالشك تجاه نوايا الفرنسيين خلال زيارته لباريس ، وعندما وصل إلى لندن كان لورنس في استقباله ، وأقام له البريطانيين استقبالا فخما حضره الملك شخصيا ، وبعد شهرين من الإقامة الفخمة في لندن ، بدأ فيصل يرتدي اللباس الأوربي ويتجول في شوارع لندن .

و قد أكد له البريطانيون على حسن نواياهم تجاه سوريا ، بينما كانوا من وراء ظهره يقتسمون ما تبقى من سوريا ،و يقومون بتعديل اتفاقية سايكس بيكو مع الفرنسيين ، والتي ابرمت قبل سنوات في غفلة عن الشريف حسين ، فطلبوا الحصول على الموصل الغني بالنفط ، لقاء ان يتنازلوا للفرنسيين عن كيليكيا ، وقبل الفرنسيون بذلك .

و قد نظم لورنس لقاءً بين فيصل وزعماء الحركة الصهيونية بزعامة وايزمن ، الذين أكدوا له ان هجرة اليهود لفلسطين هي هجرة عادية طالبين المساواة مع السكان والمساهمة في الاعمار ، وأنهم لا ينوون أبدا إقامة دولة يهودية فيها ، وصدق فيصل ذلك .

و عندما انعقد مؤتمر الصلح في باريس ، رفض الفرنسيون اعتبار فيصل ممثلا عن سوريا ، واكتفوا باعتباره ممثلا عن الحجاز ، وكان الحل ان يكون هناك ممثلين اثنين ، واحدا عن الحجاز والآخر عن سوريا ، وشارك في المؤتمر سبعا وعشرين دولة أهمها بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة .

و طرح فيصل خلال المؤتمر طروحات جديدة ، هي إقامة ثلاث حكومات عربية : الأولى في الحجاز والثانية في سوريا والثالثة في العراق ، وطرح نفسه قائدا لثورة سورّية مستقلة عن ثورة الحجاز ، واستثنى فلسطين من سوريا ، وقال انه لا مانع ان تكون تحت وصاية دولة كبرى ، واقترح الأمريكيون نظام الانتداب على الدول، وتقرر هذا النظام ، كما اقترحوا إرسال لجنة لاستفتاء الشعب حول رغباتهم السياسية ، وأي دولة يرغب السوريون بأن تكون منتدبة عليهم .

و وافق الفرنسيون والبريطانيون مكرهين ، على إرسال لجنة أمريكية لمعرفة رغبات الشعب السياسية ، وكان أعضاءها من الأمريكيين فقط ، وعندما شعر البريطانيون بخطر اللجنة الأمريكية ، سارع لورنس بإقناع فيصل بتجاهل عمل اللجنة والاتفاق مع فرنسا مباشرة .

أجزل الفرنسيون الوعود لفيصل ، وطلبوا منه قبول سحب الجنود البريطانيين ، وإحلال جنود فرنسيين بدلا عنهم ورفع العلم الفرنسي ، مقابل إعلان استقلال سوريا ، وقبول فرنسا به ، وطبعا كان هذا العرض مكشوفا ، فكيف يعلن عن استقلال دولة سورية ، جنودها فرنسيون وعلمها فرنسي ، وحاول فيصل المماطلة حتى ظهور نتائج اللجنة الأمريكية .

بعد خمسة أشهر من الإقامة في أوربا ، عاد فيصل إلى بيروت ، واستقبلته الجماهير استقبالا شعبيا حافلا ، وأطلقت له القوات البريطانية المدافع ترحيبا به .

و فيصل أمام الجماهير العربية غير فيصل أمام دهاة الساسة الإنكليز والفرنسيين ، فقد صرح تصاريح نارية أمام الجماهير مثل ( ان كل من يطلب معونة إنكلترا وفرنسا وأمريكا فليس منا ، ولا بد من الاستقلال المطلق ) ، وقال ان مؤتمر الصلح اقر الاستقلال ولكنه لم يأت على ذكر ما يخص الانتداب إلا لاحقا وأمام الخاصة من رجاله ، وقال كلمته المشهورة ( الاستقلال يؤخذ ولا يعطى ) .

و عندما وصل لدمشق ربيع عام 1919 ، استقبلته الجماهير استقبالا منقطع النظير ، وأعد له الدمشقيون عربة تجرها ثمانية خيول سروجها من الذهب والفضة وزينت جوانبها بالمجوهرات التي تبرعت بها السيدات الدمشقيات ، وقدم الدمشقيون خمس وعشرون ألف سجادة لفرش الطريق ، وعرقلت الورود الملقاة عليه مسير الموكب من كثرتها .

أطلق فيصل للمرة الأولى اصطلاح ( الأمة السورية ) المستقلة عن الحجاز ، وتعالت الهتافات بالموافقة ، وبايعته وفود بيروت وصيدا وفلسطين ودمشق وحمص وحماه وحلب وطرابلس ووفود العشائر ..و غيرها من وفود ، ولم يذكر للوفود الفلسطينية أن فلسطين استثنيت من الدولة السورية .

و بدأت الصراعات الخفية بين الرجال القادمين مع فيصل من هاشميي الحجاز ورجال العشائر وضباط الجيش العربي وأغلبهم من العراقيين الموالين لإنكلترا ، وبين الرجال السوريين الذين كانوا يعملون سابقا تحت ظل الحكم التركي ، والتف السوريون حول الضابط الدمشقي الشاب يوسف العظمة البالغ الخامسة والثلاثين من عمره فقط ، والذي كان ضابطا في الجيش العثماني ودرس أركان حرب في ألمانيا ، وحارب سابقا في أرجاء الإمبراطورية العثمانية ، وكان متزوجا من سيدة تركية ، وله منها ابنة واحدة اسمها ليلى .

قرر فيصل في بداية صيف عام 1919 ، الدعوة لانتخاب مجلس نيابي، أسوة بما شاهده في أوربا ، واسماه المؤتمر السوري ، وكان اغلب أعضاؤه من نواب البلاد السابقين إلى مجلس المبعوثان العثماني ، وبلغ عددهم خمسة وثمانون عضوا ، من دمشق وشرق الأردن وإنطاكية وبيروت وطرابلس وجبل لبنان وفلسطين وحلب وحماه وحمص ودير الزور وجبل الدروز ، لقد كان حقا المجلس الوحيد في التاريخ الذي مثل أعضاءه مواطني سورية الطبيعية بالكامل ولم يتكرر بعدها.

ومن أعضاء المؤتمر السوري الذين كان لهم دور كبير لاحق في التاريخ السوري : تاج الدين الحسيني وفوزي العظم والد خالد العظم ممثلين عن دمشق، إبراهيم هنانو ممثلا عن قضاء حارم ، وسعد الله الجابري ورضا الرفاعي ومرعي باشا الملاح والدكتور عبد الرحمن كيالي ممثلين عن حلب ، حكمت الحراكي ممثلا عن المعرة، عبدالقادر الكيلاني ممثلا عن حماة، أمين الحسيني ممثلا عن القدس.

و انتخب الزعيم الحمصي هاشم الاتاسي رئيسا للمؤتمر ، ومرعي باشا الملاح ويوسف الحكيم نائبي رئيس .

كانت مهمة المؤتمر وضع قانون أساسي للبلاد وسمي لاحقا ( الدستور ) ، وكانت غاية فيصل من المؤتمر أن يبين بوضوح للجنة الأمريكية القادمة ، إجماع مواطني سوريا الطبيعية على قبول حكمه ، وإنهاء فكرة الوحدة مع الحجاز ، وإظهار رفض الشعب للانتداب الفرنسي .

و قرر المؤتمر المطالبة بوحدة سورية واستقلالها ، وقبول انتداب أمريكا وبريطانيا ، ورفض الانتداب الفرنسي ، ولكن على ان يكون مفهوم الانتداب هو المساعدة الفنية فقط .

و أعلن بطريرك الموارنة حويك في جبل لبنان عدم رغبته بالانضمام للدولة السورية وقبوله الانتداب الفرنسي ، واعتبار العيد الوطني الفرنسي عيدا وطنيا في جبل لبنان ، وبدء يطالب بتوسيع أراضيه لتشمل البقاع وطرابلس وبيروت وغيرها من أراض كانت سورية حتى ذلك التاريخ ، وصرح من باريس : أن لبنان يفضل الموت جوعا في ظل صخوره على ان يكون تابعا لدمشق .

قام الفرنسيون بمحاولة إثارة النعرات الطائفية لكي يثيروا حفيظة المسيحيين في باقي أجزاء سوريا ، ليرفضوا امام اللجنة الأمريكية الحكم العربي ويقبلوا بالانتداب الفرنسي ،و ذلك بالترويج ان جيش الحجاز هو جيش ديني ، ، وكان موقف مطران السريان أفرام برصوم في دمشق حازما واضحا ، مخالفا لموقف بطريرك الموارنة في جبل لبنان ، حين أعلن : ( لا تمنعني مسيحيتي من اعتناق مذهب الوحدة العربية الذي يجمع البلاد في الإخاء والمساواة ) ، كما قام بطريرك الارثوذكس بإقامة الصلاة للدعاء للحسين وجيشه والحكام العرب .

و عندما فشل الفرنسيون طائفيا تحركوا باتجاه العشائر ، ووقعوا مع الأمير مجحم بن مهيد أحد شيوخ عنزة ، وهي عشيرة بدوية تقطن البادية السورية ، اتفاقية تعهد فيها الأمير بقبول الانتداب الفرنسي لقاء مزايا خاصة ( أموال ذهبية ووعد بتقليده ارفع وسام فرنسي وعرضه كبديل عن فيصل في سوريا ) ، وقد قامت الحكومة العربية باعتقاله لهذا السبب ثم أطلقت سراحه تحت الضغوط .

تأخرت اللجنة الأمريكية بالوصول ، بسبب العرقلة البريطانية الفرنسية ، وهدد فيصل بإعلان الاستقلال ، فكان رد الجنرال البريطاني اللنبي قاسيا ، وهدده بقيام مواجهة بين القوات الفرنسية والبريطانية معا مع القوات العربية الفيصلية لسحقها ، وصرح علانية ان بريطانيا لا ترغب بالانتداب على سوريا ، ولكنه عاد وتبسط معه وأكد له ان اللجنة قادمة .

و وصلت اللجنة ، والتقت أعضاء المؤتمر السوري وزارت مختلف المدن السورية واستغرق منها الأمر طوال الصيف ، وتقدم الأهالي بعريضة موقعة من ثلاثمائة ألف مواطن تؤيد المطالب الوطنية لرجال المؤتمر ، ولكن سرعان ما تبين للجميع أنها لجنة صورية وقراراتها غير ملزمة لأحد ، وطوي تقريرها في الأدراج .

في نهاية صيف عام 1919، قام فيصل في محاولة ضعيفة لبسط سلطته ، بتشكيل حكومة إدارية مدنية تحت رئاسته ، اسماها مجلس المديرين بدلا من اسم مجلس الوزراء ، ورغب فيصل ان تكون هذه الحكومة بديلة عن الحاكم العسكري الذي كان تحت سلطة الجنرال اللنبي ، طوال هذا الوقت.

رفض اللنبي هذه الحكومة ، وتراجع فيصل ليعلن انه مجرد مجلس استشاري ، واعلم البريطانيون فيصل صراحة أنهم سيعملون على إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين ، وان اللنبي هو المسئول الوحيد والأعلى، وانه لا قيمة لمجلس المديرين وعندما رفض فيصل ما صرح به البريطانيون ، أعلموه ان أي مقاومة منه ستقمع بالقوة .

سافر الجنرال اللنبي إلى إنكلترا ،خريف عام 1919 ، ونصح باستقدام فيصل إلى أوربا للاتفاق معه نهائيا، وتبلغ فيصل ضرورة قدومه بسرعة وقبل السادس عشر من أيلول ، لحضور جلسات الاتفاق بين البريطانيين والفرنسيين حول سوريا ، وفعلا سافر فيصل مرة أخرى إلى مرسيليا بالبحر على متن سفينة حربية بريطانية ، ولكن السفينة أخذت تتباطأ ، ورست في مالطا بحجة الإصلاح ، وأقام حاكم مالطا برنامجا حافلا لفيصل قصد تأخيره ، وعندما وصل أخيرا إلى مرسيليا أدرك ان الأمر قد انتهى ، وكان الاتفاق قد تم توقيعه ، وعندما وصل إلى لندن لم يجد أمامه إلا الاستقبالات الفخمة المليئة بالبذخ والترف والحفلات المقامة على شرفه .

أفهم الإنكليز فيصل ان علاقته من الآن باتت مع الفرنسيين ، وأنهم سيتوقفون عن دفع نفقات الحكومة العربية البالغة مائة وخمسون ألف جنيه ذهبي شهريا ، وان قواتهم ستنسحب في نهاية عام 1919 باتجاه العراق والأردن وفلسطين ، من دمشق وحمص وحماه وحلب ، وستدخل القوات الفرنسية بدلا عنها .

صدرت الصحف الفرنسية لتقول : يجب ان تنتهي مهزلة فيصل ، فمن هو فيصل بالنسبة للفرنسيين والسوريين ، هو رجل من قش ، صنعته بريطانيا ، فإذا أرادت ان تعطيه مملكة فلتنصبه ملكا في بغداد .

و عندما وصلت الأخبار إلى السوريين زاد الهياج العام ، وتنادى الناس إلى حمل السلاح ، ونادى آخرون بالاتصال بالقائد التركي مصطفى كمال الذي استطاع صد الحلفاء عن وطنه تركيا لطلب المعونة .

نشبت الثورات الوطنية المدعومة سراً من فيصل ، كثورة الشيخ صالح العلي في الساحل ضد القوات الفرنسية ، وقامت ثورة صبحي بركات في إنطاكية ، الذي استطاع الفرنسيون فيما بعد استمالته إليهم بعدما وعدوه بالمناصب وسلموه لاحقا رئاسة اتحاد الدول السورية ، وقامت ثورة إبراهيم هنانو في جبل الزاوية والتي مدها الأتراك بالرجال والعتاد ، وتعاونت مع ثورة صالح العلي ،كما ثار الدنادشة في منطقة تلكلخ ، وثار غيرهم من الثوار الكثير .

و حاول قائد الجيش ياسين الهاشمي وهو ضابط عثماني سابق من بغداد ، تسليح رجاله ، وأعلنت الحكومة التجنيد الإجباري، وبلغ تعداد الجيش العربي حوالي خمسة عشر ألف جندياً ، ولكن تسليحهم كان رديئا ، وكانوا أشبه بجنود درك وليسوا بجنود جيش .

قام الإنكليز ردا على إعلان التجنيد العام ، بالقبض على ياسين الهاشمي قائد الجيش العربي ، فرفعت اللافتات في الشوارع تقول لفيصل : ( أين قائد جيشك يا أمير ) ، ولم يستطع فيصل فعل شيء، فعمت الإضرابات وقامت المظاهرات .

و تحرك الأمير رمضان شلاش وهو شيخ عشيرة البوسرايا في منطقة دير الزور ، وكان ضابطا في الجيش العثماني ، فقبض على الحامية الانكليزية ، وأعلن الثورة ، فما كان من فيصل إلا ان تدخل وطلب من شلاش إطلاق الجنود الإنكليز ، وموافاته في دمشق .

انسحبت القوات البريطانية من الداخل السوري في الشهر الحادي عشر من عام 1919 ، بعد تواجد دام حوالي العام كان للإنكليز خلاله اليد الطولى في حكم البلاد بشكل مباشر ، وتعيين الحكام العسكريين وفرض إرادتهم ، وكانت سلطة الملك فيصل صورية لا قيمة لها .

بعدما خدع البريطانيون فيصل ، ومن قبله والده الشريف حسين ، المرة بعد المرة ، فكانوا ينظمون له الاستقبالات الفخمة وينفقون عليه الأموال الطائلة ، ويقسمون سورية من وراء ظهره .

و يبدو ان الامير فيصل الذي نصب ملكا لفترة قصيرة بعدها على سوريا ، كان يسعى منذ البداية إلى كرسي الملك ، متجاهلا المصالح الوطنية ، فقد غادر سوريا فورا ، صيف عام 1920 وبعد عشرين شهرا من دخولها مع قواته ، وذلك عندما دخلها المحتلون الفرنسيون ، لينصبه الإنكليز لاحقا ملكا على العراق.

ويصيف عبد الله محمود حسين إلى ذلك بقوله :
عند انتهاء الحرب العالمية الأولى عام 1918 ، انسحبت القوات التركية وحلفاءها الألمان من سوريا ، وقد كان تعدادهم قد وصل إلى عشرة آلاف جندي ألماني ، وخمسة عشر ألف جندي تركي ، وحوالي اثنا عشر ألف جندي عربي موالين للعثمانيين ، وقد أقام الجنود الألمان بحلب ما سمي وقتها قشلة الألمان في منطقة مساكن السبيل الحالية ، وهو موقع عسكري تحول إلى ثكنة طارق بن زياد حاليا ، ويجري العمل على تحويله إلى فندق ومنتجع في المستقبل القريب .

عندما انسحب الأتراك من دمشق ، سارع الأمير سعيد الجزائري حفيد الأمير عبد القادر الجزائري، إلى إعلان قيام حكومة عربية بدمشق على كامل أراضي سوريا الطبيعية برئاسته وتحت راية الشريف حسين، ، وكان مقيما في دمشق ويتبع له حوالي الخمسة عشر ألف رجلا من المغاربة والجزائريين ،.

و طلب الجزائري من رئيس بلدية بيروت عمر الداعوق رفع العلم العربي فقام برفعه ، كما طلب من بطريرك الموارنة تشكيل حكومة في جبل لبنان مركزها بعبدا ورفع العلم العربي عليها ، فتلكأ بانتظار الدعم الفرنسي الموعود.

كان العلم العربي يحمل ألوانا أربعة ، الأخضر رمزا للفاطميين ، والأبيض رمزا للامويين ، والأسود للعباسيين ، وأما الأحمر فهو شعار أسرة الحسين الهاشمية .

و في شتاء عام 1918 ، دخلت من الجنوب قوات الثورة العربية التي تحمل راية الشريف حسين وبقيادة الشريف ناصر شقيق الشريف حسين وعم الأمير فيصل ، والمؤلفة من رجال عدة عشائر عربية أهمها عشيرة الرولا من فخذ عنزة ، بزعامة الأمير منير الشعلان ، وعشيرة الجبور بزعامة الأمير طراد الملحم والمتواجدة حتى الآن في حمص ، وعشيرة عنزة في وادي سرحان في العقبة بزعامة الشيخ عودة بن حرب وغيرها من قوات عشائرية ، وبقيادة غير مباشرة من الضابط البريطاني لورنس ، الشهير بلورنس العرب .

ثم دخل الجنرال البريطاني اللنبي سوريا ، قادما من القدس ، بعدما صرح فيها تصريحه الشهير ( الآن انتهت الحروب الصليبية ) ، والتقى الجيشان في دمشق .

لم يطل عمر حكومة الأمير سعيد الجزائري إلا يوما واحدا فقط، فقد قام لورنس بخلعه ، وتعيين الدمشقي شكري باشا الأيوبي ، وهو من سلالة صلاح الدين ، حاكما عسكريا ، وكان في السبعين من عمره في ذلك الوقت .

دخل الأمير فيصل دمشق وكان شابا في الثالثة والثلاثين من عمره ، على جواد ابيض يحيط به ألف وخمسمائة فارس ، واستقبلته الجماهير بحماس منقطع النظير .

أفهم الجنرال اللنبي الأمير فيصل بأنه هو القائد العام ، وفيصل هو مجرد قائد في القوات المتحالفة ، وافهمه ان سلطته تنحصر فقط على المناطق الداخلية ، ولا علاقة له بالساحل وببيروت وجبل لبنان وفلسطين ، ورضخ فيصل أمام الأمر الواقع ، كان قرار اللنبي هو النافذ .

و قد عرف عن فيصل تردده وضعف إرادته وسرعة تغيير رأيه ، وعدم قبوله الرأي والمشورة ، وتساهله وتسامحه الشديد ، ونبله مع أعدائه ،كان مسرفا مبذرا في إنفاق المال ، محبا لمظاهر التفخيم ، لقد كانت شخصيته أثرة تسحر من حوله ، ولم يعرف عنه انه غضب أبدا ، يأكل قليلا ويدخن كثيرا .

انسحبت القوات التركية شمالا ، واجتمع القواد الأتراك في فندق بارون بحلب كمقر لقيادة الجيش ، وقام الأتراك بتوزيع كميات من الأموال الذهبية ، مرسلة إليهم من الحكومة التركية بغية دفعها للعشائر العربية قصد كسب ولائها ، وزعوها على جنودهم بدلا من رجال العشائر ، وتنتشر قصة شعبية بين أهالي منطقة كفر حمرة قرب حلب ، ان الجيش التركي دفن هذه الأموال الذهبية في تلك المنطقة ، للعودة إليها لاحقا ، ويأمل الكثير من أهالي المنطقة حتى الآن بالعثور عليها .

و استمرت القوات البريطانية في التقدم شمالا ، حتى التقت بآخر القوات التركية الخارجة من سوريا بقيادة القائد التركي مصطفى كمال الذي لقب لاحقا بأتاتورك ، وقامت معركة عنيفة ، بينها وبين الجيش البريطاني قرب حلب في منطقة سميت فيما بعد قبر الإنكليزي ، وضمت القوات البريطانية المقاتلة جنودا إنكليز وهنود واستراليون .

وقبر الإنكليز هو في الحقيقة نصب تذكاري لجنود اللواء الهندي الخيال الخامس عشر ، الذين توفوا في تلك المعركة في نهاية عام 1918 ، مع قائدهم الجنرال هولدين ، وذلك النصب معروف باسم قبر الإنكليزي رغم عدم وجود قبر فيه ، وتلك المعركة كانت آخر معارك الحرب العالمية الأولى في الشرق الأوسط .

و قد دفن قتلى الجيش البريطاني في مدفن خاص ، يقع حاليا أمام معمل العوارض الإسمنتية بداية حي الشيخ مقصود ، وكان من بين القتلى جنود هنود مسلمين ، دفنوا إلى جانب الجنود الإنكليز والاستراليين ، مع وضع إشارة الهلال على قبورهم لتمييزها .

و تقوم الجالية البريطانية سنويا حتى هذا التاريخ، وبحضور السفير البريطاني ، في الساعة الحادية عشرة في يوم الحادي عشر من الشهر الحادي عشر ، وهو تاريخ إعلان نهاية الحرب العالمية الأولى بزيارة هذه القبور ووضع الزهور عليها.

عندما دخل الشريف مطر قائد القوات العربية حلب ، عين كامل باشا القدسي واليا عليها ، وهو من أشراف حلب ، ومن ذات العائلة التي أنجبت الدكتور ناظم القدسي الذي تسلم لاحقا رئاسة الجمهورية السورية ، أما الجنرال اللنبي ، فقد عين الضابط العراقي الموالي للبريطانيين جعفر العسكري حاكما عسكريا فعليا بدلا من كامل باشا القدسي .

أما في منطقة الاسكندرونة فقد قام إبراهيم هنانو ، وكان أمين سر ولاية حلب بتشكيل حكومة وجيش صغير تحت علم الشريف حسين في بلدته كفر تخاريم وتقع على الحدود التركية الحالية ، ودخلت قواته إنطاكية ورفعت عليها العلم العربي .

وحمى هنانو ، الذي كان متزوجا من سيدة تركية ، الجنود الأتراك المنسحبين ، ومنع تمزيق العلم التركي ، وقال : ( ان هذا العلم أظل العرب والمسلمين ستة قرون ويجب ان يبقى محترما ، والشعب التركي أخ للشعب العربي وان تفرقا ) ، وقد قدر له الأتراك موقفه هذا لاحقا ودعموا ثورته ضد الفرنسيين .

وفي حماه تشكلت لجنة من الوجهاء وانتخبوا بدر الدين الكيلاني رئيسا لحكومة محلية ريثما يدخل الجيش العربي حماة ، وطلب الكيلاني من سامي الحراكي تشكيل حكومة عربية في معرة النعمان التي كانت تابعة إلى حماة ، وفي حمص تشكلت حكومة محلية برئاسة عمر الاتاسي ، وكان من أعضائها رجل الدين المسيحي الوطني : الخوري عيسى اسعد .

و كانت القوات الفرنسية قد بدأت بالوفود إلى سواحل سوريا واستلام المواقع من الجنود الإنكليز ، وتمركزت قيادتها في جزيرة أرواد ، واستقرت في ميناء اسكندرونة شمالا، واحتلت بيروت جنوبا ، ولم تدخل العمق السوري .

أما الجنرال اللنبي فقد أمر بإنزال العلم العربي المرفوع في بيروت وكافة المدن الساحلية بعدما احتلتها القوات الفرنسية، فاحتج فيصل على هذه الإهانة وهدد بالاستقالة ، فنصح مستشارو اللنبي بمهادنة فيصل ، خوفا من إثارة المتاعب مع الأهالي ، فأبلغ اللنبي فيصلا ان هذه الإجراءات مؤقتة وسينظر بالأمر لاحقا ، وانطلت الخدعة على فيصل .

و طلب اللنبي من فيصل إصدار الأوامر لهنانو كي تسلم الحكومة العربية في إنطاكية المدينة للفرنسيين ، فامتثل هنانو لأوامر فيصل بعدا اقنعه ان الوجود الفرنسي مؤقت .

و شكل فيصل أول حكومة عربية صورية لم تكتب لها الحياة الفعلية ، ورئسها الضابط السابق في الجيش العثماني ، الدمشقي علي رضا الركابي ، وضمت ثلاثة وزراء من جبل لبنان ، ووزير من بيروت ، ووزير من دمشق ، وساطع الحصري من حلب ، ووزير الدفاع من العراق ، محاولا الإيحاء ان هذه الحكومة تمثل سوريا الكبرى وليست حكومة على الأجزاء الداخلية من سوريا .

و كان تعداد جيش فيصل يبلغ حوالي الثمانية آلاف وخمسمائة رجل ،و عندما حاول وزير الدفاع تسليحهم رفض البريطانيون إمدادهم بالسلاح .

و جال فيصل على المدن السورية وفي زيارته لحلب شتاء عام 1918 خطب فقال : ( ان لحكومات فرنسا وبريطانيا اليد البيضاء في مساعدتنا ، ولا ينسى العرب فضل معاونتهم ) .

ثم توجه من حلب إلى طرابلس حيث قوبل بحماس منقطع النظير ، أكد خلاله أهالي طرابلس أنهم جزء من سوريا ، وعندما

وصل إلى بيروت ، لم يكن لجميع الأهالي ذات الحماس ، فقد كان بعضهم مواليا لفرنسا بشكل كامل .

و دعي فيصل نهاية عام 1918 إلى أوربا للمشاركة في مؤتمر الصلح الذي انعقد بعد الحرب العالمية ، فغادر بيروت باتجاه مرسيليا في فرنسا ، والتقى فيها مع لورنس قادما من انكلترا ، وكان لورنس مرتديا الزي العربي ، فرفض الفرنسيون استقبال لورنس رسميا ما لم يرتدي الزي العسكري البريطاني بصفته ضابطا بريطانيا لا عربيا ، فما كان من لورنس إلا ان غادر فرنسا الى انكلترا ، بعدما رد الوسام الذي قلده إياه الفرنسيون سابقا أثناء الحرب ، وتابع فيصل زيارته لفرنسا من دونه ، حيث قلده الجنرال الفرنسي غورو وساما رفيعا في ستراسبورغ على الحدود الالمانية .

و كان لهذه الحركة من لورنس بعدما رفض خلع الرداء العربي ، التأثير الكبير على الأمير فيصل ، ويبدو ان لورنس كان يعرف كيف يؤثر على فيصل .

شعر فيصل بالشك تجاه نوايا الفرنسيين خلال زيارته لباريس ، وعندما وصل إلى لندن كان لورنس في استقباله ، وأقام له البريطانيين استقبالا فخما حضره الملك شخصيا ، وبعد شهرين من الإقامة الفخمة في لندن ، بدأ فيصل يرتدي اللباس الأوربي ويتجول في شوارع لندن .

و قد أكد له البريطانيون على حسن نواياهم تجاه سوريا ، بينما كانوا من وراء ظهره يقتسمون ما تبقى من سوريا ،و يقومون بتعديل اتفاقية سايكس بيكو مع الفرنسيين ، والتي ابرمت قبل سنوات في غفلة عن الشريف حسين ، فطلبوا الحصول على الموصل الغني بالنفط ، لقاء ان يتنازلوا للفرنسيين عن كيليكيا ، وقبل الفرنسيون بذلك .

و قد نظم لورنس لقاءً بين فيصل وزعماء الحركة الصهيونية بزعامة وايزمن ، الذين أكدوا له ان هجرة اليهود لفلسطين هي هجرة عادية طالبين المساواة مع السكان والمساهمة في الاعمار ، وأنهم لا ينوون أبدا إقامة دولة يهودية فيها ، وصدق فيصل ذلك .

و عندما انعقد مؤتمر الصلح في باريس ، رفض الفرنسيون اعتبار فيصل ممثلا عن سوريا ، واكتفوا باعتباره ممثلا عن الحجاز ، وكان الحل ان يكون هناك ممثلين اثنين ، واحدا عن الحجاز والآخر عن سوريا ، وشارك في المؤتمر سبعا وعشرين دولة أهمها بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة .

و طرح فيصل خلال المؤتمر طروحات جديدة ، هي إقامة ثلاث حكومات عربية : الأولى في الحجاز والثانية في سوريا والثالثة في العراق ، وطرح نفسه قائدا لثورة سورّية مستقلة عن ثورة الحجاز ، واستثنى فلسطين من سوريا ، وقال انه لا مانع ان تكون تحت وصاية دولة كبرى ، واقترح الأمريكيون نظام الانتداب على الدول، وتقرر هذا النظام ، كما اقترحوا إرسال لجنة لاستفتاء الشعب حول رغباتهم السياسية ، وأي دولة يرغب السوريون بأن تكون منتدبة عليهم .

و وافق الفرنسيون والبريطانيون مكرهين ، على إرسال لجنة أمريكية لمعرفة رغبات الشعب السياسية ، وكان أعضاءها من الأمريكيين فقط ، وعندما شعر البريطانيون بخطر اللجنة الأمريكية ، سارع لورنس بإقناع فيصل بتجاهل عمل اللجنة والاتفاق مع فرنسا مباشرة .

أجزل الفرنسيون الوعود لفيصل ، وطلبوا منه قبول سحب الجنود البريطانيين ، وإحلال جنود فرنسيين بدلا عنهم ورفع العلم الفرنسي ، مقابل إعلان استقلال سوريا ، وقبول فرنسا به ، وطبعا كان هذا العرض مكشوفا ، فكيف يعلن عن استقلال دولة سورية ، جنودها فرنسيون وعلمها فرنسي ، وحاول فيصل المماطلة حتى ظهور نتائج اللجنة الأمريكية .

بعد خمسة أشهر من الإقامة في أوربا ، عاد فيصل إلى بيروت ، واستقبلته الجماهير استقبالا شعبيا حافلا ، وأطلقت له القوات البريطانية المدافع ترحيبا به .

و فيصل أمام الجماهير العربية غير فيصل أمام دهاة الساسة الإنكليز والفرنسيين ، فقد صرح تصاريح نارية أمام الجماهير مثل ( ان كل من يطلب معونة إنكلترا وفرنسا وأمريكا فليس منا ، ولا بد من الاستقلال المطلق ) ، وقال ان مؤتمر الصلح اقر الاستقلال ولكنه لم يأت على ذكر ما يخص الانتداب إلا لاحقا وأمام الخاصة من رجاله ، وقال كلمته المشهورة ( الاستقلال يؤخذ ولا يعطى ) .

و عندما وصل لدمشق ربيع عام 1919 ، استقبلته الجماهير استقبالا منقطع النظير ، وأعد له الدمشقيون عربة تجرها ثمانية خيول سروجها من الذهب والفضة وزينت جوانبها بالمجوهرات التي تبرعت بها السيدات الدمشقيات ، وقدم الدمشقيون خمس وعشرون ألف سجادة لفرش الطريق ، وعرقلت الورود الملقاة عليه مسير الموكب من كثرتها .

أطلق فيصل للمرة الأولى اصطلاح ( الأمة السورية ) المستقلة عن الحجاز ، وتعالت الهتافات بالموافقة ، وبايعته وفود بيروت وصيدا وفلسطين ودمشق وحمص وحماه وحلب وطرابلس ووفود العشائر ..و غيرها من وفود ، ولم يذكر للوفود الفلسطينية أن فلسطين استثنيت من الدولة السورية .

و بدأت الصراعات الخفية بين الرجال القادمين مع فيصل من هاشميي الحجاز ورجال العشائر وضباط الجيش العربي وأغلبهم من العراقيين الموالين لإنكلترا ، وبين الرجال السوريين الذين كانوا يعملون سابقا تحت ظل الحكم التركي ، والتف السوريون حول الضابط الدمشقي الشاب يوسف العظمة البالغ الخامسة والثلاثين من عمره فقط ، والذي كان ضابطا في الجيش العثماني ودرس أركان حرب في ألمانيا ، وحارب سابقا في أرجاء الإمبراطورية العثمانية ، وكان متزوجا من سيدة تركية ، وله منها ابنة واحدة اسمها ليلى .

قرر فيصل في بداية صيف عام 1919 ، الدعوة لانتخاب مجلس نيابي، أسوة بما شاهده في أوربا ، واسماه المؤتمر السوري ، وكان اغلب أعضاؤه من نواب البلاد السابقين إلى مجلس المبعوثان العثماني ، وبلغ عددهم خمسة وثمانون عضوا ، من دمشق وشرق الأردن وإنطاكية وبيروت وطرابلس وجبل لبنان وفلسطين وحلب وحماه وحمص ودير الزور وجبل الدروز ، لقد كان حقا المجلس الوحيد في التاريخ الذي مثل أعضاءه مواطني سورية الطبيعية بالكامل ولم يتكرر بعدها.

ومن أعضاء المؤتمر السوري الذين كان لهم دور كبير لاحق في التاريخ السوري : تاج الدين الحسيني وفوزي العظم والد خالد العظم ممثلين عن دمشق، إبراهيم هنانو ممثلا عن قضاء حارم ، وسعد الله الجابري ورضا الرفاعي ومرعي باشا الملاح والدكتور عبد الرحمن كيالي ممثلين عن حلب ، حكمت الحراكي ممثلا عن المعرة، عبدالقادر الكيلاني ممثلا عن حماة، أمين الحسيني ممثلا عن القدس.

و انتخب الزعيم الحمصي هاشم الاتاسي رئيسا للمؤتمر ، ومرعي باشا الملاح ويوسف الحكيم نائبي رئيس .

كانت مهمة المؤتمر وضع قانون أساسي للبلاد وسمي لاحقا ( الدستور ) ، وكانت غاية فيصل من المؤتمر أن يبين بوضوح للجنة الأمريكية القادمة ، إجماع مواطني سوريا الطبيعية على قبول حكمه ، وإنهاء فكرة الوحدة مع الحجاز ، وإظهار رفض الشعب للانتداب الفرنسي .

و قرر المؤتمر المطالبة بوحدة سورية واستقلالها ، وقبول انتداب أمريكا وبريطانيا ، ورفض الانتداب الفرنسي ، ولكن على ان يكون مفهوم الانتداب هو المساعدة الفنية فقط .

و أعلن بطريرك الموارنة حويك في جبل لبنان عدم رغبته بالانضمام للدولة السورية وقبوله الانتداب الفرنسي ، واعتبار العيد الوطني الفرنسي عيدا وطنيا في جبل لبنان ، وبدء يطالب بتوسيع أراضيه لتشمل البقاع وطرابلس وبيروت وغيرها من أراض كانت سورية حتى ذلك التاريخ ، وصرح من باريس : أن لبنان يفضل الموت جوعا في ظل صخوره على ان يكون تابعا لدمشق .

قام الفرنسيون بمحاولة إثارة النعرات الطائفية لكي يثيروا حفيظة المسيحيين في باقي أجزاء سوريا ، ليرفضوا امام اللجنة الأمريكية الحكم العربي ويقبلوا بالانتداب الفرنسي ،و ذلك بالترويج ان جيش الحجاز هو جيش ديني ، ، وكان موقف مطران السريان أفرام برصوم في دمشق حازما واضحا ، مخالفا لموقف بطريرك الموارنة في جبل لبنان ، حين أعلن : ( لا تمنعني مسيحيتي من اعتناق مذهب الوحدة العربية الذي يجمع البلاد في الإخاء والمساواة ) ، كما قام بطريرك الارثوذكس بإقامة الصلاة للدعاء للحسين وجيشه والحكام العرب .

و عندما فشل الفرنسيون طائفيا تحركوا باتجاه العشائر ، ووقعوا مع الأمير مجحم بن مهيد أحد شيوخ عنزة ، وهي عشيرة بدوية تقطن البادية السورية ، اتفاقية تعهد فيها الأمير بقبول الانتداب الفرنسي لقاء مزايا خاصة ( أموال ذهبية ووعد بتقليده ارفع وسام فرنسي وعرضه كبديل عن فيصل في سوريا ) ، وقد قامت الحكومة العربية باعتقاله لهذا السبب ثم أطلقت سراحه تحت الضغوط .

تأخرت اللجنة الأمريكية بالوصول ، بسبب العرقلة البريطانية الفرنسية ، وهدد فيصل بإعلان الاستقلال ، فكان رد الجنرال البريطاني اللنبي قاسيا ، وهدده بقيام مواجهة بين القوات الفرنسية والبريطانية معا مع القوات العربية الفيصلية لسحقها ، وصرح علانية ان بريطانيا لا ترغب بالانتداب على سوريا ، ولكنه عاد وتبسط معه وأكد له ان اللجنة قادمة .

و وصلت اللجنة ، والتقت أعضاء المؤتمر السوري وزارت مختلف المدن السورية واستغرق منها الأمر طوال الصيف ، وتقدم الأهالي بعريضة موقعة من ثلاثمائة ألف مواطن تؤيد المطالب الوطنية لرجال المؤتمر ، ولكن سرعان ما تبين للجميع أنها لجنة صورية وقراراتها غير ملزمة لأحد ، وطوي تقريرها في الأدراج .

في نهاية صيف عام 1919، قام فيصل في محاولة ضعيفة لبسط سلطته ، بتشكيل حكومة إدارية مدنية تحت رئاسته ، اسماها مجلس المديرين بدلا من اسم مجلس الوزراء ، ورغب فيصل ان تكون هذه الحكومة بديلة عن الحاكم العسكري الذي كان تحت سلطة الجنرال اللنبي ، طوال هذا الوقت.

رفض اللنبي هذه الحكومة ، وتراجع فيصل ليعلن انه مجرد مجلس استشاري ، واعلم البريطانيون فيصل صراحة أنهم سيعملون على إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين ، وان اللنبي هو المسئول الوحيد والأعلى، وانه لا قيمة لمجلس المديرين وعندما رفض فيصل ما صرح به البريطانيون ، أعلموه ان أي مقاومة منه ستقمع بالقوة .

سافر الجنرال اللنبي إلى إنكلترا ،خريف عام 1919 ، ونصح باستقدام فيصل إلى أوربا للاتفاق معه نهائيا، وتبلغ فيصل ضرورة قدومه بسرعة وقبل السادس عشر من أيلول ، لحضور جلسات الاتفاق بين البريطانيين والفرنسيين حول سوريا ، وفعلا سافر فيصل مرة أخرى إلى مرسيليا بالبحر على متن سفينة حربية بريطانية ، ولكن السفينة أخذت تتباطأ ، ورست في مالطا بحجة الإصلاح ، وأقام حاكم مالطا برنامجا حافلا لفيصل قصد تأخيره ، وعندما وصل أخيرا إلى مرسيليا أدرك ان الأمر قد انتهى ، وكان الاتفاق قد تم توقيعه ، وعندما وصل إلى لندن لم يجد أمامه إلا الاستقبالات الفخمة المليئة بالبذخ والترف والحفلات المقامة على شرفه .

أفهم الإنكليز فيصل ان علاقته من الآن باتت مع الفرنسيين ، وأنهم سيتوقفون عن دفع نفقات الحكومة العربية البالغة مائة وخمسون ألف جنيه ذهبي شهريا ، وان قواتهم ستنسحب في نهاية عام 1919 باتجاه العراق والأردن وفلسطين ، من دمشق وحمص وحماه وحلب ، وستدخل القوات الفرنسية بدلا عنها .

صدرت الصحف الفرنسية لتقول : يجب ان تنتهي مهزلة فيصل ، فمن هو فيصل بالنسبة للفرنسيين والسوريين ، هو رجل من قش ، صنعته بريطانيا ، فإذا أرادت ان تعطيه مملكة فلتنصبه ملكا في بغداد .

و عندما وصلت الأخبار إلى السوريين زاد الهياج العام ، وتنادى الناس إلى حمل السلاح ، ونادى آخرون بالاتصال بالقائد التركي مصطفى كمال الذي استطاع صد الحلفاء عن وطنه تركيا لطلب المعونة .

نشبت الثورات الوطنية المدعومة سراً من فيصل ، كثورة الشيخ صالح العلي في الساحل ضد القوات الفرنسية ، وقامت ثورة صبحي بركات في إنطاكية ، الذي استطاع الفرنسيون فيما بعد استمالته إليهم بعدما وعدوه بالمناصب وسلموه لاحقا رئاسة اتحاد الدول السورية ، وقامت ثورة إبراهيم هنانو في جبل الزاوية والتي مدها الأتراك بالرجال والعتاد ، وتعاونت مع ثورة صالح العلي ،كما ثار الدنادشة في منطقة تلكلخ ، وثار غيرهم من الثوار الكثير .

و حاول قائد الجيش ياسين الهاشمي وهو ضابط عثماني سابق من بغداد ، تسليح رجاله ، وأعلنت الحكومة التجنيد الإجباري، وبلغ تعداد الجيش العربي حوالي خمسة عشر ألف جندياً ، ولكن تسليحهم كان رديئا ، وكانوا أشبه بجنود درك وليسوا بجنود جيش .

قام الإنكليز ردا على إعلان التجنيد العام ، بالقبض على ياسين الهاشمي قائد الجيش العربي ، فرفعت اللافتات في الشوارع تقول لفيصل : ( أين قائد جيشك يا أمير ) ، ولم يستطع فيصل فعل شيء، فعمت الإضرابات وقامت المظاهرات .

و تحرك الأمير رمضان شلاش وهو شيخ عشيرة البوسرايا في منطقة دير الزور ، وكان ضابطا في الجيش العثماني ، فقبض على الحامية الانكليزية ، وأعلن الثورة ، فما كان من فيصل إلا ان تدخل وطلب من شلاش إطلاق الجنود الإنكليز ، وموافاته في دمشق .

انسحبت القوات البريطانية من الداخل السوري في الشهر الحادي عشر من عام 1919 ، بعد تواجد دام حوالي العام كان للإنكليز خلاله اليد الطولى في حكم البلاد بشكل مباشر ، وتعيين الحكام العسكريين وفرض إرادتهم ، وكانت سلطة الملك فيصل صورية لا قيمة لها .

بعدما خدع البريطانيون فيصل ، ومن قبله والده الشريف حسين ، المرة بعد المرة ، فكانوا ينظمون له الاستقبالات الفخمة وينفقون عليه الأموال الطائلة ، ويقسمون سورية من وراء ظهره .

و يبدو ان الامير فيصل الذي نصب ملكا لفترة قصيرة بعدها على سوريا ، كان يسعى منذ البداية إلى كرسي الملك ، متجاهلا المصالح الوطنية ، فقد غادر سوريا فورا ، صيف عام 1920 وبعد عشرين شهرا من دخولها مع قواته ، وذلك عندما دخلها المحتلون الفرنسيون ، لينصبه الإنكليز لاحقا ملكا على العراق
وبذلك نخلص إلى أنه :
.إثر نشوب الحرب العالمية الأولى عيّن الباب العالي جمال باشا المعروف "بالسفّاح" حاكمًا عسكريًا ومدنيًا على بلاد الشام، وقام بوضع نفسه في مواجهة الأحزاب الوطنية خصوصًا إثر فشل حملته على مصر. أسس جمال باشا ديوانًا للأحكام العرفية في دمشق وآخر شبيه له في عاليه، ثم أخذ ينفي وجهاء سوريا ولبنان إلى الأناضول ويبعد الفرق العربية في بلاد الشام وإحلال فرق تركية محلها تحاشيًا لانقلابها ضده في حال قيام ثورة. وأخيرًا أخذ ديوان الأحكام العرفية يصدر أحكام الإعدام بحق وجهاء الأحزاب والمنظمات الوطنية، وقد بلغ عدد أحكام الإعدام ثمانية وخمسين حكمًا، إلى جانب أحكام أخرى بالنفي أو السجن مدى الحياة وقد كانت كبرى قوافل الإعدام يوم 6 أيار/مايو 1916 حين أقدم جمال باشا على إعدام أربع عشرة شخصًا من وجهاء بيروت وسبعة من وجهاء دمشق.[102]
خارطة سايكس بيكو التي قسمت الهلال الخصيب بين فرنسا وبريطانيا عام 1916، كشفت عام 1917.

كان الرأي العام في سوريا يميل لإعلان الثورة على الدولة العثمانية، وكذلك كان رأي الشريف حسين بن علي أمير الحجاز بتشجيع من بريطانيا، وبنتيجة ذلك اندلعت الثورة العربية الكبرى في 10 حزيران/يونيو 1916 بدعم الحلفاء، وأدت إلى خروج العثمانيين من دمشق يوم 1 أيلول/سبتمبر 1918 وسائر بلاد الشام، وتشكلت حكومة مؤقتة برئاسة علي رضا الركابي.[103] لم تف بريطانيا بوعودها مع الشريف حسين بن علي حول إقامة دولة عربية واحدة برئاسته، فطالبت الأحزاب والقوى الوطنية في سوريا بنظام ملكي دستوري، وفي غضون ذلك التأم المؤتمر السوري العام كأول برلمان سوري ضمن تسعين عضوًا، اثنان وخمسون منهم من سوريا الحالية وثمانية وثلاثون من الأردن ولبنان وفلسطين. أعلن المؤتمر استقلال سوريا (بحدودها الطبيعية التي تشمل الأقطار السورية الأربعة) ووحدتها تحت اسم المملكة السورية العربية، وبايع فيصل بن الحسين ملكًا وأقرّ دستورًا للبلاد في 8 آذار/مارس 1920،[104] ثم تشكلت حكومة دستورية برئاسة علي رضا الركابي.[105][106] وبنتيجة التجاذب بين الحكومة والمؤتمر السوري العام حول قبول الانتداب الفرنسي وفق مقررات مؤتمر سان ريمو استقالت حكومة الركابي وشكلت حكومة جديدة برئاسة هاشم الأتاسي في 3 أيار/مايو 1920. وحين وجه قائد الجيوش الفرنسية في شرق الجنرال هنري غورو لائحة مطالب للملك فيصل تشمل قبول الانتداب وسائر مقررات مؤتمر سان ريمو فضلاً عن حل الجيش، مهددًا إياه باحتلال سوريا في حال الرفض. وقد رفض المؤتمر السوري العام في جلسة عقدها يوم 15 تموز/يوليو 1920 إنذار غورو ثم عاد وقبل بها في 17 تموز/يوليو لضعف الجيش والحفاظ على الحكم الذاتي، كما أقرت الحكومة الانتداب رسميًا في 20 تموز/يوليو 1920، غير أن اضطرابات وحالة فلتان أمني أودت بخمسة وعشرين قتيلاً رافقت قرار حل الجيش، ودفعت الحكومة لإعلان نظام الطوارئ، في غضون ذلك اجتاز الجيش الفرنسي بقيادة الجنرال غوابييه مجدل عنجر باتجاه دمشق، وشُكل جيشٌ من المتطوعين المدنيين في دمشق إلى جانب الجيش النظامي بهدف إبداء المقاومة ريثما يتوسط الحلفاء، واشتبك الطرفان في ميسلون يوم 24 تموز/يوليو 1920، وكان الجيش الفرنسي متفوقًا بالعدة والعديد على الجيش السوري بقيادة وزير الحربية يوسف العظمة فمني بهزيمة دخل على إثرها الجنرال غوابيه دمشق في 25 تموز/يوليو أما الملك فيصل فقد انتقل في دمشق إلى الكسوة حيث أقال وزارة الأتاسي بناءً على طلب الجنرال غوابيه وعهد إلى علاء الدين الدروبي تشكيل الوزارة، ثم غادر سوريا نهائيًا في 28 تموز/يوليو 1920 وبذلك انتهى عهد الاستقلال الأول.[108][109]
مظاهرة نسائية في دمشق عام 1939 مناهضة لفصل لواء اسكندرون عن البلاد.

في 1 أيلول/سبتمبر أعلن غورو تقسيم سوريا إلى أربع دول على أسس مذهبية، هي دول دمشق وحلب واللاذقية وجبل العرب إضافة إلى سنجق خاص هو لواء اسكندرون. ويضيف البعض من المؤرخين كل من دولة لبنان الكبير وإمارة شرق الأردن وفلسطين غير أن المظاهرات اندلعت في البلاد، ولعلّ أبرزها ثورتا صالح العلي وإبراهيم هنانو (ثورة الشمال السوري) فضلاً عن الإضراب العام في دمشق والذي أفضى إلى ميلاد الاتحاد السوري برئاسة صبحي بركات



#عزو_محمد_عبد_القادر_ناجي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التعليم في سوريا منذ العصور القديمة وحتى نشوء المملكة السوري ...
- فساد التعليم في سوريا في عهد الأسدين 1971-2011
- نموذج للنظام الأساسي لأي منظمة حقوقية في العالم العربي
- خطوات إنشاء منظمة حقوق إنسان عربية
- جدلية الإصلاح والوحدة الوطنية في سوريا
- الفساد السياسي والإداري وطرق استعادة الأموال المهربة قانونيا ...
- أثر التغيرات السياسية على حقوق الانسان في القرن الواحد والعش ...
- العوامل الداخلية والخارجية المؤدية إلى عدم الاستقرار السياسي ...
- الوحدة الوطنية خلال فترة البعث الأولى 1963وتداعياتها خلال ال ...
- العلاقات السعودية المصرية قي عهد الملك سعود
- حول العلاقات السعودية المصرية
- مقترح بحث عن موضوع الوحدة الوطنية في ظل حكم حزب البعث العربي ...
- المساعدات العربية للدول الإفريقية
- الجامعةالعربية ودورها في المساعدات الاقتصادية لإفريقيا
- المصالح الاقتصادية المشتركة بين العرب والأفارقة
- دراسات أفروعربية
- حول التُجّارِ الصوماليينِ في مجتمعِ جنوب إفريقيا
- ثقافة العنف بين الشباب
- العدوان على غزة : خريطة الحدث والدلالات الحضارية
- تداعيات الأزمة الاقتصادية في مصر وسبل حلها


المزيد.....




- سلمان رشدي لـCNN: المهاجم لم يقرأ -آيات شيطانية-.. وكان كافي ...
- مصر: قتل واعتداء جنسي على رضيعة سودانية -جريمة عابرة للجنسي ...
- بهذه السيارة الكهربائية تريد فولكس فاغن كسب الشباب الصيني!
- النرويج بصدد الاعتراف بدولة فلسطين
- نجمة داوود الحمراء تجدد نداءها للتبرع بالدم
- الخارجية الروسية تنفي نيتها وقف إصدار الوثائق للروس في الخار ...
- ماكرون: قواعد اللعبة تغيرت وأوروبا قد تموت
- بالفيديو.. غارة إسرائيلية تستهدف منزلا في بلدة عيتا الشعب جن ...
- روسيا تختبر غواصة صاروخية جديدة
- أطعمة تضر المفاصل


المزيد.....

- روايات ما بعد الاستعمار وشتات جزر الكاريبي/ جزر الهند الغربي ... / أشرف إبراهيم زيدان
- روايات المهاجرين من جنوب آسيا إلي انجلترا في زمن ما بعد الاس ... / أشرف إبراهيم زيدان
- انتفاضة أفريل 1938 في تونس ضدّ الاحتلال الفرنسي / فاروق الصيّاحي
- بين التحرر من الاستعمار والتحرر من الاستبداد. بحث في المصطلح / محمد علي مقلد
- حرب التحرير في البانيا / محمد شيخو
- التدخل الأوربي بإفريقيا جنوب الصحراء / خالد الكزولي
- عن حدتو واليسار والحركة الوطنية بمصر / أحمد القصير
- الأممية الثانية و المستعمرات .هنري لوزراي ترجمة معز الراجحي / معز الراجحي
- البلشفية وقضايا الثورة الصينية / ستالين
- السودان - الاقتصاد والجغرافيا والتاريخ - / محمد عادل زكى


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني - عزو محمد عبد القادر ناجي - التعليم في سوريا في عهد الملك فيصل وتطورات الوضع الداخلي السوري 1918-1920