أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رياض خليل - عيّودا: قصة قصيرة















المزيد.....


عيّودا: قصة قصيرة


رياض خليل

الحوار المتمدن-العدد: 3467 - 2011 / 8 / 25 - 16:53
المحور: الادب والفن
    


... حتى الأطفال .. كانوا يلاحقونني في أزقة حاراتنا العتيقة ، وهم يرددون اسمك .. يهتفون به .. ينادونك بفرح: " عيّودا .. ويا عيّودا ، ويامجنون بعيّودا ، لبّسها عاآخر طرز ، وعلّمها يابن السودا .. تمشي عاآخر موضة " .
كانت أزقة مدينتي وحاراتها العتيقات .. بحاجة إليك ياعيّودا ، فلماذا رحلت؟ لماذا عزفت عنها؟ وأحجمت عن منحها ابتساماتك المضيئات؟ كنت تحبّينها ، وتعطينها ، وكانوا يحبونك أيضا ، فلماذا أهملتها؟ وتخلّيت عنها؟ لتنهار من جديد .. في دهاليز الليل والوحل والأوهام .. في لعبة البؤس والشقاء والموت البطيء داخل صحارى الزمن الموحشة؟ لا ... لا .. ياعيّودا : لم تكن حارات مدينتي ولاأزقتها تنتظر منك هذا ! قولي .. كيف سأردّ عليهم؟ وعلى تساؤلاتهم واتهاماتهم وأحكامهم؟! قولي .. ماذا سأقول لهم .. إذا هم سألوني عنك ؟ وثاروا في وجهي ؟ .. ياعيّودا.. أهل تلك الحارات مازالوا يجوعون .. يبردون .. ينامون بلا غطاء ، يولد أطفالهم من دون قابلة قانونية ، يمرضون وليس من دواء . أهل تلك الحارات ياعيّودا .. مازالوا يحلمون ويتندرون ، ويسردون الحكايا لأطفالهم ، يتحدثون إليهم عن العشب الأخضر والندى والقصور المحاطة بالحدائق الغنّاء ، المتخمة بالورود ، عن البلاط الذي فرشت به أرض تلك القصور وفسحاتها ، يحكون لهم عن المدن البيضاء والشمس والقمر والحب والشواطئ والحقول المراهقة . يحكون لهم عنك يا عيّودا . يقولون : إنك جميلة .. محبوبة .. فلماذا هجرت حارات مدينتي البائسات؟ وما كدت تستقرين فيها للحظات؟ مررت فيها .. وهربت بخفّة النسيم ورقّته . عودي إليها .. قبل أن تغدو فريسة للخدعة والنكوص والخيبة ........
*************************
اندلعت الموسيقى الجذلانة .. ولم ترقص عيّودا :
- لماذا لاترقصين ياعيّودا؟
- ............................
- ماالخبر ياحبيبتي؟
- ...............................
- تكلمي يا عيّودا؟
- ..........................
الصمت والوجوم سماءان بلا لون . وجهها فارغ .. خال من المعاني . لاأبواب أو نوافذ له . فمن أين لي الدخول؟
- امنحيني فرصة
- ................
- كأنك ميّتة ياحبيبتي !
- .................
- جامد وجهك .. إنّه يخيفني
- ........................
عيّودا !! قرأتك في مزامير داوود ، ولمحتك في إرم ذات العماد ، لهثت وراءك طويلا ، جبت المدن ، وتحولت إلى سندباد .. يضرب في البحار كالريح . كان شيء يدفعني إليك بقوة . يعصف في داخلي . يتفجر كالبركان . أكبر مني أنت أيتها الشمس التي تسكن عينيّ . يأسرني رنين صوتك القرنفلي ، وكلماتك الرهيفة . جائعا أتوثب نحوك ، أجتر عناء الرحلة .. مشقتها .. والمرارة تحرق فمي الذابل . أدمنت الرحلة بحثا عنك .. عن وجهك المطرز بالفرح الصارخ والطفولة الوديعة والجمال الخلاب . وجهك ملحمة شعرية عظيمة ، لم يكتب مثلها " هوميروس" ، وجهك حب وكبرياء . لذلك غبت فيك ، ضعت في زحمة الدروب إليك . كنت كطفل بائس ضيع أمه . آه .. كم كانت قاسية أيا م فراقنا الأول . كم كانت مريرة .. وطويلة ! أما الآن فأنا لاأستطيع احتمال هذه الصورة الجديدة البشعة ، التي تفرض نفسها على ذهني .. تلاحقني .. تلح علي بألوانها الصارخة .. بوجهها القميء .. تطاردني بلهجتها القاتلة . ماأكره هذه الصورة على نفسي! إنني أرفضها .. أقاومها ، تحاول ترويضي ، تقسرني على الرضوخ ، أتمرد ، أريد أن أذكر شيئا واحدا .. أن أظل أتذكر ذلك الشيء ،وهو أننا التقينا .. تعانقنا بحرارة .. سافرنا معا .. أتذكرين ذلك الزمن ياسيدتي ؟ يوم جعلتني أتحول إلى وجه واحد ، مخلفا ورائي آلام الازدواجية وجحيمها ، يوم تحققت وحدة نفسي التي كثيرا ماحلمت بها . كنت أحب ذلك الوجه ، وأحميه في صدري ، خوفا عليه من الغبار والضوضاء والذباب الأصفر . التقينا حقا ، وكانت فرصتي الوحيدة لأعيد إلى وجهي السجين حريته المرفوضة .. حقه في اللعب والسباحة في غمرة النسيم وضياء الشمس وحرارتها .. ولون السماء النقي ونضارته الناعمة . هكذا كنت أحسب أنني كنجم اهتدى إلى سمته أو فلكه . كنجم اهتدى إلى مداره الحقيقي . أتذكرين ذلك الزمان يا عيّودا؟ يوم قلت لي: أحبك .. فتحولت الأرض إلى " أوبرا" الانتصار والفتح والأعراس .. إلى "سيمفونية" حب وشمس وأشجار ، إلى كون من الأغاني ، راحت جميعها تتفجر في داخلي .. حينما كنت يا حبيبتي زهرة لاتكف عن الرقص والفرح والطفولة .. في جسدها يجري نهر الأمازون الأرعن .. مجنونا كمارد بلا عظام .. مياهه الخضراء تطير على أجنحة الضوء .. ترتمي في القلوب .. على العالم ، فتتحول جميعها إلى خدر حريري دافئ .. علمني يانهر الأمازون الأخضر شيئا من حكمتك العظيمة ، كيف تشق مجراك كسيف رهيف .. وسط زمردة خضراء شاسعة ، علمني يانهر الأمازون كيف فضضت بكارة الغابة العذراء دون تعقيد أو تخطيط .. كل شيء كان جميلا .. جميلا .
*********************************
سقط الكأس ياعيّودا ولمّا أضع شفتيّ على حافته الوردية .. وأنا الظامئ منذ زمن سحيق ، فلماذا فعلت ذلك ، ومالذي دهاك ياحبيبتي .. حتى غارت ابتسامتك .. وخبت كقنديل حزين ؟؟
- عيّودا... يحق لي أن أهزّك بعنف واصرار .
- .............................
- إنك تبدين كالتمثال !
- ...........................
- باردة كالثلج . افهميني ...
- .................................
- ماهذا الجمود الصارم ، الذي يسيطر على وجهك ؟!! تغيّرت كثيرا ، صرت شيئا مختلفا !!
- ............................
لم أنم زمنا طويلا , لأستيقظ مذعورا من حلم عجيب :
" رأيتك تفرّين كحمامة .. يلاحقها طائر أسود كالليل ، راح يقتنصك بوحشية .. غارزا مخالبه الحادة في جسدك الأبيض الجميل ، فصرخت ، وارتعدت لأجلك فرائصالأرض هلعا وألما ." .
كان حلما رهيبا ، احترق بعده وجه السماء ، وانطفأت الشمس والنجوم والقمر . استيقظت ، ولم أجدك .ناديتك كثيرا ، وبقي الصمت رابضا حولي كجبل أصم . ناديتك .. وكان صوتي مزيجا من الاستفسار والاحتجاج والغرابة والإصرار والقهر .. من التوسل والرجاء والبكاء والغضب والتحدي اليائس . ماأكثر ماتمتزج المشاعر في لحظة كهذه!! مع أني لم أنم زمنا طويلا ! فكيف حدث هذا؟ ماأصعب أن نعيش لحظة مثلها !! أن نضيع في كثافاتها وغيومها الداكنة ، واكتظاظ أبعادها . أين اختفيت؟ غافلتني .. وفررت كالفكرة من العقل . ألا تدركين كم أخاف عليك ؟! أخشى أن يمسك سوء .. تعالي .. أخرجي من الوجه الآخر للزمان والمكان اللذين يسميان : المجهول . لحظات غيابك تمر كأنها جهنم . وحارات مدينتي وأزقتها البائسات تحولت إلى سؤال أكبر من العالم .. ولا يتوقف عن العويل والتشبث والرغبة فيك . وأطفال مدينتي .. كلهم تحولوا إلى سؤال يصفعني ... يمزق وجهي ، يريد أن ينزعك من لحمي .. من دمي ، إنهم لايصدقونني إذا قلت لهم : إنك صرت بعيدة .. بعيدة .. أبعد من أية نجمة . اسمعي كيف تجلدني أصواتهم .. كيف تقرع في رأسي كملايين الأجراس والطبول :
- " يامجنون بعيّودا ، وين راحت عيّودا ؟ طلعها من تحت التوب .. من قلبك يابو أيوب ، لاتكذب وتقول للناس: ضاعت مني عيّودا" .
كيف أبرر غيابك لهم؟ ولكي لايقتلونني ؟ ولكي أظل حيا من أجلك كذبت عليهم ، أجبتهم مغنّيا مطروبا :
- " حطيتا بالعلّية .. وسرقتها الجنّية .. وتعالو ندور عليها .. من عند على بكرة .. لعند عشيّة " .
صفقوا ياأولاد .. صفقوا جيدا .. واضحكوا ياكبار الحارات العتيقات من رجال ونساء .. فقد تشفق عيّودا عليكم .. قد يرقّ لكم قلبها .. فتعود كالمفاجأة .. كالبرق والرعد .. في ليلة سوداء حاقدة . ياأولاد حارتي ورجالها ونسائها وشيوخها .. كفّوا عن الغضب والصياح واللعب , ولاتضربوني بالحجارة والبندورة هكذا .. إنها تؤلمني ياأحبائي .. لاتتصرفوا بهذه الصورة الشنيعة ، إنني لست مذنبا ، ولم أخطئ وحدي . كفوا عن الأذى ياأهل حارات مدينتي العتيقات ، ولا تضعوا قشور المور في طريقي . أمهلوني بعض الوقت ، وامنحوني مزيدا من الوقت والصبر والهدوء.
هذا ماألاقيه من أجلك ياحبيبتي ، هذا ماأتحمل مشقته وعناءه فداءك .. فداء لروحك الشفافة اللامعة الملونة . غيّري موقفك مني . ولا تكوني عنيدة ياسيدتي العظيمة . امنحي عبدك المطيع شيئا من بركاتك وحنانك .. علميني كيف أتحول إلى أيّوب جديد ، في هذه الصحراء البشرية الماكرة . أنا الباحث عن طور سينين في هذا القرن اللعين المرقم بالعشرين . أيها القرن الشرس . ضاع فيك "تيرسياس" ولم يعد يرى أبعد من أنفه . افتح عينيك يا تيرسياس الأعمى .. لقد تفحم قلبك ورئتيك من دخان الآلات والمصانع .. حتى باتت الرؤية مستحيلة .
*****************************
جاؤوا ليشاهدوك . سألوني عن موعد الزفاف المرسوم . ولم أدر بماذا أجيبهم ! آه .. لو كنت تدرين مدى خجلي منهم ! كانوا يحملون معهم الهدايا .. أشياء كثيرة لا أستطيع تحديدها ..بعضهم .. كان يخفيها خلف ظهره . وكان معظم الزوار أطفالا .. فناديتك .. ونادتك الأرض ..وناداك الأطفال ، وكل خلية من جسمي وروحي ، ولمّا أظفر إلا بالصمت والدهشة الساخرة التي بدأت تتدفق من وجوه الزوار ، حين قدموا ليشاهدوك .. ليتعرفوا عليك .. وكانت ابتسامة هزء وتهكم وخيبة ومرارة تتوضع على زوايا الشفاه والعيون .......
- عيّودا ... كوني مهذبة . بت مثارا للسخرية أمام كل هؤلاء الضيوف ...
- .........................
- عليك أن تستقبليهم .. وتسلمي عليهم ..
- ............................
- ياعيّودا .. كوني عاقلة ..
- .............................
دارت ا لعيون ، ودار رأسي ، فاصفرّ العالم في عيني ، ومادت من تحت قدميّ الأرض . كدت أسقط . أسندني بعضهم ، وغبت عن الوعي ....
صحوت على رشّ الماء فوق وجهي . أحسست بآلام في مناطق مختلفة من وجهي وجسمي : فعلها الأولاد .. يالهم من كائنات شوهتهم آلة الزمن والمدنية ، وحرفت فيهم البراءة عن محورها الصحيح . رحت أفتح عيني ببطء وألم ، لاشيء واضح . الغبش يطبع كل شيء .. يبتلع تفاصيل الأشياء .. أشباح مقوسة الظهور ، تشكل قبّة فوقي . تحجب عني السماء ، أنفاسها تلفحني .. تلدغ وجهي كرؤوس ألسنة ناريّة . فكّاي ثقيلان كجدار قلعة قديمة . انطلق من أحشائي صوت صارخ مكتوم غير واضح المعنى أو اللهجة .. كأنه صادر عن وحش جريح وسط حلقة من الصيّادين السفاحين . أنهضني بعضهم . حملوني إلى مكان لم أميّزه . راحوا يواسونني ، يعتنون بجراحي وآلامي . تغيّرت نظرتي وتقييمي لهم . شعرت بنفسي بين أيد لها رائحة تشبه رائحة يديّ أمي .. أختي .. حبيبتي .. امتلأت بالاطمئنان والثقة والحب . قدموا لي الشراب والدواء والسرير المريح ، والابتسامة والنظرات الحنونة . تفرّست في وجوههم عميقا .
قال أحدهم: " يلعن هذه التربية . أهلهم أوقح منهم"
قال الثاني: "أولاد الحرام كثار"
قال ثالث: " ماأصعب حياة الإنسان عندما يعيش لحظات الصدق والحقيقة ، ويخرج عن المألوف ، ويكفّ عن الدجل والزيف " .
عاد الأول ليقول: " يمارسون الحقيقة في أعماقهم ، ويخشون مظاهرها .. ويحاربون أبطالها الجريئين " .
قال الثالث: " ماأتعسهم وأشقاهم . إنهم يموتون ببطء .
سأل الثاني: " وكذلك الأبطال .. يحترقون ببطء" .
أجاب الثالث: " ولكن الطريقة تختلف " .
ردّ الثاني: " النتيجة واحدة " .
عقّب الأول:" الاختيار يكمن بالوسائل اذي " .
أوضح الثالث:" الاختلاف تحدده الدوافع والغايات".
تدخل الأول:" الدوافع تحددها الظروف الموضوعية والذاتية ".
أكد الثالث:" وكلاهما متلازمان وغير منفصلين" .
صرخت ممزقا حوارهم : " ولكني لم أنم زمنا طويلا .." .
قال الثالث:" لاتزعج نفسك ياصديقي" .
قلت: " قد تعود بين لحظة وأخرى .. ربما مضت لقضاء بعض الأمور" .
قال الأول: " نحن واثقون مما تقوله " .
قلت: " إنها تحب الموسيقى الكرنفالية .. إنها تحب الرقص أيضا . فلتشتعل المزامير ، ولتقرع الطبول ، ولتحتشد كل الآلات الموسيقة في العالم .. في تنسيق خاص تحبه عيّودا . اسمحوا لي أن أكون " المايسترو" .. عيّودا تأمرني بذلك" .
******************************
ونحن مشغولون بما يجري ، وفي غمرة هذا الشغل ، انبثقت المفاجأة كالانفجار ! رفعت رأسي بصعوبة . أدرته بالاتجاه الذي ينظر الحاضرون إليه . تجمدت نظراتي على ذلك الشيء المخيف . كانت المفاجأة بالنسبة لي أكبر من كل شيء .. أكبر من العالم . أغمي عليّ بسبب انطباع خفيّ ارتسم في نفسي ، افترسني .. ربما كان الشبح هو الذي بث هذا النوع من الانطباع المباغت ؟!
بعد برهة صحوت .. وراح الشعور الخفي يتوضح . لم يكن الشبح سوى عيّودا .. التي بدت مخيفة هذه المرة . خطواتها .. حركاتها .. وجهها .. عيناها .. كل شيء فيها كان مخيفا غريبا باردا صخريا يابسا شاحبا مرعبا .
تحركت بصورة ميكانيكية . من دون أن تنطق بحرف واحد . كانت صامتة . خالية من المعاني ، مغلقة ، لاسبيل إلى الدخول فيما وراء مظهرها الخارجي . جلست على أقرب كرسي خال ..
بدت عيّودا كلغز محيّر ، أربكني ، أحرجني أمام الحاضرين الذين يريدون معرفتها وتلمسها ، ولم أتمكن من تبرير الحال أو الوضع الجديد . بحثت في وجوههم وعيونهم ، فلم أفلح بشيء سوى الخيبة والغرابة ، والأسف ، فانهرت في حيرتي ومصابي .. وهم ينسحبون واحدا تلو الآخر .. مطلقين جملا وكلمات تعبّر عن الشفقة والتعازي والنعي وأشياء أخرى غامضة . بدت أصواتهم كأسراب البوم والغربان تحلّق فوق رأسي . تطوقني . تنهال على دماغي نقرا . تغرز مخالبها في وجهي وأذنيّ ، حتى أحسست بسخونة الدماء السائلة من الجراح التي خلفتها تلك الأصوات بقعا مختلفة من الألوان والأشكال تحتل وجهي :
- " مسكين!"
- " لقد جنّ فعلا"
- " يجب نقله إلى المصح العقليّ"
- " لاأمل في شفائه" .
************************************
ذهب الجميع ، وبقيت وحدي في مواجهة عيّودا ، التي بدت كزهرة ذابلة ، امتصت الحشرات رحيقها .. حياتها . مضغت أوراقها الغضّة الناعمة الأنيقة ، ثم لفظتها فضلة خالية من الحياة والرونق والبهاء والحركة . رمتها كنفاية استنفدت صلاحها وروعتها وجدواها ..
نهضت متثاقلا بحزن وصمت وألم ، نظرت في عينيها : " لقد استنزفوك ياحبيبتي .. غدروا بك" اقتربت منها ، قبضت بشدّة على ذراعها ، هززتها بعنف ، جأرت كحيوان غاضب : " من الذي فعل بك هذا؟ من هم ؟ من؟ سأقتلهم ، سأنتقم لك منهم ، سأثأر ، سأمزقهم إربا ، وأسحقهم ، انظري إليّ جيدا .. تكلمي . لم تتحرك عيناها ، لاجدوى من الصراخ . سأسلك سبيلا آخر ، ربما يكون هو الأفضل والأجدى . قرّبت وجهي من وجهها: " أين تلك الأنفاس الحارة التي كانت تلفح وجهي بعذوبة الشذى ونعومة الحرير" . ضممتها بقوة ، قبلتها .. ولم أظفر إلا ببرودة الصخر وصلابته ، وغرقت ببحر من القهر والبكاء ، ثم غصت بعيدا في غور من المشاعر المازوخية دون إرادتي ، ولم أستطع تفسير هذا التحول العجيب في بنيتي النفسية ، واتجاهها السابق .
أيتها الزهرة الحبيبة إلى قلبي . لقد خفي سرك الحقيقي عن الحشرات الضارة .. ونسيت أن فيك كبذرة ماهو كفيل بجعلك تستمرين حيّة أبدا . وأنك قادرة على النمو والانبثاق والتفتح في اللحظات المناسبة ، والمواسم القادمة . أيها البلهاء الحمقى .. يالكم من تعساء!! وأغبياء !! وأشقياء !! لقد التهمتم عيّودا الزهرة فقط ، ولم تلتهموا عيّودا البذرة .. لقد فاتكم السرّ ووقعتم في الخطأ بأنفسكم ، وحفرتم قبركم بأيديكم ، فلينتشر الرعب في أعصابكم كالعاصفة . ولتتناثروا في دوائر الوهم والقلق المتزلزلة . اصرخوا هلعا ماشئتم .. فلن يفيدكم بعد الآن شيء .
خرجت بخطى حثيثة واثقة ، ابتعدت إلى مكان منبوذ وخال ومأمون . حفرت حفرة تكفي لغرس نبتة ، حفرتها بأظافري وأسناني . ثم عدت من حيث خرجت . حملت حبيبتي على كتفيّ ، مضيت بها نحو الحفرة ، وأنا أرتجل أغنيتي المفجوعة .. بصوت ينفطر له قلب الصخر حزنا وألما وإشفاقا . وصلت إلى الحفرة ، أنزلت عيّودا فيها .. بعد أن عرّيتها ، ونزعت عنها الثياب .. كانت قامتها منتصبة كعمود من المرمر ، استوعبت الحفرة النصف الأسفل من قامتها حتى الخصر .. أخذت أهيل التراب على جذع حبيبتي حتى امتلأت الحفرة أو كادت .. هكذا غرست عيّودا ، ورحت أنقل الماء إليها من أمكنة مختلفة ومتعددة لأسقيها . قلت : ياغرستي الحبيبة ، يابذرتي الصغيرة الحزينة .. ابتسمي .. فقد حان وقت الابتسام ،وغدا سيأتي السيّد الربيع .. محمولا على أكفّ المطر والريح والعاصفة ، وسترجعين كما كنت: نقية وواضحة .. وشتشبّن كشجرة من النار في جميع الأنحاء والمساحات والأشكال والألوان ، وستملأين الزمان والمكان ، ستورق أغصانك وتزدحم بالأزهار ، والثمار ، سيستظل بك الأطفال والرجال ، ويأكلون من ثمارك الشهية ، وسيكونون سعداء بك ، عاشقين لبهائك وأريجك الفواح . ستنهض حارات مدينتي العتيقات نحوك كصدر عاشقة يتحفز لاستقبال الحبيب الغائب . كل شيء سيصبح مشرقا شهيا بحضرتك الجليلة المهيبة البهية ، وستكونين لهم حمامة وشمسا وشاطئا أخضر وفرحا وأغان وأحضانا دافئة ...
*************************************
سورتني ضحكات ساخرة ، انتزعتني من استغراقي ونجواي . صرخت غاضبا في وجوههم :
- "كفوا عن ملاحقتي ، لايحق لكم أن تفعلوا ذلك "
- مالون عينيها؟
- قلت: أتسخرون مني ؟ هل أنتم عميان؟
- قال أحدهم: " دعنا نلمسها إن كانت موجودة حقا "
- قال آخر: " ليتني أراها"
- وقال أحدهم:" اخفض صوتك ، أتريد أن تسمعك ؟ قد تكون خلفك الآن! "
- ارتبك الآخر ، دار حول نفسه مذعورا ، علق الأول:
- " جميلة حياة الجنّ .. إنهم سعداء .. خالدون .. هم أجمل الخلق "
- قلت بنبرة قاسية: " اخرسوا جميعا .. انصرفوا عني "
- قال الأول: " كم هي قوية تلك الجنية .. وساحرة "
- سأل الآخر: " احك لنا عن جمالها .. أحقا يفوق جمال البشر؟ "
تكسرت كلماتي غضبا .. ورحت أطلقها في وجوههم كالرصاص :
- تافهون .. حقيرون ..متطفلون . دعوني . أنا مجنون .. مجنون .. ماعلاقتكم بي؟ لماذا تتدخلون في خصوصياتي ؟"
اقتربوا مني ، أحاطوني . أمسكت بي أيد لاتحصى . راحت تجرني . نظرت في عيني حبيبتي مودّعا بيأس قاتل .. دهشت! لم أصدق عيني ، فركتهما جيدا ، فتحتهما ، كانت عيّودا تبتسم ، وتغمزني بطرفها الأكحل الجميل ، كانت عيناها تبتسمان ، اعترتني غبطة بركانية ، فيما كانت الأيدي التي لاتحصى تحملني بعيدا عنها ، وترمي بي في مكان مليء بالليل والغيوم والثلج .................



#رياض_خليل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ماوراء هموم امرؤ القيس
- لماذا رجعت إلى الحزن
- ثم أعيدك حلما
- الشراع الأسود: قصة قصيرة
- قصيدة - سورة القلق
- شعر: قصيدة لرياض خليل
- المزبلة
- العلمانية وصراع الأديان
- صفقة وهم : قصة قصيرة
- قادم من جحيمي : شعر
- إهداء : شعر
- مدارات التحول : شعر
- العصاب الديني/ تتمة
- الله-الشيطان-العبد : 3+4+5 من 7
- الله- الشيطان- العبد
- القرش : قصة قصيرة
- تشرد :
- سعدية : قصة قصيرة
- توازن : قصة قصيرة
- فاصلة الشاهدة والقبر : شعر


المزيد.....




- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...
- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ
- روسيا.. إقامة معرض لمسرح عرائس مذهل من إندونيسيا
- “بتخلي العيال تنعنش وتفرفش” .. تردد قناة وناسة كيدز وكيفية ا ...
- خرائط وأطالس.. الرحالة أوليا جلبي والتأليف العثماني في الجغر ...
- الإعلان الثاني جديد.. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 الموسم ا ...
- الرئيس الايراني يصل إلي العاصمة الثقافية الباكستانية -لاهور- ...
- الإسكندرية تستعيد مجدها التليد
- على الهواء.. فنانة مصرية شهيرة توجه نداء استغاثة لرئاسة مجلس ...
- الشاعر ومترجمه.. من يعبر عن ذات الآخر؟


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رياض خليل - عيّودا: قصة قصيرة