أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - عبد الغني سلامه - العراق .. ذاكرة حاضرة .. وصورة تتداعى















المزيد.....

العراق .. ذاكرة حاضرة .. وصورة تتداعى


عبد الغني سلامه
كاتب وباحث فلسطيني

(Abdel Ghani Salameh)


الحوار المتمدن-العدد: 3470 - 2011 / 8 / 28 - 12:24
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


بين دجلة والفرات برزخ خصب فسيح شهِدَ المولود البِكْر لحضارة الإنسان، والإرهاصات المبكرة للمدنية الحديثة، فبعد أن غادر الإنسان الأول الغابة، وبعد أن لفظت الصحراءُ أحفادَه، بعدما جفَّ ضِرعُ غيومها، بحَثَ عن نهرٍ فيه ما يكفي من الماء، ليروي ماشيته ويسقي حنطته، وعن نخلٍ يقيه قيظ الشمس وحرّها، فوجد بين الرافدين سهلاً فسيحا وخصبا وفيرا .. وشيئا فشيئاً إخضرَّ العشبُ على ضفاف النهر، وامتلأ المكان بالسكان والنقوش، وعمّا قليل سيحتضن العالم بأسره، ولكن على مهل.
بدأ السومريون مغامرتهم الأولى، وبنا من بعدهم الأشوريون والبابليون والكلدانيون أولى الحضارات، وكتبوا بالنقوش المسمارية أهم المسلات، ودونوا عليها قصة الخليقة والطوفان وسطوة سرجون، وانتصارات نبوخذنصر، وشريعة حمورابي، وملحمة كلكامش، ولغز عشتار، ومعجزة الحدائق التي ترنو نحو السماء، ومن بعدهم جاء العباسيون الذين تحدوا الغمام إن استطاع أن يتجاوز حدود ملكهم ،، فكانت إسهامات العراق في الحضارة الإنسانية لا تدانيها مساهمة ولا يعتريها الشك .. بيّنة وضّاءة .. ومنارة شامخة، وظلت بغداد لسنين طويلة، حاضرة الدنيا وموئل العلم، ومنبع الحكايات والأساطير .. ولكن التاريخ ليس لمن يكتب القصة الأولى بيده، وليس دائما سيرة الملوك وانتصاراتهم ،، إنه حكايات الناس، ووجعهم، وفيض النهر في كل عام، والدارميات التي شبعت حزنا وكمدا.
والتاريخ أحيانا يكرر نفسه ،، فلم تكن مثلاً عمليات التهجير التي نفذها صدام بحق من وصفهم بالتبعية الفارسية في مستهل قادسيته، ولا تلك التي نفذها في آخرها بحق الأكراد مختلفة عما دأب عليه الأشوريون من قبل .. فقد كانت عمليات التهجير المنظمة قد ابتدأت فعليا في عهد الآشوريين، وكانت بمثابة العماد الرئيسي للأيديولوجية السياسية للإمبراطورية ، وقد طالت كافة المناطق التابعة لها من إيران حتى حدود مصـر، وفي سياق عمليات الترانزفير هذه، هُجّرت أقوام، واقتُلِعـت شعوب بأكملها من أوطانها، وحلّ محلها آخرون، وهكذا، وبعد أفول نجم الآشوريين صعد البابليون كقوة كبرى، فمارسوا ذات السياسة بفوارق بسيطة، إذ كان البابليون يركزون على منح المهجّرين أراضي خصبة، ويغدقون بالعطايا حتى يصيروا ممثلين للسلطة في تلك المناطق، ويساعدونها في أي حملة قمع ضد القوى المحلية الثائرة.
أحلام البابليين وطموحاتهم تكسرت بسرعة، إذ جاءهم غزوٌ من الشرق وتحديدا من الفرس، الذين احتلوا البلاد وعاثوا فيها فسادا ،، وحيث واصلَ "كورش الفارسي" نفس النهج، ولذات الأهداف، مع تغير في الأساليب وتحويلها من فرض الخوف والرعب بالقوة، إلى محاولات كسب الدعم والولاء والطاعة وإقناع الشعوب بالحاكم الجديد، مستخدمين خطابا إعلاميا دوغمائيا، يعتمد على تضليل الناس وتصوير السيد الجديد بأنه المحرر من نير الاستعباد وظلم الحاكم السابق.
ثم جاء الفاتح المكدوني الشاب الذي ضاق العالم بحلمه: "الإسكندر الأكبر" فنهب كنوز العراق وسبى نسائها ،، ثم عاد الفرس وتوالى الفاتحون، ولكن سنابك خيلهم عجزت عن قطع نخيل العراق، أو تغيير ملامحه، وكان أهل البلاد في كل مرة يقبضون على الحلم ويتشبثون بالأرض أكثر، ويزرعونها ويتناسلون ،،
على أرض العراق وقعت معركة ذي قار أولى محاولات العرب في التشكل كأمة، وهي التي أيدها الرسول محمد ( ص ) قبل أن يصير نبيا، وعلى أرض العراق قُتل رستم في قادسية سعد، وبمقتله أعيد للعراق وجهه العربي ورُدَّ نهائيا نحو عروبته .
وعلى أرض العراق قُتل الإمام علي غدرا على يد الخوارج بطعنة نجلاء، وكان قبلها قد مات كمداً من أهلها ونفاقهم، وضاق ذرعا من أشباه الرجال الذين أعطوه قلوبهم وأعطو معاوية سيوفهم ! وعلى أرض العراق خاض الإمام آخر معاركه في النهروان والجمل وصفين، وسالت وقتها دماء غزيرة حتى كادت أن تخلو حدود المسلمين من الجنود ، ثم جاء ابنه الحسين ليحفر في كربلاء الشهادة نقشاً أليماً موجعاً، وجرحاً مفتوحاً سيؤلم من بايعوه ثم غدروا به وخذلوه إلى يوم الدين.
وعلى أرض العراق جرت معارك الجلولاء وذات السلاسل والقادسية، وعليها قَتَلَ الرشيدُ البرامكة، وتقاتل المأمون مع أخيه الأمين، وقامت ثورة الزنج التي قُتل فيها نصف مليون إنسان، وعليها قام السلاجقة والبويهيين بقتل الخلفاء العباسيين، وعليها نفذ الشاه الصفوي مذابحه ضد السكان في سياق صراعه مع العثمانيين، كما نفذ الانكشاريون مذابحهم بأمر السلطان العثماني .
وعلى أرض العراق نشأ علم الكلام، وتُرجمت أهم الكتب، وأُجترحت أولى الاختراعات، وازدهر الطب والشعر وعلم الكيمياء .. وحكايات السندباد، وقوافل التجار، وظُلْمِ الحجّاج، وهناك قال المتنبي أجمل أشعاره، وتغنى أبو نواس بالخمر والقيان، وأشهر ابن الراوندي إلحاده، وشكّك المعري والتوحيدي بالبديهيات، وجُلد ابن حنبل، وخطَّ الشافعي كتابه "الأم"، وهناك أيضا وُوري أبا حنيفة الثرى، وصُلب الحلاج، وعاش الأئمة، وأوغل المهدي في غيبته الأخيرة، وعندما دك المغول حصون بغداد جعلوا ماء دجلة يحار بين الأحمر القاني النازف من البشر، والأسود الداكن المنساب من الكتب، ومن هناك أيضا بدأ نجم العرب بالخبو، وحضارتهم بالسقوط، وقصة مجدهم بالزوال .. ومن هناك مَرَّ الحسن البصري والجاحظ والفرزدق والأصمعي وابن سينا والرازي، وكذلك العلقمي الذي خان بلاده، وأبو مسلم الخراساني والذي برقبته نصف مليون من البشر أو يزيد .. وهناك ظهر المعتزلة والأشاعرة والمرجئة والزيدية والجبرية والقدرية، وهناك أيضا سُفكت أحلام الأمويين والشيعة والرافضة وحتى الناس البسطاء .. هنالك العراق حيث كل شيء متوقع ومستحيل.
لوحة فسيفسائية مثيرة مدهشة، ودوائر متداخلة، ومصالح متضاربة، وأنساب مختلطة، ومصائر متشابكة، وتاريخ كلٌ يدعي ملكيته الخالصة، توحدٌ يوشك أن يتشظى، وتشظي عصيٌ على التفريق !! إنه العراق العظيم .. تداخل الماضي مع الحاضر، وبصمة التاريخ في المستقبل، تزاوج البداوة مع المدنية والتخلف مع التكنولوجيا ،، فقر مدقع يضيق به الصدر، وثراء فاحش يحبس الأنفاس، قسوة وغلظة يغلفها كرم حاتمي، حفاوة الاستقبال وألم الغدر، أغاني تقطر منها الدموع وطرب صاخب، إقبال على الحياة وهوس مولع بتفاصيل التاريخ !! إنه العراق .. عظيم في كل شيء.
تاريخ العراق الطويل، واتساع أراضيه وموقعه الحيوي على حدود التشابك، وانطلاقته المبكرة جدا، وتداول الفاتحين أراضيه وتعاقب الملوك عليه، وتوالي الحروب والغزوات، وحضاراته الغنية وغيرها .. كل هذا أنتج ثراء ثقافيا وتنوعا إثنيا ولغويا ومذهبيا فاحشاً .
عرقيا يقسم العراق إلى ساميين وآريـين، ودينيا بين مسلمين ومسيحيين وبقايا يهود، ومذهبيا بين سنة وشيعة، وقوميا بين عرب وأكراد وتركمان، وحضريا بين بدو وفلاحين، وبين مراكز الولايات والبغداديين، وإثنياً يعج بالأقليات، ولغويا يزدحم بلغات أربع على الأقل، تتقاطع كل هذه المسميات ضمن دوائر في مواجهة أخرى، في المدن تختلط هذه الدوائر وتمتزج ويتعذر على الإنسان الوافد أن يميز أحدا عن الآخر ،، في شرق العراق وشماله كنينوى وكركوك وديالى - أرض البرتقال الحزين - مثلا يتحدث المواطن بلغات عدة، وحسب الطلب، فتراه يتقن العربية والكردية والفارسية والأثورية والكلدانية ويضيف بعض المثقفين الإنجليزية .. إلا أنهم كلهم عراقيون .. تعايشوا هكذا سلميا وبهدوء آلاف السنين ...
اليوم وبكل أسف توشك هذه الصورة الرائعة أن تتداعى، وهذا التلاحم الحميم أن ينتهي، ويوشك الأكلة والطامعين أن ينالوا من العراق ،،



#عبد_الغني_سلامه (هاشتاغ)       Abdel_Ghani_Salameh#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مواصلة التنقيب في أعماق الإنسان
- أسئلة تُنقِّب في أعماق الإنسان
- محاولة في فهم سيكولوجية الإنسان ..
- النهايات .. هلاك الإنسان، دمار الأرض .. فناء الكون
- مستقبل الإنسانية
- أشكال الحياة المتاحة
- في البحث عن جدوى للحياة
- هذا العالم المجنون
- هل دخلت البشرية طور الحضارة ؟!
- ظهور الإنسان
- ما لم يقُلْه دارون
- انفجار الحياة
- أينشتاين على الخط - النظرية النسبية في فهم نظام الكون
- كيف نفهم نظام الكون ؟
- ديمقراطيات استبدادية
- لماذا لا ينتحر الرؤساء العرب ؟!
- دبي .. صورة قريبة لمستقبل بعيد
- المغرب .. البوليساريو .. وأزمات أخرى لم تحل
- السودان الجنوبي مؤامرة خارجية أم استحقاق داخلي
- السياسة الروسية في الشرق الأوسط


المزيد.....




- إنقاذ سلحفاة مائية ابتعدت عن البحر في السعودية (فيديو)
- القيادة الأمريكية الوسطى تعلن تدمير 7 صواريخ و3 طائرات مسيرة ...
- دراسة جدلية: لا وجود للمادة المظلمة في الكون
- المشاط مهنئا بوتين: فوزكم في الانتخابات الرئاسية يعتبر هزيمة ...
- ترامب: إن تم انتخابي -سأجمع الرئيسين الروسي الأوكراني وأخبر ...
- سيناتور أمريكي لنظام كييف: قريبا ستحصلون على سلاح فعال لتدمي ...
- 3 مشروبات شائعة تجعل بشرتك تبدو أكبر سنا
- آخر تطورات العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا /19.03.2024/ ...
- إفطارات الشوارع في الخرطوم عادة رمضانية تتحدى الحرب
- أكوام القمامة تهدد نازحي الخيام في رفح بالأوبئة


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - عبد الغني سلامه - العراق .. ذاكرة حاضرة .. وصورة تتداعى