فتاوى الفتنة لا تخلق رأياً عاماً، لكنها تغلق الوعي بالخرافة.

حميد طولست

الحوار المتمدن-العدد: 3471 - 2011 / 8 / 29 - 22:46
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    

فتاوى الفتنة لا تخلق رأياً عاماً، لكنها تغلق الوعي بالخرافة.
في مثل هذا الشهر من كل عام، ترتفع قابلية الاستفتاء لدى المغاربة مثلهم في ذلك مثل باقي الشعوب الإسلامية والعربية الأخرى، وكأنها على موعد مميز مع جميع أشكال الفتاوى الدينية الغريبة المثيرة، والصاخبة المضحكة، التي يرغوي ويزبد بخرافاتها- في مثل هذه اللحظات الروحية الذهبية- مدمنوا الفتوى، ممن حفظوا ببغاويا، بعضا أو كثيرا من القرآن، وأطلقوا لحاهم لتغطية وجوههم البائسة، مستغلين كل مخترعات الغرب الكافر، وتقنياته في الاتصال والتواصل المتطورة، ليفتوا عبر الهواتف والفضائيات والنت، بما يجوز للعالم الإسلامي وما لا يجوز له، وينشروا التخلف والاستحمار بين العوام المستسلمين المستضعفين والبلهاء، ما أنتج في جل المجتمعات العربية والإسلامية طبقة من المتعلمين اللاهثين خلف الإسفاف والسطحية, بلا فكر ولا نقاش، يضاهون الجهلة والأغبياء في البلاهة والتخلف والجبن، ولا يملكون إلا بعض المؤهلات والمصطلحات الفقهية التي يوظفونها لمحارب وبأفق ضيق، وفكر محدود، كل الأعمال الفنية وما يتصل بأساسات الرسم والنحت والتصوير والموسيقى والغناء، ويرتبون على كل أنواع الإبداع الفني عقوبات أخروية تتوعد الفنانين بأصناف من العذاب الجهنمي.
مناسبة هذه المقدمة، هو أني كنت قبل أسبوعين أتصفح الموقع الحديث "أون مغاربية" الذي أتمنى له ولكافة القائمين عليه وثبات وقفزات جبارة على طريق التحديث والتطوير، فوقعت عيناي على مقالة غريبة تحت عنوان "الكاميرا الخفية وحكمها في شريعة الإسلام" لصاحبها الأستاذ المحترم عدنان زهار، والتي يحرم فيها الكاميرا الخفية، ما دفع بي للرد والاعتراض- بلا أي غرض، أو خلفيات-على الفتوى "التراكوميدية" موضوع المقالة التي توصل فيها إلى الخلاصة التي تفوق عظمة ما خلص إليه "أديسون" والتي أجملها في قوله: "وأنا أرى أن هذا النوع من الأعمال التلفزية من أكبر المُحرمات وأقبح المنهيات، لما تتضمنه من مفاسد عظيمة في الدين والدنيا".
طبعاً ليست المُشكلَة في فتوَى الأستاذ الجليل أو في تحريم الكامرا الخفية، نفسها، لأنها فتوى من بين الملايين التي تطلع علينا مع بزوغ كل يوم، والتي لا تخرج جلها عن نطاق باقي الفتاوى التي لا يمكن فلسفتها أو شرعنتها أبداً، لبعدها عن معالي الأمور وأشرافها واهتمامها بسفاسف الأمور، التي نهى عنها نبينا عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وصححه الألباني والقائل: "إن الله يُحب معالي الأمور وأشرافها، ويكره سفسافها "، أمثال فتوى محمّد الزغبي في جواز أكل لَحْم العفاريت، وفتوى للدكتور عزت عطية أستاذ بالزهر في رضاعة الكبير، وفتوى جواز زواج القاصرات، وفتوى تفخيد الرضيعة، وفتوى مضاجعة الميتة، وفتوى تحريم الجلوس على الكراسي، وفتوى تحريم قيادة السيارات على المرأة، وفتوى تحريم مشاهدة التلفاز، والفتوى التي أصدرتها لجنة كبار علماء السعودية التي تحرم التظاهر والاحتجاج والخروج على الحاكم بأي صورة من الصور، وغيرها كثير جدا.
لكن المشكل يتجلى في كون هذه الفتاوى التي اكتسحت الأمة وتوسعت فيها توسع النار في التبن، لا تتفق في مجملها مع مقاصد الإسلام وبحثه عن مصلحة الإنسان المسلم واحترام آدميته، وكونها صيغت لاستغلال المستضعفين الجهلة المغلوب على أمرهم، والواقعين تحت حكم تسلط المتطفلين على الحقل الديني، الذين يلغون العقل ويحتكرون التفاسير ليستمر الظلام ويتثقف الشارع المغربي والعربي والإسلامي، بثقافة القطيع ومزاجية الفتوى من كل التيارات الإسلامية بشقيها (السني والشيعي) إلى درجة أصبح معها الشارع العربي والإسلامي لا تحركه معاناة وعذابات الناس مع الغلاء الفاحش، والفقر المدقع، والجهل المقيث، والتهميش والإقصاء، ولا تؤرقه حماية الإنسان وتحسين أوضاعه بقدر ما تحركه أوامر ومزاجيات شيوخ الفتوى الذين يعتقد كل منهم أنه الوحيد المؤهل (شرعاً) لإدارة حياة المسلمين باسم الدين وبذريعة الحفاظ عليه وعلى المذهب، وما عداه على ضلال.
إلى جانب أنها فتاوى تفتح علينا باب التندّر والضحك من قِبَل أعداء الإسلام، وتثير في الأسوياء الاشمئزاز، وتبعث في العقلاء الرغبة في القيء، لما تتضمنه من دجل وهراء يقطر جهلا وتخلفا بأسماء ويافطات مقدسة.
ولأنها هذه المرة فتوى صادرة عن شخصية شابة ومتنورة– كما تظهر ذلك صورته المنشورة مع المقالة ومنصبه المرموق، "رئاسة فرع الدار البيضاء لمؤسسة مولاي عبد الله الشريف للدراسات والأبحاث"، والذي من المفروض فيه بل من واجبه الديني والإنساني، نشر العلم والمعرفة وتنوير وترقي أذواق الناس وتهذبها.
صحيح أنه من الطبيعي أن يختلف الأشخاص في مقاربة بعض الأمور والأحداث، ومن الطبيعي أيضاً أن يتفق الأشخاص في مقاربة بعضها الآخر، وصحيح أيضا أن الاختلاف المطلق بين الناس مستحيل، كما أن الاتفاق المطلق هو الآخر مستحيل، لكن المنطق والعقل والحكمة، تحتم أن تكون هناك مساحة ونفوذا لبعض القواسم والضوابط المشتركة على الذوق والتفكير والسلوك البشري السليم، تجعلهم يتفقون على الحد الأدنى الذي لا يكفر به إلا الجهلة والأغبياء ومحدودي القدرات ومغيبي الأهداف والطموحات، أو لا يقبل به إلا المرتزقة والمتنطعين الطامعين في المغانم ومكاسب الريع، الذين يتعاطون للفتوى بهذه الطريقة غير العادية؛ بل الخطيرة جدا، لما لها من نتائج وخيمة ربما ستكون كاسحة وعميقة على مختلف المستويات ولآماد غير منظورة.
ربما يقول قائل أنه من حق أي إنسان أن يكون له رأيه الخاص في الأمور الحياتية المحيطة به، وبإمكان أي كان أن ينتقد البرامج التلفزية التي أصبحت جزء من عاداتنا، لكن الذي ليس من حق أي كان أن يجز بالدين في كل القضايا، ويلوي أعناق الآيات القرآنية، ويبتز الأحاديث النبوية، لتتماشى مع رغبته تحريم كل ما لم يعجبه، ولم يحرم الله. ربما يقول قائل آخر، لا يهمك بالكثير من الفتاوى أصبحت بلا أثر يذكر على الأرض، ولا يمكن لها أن تخلق رأياً عاماً في المجتمع. لكن العقلاء يرون في تلك الفتاوى التي تم تلبيسها غطاء الدين خطورة كبيرة على المجتمع الذي تنتشر فيه، فهي وإن لم تستطع تكوين رأي عام، فسرعان ما تصبح كيانا مقدسا داخل الدين لا يتجرأ احد على انتقاده أبدا، وتبقى، مع لأسف، أداة للتشويش على الأفكار، وغلق الوعي بالخرافات التي تدفع للتندر داخلياً وخارجياً على الأمة التي قال عنها الشاعر:
أغاية الدين إن تحفوا شواربكم يا أمة ضحكة من جهلها الأمم .
خاصة حينما يفرض حماة الدين المظلـِّل على الأمة العربية والإسلامية نبذ كل ما يمت للعلم والحضارة بصلة، والرجوع إلى ثقافة ما قبل التاريخ المؤسسة على الدجل والخرافة، التي تقود المجتمعات إلى مرحلة ما بعد التخلف بعد أن عاشت مرحلة التخلف كاملة، بينما يبحث الآخرون اليوم عن مرحلة ما بعد الحداثة، بعد أن عاشوا مرحلة الحداثة كاملة.
كفانا من "الاستحماري" الذي يتخذه الدعاة الجدد منهجا "لتكليخ" الناس وتضليلهم، والذي يتم تحت لواء الإسلام بحبكة قدسية إلهية سماوية مرتبة ومنظمة بذكاء خبيث تسلطي إجرامي كالذي كان يفعله قساوسة وباباوات العصور الوسطى في أوروبا.
كفانا من دين الطوائف والأحزاب والكتل المذهبية، التي اخترقها الشيطان وزبانيته، ولبست الأقنعة المقدسة، لتخترق البشر كذبا وخداعا ونفاقا, لقد حان الوقت لتسقط الأقنعة، ليسمع نور الدين الإسلامي الصافي الحنيف، دين اليسر والمحبة، على المسلمين.
حميد طولست [email protected]

#حميد_طولست (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات