أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - ميثم الجنابي - السياسة والروح في شخصية المختار الثقفي















المزيد.....


السياسة والروح في شخصية المختار الثقفي


ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)


الحوار المتمدن-العدد: 3467 - 2011 / 8 / 25 - 11:36
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


إن استظهار الباطن الروحي في مواقف سياسية علنية كانت من حيث الجوهر التعبير النموذجي عن تراكم شخصية المختار الثقفي السياسية والفكرية. ووجد هذا الالتقاء انعكاسه في شعاره الشهير "يا لثارات الحسين". إذ عكس هذا الشعار أولا وقبل كل شيء تاريخ المختار وشخصيته الباطنية والظاهرية. بمعنى انه جسّد فيه رؤيته الفكرية وسلوكه السياسي. بحيث جعل منه أسلوب تحقيق المبادئ الكبرى المتعلقة بالرجوع إلى القرآن والسنّة ومنهما إلى حقوق المستضعفين. وبالتالي، فان الالتقاء بالتشيع هو الصيغة الفردية والتاريخية والسياسية لمسار الروح الباحث عن نموذج امثل لوجود البشر والدولة في العراق آنذاك.
فقد كان التشيع النقيض الروحي السياسي والعقائدي للأموية بوصفها استبدادا وخروجا على منطق الحق والعدالة، أي الصيغة المثلى لتمثل وحدة العقل والوجدان. فالتشيع آنذاك لم يكن مذهبا بقدر ما كان مرجعية هلامية لأفكار الحق والعدل والنزعة الإنسانية. من هنا عنفوان الوجد والوجدان فيه. فالتشيع وجدان، أو انه الصيغة العراقية للوجدان العارم. وهي حالة يدركها ويحسها عرب العراق الأصليين، أي ذوي الأصول التاريخية المرتبطة بكامل صيرورته وكينونته الثقافية والروحية. إذ تراكمت عبرهم وانتقلت كل حيثيات الموقف من النفس والآخرين، والذي لعبت فيه مآثر آل البيت العلوي دورا قد يكون الأكبر والأكثر جوهرية بالنسبة لتحديد نمط وطبيعة الشخصية النفسية والوجدانية. ويمكن رؤية ذلك في سحنة أهل المدن والأرياف وابتساماتهم ونكاتهم وأغانيهم وعاداتهم وتقاليدهم ولباسهم وأذواقهم وشعرهم الشعبي وإبداعهم الفكري والروحي الهائل، باختصار كل ما يحدد هوية العراقي الأصيلة. وقد لعب مقتل الحسين دورا هائلا في شحذ أبعادها الوجدانية، بحيث يصعب توقع تجاوزه فيما يبدو في يوم من الأيام، شأن أساطير هوميروس بالنسبة لليونان.
وقد صنعت هذه المقدمة شخصية المختار، ومن ثم حددت في مجرى مواقفه السياسية أسلوبه في العمل، كما نعثر على تعبيره الفكري الأول في أول خطبة سياسية عامة له من موقع "الشخصية المؤثرة" في الأحداث، أي تلك التي تفتحت فيها كل الكوامن العميقة بوصفها حقيقة الشخصية السياسية. ففي أول خطبة له في مسجد الكوفة قال:"الحمد لله الذي وعد وليه النصر، وعدوّه الخسر، وجعله فيه إلى آخر الدهر وعدا مفعولا وقضاء مقضيا! وقد خاب من افترى! أيها الناس! إنا رفعت لنا راية، ومدّت لنا غاية. فقيل لنا في الراية إنّ اِرفعوها، وفي الغاية أن أجروا إليها ولا تعدوها. فسمعنا دعوة الداعي ومقالة الواعي". ثم ضمنها مبادئ حركته السياسية وانتهى فيها بعبارة: "فلا والذي جعل السماء سقفا محفوظا والأرض فجاجا سبلا، ما بايعتم بعد بيعة علي بن أبي طالب أهدى منها!".
إننا نرى في هذه الخطبة الصيغة العملية الدقيقة لرؤية النسبة الضرورية بين الوسيلة والغاية، وبالتالي بين الأبعاد العملية الآنية والبعيدة المدى. وهي أبعاد مترابطة بفكرة انتصار أولياء الحق بوصفه وعدا أبديا. وان الافتراء الممكن والمحتل من جانب السلطة ومرتزقتها عرضة للزوال. وان البديل هو وحدة الراية والغاية، أي الشعار العملي المحكوم بغاية كبرى على قدر الهموم المحتملة فيما تسعى إليه. وإن ما يسعى إليه هو استعادة حية للصيغة السياسية المثلى في العلاقة بين الأمة والأئمة، بين رجال الدولة والدولة، بين الحاكم والمحكوم. ووضع هذه الفكرة في خاتمة خطبته عندما اعتبر مبايعة أهل الكوفة إياه "أفضل بيعة بعد بيعة الإمام علي". إذ تتعدى هذه المقارنة حدود العلاقة بالسلطة إلى آفاق العلاقة بالتاريخ الواقعي ونموذجه الأمثل في الدولة. فقد كانت بيعة علي بن أبي طالب بالخلافة، الصيغة الشرعية والتلقائية الوحيدة المرتبطة باندفاع الأمة بلا إكراه. بمعنى أنها انطلقت من مساعي الأمة لتحكيم إرادتها في الاختيار والاختبار. فقد ذللت هذه الصيغة تاريخ النخبة المختبئة والشورى البدائية لعثمان. وذلك لان المبايعات الإسلامية السابقة واللاحقة كانت من حيث حقيقة محتواها مبايعات إكراه.
فقد كانت بيعة أبي بكر نتيجة الصدفة وفلتة الاتفاق المحترف لنخبة لها وزنها التاريخي والروحي والعائلي والقبلي.
بينما كانت بيعة عمر هي "اجتهاد سياسي" فردي صرف لا يقلل مما فيه من رؤية تتسم بفراسة إنسانية وسياسية وتاريخية عظيمة لكنه يتسم بقدر كبير من المغامرة وابتعاد عن فكرة المبايعة بوصفها مؤسسة اجتماعية دولتية.
بينما كانت الشورى التي اختارت عثمان هي النتيجة المترتبة على ما في فعل أبي بكر، بمعنى الابتعاد عن الأمة ولكن بصورة موسعة نسبيا. وفيها كان يكمن سر المؤامرة والمغامرة، التي انتهت إلى تخريب الأسس الأخلاقية والشرعية لفكرة الإمامة والخلافة. وذلك لأنها كانت تحتوي على كل تراكم الخراب المادي والمعنوي في بنية الدولة التي شكلت الأموية استمرارها العائلي والقبلي والنفسي والذهني. فإذا كانت مبايعة عثمان مؤامرة، فإن مبايعة معاوية هي خداع وغدر وخيانة وقتل وشراء الذمم. ووجدت هذه المقدمة حصيلتها الفعلية في مبايعة يزيد بوصفها امتهانا واحتقارا لكل الأعراف والقيم الشرعية، بحيث كانت اقرب إلى مبايعة النخاسة!
وقد وقف المختار أمام هذه الخاتمة. وفيها ينبغي البحث عن فكرته التي سعت إلى استخلاص التطابق المعقول والضروري بين مبايعته من قبل أهل الكوفة ومبايعة الأمة للإمام علي بن أبي طالب. فهي المبايعة الوحيدة التي نبعت من صميم الأمة وبإرادتها بوصفه اختيارا يحتوي في أعماقه على إقرار بضرورة التحقيق التاريخي للعهد الأبدي القائم في انتصار الحق. وهذه بدورها ليست الا الصيغة المعقولة آنذاك والمتفائلة بالحق. ووجد هذا التفاؤل تعبيره في المبادئ الخمس الكبرى التي وضعها في عبارة واحد تقول: "تبايعوني على كتاب الله وسنة نبيه، والطلب بدماء أهل البيت، وجهاد المحليّن، والدفاع عن الضعفاء، وقتال من قاتلنا وسلم من سالمنا والوفاء ببيعتنا لا نقيلكم ولا نستقيلكم".
إننا نقف أمام مبادئ تشكل بمجموعها منظومة واحدة. فالمبدأ الأول هو مبدأ المبايعة على أساس القرآن والسنة، بمعنى ربط شروط المبايعة للحكم بالشريعة الإسلامية (القرآن وسنّة النبي محمد فقط). وهو مبدأ كان يحتوي في أعماقه على فكرة الرجوع إلى الأصول الكبرى. والمبدأ الثاني هو مبدأ الاقتصاص من قتلة آل البيت بوصفها جريمة تاريخية وأخلاقية، على أن يكون الاقتصاص جهادا دائما مفتوحا ضد كل أولئك الذي احلوا المحرمات (الحقوق والواجبات) وجعلوا من انتهاكها أسلوبا لوجودهم. ووجد هذا المبدأ تعبيره السياسي فيما أسميته بعقيدة الثأر الشامل. والمبدأ الثالث هو مبدأ المساواة المقيدة بالحق عبر الدفاع عن حقوق المستضعفين بوصفهم عماد الأمة وقاعدتها وقوتها الضرورية. ورابعا هو مبدأ شرعية القوة ضد القتلة والمجرمين والتزام السلام مع المسالمين، وأخيرا المبدأ القائل، بأن علاقة الولاة بالمجتمع هي علاقة موزونة بالعهد المشترك بينهما ومعقودة بالتزامهما بجميع مبادئه العامة.
وعندما ننظر إلى وحدة هذه المبادئ بمعايير التاريخ السياسي، فان عماد المنظومة الفكرية يقوم دون شك على المبدأ الثالث والخامس، أي المبادئ التي تحدد طبيعة السلطة السياسية وعلاقتها بالمجتمع، ومن ثم طبيعة برنامجها الفعلي بالنسبة لآفاق التطور التاريخي. فقد شكل مبدأ المساواة المقيدة بالحق عبر الدفاع عن حقوق المستضعفين بوصفهم عماد الأمة وقاعدتها وقوتها الضرورية شهيق الحركة المختارية، تماما بالقدر الذي شكل مبدأ وزن علاقة الولاة بالمجتمع بميزان العهد المشترك زفيرها. الأمر الذي جعل من حياة الحركة مخاطرة محدقة بكل حيثيات وجودها، بسبب النوعية الجديدة لهذين المبدأين. كما سبق وان واجهه الإمام علي بن أبي طالب قبله بعقود قليلة. فقد تكالبت قوى "الأشراف" القديمة والجديدة بكل ما فيها من شراسة وانحطاط معنوي للصراع ضد مبدأ المساواة ووزن العلاقة بين الإمام والأمة (وليس بين الراعي والرعية) بمعايير العهد الأبدي للحق. وهي عبارة تفوح منها رائحة الميتافيزيقيا الخالدة للعقل النظري والعملي، أي للعقل الأخلاقي. من هنا تسرب الروائح النتنة للدس العقائدي والإيديولوجي على المختار بوصفها الصيغة المتممة لسب وشتم الإمام علي من على المنابر.
إننا نعثر في كل الصيغ المتنوعة للدس والاتهام وغيرها من أشكال التشويه المتعمد على الوجه الأيديولوجي للسلطة. ومن ثم يمكننا من خلالها رؤية الأبعاد الواقعية لحركة المختار ومبادئه التي أثارت أكثر من غيرها قلق السلطة وإيديولوجيتها "السنية" الرسمية. وليس مصادفة أن تجري محاولة الترويج لفكرة الطابع الغوغائي (عبر إبراز دور الموالي وطابعها الأعجمي) والكاذب (ادعاء النبوة) في شخصية المختار. إذ يعّبر هذا الترويج عن الوجه الدعائي والأيديولوجي المشوه للسلطة ضد مبدأ المساواة المقيدة بالحق عبر الدفاع عن حقوق المستضعفين ومبدأ وزن علاقة الولاة بالمجتمع بميزان العهد المشترك. وذلك لما في مبدأ العدل والمساواة من طاقة على صنع الحرية، ولما في مبدأ العهد المشترك من قواعد وأصول تقيد علاقة الإمام والأمة بعقد مشترك. بعبارة أخرى، إن مضمون الفكرة السياسية للمختار كان يقوم من حيث الجوهر في تأسيس وحدة الحرية والنظام من خلال إشراك المجتمع وقواه العامة في عقد مقيد بالقانون. وليس اعتباطا أن يكون تحرير العبيد من أولويات سياسة المختار، على الأقل ما يتعلق منه بعبيد أولئك الذين قاتلوا الحسين. ومع أنه فعل لم يكتمل، لكنه كان يحتوي في أعماقه على إشارة مقلوبة لكنها واقعية عن أن للحرية ثمنا. لكن تحرير العبيد الذي قام به المختار كان اقرب إلى "المصادرة" السياسية. ومن ثم كان يحتوي على "انتقام" و"ثأر" أخلاقي سياسي اجبر "أشراف" الأمس على تقديم "زكاة" بشرية و"أضحية" اجتماعية لتطهير النفس من "الشرف" المزيف، أي من حالة العيش بهيئة كيانات طفيلية. وهو "تطهير" لم يكن بإمكان الأشراف القيام به. من هنا انجازه من جانب المختار بالقوة والعنف. وفي هذا يكمن سر الخيال الخصب "للأشراف" والسلطة لاحقا للانتقام منها من خلال ابتداع صورة ملفقة عن كيفية استفادته من "فكرة" المغيرة بن شعبة المتعلقة بأسلوب استغلال العامة والجمهور. إذ تحكي لنا إحدى الروايات عن مسايرة المختار للمغيرة بن شعبة أيام ولايته الكوفة من جانب معاوية. وعندما وصلا إلى السوق، التفت المغيرة إلى المختار وقال له"
- يا لها من غارة ويا له جمعا! أني لأعلم كلمة لو نعق لها ناعق لاتبعوه ولاسيما الأعاجم الذين إذا ألقى إليهم الشيء قبلوه!
- وما هي يا عمّ؟!
- يستأدون بآل محمد!
بعبارة اخرى، ان المختار استعاد هنا "فكرة" المغيرة ومن ثم خزنها في ذاكرته بوصفه الدرس السياسي الأكبر الذي نعثر عليه في تاريخه اللاحق!! وهي حكاية جلية التلفيق، غير أن مضمونها الفعلي يقوم في تصويرها للمخاوف التي أثارها المختار في مبادئه السياسية. بمعنى استعماله شعار "يا لثارات الحسين" بوصفه الأسلوب الذي يمكن من خلاله بلوغ السيادة والسؤدد، وبالأخص حالما يجري ذلك بين الأعاجم!!
إننا نرى فيها مظهر العداء السياسي بوصفه الوجه الآخر لقوة الشعار السياسي وقواه الاجتماعية التي أسندت المختار. وهو إسناد صنع السيادة والسؤدد فيه، ولكن بوصفهما أساليب تحقيق الأفكار الجوهرية الكبرى التي أحجمت أيديولوجيا السلطات اللاحقة بالإشارة إليها، والمقصود بذلك فكرة التحرير والعقد الاجتماعي بين الإمام والأمة. وذلك لان استمالة "الأعاجم" (الموالي) والفئات الاجتماعية غير الطفيلية من فلاحين وحرفيين وعبيد من جانب المختار كانت مرتبطة بفكرة الثأر من الأشراف. فقد كان هذا الثأر يحتوي في أعماقه بالضرورة على فكرة التحرير. وذلك لان أدواته هي عين مواده. من هنا إعتاق المختار لأولئك العبيد الذي قتلوا أسيادهم ممن شارك في القتال ضد الحسين. لقد جعل للحرية ثمن. وهي خطوة روحية وعقلية واجتماعية وأخلاقية رفيعة. انه لم يعط حرية بلا ثمن. فالحرية ليست هبة تعطى فتؤخذ، بل هي أسلوب الوجود الفردي والاجتماعي للبشر. أما ضمن منظومته الفكرية السياسية العامة، فإنها كانت تتراكم بالضرورة بوصفها عناصر مكونة لمبدأ الدفاع عن المستضعفين. واقتران ذلك بمبدأ المساواة. من هنا تقسيمه للفيء على أساس المساواة. وبدأ بالقضاء على ملكية الأشراف للأرض.
مما سبق يتضح ما في منظومة المبادئ المذكورة أعلاه من رؤية سياسية جديدة تتعارض وتتضاد مع ما هو سائد آنذاك من نماذج الحكم في العراق (الزبيرية) والشام (الأموية). كما أنها تتميز بقدر من التماسك الداخلي من حيث جمع وترتيب الأفكار العامة والخاصة المتعلقة بنظام الحكم وطبيعة الشرعية وقواعد الحياة الاقتصادية والاجتماعية. وساهمت هذه الحصيلة في تأسيس نمط جديد للعلاقة بين المثقف والسلطة. ولم يكن هذا بدوره معزولا عن تراكم الوحدة الجريئة للعقل النظري والعملي.
فقد جسّد المختار في شخصيته الفكرية والسياسية نموذجا جديدا في تجاوز تقاليد الماضي. ويقوم فحواه في ارتقاء الفكرة إلى منظومة. بمعنى أن نشاطه السياسي لم يكن نتاج فكرة جزئية عقلية أو وجدانية، كما أنه لم يكن رد فعل عابر. من هنا سبب فاعليتها الباطنية والتاريخية العميقة، التي جعلت منها إحدى أهم المراحل التأسيسية لتاريخ الانتفاض والمواجهة والتحدي للأموية وسقوطها اللاحق. فقد استطاع للمرة الأولى في تاريخ الإسلام آنذاك، إعادة حركة التاريخ الروحي ولكن بمعايير الرؤية السياسية. وهو السبب الذي جعل تقاليد التسنن السلطوية اللاحقة تتهمه بفكرة البداء والغلو والنبوة الكاذبة.
فقد كان التسّنن في العراق (وليس العراق فقط) أيديولوجيا السلطة المرفوعة إلى مصاف العقيدة "الإسلامية". وليس تتابع السلطات عليه إلا لاحتوائه على تأسيس نظري "متجانس" لفكرة الاستبداد والقبول بها وتقديسها ورفعها إلى مصاف الفكرة الإسلامية وحقيقة الإسلام. فقد كانت غايته ترمي إلى إعلاء فكرة النظام على الحرية، واحتقار الفرد ووجدانه مقابل عز السلطان والجماعة. وهو تحوير وتحويل للفكرة الإسلامية الأولى، من خلال امتصاص "قدر" الله في قدرة السلطة، ومصادرة "أسماءه الحسنى" من اجل تحسين صورة الخلفاء والولاة والسلاطين! بينما اراد المختار قلب هذه المعادلة السياسية السيئة رأسا على عقب من خلال إرجاع التاريخ الروحي للإسلام إلى أنساقه الطبيعية بوصفها حركة سياسية اجتماعية محكومة بالعدل وغايتها مساواة البشر وحريتهم. ووضع هذه الفكرةا أيضا في أول خطبة له، التي وجدت فيها تقاليد التسّنن المتشددة اللاحقة نوعا من "السجع" الذي يحاكي "القرآن"!! ففيها نعثر على العبارة التالية "فكم من باغ وباغية وقتلى في الواعية، فهلّموا عباد الله إلى بيعة الهدى، ومجاهدة العدى. فإني أنا المسّلط على المحلّين، والطالب بثأر ابن بنت خاتم النبيين".
أما في الواقع، فإننا نقف أمام فكرة سياسية عملية مباشرة معبرة عن مضمون المنظومة التي تقدم بها المختار من اجل محاربة ومواجهة الأموية والزبيرية. بمعنى أسلوب المواجهة العراقية من اجل انتزاع كيانه المستقل بوصفه قاعدة أو أساس الاستعادة الروحية لحقيقة التاريخ السياسي الذي وضع أسسه الأولية الإمام علي بن أبي طالب. وهو احد الأسباب التي دفعت بالأموية والزبيرية ومرتزقتها إلى اصطناع مختلف الأكاذيب من اجل تشويه طبيعة العلاقة بالتيار الشيعي بوصفه تيار الصيرورة الروحية العربية الإسلامية للعراق. وقد جرى ذلك عبر مستويات وأشكال عديدة. منها ما يتعلق "باستحواذ" المختار على حب الناس لآل البيت، أو محاولة تقديم نفسه باعتباره الناطق العملي باسمهم، أو انه استعمل مختلف الحيل لكي يصل إلى غايته باسمهم. وقد تراكمت في مجرى عقود من الزمن كمية كبيرة من الأكاذيب، استمرت فيما يبدو حتى زمن جعفر الصادق. فهناك رواية كاذبة تقول، كيف أن البعض شاهد وسمع الإمام السجاد وهو واقف على باب الكعبة يلعن المختار. وان هناك رجل استفسر منه
- لم تسبه وقد ذبح فيكم؟
- انه كان كذابا!
ووجدت هذه الرواية فيما يبدو ردها غير المباشر في الحكاية التي تروي حادثة دخول شيخ من أهل الكوفة على الإمام الباقر، وأخذ يده ليقبلها فمنعه الباقر متسائلا:
- من أنت؟
- ابو الحكم بن المختار بن أبي عبيدة الثقفي.
- وما الذي حدث؟
- أصلحك الله أن الناس قد أكثروا في أبي القول، والقول قولك!
- وأي شيء يقولون؟
- يقولون "كذاب"! ولا تأمرني بشيء إلا قبلته!
- سبحان الله! أخبرني أبي (السجاد) أن مهر أمي مما بعث به المختار إليه! أو لم يبن دورنا؟ ويقتل قاتلنا؟ ويطلب بثأرنا؟ فرحم الله أباك! ما ترك لنا حقا عند أحد إلا طلبه.
إن هذه الرواية بدورها اقرب إلى الحبكة الأيديولوجية، لكنها واقعية من حيث تكثيفها للمخزون التاريخي المتعلق بشخصية المختار وموقفه من آل البيت. ووجدت هذه الفكرة تعبيرها في العبارة المنسوبة للباقر، التي يقول فيها "لا تسبوا المختار! فإنه قتل قتلتنا، وطلب ثأرنا، وزوج أراملنا، وقسم فينا المال على العسرة". إذ تكثّف هذه العبارة مواقف المختار في مجرى الانتفاضة العارمة ضد الأموية في العراق. فمن المعلوم عنه انه قرن الأخذ بالثار من قتلة الحسين بإرسال رؤوس الكبار منهم مثل رأس عبيد الله بن زياد (حاكم الكوفة والعراق) وعمر بن سعد (قائد جيشه) وآخرين إلى مكة والمدينة. كما تروي لنا الكتب المؤرخة لهذه الحوادث كيف أن الإمام علي بن الحسين حالما وصلت رؤوس قتلة أبيه سجد وقال "الحمد لله الذي أدرك لي ثأري من أعدائي، وجزى الله المختار خيرا". ويضيف اليعقوبي إلى هذا الكلام قول البعض، بأنه لم ير علي بن الحسين يوما قط ضاحكا منذ قتل أبوه إلا في ذلك اليوم. كما تنسب لمحمد بن الحنفية بهذا الصدد كلمات تقول "اللهم لا تنس هذا اليوم للمختار! واجْزِه عن أهل بيت نبيك محمد خير الجزاء.. فوالله ما على المختار بعد هذا مِن عتب". بل وتنسب إلى فاطمة بنت علي قولها "ما تخضبت امرأة من العلويات، ولا أجالت في عينيها مزودا، ولا ترجلت، حتى بعث المختار برأس عبيد الله بن زياد إلى المدينة". وهي رواية صدقها الإمام الصادق في معرض ثنائه على المختار، نقلا عن أبيه الباقر، عندما قال، بأنه ما امتشطت فينا هاشميّة ولا اختضبت حتى بعث إلينا المختار برؤوس الذين قتلوا الحسين. كما قام المختار حسب بعض الروايات بإرسال مبلغ عشرين ألف دينار إلى علي بن الحسين فقبلها، وبنى منها دار عقيل بن أبى طالب، ودارهم التي هدمت. كما أن هناك رواية تقول، بان المختار أرسل مع رؤوس قتلة الحسين مبلغ ثلاثين ألف دينار إلى محمد بن الحنفية.
إن مواقف المختار وموقعه من آل البيت هو جزء (جوهري) من عقيدته السياسية. لكنه يتميز، شأن كل شخصية تاريخية كبرى (مثقفة) بفردانية خاصة، تراكمت وفعلت من خلال معاناته تجسيد حقائق "المرجعية الأبدية" للروح. ومن ثم لم يكن انتمائه "للتشيع" نفيا لفردانيته الأصيلة. على العكس! انه وجد من خلاله أسلوب تحقيقها في وحدة العلم والعمل، وتجسيدها في نوعية وكمية معاناة الهموم الكبرى والصغرى للروح والجسد الفردي والاجتماعي، أي كل ما سيحصل لاحقا على تسمية المختارية. وترتسم هذه الملامح الدقيقة والعميقة لهذه الخصوصية حالما ننظر إليها بمعايير التاريخ السياسي والروحي.
بعبارة أخرى، إن حركة المختار تيار قائم بذاته، بوصفه حركة أو فرقة تلتقي بالكيسانية والكسائية من حيث الانتماء العام للتشيع وتيار المعارضة للسلطة الأموية. ومن ثم فهي جزء جوهري، بسبب طابعها التأسيسي وريادتها التاريخية فيما أسميته بنمو الفكرة القادرة على أن تصبح منظومة، والمنظومة القادرة على أن تنمو في تاريخ العقل النظري والعملي بوصفها السبيكة الحية لوحدة العقل والوجدان. وفي هذا يكمن سر اتهام المختار بالنبوة الكاذبة.
***



#ميثم_الجنابي (هاشتاغ)       Maythem_Al-janabi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العقيدة السياسية لفكرة الثأر الشامل في العراق (الماضي والحاض ...
- فردانية المعرفة الصوفية ووحدانية العارف
- كلمة الروح وروح الكلمة في الابداع الصوفي
- النادرة الصوفية
- فلسفة الجهاد والاجتهاد الإسلامية (5-5)
- فلسفة الجهاد والاجتهاد الإسلامية (4)
- فلسفة الجهاد والاجتهاد الإسلامية(3)
- فلسفة الجهاد والاجتهاد الإسلامية (2)
- فلسفة الجهاد والاجتهاد الإسلامية (1)
- مذكرات الحصري والذاكرة التاريخية السياسية
- بلاغة طه حسين وبلاغة الثقافة العربية
- شخصية طه حسين وإشكالية الاستلاب الثقافي!
- الولادة الثالثة لمصر ونهاية عصر المماليك والصعاليك!
- مصر والمنازلة التاريخية الكبرى
- الإرادة والإلهام في انتفاضة مصر
- حسني مبارك – شبح المقبرة المصرية!
- ياسمين الغضب التاريخي
- إسلام -فاشي- أم يسار فاشل؟
- الانقلاب التونسي ومشروع المستقبل
- الحوار المتمدن وقضية الاحتراف المعرفي


المزيد.....




- رحلة -ملك العملات المشفرة-، من -الملياردير الأسطورة- إلى مئة ...
- قتلى في هجوم إسرائيلي على حلب
- مجلس الشعب السوري يرفع الحصانة القانونية عن أحد نوابه تمهيدا ...
- تحذير عسكري إسرائيلي: إذا لم ينضم الحريديم للجيش فإن إسرائيل ...
- السفير الروسي ردا على بايدن: بوتين لم يطلق أي تصريحات مهينة ...
- بالفيديو.. صواريخ -حزب الله- اللبناني تضرب قوة عسكرية إسرائي ...
- وزير الدفاع الكندي يشكو من نفاد مخزون بلاده من الذخيرة بسبب ...
- مصر.. خطاب هام للرئيس السيسي بخصوص الفترة المقبلة يوم الثلاث ...
- -أضاف ابناً وهميا سعوديا-.. القضاء الكويتي يحكم بحبس مواطن 3 ...
- -تلغراف- تكشف وجود متطرفين يقاتلون إلى جانب قوات كييف وتفاصي ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - ميثم الجنابي - السياسة والروح في شخصية المختار الثقفي