أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - صدقي كبلو - أفكار حول السمات الأساسية للدستور الديمقراطي ‏















المزيد.....



أفكار حول السمات الأساسية للدستور الديمقراطي ‏


صدقي كبلو

الحوار المتمدن-العدد: 3467 - 2011 / 8 / 25 - 09:06
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
    


‏ أ- مفهوم السيادة وطريقة ممارستها
ينبغي إن ينص الدستور الديمقراطي على مبدأ السيادة للشعب، فمثلا يكون النص الدستوري في هذه الحالة "السودان جمهورية ‏ديمقراطية السيادة فيها للشعب" وهذا نص لا يعبر فقط عن مبدأ ديمقراطية الدولة وإنما يشكل أساسا لمبدأ علمانيتها أيضا، فمبدأ ‏السيادة للشعب يشكل من ناحية دستورية المقابل الديمقراطي والعلماني لكل أشكال السيادة القائمة على الحق الإلهي ‏Divine ‎Right‏ أو الحق الوراثي المطلق أو المقيد دستوريا في الأنظمة الملكية أو الديكتاتورية، فالنص لا بد إن يعلن بوضوح أن الشعب ‏هو مصدر السلطات والتشريع؛ وفي الحقيقة لا يكفي هذا النص لمنع قيام دولة سلطوية إذ لا بد من النص على كيفية ممارسة ‏الشعب لسيادته بشكل ديمقراطي وعلى أسس دستورية واضحة، حتى لا يدعي مدعي، كما فعل قادة انقلاب مايو (لقد نص الأمر ‏الجمهوري رقم "1" لنظام مايو في مادته الثانية "السودان جمهورية ديمقراطية السيادة فيها للشعب، وينوب عن الشعب لمباشرة ‏أعمال السيادة مجلس قيادة الثورة المكون حسب التقسيم الذي يعلن عنه فيا بعد" (انظر دكتور إبراهيم محمد حاج موسى: التجربة ‏الديمقراطية في السودان، مطابع الأهرام التجارية، 1970، ص 316) ، ممارسة السيادة نيابة عن الشعب بدون تفويض من ‏الشعب ذاته أو كما نصت المادة الثانية من الدستور الإنتقالي التي تقول "2ـ السيادة للشعب وتُمارسها الدولة طبقاً لنصوص هذا ‏الدستور والقانون دون إخلال بذاتية جنوب السودان والولايات." والتي أنها أفرغت المادة 4 (د) التي تنص على "(د) تُستمد ‏سلطة الحكم وصلاحياته من سيادة الشعب وإرادته التي تُمارس عن طريق الاستفتاء والانتخابات الحُرة المباشرة والدورية التي ‏تُجرى في اقتراع سري عام لمن بلغ السن التي يحددها القانون." من معناها ففي رأيي أن الشعب يمارس سيادته عن طريق ‏ممثليه الذين يختارهم في انتخابات دورية لمؤسسات دستورية يحدد الدستور واجباتها وصلاحياتها ودوراتها، كما يحدد بشكل ‏عام كيفية انتخابها بينما يترك للقانون تفاصيل ذلك. فما هي الأسس الدستورية التي تقوم عليها تلك المؤسسات والتي على أساسها ‏يمارس الشعب سيادته؟
‏ ب - السودان جمهورية برلمانية:‏
إن النص على إن السودان جمهورية برلمانية، ليس فقط انتصار لتوجه نظري يرى الجمهورية البرلمانية هي الأكثر ديمقراطية ‏وإنما صيانة وتجسيد للتراث الديمقراطي البسيط والمتواضع لبلادنا منذ الاستقلال، حيث ترتبط الديمقراطية في ذلك التراث ‏بالجمهورية البرلمانية وترتبط الديكتاتورية بالجمهورية الرئاسية ولنأخذ بعض الأمُثلة:‏
* الديمقراطية الأولى 1954-1958 حيث كان البرلمان يمارس الرقابة على الحكومة، واستطاع حجب الثقة عن حكومة ‏السيد إسماعيل الأزهري ثلاث مرات أستعاد الثقة في مرتين منها واستقال عندما لم يستطع استعادتها في المرة الثالثة وترك ‏رئاسة الوزارة لينتخب البرلمان السيد عبد الله خليل رئيسا للوزراء. وأعيد انتخاب عبد الرحمن خليل للمرة الثانية بعد الانتخابات ‏الثانية في 1958. ولكن السيد عبد الها خليل عندما لاح في الأفق إمكانية سحب الثقة عنه، تآمر على النظام البرلماني وسلم الحكم ‏للعسكريين.‏
* حكومة 17 نوفمبر 1958-1964: حيث خول المجلس الأعلى الفريق عبود كافة سلطاته منذ الاجتماع الأول وقنن ‏ذلك بعد انقلاب شنان الأول في 4 مارس 1959 فقد جاء في الأمر الدستوري الخامس ان المجلس الأعلى الذي أعيد تشكيله قد ‏ركز في الفريق عبود جميع السلطات ليمارسها منفردا مثل تعيين أعضاء المجلس الأعلى وإقالتهم وتعيين الوزراء وإقالتهم ‏ونقض أي قرار للمجلس الأعلى أو مجلس الوزراء، وإذا أضفنا إلى ذلك السلطات التي كانت للمجلس الأعلى في الأمر الدستوري ‏الأول قد خولها لرئيسه في اجتماعه الأول، نجد أن عبود قد اصبح السلطة الدستورية العليا في البلاد، والسلطة التشريعية ‏والتنفيذية والقضائية (والتي يمارسها عن طريق تعيين رئيس القضاء وقاضي القضاة) والقائد الأعلى للقوات المسلحة. وحتى بعد ‏قيام المجلس المركزي فان السلطات الرئيسية بقيت في يد الفريق عبود..‏
* الديمقراطية الثانية 1965 -1969 ولقد مارست الجمعية التأسيسية في الدورتين سلطاتها في انتخاب ومراقبة أعمال ‏الحكومة وحجب الثقة عن حكومة السيد محمد احمد محجوب الأولى وحكومة السيد الصادق المهدي الأولى وإجازة التشريعات ‏والميزانية العامة.‏
*‎ ‎فترة ديكتاتورية مايو 1969-1985 والتي يمكن تقسيمها لثلاث فترات:‏
‏1-‏ ‏1969-1971، وهي فترة ممارسة مجلس الثورة لسلطات السيادة بموجب الأمر الجمهوري الأول واشتراكه مع مجلس ‏الوزراء في عملية التشريع، والتي ظهرت فيها بوادر الديكتاتورية الفردية بتخويل المجلسين سلطاتهما للرئيس نميري الذي ‏اصبح رئيسا لهما معا بعد إقصاء السيد بابكر عوض الله من رئاسة مجلس الوزراء بعد تصريحاته الشهيرة في المانيا الشرقية في ‏نوفمبر 1969.‏
‏2-‏ ‏1971-1973، وهي الفترة التي ساد فيها الأمر الجمهوري الخامس، والذي جعل من نميري رئيسا للجمهورية واجري ‏استفتاء على ذلك وانتخب مجلس الشعب الأول الذي وضع الدستور الدائم. وقد شارك مجلس الشعب خلال هذه الفترة رئيس ‏الجمهورية سلطات التشريع وسلطات الرقابة على الحكومة بشكل شكلي.‏
‏3-‏ ‏1973-1985 وهي الفترة التي توضح بجلاء كيف أن النظام الرئاسي الجمهوري يقود وقد أدى فعلا إلى ديكتاتورية ‏الفرد الواحد، رغم انتخاب عدة مجالس شعب قومية وإقليمية، بل أن تجربة هذه الفترة أوضحت كيف أن النظام البرلماني (أو ‏شبه البرلماني) الذي أنشأته اتفاقية أديس أبابا في جنوب البلاد لم يستطع الصمود أمام تسلط الجمهورية الرئاسية التي تقنن حكم ‏الفرد المطلق الذي جاءت تعديلات الدستور في عام 1975 لتكريسه ولأي إغلاق أي ثغرة يمكن مقاومته عن طريقها بشكل ‏قانوني.‏
*‎ ‎فترة الديمقراطية الثالثة 1985-1989، وهي تنقسم لفترتين:‏
‏1-‏ الفترة الانتقالية أبريل 1985- يونيو 1986 والتي مارس فيها السلطة المجلس العسكري الانتقالي العالي ومجلس ‏الوزراء وفقا للدستور الانتقالي لعام 1985 وهو دستور قد وضع بعد تكوين المجلسين وبواسطة لجنة معينة من قبلهما. وقد كانت ‏السلطة التشريعية مشتركة بين المجلسين من ناحية شكلية بينما كانت من ناحية عملية مركزة في المجلس العسكري الانتقالي.‏
‏2-‏ فترة الجمعية التأسيسية: يونيو 1986- يونيو 1989 وهي فترة العودة للنظام البرلماني وفقا لدستور 1985 الانتقالي، ‏ورغم إن الجمعية قد مارست سلطات التشريع والرقابة على الحكومة مثلما حدث في الفترتين الديمقراطيتين الأولى والثانية، إلا ‏أن أداء الجمعية التأسيسية قد تميز بالضعف خلال هذه الفترة لغياب أعضائها عن الجلسات وانفضاض اجتماعاتها لعدم اكتمال ‏النصاب وتأخير تكوين لجانها، وضعف أداء الحكومة التي انتخبتها والتي هي في الحقيقة اكثر من حكومة رغم عدم تغيير رئيس ‏الوزراء. وهناك أكثر من سبب لضعف البرلمانية الثالثة: طول فترة الدكتاتورية الثانية (16 عاما) وإنهاكها للقوى السياسية بحيث ‏خرجت الأحزاب جميعها ضعيفة عدا حزب الجبهة القومية الإسلامية الذي استفاد من فترة تحالفه مع نميري وارتباطه ‏بالمؤسسات المالية الإسلامية والرأسمالية الطفيلية، كما أن فترة مايو قد أحدثت تغييرا كبيرا في التركيب الاجتماعي ونمت خلالها ‏الرأسمالية السودانية كطبقة دون أن تستطيع أن تنتج كوادر سياسية جديدة تعبر عنها أو تدفعها إما لقيادة الأحزاب التي كانت ‏تاريخيا تعبر عنها أو تنشئ حزبا جديدا يعبر عن مصالحها وقد انعكس ذلك في الصراع الحامي حول من يقودها من تياراتها ‏المختلفة، وقد كان لقصر الفترة الانتقالية أثرا واضحا على أداء الأحزاب السياسية خلال الانتخابات العامة، ولعب المجلس ‏العسكري دورا كبيرا في أن تتم الانتخابات على عجل ووفقا لقانون وتقسيم للدوائر انعكست أثارهما على نتائج الانتخابات سلبا ‏مما أدى لانتخاب جمعية ضعيفة، كذلك أدى استمرار الحرب لعدم تمثيل الإقليم الجنوبي تمثيلا حقيقيا. ‏
أما من ناحية النصوص الدستورية فخلافا لفترة حكم عبود، فيمكن في الحقيقة المقارنة بين دستور السودان المؤقت لعام 1956 ‏بتعديلاته المختلفة (خاصة في عامي 1964 و 1985) وبين دستور السودان الدائم لعام 1973 (وتعديله الشهير في عام 1975)، إذ ‏ان الدستورين يمثلان شكلين مختلفين : الجمهورية البرلمانية والجمهورية الرئاسية.‏
ولعل أهم اختلاف هو بين تركيز السلطات وتوزيعها أو تقسيمها، مما يصل إلى حد ان يكون ماسا بنظرية فصل السلطات ‏الضرورية لأي نظام ديمقراطي. الجمهورية الرئاسية وفقا لدستور 1973 تكاد أن تجمع السلطات جميعها في يد رئيس ‏الجمهورية، فهو ليس رمزا للسيادة فقط كما هو الحال في الجمهورية البرلمانية، بل هو عماد وراس السلطة التنفيذية، وجزء لا ‏يتجزأ من السلطة التشريعية (المادة 80 من الدستور الدائم لسنة 1973 المعدل 1975)، وراس السلطة القضائية الذي لا يجلس في ‏المحاكم! فهو يعين ويفصل رئيس وقضاة المحكمة العليا ومحاكم الاستئناف و المحاكم الأخرى (المادة 188 من الدستور الدائم) ‏وهو الذي يمنح العفو ويصدق على الأحكام (المادة 104 من الدستور الدائم) وهو الذي يعلن الحرب بموافقة مجلس الشعب ‏ويرسل القوات المسلحة السودانية في مهمات خارج الوطن إذا ما اقتضت المصلحة الوطنية ذلك (المادة 105)، ومجلس الشعب ‏‏(البرلمان) لا يمارس أي سلطة حقيقية تجاه سلطات رئيس الجمهورية الذي يشاركه التشريع، إذ انه لا يستطيع إلا إن ينصح ‏رئيس الجمهورية بطرح جانب من سياساته لاستفتاء عام على شرط إن يكون ذلك بأغلبية ثلثي أعضاء المجلس (المادة 109) وفي ‏حالات وجود رئيس للوزراء مع الرئيس (وهذه حالة اختيارية للرئيس وفقا للمادة 89 من الدستور الدائم) فمجلس الشعب يستطيع ‏إن يطلب من رئيس الجمهورية خلعه أو أي من وزرائه بأغلبية الثلثين (المادة 145)، بل إن هذه الأغلبية الكبيرة مطلوبة لإعادة ‏سن قانون اعترض عليه و أعاده رئيس الجمهورية للمجلس (107) ويستطيع رئيس الجمهورية حل المجلس قبل مواعيده ‏ويتطلب ذلك فقط التشاور مع رئيس المجلس.(المادة 108). إذن الجمهورية الرئاسية تعطي سلطات واسعة للرئيس ويمكن فعلا ‏أن تؤدي إلى الديكتاتورية المدنية.‏
تجربة دستور 1998 المسمى بالدائم
ودون التعرض لكيفية وضع وصياغة و إجازة دستور ‏‎ 1998‎وأنه دستور ناتج عن انقلاب عسكري غير شرعي أطاح بالحكومة ‏والدستور الديمقراطي، فإننا نجد أن دستور 1998 هو صورة أخرى لتجسيد سلطة الفرد. ولنقرأ معا المادة 43 من ذلك الدستور ‏لنرى سلطات رئيس الجمهورية:‏
‏"يمثل رئيس الجمهورية الحكم والسيادة العليا، يقوم قائدا أعلى لقوات الشعب المسلحة والشرطة والقوات النظامية الأخرى، ‏ويختص بصيانة أمن البلاد من الأخطار وحفظ عزتها ورسالتها، والإشراف على علافاتها الخارجية ويرعى سيرة القضاء والعدل ‏والأخلاق العامة ، ويرعى المؤسسات الدستورية ، ويعبئ نهضة الحياة العامة ، وله في ذلك الاختصاصات والسلطات وفق ‏أحكام الدستور والقانون:-‏
أ‌‏ تعيين شاغلي المناصب الدستورية ،
ب‌‏ رئاسة مجلس الوزراء ،
ت‌‏ إعلان الحرب وفق أحكام الدستور والقانون،
ث‌‏ إعلان حالة الطوارئ وفق أحكام الدستور والقانون ،
ج‌‏ حق ابتدار مشروعات التعديلات الدستورية والتشريعات القانونية والتوقيع عليها،
ح‌‏ التصديق على أحكام الإعدام قتلا ومنح العفو ورفع الإدانة أو العقوبة،
خ‌‏ تمثيل الدولة في علاقاتها الخارجية بالدول والمنظمات الدولية وتعيين السفراء من الدولة واعتماد السفراء ‏المبعوثين إليها،
د‌‏ التمثيل العام لسلطان الدولة وإرادة الشعب أمام الرأي العام وفي المناسبات العامة،
ذ‌‏ أي اختصاصات أخرى يحدده الدستور أو القانون."‏
وبذلك يكون دستور 1998 يقيم سلطة للفرد، ويقنن للديكتاتورية .‏
ورغم خصوصية دستور السودان الإنتقالي لعام 2005 والذي جاء نتيجة لإتفاقية نيفاشا فهو قد إحتفظ لرئيس الجمهورية بنفس ‏السلطات:‏
اختصاصات رئيس الجمهورية
‏58 ـ (1) رئيس الجمهورية هو رأس الدولة والحكومة ويمثل إرادة الشعب وسلطان الدولة, وله في ذلك ممارسة الاختصاصات ‏التي يمنحها هذا الدستور واتفاقية السلام الشامل, ومع عدم الإخلال بعموم ما تقدم يتولى المهام التالية:ـ ‏
‏(أ) يصون أمن البلاد ويحمي سلامتها،
‏(ب) يشرف علي المؤسسات الدستورية التنفيذية ويقدم نموذجاً للقيادة في الحياة العامة،
‏(ج) يعين شاغلي المناصب الدستورية والقضائية وفقاً لنصوص هذا الدستور والقانون.‏
‏(د) يرأس مجلس الوزراء القومي،
‏(هـ) يدعو الهيئة التشريعية القومية للانعقاد أو يؤجل انعقادها أو ينهي دورتها،
‏(و) يعلن الحرب وفقاً لنصوص هذا الدستور والقانون،
‏(ز) يعلن وينهي حالة الطوارئ وفقاً لنصوص هذا الدستور والقانون،
‏(ح) يبتدر التعديلات الدستورية والتشريعات ويصادق على القوانين،
‏(ط) يصادق على أحكام الإعدام ويمنح العفو ويرفع الإدانة ويخفف العقوبة وفقاً لنصوص هذا للدستور والقانون القومي.‏
‏(ى) يمثل الدولة في علاقاتها الخارجية ويعين سفراء الدولة ويعتمد السفراء الأجانب،
‏(ك) يوجه السياسة الخارجية للدولة ويشرف عليها ويصادق على المعاهدات والاتفاقيات الدولية بموافقة الهيئة التشريعية ‏القومية،
‏(ل) ينشد رأي المحكمة الدستورية في أي مسألة تنشأ حول الدستور،
‏(م) أي مهام أخري يحددها هذا الدستور أو القانون. ‏
صحيح أن الدستور قيد بعض الممارسات بموافقة نائبه الأول، ولكن ذلك القيد ينتفي بعد 9 يوليو 2011 بعد نهاية الفترة ‏الإنتقالية.‏
إن النظام الرئاسي الذي نتخذه هو نظام يقود للديكتاتورية المدنية ويركز السلطات في شخص واحد وتشهد بذلك كل تجاربنا في ‏الجمهورية الرئاسية وتجارب البلدان النامية في أفريقيا(زامبيا كاوندا، كونغو موبوتو، صومال زياد بري، كينيا منياتا، زمبابوي ‏الحالية، وغينيا سيكوتوري، وغيرها) والدول العربية (تونس، مصر، الجزائر، سوريا، اليمن، العراق تحت صدام وعارف ‏وقاسم) وأمريكا اللاتينية .‏
وهذه أنظمة تختلف عن كل الأنظمة الرئاسية الديمقراطية كالنظام الأمريكي والفرنسي، واللذين نتحفظ على صلاحيتهما للسودان ‏كما نوضح فيما يلي. ‏
النمط الأمريكي للجمهورية الرئاسية
أن دعاة الجمهورية الرئاسية يتحدثون دائماً عن النمط الأمريكي وينسون أن النظام الرئاسي الأمريكي يلعب فيه المجلسان (مجلس ‏النواب ومجلس الشيوخ والأخير على وجه التحديد) دوراً كبيراً ولولا استقرار هيمنة الرأسمالية الأمريكية وهجمنتها (1) لتفجرت ‏الأزمات السياسية في النظام الأمريكي بشكل أعمق من أي نظام برلماني في العالم ذلك أن النظام الأمريكي قد يصل إلى طريق ‏مقفول اذا ما احتدم الخلاف بين الرئيس ومجلس الشيوخ، كما حدث في نهاية عام 1995 وبداية عام 1996 النظام الأمريكي ‏الدستوري لا يقدم حلاً للاختلاف بين الرئيس والمجلسين . مجلس الشيوخ مثلاً لابد أن يوافق على كل التعيينات للمناصب ‏الدستورية العليا (عدا منصب الرئيس ونائبه) التي يقوم بها الرئيس فمن ناحية نظرية يمكن للولايات المتحدة الأمريكية أن تقضي ‏وقتاً طويلاً بدون وزير دفاع أو رئيس قضاء اذا ما رفض المجلسان تعيين مرشحي الرئيس للمنصبين، بل أن الرئيس محتاج كل ‏مرة يقدم فيها قانوناً جديداً لبذل مجهود ضخم لإقناع المجلسين، إذ أنه بدون ذلك المجهود قد لا يوافق المجلسان على مشروع ‏القانون المقترح من الرئيس وقد أوضحت أزمة الميزانية في نهاية عام 1966 وبداية عام 1997 أن دولة كبيرة كالولايات المتحدة ‏يمكن أن تغلق مكاتب الحكومة الفيدرالية لأن مجلس الشيوخ رفض التصديق على القانون المالي المقدم من الرئيس . أن ما حدث ‏في الولايات المتحدة لا يمكن أن يحدث في نظام برلماني آخر، أولاً لأن النظام البرلماني يضمن أن حزب الأغلبية هو الذي يشّكل ‏الحكومة ، بينما النظام الأمريكي قد يأتي برئيس لا يتمتع حزبه بالأغلبية في أحد المجلسين أو في كليهما. وبما أنه في النظام ‏البرلماني اذا قرر النواب أن لا يمرروا قانوناً مقدماً من قبل الحكومة فإن ذلك يعني حجب الثقة وضرورة استقالة الحكومة أو حل ‏البرلمان والرجوع للناخبين لانتخاب برلمان جديد . لقد كانت الحرب الباردة تحفظ تناقضات الرأسمالية الأمريكية في حدود دنيا ‏ولكن بغياب الخطر الخارجي فإن هذه التناقضات قد تتأزم مثلما حدث في أزمة الميزانية المشار إليها سابقاً.‏
النمط الفرنسي للجمهورية الرئاسية
ويقترح علينا بعض الناس أن نتبنى نظاماً أشبه بالجمهورية الفرنسية الخامسة التي نشأت عام 1958، عقب أزمة شبيهة بأزمة ‏عدم الاستقرار التي تواجه السودان، ولكن ذلك مجرد تشابه وليس تطابق، فجوهر الأزمتين مختلق تماما، فبينما أزمة السودان ‏هي نتيجة لعدم اكتمال التحول من نظام اقتصاد كولنيالي قائم على مفصلة جامدة للأنماط قبل الرأسمالية والنمط الرأسمالي ‏المتطور والنامي، فالأزمة في فرنسا كانت تحدي للنمط الرأسمالي من قبل قوى تدعو للتحول الاشتراكي في فرنسا بعد الحرب ‏العالمية، وتحدي آخر من قبل قوى التحرر الوطني التي تسعى لتصفية النظام الكولنيالي الفرنسي خاصة في شكله الاستيطاني، ‏وكانت الجمهورية الفرنسية الخامسة، التي بنيت على أساس عودة الجنرال ديجول للحكم فيما وصفها ميتران حينذاك بأنها انقلاب ‏على نمط انقلاب لويس نابليون بون بارت في عام 1851 الذي أطاح بالجمهورية الثانية، كانت تلك الجمهورية الخامسة هي ‏الإعلان الرسمي بهزيمة برنامج التحول الاشتراكي وتصفية المستعمرات الفرنسية في نفس الوقت.‏
ورغم أن دستور الجمهورية الخامسة قد فصل على مقياس الجنرال ديجول ليؤدي المهام التي أوكلتها له الطبقة الرأسمالية ‏السائدة ‏ إلا أنه حمل في نصوصه سمات كثيرة من الموروث الدستوري الفرنسي، الملكي، البرلماني والرئاسي. ومن الضروري ‏لمن يريد أن يقلد الدستور الفرنسي للجمهورية الخامسة أن يقلد هذه السمة الهامة: الارتكاز على الموروث الدستوري للسودان.‏
ولعل أحد أهم سمات الجمهورية الخامسة أن نهوضها أو إنشائها لم يكن مثل مثيلاتها السابقات (ومثل إقامة الأنظمة الديمقراطية ‏في السودان) أي نتيجة لإسقاط نظام متسلط، فالجمهورية الأولى كانت نتيجة لإسقاط النظام الملكي التقليدي المطلق (1792)، ‏بينما الجمهورية الثانية كانت نتيجة لثورة 1848 وإسقاط النظام الملكي المعروف بنظام يوليو أو ملكية يوليو (أنظر سرفان ‏‏1998 ص 13)، وقد كانت الجمهورية الثالثة نتيجة مباشرة للهزائم العسكرية لنابليون الثالث والهزيمة الدموية لكميونة باريس، ‏وكانت الجمهورية الرابعة لاستبدال نظام فيشي المتعاون والمستسلم للفاشية وهي الجمهورية التي نشأت بعد تحرير فرنسا بقيادة ‏ديجول نفسه. بينما الجمهورية الخامسة نشأت في أحضان الجمهورية الرابعة ومثلت انتقال سلمي وتغيير للدستور عبر استفتاء ‏شعبي في جو ديمقراطي تسود فيه الحريات العامة وحكم القانون وتوجد فيه الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني ‏المختلفة. وهذا وضع مختلف تماما عما نحن بصدده الآن: استعادة الديمقراطية. فلنستعيد الديمقراطية البرلمانية أولا ثم تتناقش ‏حول أشكالها في جو ديمقراطي. ‏
أن الجمهورية الخامسة الفرنسية بنظامها الرئاسي قد واجهت زمناً قاسياً عند استقالة الجنرال ديجول وأزمة 1968 الشهيرة بل أن ‏النظام الرئاسي الفرنسي لم يخل من الأزمات منذ نشأة الجمهورية الخامسة، فميتران حكم عدة مرات بينما الحكومة المنتخبة من ‏البرلمان معادية له، مما جعل من رئاسته رئاسة عاجزة عن تحقيق برنامجها ويمكن فعلاً أن تواجه الجمهورية الفرنسية مشاكل ‏عدم استقرار كما حدث قبل حل البرلمان وإجراء الانتخابات في عام 1998 عندما بدأت النقابات حركات احتجاج نسبة لاعتراضها ‏على سياسة الحكومة اليمينية، رغم وجود ديستان رئيساً للجمهورية وكانت النتيجة انتخابات جديدة أتت بحكومة من حزب غير ‏حزب رئيس الجمهورية بل حكومة اشتراكية وليتخيل الشخص السيد الصادق المهدي رئيس لجمهورية وحكومتها يرأسها ‏الشريف زين العابدين أو السيد سيد احمد الحسين مثلاً فهل سيكون هناك استقرار سياسي؟ ‏
النظام البرلماني في أوربا
وفي المقابل نجد استقرار أكبر في النظامين البرلمانيين في بريطانيا وألمانيا، بل ومعظم الدول الصناعية الرأسمالية المتقدمة عدا ‏إيطاليا ما بعد الحرب والتي لعبت المافيا وتدخل المخابرات الأمريكية في سياساتها الداخلية وعدم قدرة الرأسمالية كطبقة على ‏بسط (هجمنتها) دوراً في عدم الاستقرار السياسي.‏
والنظام الديمقراطي البريطاني رغم وجود الملكية وعدم وجود دستور مكتوب، فهو نظام قائم على سيادة البرلمان ‏Parliament ‎is sovereign)‎‏) والتي تعني ببساطة أن قرارات البرلمان هي ممارسة السيادة وهي قانونا ملزمة حتى ولو تعارضت مع ‏قرارات سابقة للبرلمان أو القانون العام. وبالطبع هذا مختلف عن تراثنا الدستوري، رغم ترديد العامة والساسة في بلادنا ‏لديمقراطيتنا كديمقراطية ويست منستر، فالبرلمان عندنا محكوم بالدستور ولا يستطيع أن يشرع أي قوانين مخالفة للدستور إلا ‏بعد تعديله، بل أن التعديل نفسه يجب ان يتم وفقا لما ينص عليه الدستور. ومثل حالنا معظم الدول التي لها دساتير مكتوبة وبها ‏اما محاكم دستورية (مثل مجلس الدستور في فرنسا الذي يشكل من تسعة أعضاء بموجب المادة 56 من الدستور الفرنسي، ‏ويتجدد ثلث الأعضاء كل ثلاث سنوات) أو المحكمة العليا كما هو الحال في الولايات المتحدة.‏
أنظمة الحكم قي العالم الثالث
وإذا نظرنا لبلدان العالم الثالث فإننا نجد أن معظمها يواجه مشاكل الجمهورية الرئاسية وتتقلص فيها الديمقراطية والحقوق ‏الأساسية، ولعل خير مثال ما يحدث في كينيا منذ الاستقلال والذي انتهى بها إلى حكم ديكتاتوري مدني. وعلى العكس من ذلك ‏نجد أكبر ديمقراطية في العالم، توجد في العالم الثالث وهي جمهورية الهند، حيث الديمقراطية البرلمانية تعيش لأكثر من نصف ‏قرن وتمثل الإطار المؤسسي الذي تحاول الهند عن طريقها حل مشاكلها السياسية والاقتصادية والدينية والقومية.‏
الديمقراطية والشكل الدستوري
‏ والمسالة ليست مسألة شكلية دستورية وإنما تتعلق بقضية ممارسة الشعب للسيادة من ناحية ومسالة وضع سلمية الصراع ‏الطبقي والاجتماعي والسياسي في البلاد من ناحية ثانية، ومسألة إرساء القيم والمثل الديمقراطية التي تساعد في تحقيق إنسانية ‏الإنسان من ناحية ثالثة. لذا يصبح نضال السودانيين من أجل جمهورية برلمانية أحد أهم عناصر نضالهم من أجل الديمقراطية.‏
أن الحديث عن عدم الاستقرار السياسي في فترات الديمقراطية الثلاثة يتجاهل السبب الرئيس وهو عدم قدرة النادي الحاكم في ‏السودان على بسط هجمنته، (والهجمنة تعبير نستعمله للتعبير عن الهيمنة المرتبطة بالمشروعية المقرونة بالقبول من قبل ‏الجماهير والبرنامج الذي يحقق المصالح المشتركة إلى جانب المصلحة الفئوية للقيادة) على مجمل الشعب. وعملية بسط الهجمنة ‏كما اوضحها غرامشي ‏ ولاكلاو ‏ وهابرماس ( والاخير اسماها المشروعية) عملية معقدة تشمل خطاب السياسي والثقافي ‏والاجتماعي والاقتصادي والبرامج العملية التي يعبر عنها ذلك الخطاب وقدرة المجموعات الحاكمة على التعبير عن نفسها ‏كممثل لكل الشعب والمسالة لا تتعلق "بتغبيش" الوعي أو الوعي الزائف بقدر ما تتعلق بالقدرة على التركيب والاستلاف ‏والتنازلات والمساومات الاجتماعية. وعلى وضع قوانين للعبة يقبل بها الجميع بينما هي تعيد إنتاج التشكيلة الاقتصادية ‏الاجتماعية لصالح الفئة أو مجموعة الفئات أو الطبقة أو الطبقات الحاكمة.‏
ولو ترجمنا هذا لما حدث في السودان منذ الاستقلال فإننا نجد المجموعات الحاكمة قد فشلت في وضع وتطبيق برنامج سياسي ‏واجتماعي واقتصادي يتناول ويقدم الحلول لمشاكل ما بعد الاستقلال في التنمية المتوازنة وفي تقسيم السلطة والثروة بشكل ‏يراعي التعدد الإثني والقومي والتفاوت الإقليمي وبشكل يحفز الجميع للإسهام في الإنتاج المادي والثقافي وبتقديم الخطاب الذي ‏يوحد الجماهير ويلهمها ويعطيها أملاً في المستقبل وفي قدرتها على ممارسة حقوقها السياسية والاجتماعية والاقتصادية وأهمها ‏حقها في اختيار وتغيير حكامها بما يعرف بالتداول السلمي للسلطة. ببساطة فشلت المجموعات الحاكمة في طرح وتنفيذ برنامج ‏للنهوض الوطني الديموقراطي للسودان كوطن ديموقراطي موحد بإرادة أهله وقرارهم . وفي تقديري هذا هو جوهر الأزمة ولا ‏يحلها شكل للحكم رئاسياً كان أو برلمانياً بدون برنامج واضح. وهذه لا يكون رمزها شخص واحد وإنما حركة نهوض قومي ‏شامل.‏
ج- الحقوق الأساسية وحق المواطنة
ولكن هذه الجمهورية البرلمانية لا تصبح ديمقراطية ولا يمكن للشعب فيها أن يصبح ممارسا للسيادة فيها ومصدرا للسلطات ‏وللقانون دون أن يكون ذلك الشعب يتمتع بحقوقه الأساسية خاصة الحقوق المدنية والسياسية. وفي هذا الصدد يصبح إعلان ‏نيروبي الذي وقعته الأحزاب السودانية والحركة الشعبية وتم التأكيد عليه في مقررات أسمرا عام 1995، وما تم التوصل له في ‏إتفاقية نيفاشا 2005 وإتفاقية القاهرة 2005 ودستور السودان المؤقت ل 2005 مرتكزا أساسيا لأي فصل حول الحقوق الأساسية ‏في الدستور. والمهم في هذه الوثائق انها جعلت من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواثيق الدولية جزء لا يتجزأ من الدستور ‏السوداني. وبالطبع هذا مهم لأنه بديل واضح للنصوص في الدساتير السودانية السابقة التي تقيد هذه الحقوق بإلحاق جملة ‘‘في ‏حدود القانون’’ أو أي نص آخر يعطي المشرع الحق في تقييد الحقوق الأساسية والمدنية. ‏
وترتكز هذه الحقوق جميعها على حق المواطنة والذي يتطلب النص بوضوح أن السودانيين متساوون أمام القانون ويتمتعون ‏بحقوق دستورية متساوية ولا ينبغي التفرقة بينهم على أساس اللون، أو العرق والأصل الاثني أو الدين أو الجنس (النوع ‏Gender‏) أو الانتماء الثقافي أو السياسي. والنص على وجه الخصوص على الحق المتساوي في التنافس على وشغل المناصب ‏الدستورية العامة والوظائف في الخدمة المدنية والعسكرية والقضاء والسلك الدبلوماسي. وعلى حق المجموعات العرقية ‏والقومية المتعددة في البلاد في تطوير ثقافاتها القومية ولغاتها، وحق أصحاب الديانات والمعتقدات في ممارسة شعائر دياناتهم ‏ومعتقداتهم على وجه لا يشكل اعتداء أو انتهاكا لحقوق الآخرين.‏
وترتكز هذه الحقوق جميعها على مبدأ الحرية الشخصية فلا يصح اعتقال شخص أو تحديد إقامته لفترة لا تزيد على 72 ساعة ‏بدون أمر قضائي، كما لا يجوز مصادرة أو حرمان أي شخص من حقوقه أو ممتلكاته إلا وفقا لقرار محكمة ذات اختصاص ‏وبموجب قانون ساري المفعول. ويتمتع الشخص في السودان بحرية الاعتقاد والضمير والتعبير، وبالحق في التنظيم والتجمع ‏والتظاهر والتصويت والترشيح والعمل والمساواة أمام القانون والتنافس على المناصب العامة. والحق في التقاضي واللجوء ‏للمحاكم لحماية حقوقه ولدرء الظلم عنه، والحق في الدفاع والاستعانة بمحامي وفي المحاكمة العادلة في حالة اتهامه بارتكاب ‏جريمة أو نشوب نزاع مدني بينه وجهة أخرى.‏
وخلافا للأحزاب الأخرى فنحن ندعو لتمتع المواطنين بحقوق اجتماعية واقتصادية كالحق في التعليم والرعاية الصحية والحق ‏في العمل وفي التقاعد وفي الأجر العادل والأجر المتساوي للعمل المتساوي. مما ينبغي أن يجعلنا نهتم أكثر مما هو عليه الآن ‏بالعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، و بالنضال من أجل أن تحترمه وتتقيد بنصوصه الدولة السودانية ومن أجل ‏تضمين مواده في دستور السودان الديمقراطي.‏
د- سيادة حكم القانون واستقلال القضاء والمبادئ العامة للعدالة
ولكي يتمتع السودانيون بحقوقهم المتساوية فلا بد من سيادة حكم القانون في البلاد، بمعنى أن الدولة والجماعات والأفراد ‏والأشخاص الحقيقيون والمعنيون يخضعون دائما وجميعهم لحكم القانون، الذي ينظم الحقوق والواجبات والعلاقات بينهم جميعا ‏ويقوم القضاء المستقل بالإشراف على سيادة حكم القانون.‏
إن مفهوم استقلال القضاء يفقد معناه إذا لم يكن يشمل الاستقلال الإداري والمالي، وما لم تكن قرارات المحاكم ملزمة التنفيذ حتى ‏يتم إلغائها أو تعديلها من قبل محاكم أعلى في نفس النظام القضائي. وهذا يعني بالضبط أن يودع السودان بلا عودة عهود المحاكم ‏الاستثنائية وتقاليد رجعية القوانين، ويجب أن يسود مفهوم ألا يعتبر الفعل جريمة إذا لم يكن هناك قانون يجعل منه جريمة ‏لحظة حدوثه ولا عقاب بلا قانون.‏
وبما أن المحاكم تطبق القانون فإن وضع القوانين الجنائية والمدنية والقوانين الإدارية وكافة القوانين التي تنظم حياة الناس، هو ‏الخطوة الأولى في وضع أسس العدالة ولا بد أن تنسجم القوانين مع الأسس الدستورية التي تصون الحقوق الأساسية للناس، ولا ‏بد هنا على النص الواضح بحق أي شخص حقيقي أو معنوي في اللجوء للقضاء لحماية حقوقه الدستورية من تغول السلطة ‏التنفيذية السياسية أو الإدارية والسلطة التشريعية أو أي فرد أو جماعة تعتدي على الحقوق الأساسية التي ينص عليها الدستور. ‏ولا بد أن نستفيد من تجربة حل الحزب الشيوعي والنزاع القضائي حولها بالنص بوضوح أن قرارات المحاكم ليست تقريرية ‏وإنما ملزمة التنفيذ وأن جهاز الدولة ملزم بتنفيذ قرارات المحاكم.‏
وإذا كانت حماية الحقوق على المستوى القانوني والدستوري هو اختصاص أصيل للمحاكم، إلا انه مرتبط أيضا بأمن الناس ‏وبإجراءات حماية أرواح وممتلكات ونشاطات وحركة المواطنين في الدولة السودانية، وبإجراءات منع الجريمة ومعاقبة مرتكبي ‏الجرائم، ولهذا لابد من تنظيم العلاقة بين القضاء والنيابة العامة والمحامين والشرطة والسجون باعتبار انها أجهزة متكاملة في ‏تطبيق القانون. وبالطبع هنا تكمن الإشكالية التاريخية الناتجة من فصل السلطات حيث أجهزة السجون والشرطة، والنيابة العامة ‏خاضعة للسلطة التنفيذية، بينما القضاء والمحامون مستقلون عن السلطة التنفيذية. ولكن التراث القضائي والإداري في السودان ‏ما قبل نميري وسلطة الجبهة الإسلامية يمدنا بخبرات وتجارب واسعة، حيث خضوع الشرطة والسجون في تطبيق القانون ‏للأوامر والإذن القضائي، وخضوع السجون نفسها في حفظها للمنتظرين والسجناء للتفتيش القضائي، رغم وجود لائحة منفصلة ‏تحكم عمل السجون. ‏
ولعلنا من خلال تجاربنا الواسعة والغنية في سجون ومعتقلات السودان والتقائنا بالمسجونين والمنتظرين نستطيع الآن أن نقدم ‏مقترحات حول كيفية معاملة السجناء والمنتظرين في سجون السودان في سبيل إصلاح السجون وإزالة الظلم والمعاملة القاسية، ‏صحيح أن جزء كبيرا من ذلك قد يأتي في شكل مقترحات حول قانون السجون وقانون الإجراءات الجنائية، جزءا منها يأتي في ‏صلب لائحة السجون إلا أن هناك مسالتين لهما علاقة مباشرة بالحقوق الدستورية للمواطنين وهما فترة الانتظار للمحاكمة في ‏السجون وكيفية معاملة المنتظرين من جهة وعمل المساجين والمنتظرين في السجون من جهة أخرى. ‏
والمسألة الأولى المتعلقة بالمنتظرين، تشمل الاعتقال على ذمة التحقيق والحبس في انتظار المحاكمة، والمنتظر وفقا للأسس ‏الدستورية وأسس العدالة الطبيعية هو متهم وهو بذلك التعريف برئ حتى تثبت إدانته أمام محكمة ذات اختصاص وفقا لقانون ‏قائم لحظة ارتكاب الجريمة. وفي التقليد الدستوري في السودان فالشرطة يمكن أن تعتقل أي شخص على ذمة التحقيق لمدة ‏‎48‎‏ ‏ساعة، ثم تعرضه وفقا لقانون الإجراءات الجنائية لقاضي (أو وكيل نيابة) لتجديد حبسه على ذمة التحقيق إذا ما توفر شك معقول ‏بارتكابه لجريمة ما أو وجهت له تهمة بذلك ويمكن إطلاق سراحه بضمان في معظم الحالات، ومثل هؤلاء المتهمين إما يحفظوا ‏في مراكز ونقاط الشرطة أو ينقلوا إلى السجون، وفي كل من الحالتين فإن معاملتهم تخضع لمزاج ضابط الشرطة أو النفوذ ‏الاجتماعي والعلاقات الاجتماعية للمتهم. وأنا وغيري من المعتقلين السياسيين الذين جابوا سجون السودان شرقا وغربا قد لاحظنا ‏الظروف غير الإنسانية التي يعيشها هؤلاء المنتظرين في سجون السودان، خاصة في سجن كوبر. ويتعلق بهذه المسألة الفترة ‏التي يقضيها هؤلاء في الانتظار، فبعضهم قضى سنوات في انتظار المحكمة، بل أن بعضهم قضى أكثر من عام في انتظار ‏اكتمال التحقيق. إن كل هذا مخالف لأسس العدالة الطبيعية فهؤلاء الناس أبرياء في نظر القانون حتى تثبت إدانتهم. لذا من ‏الضروري النص بوضوح على كيفية معاملة المتهمين وأقصى فترة للتحقيق وأقصى فترة يمكن أن يقضيها الشخص في انتظار ‏المحاكمة وهو رهن الحبس، وذلك إما بالنص على وجوب إطلاق سراح الشخص بضمان بعد فترة معينة أو سقوط التهمة عنه. ‏صحيح أن مطلبنا بالمعاملة الإنسانية للمنتظرين سيكلف الدولة ولكن هذه تكلفة ضرورية للعدل بين الناس. ولكي لا تخضع هذه ‏المسالة لمساومة الإداريين والسياسيين ورجال السجون لا بد من جعل سلطة إصدار لائحة السجون فيما يتعلق بكيفية معاملة ‏المنتظرين في يد رئيس القضاء أو إخضاع إصدارها لموافقته ومراقبة الجهاز القضائي.‏
أما المسالة الثانية المتعلقة بكيفية معاملة المساجين وعملهم في السجون وتوقيع عقوبات على المساجين بواسطة إدارة السجن ‏فلابد أيضا من إعادة النظر فيها وتنظيمها ووضع أسسها وإجراءاتها بواسطة لجنة قضائية أو لجنة يرأسها قاضي محكمة عليا ‏وتمثل فيها إدارة السجون ومنظمات حقوق الإنسان ونقابة المحامين. إن المبدأ الأساسي هنا أن السجين يقضي فترة عقوبة قررتها ‏المحكمة وفقا للقانون ولا ينبغي أن يعاني أو يعاقب أكثر مما نص عليه القانون. وهنا تأتي مسالة عمل المساجين وضرورة إعادة ‏النظر في تنظيمه بحيث تصبح جزء من إعادة تأهيل المسجون وتدريبه، وبحيث توفر فيها كل إجراءات الأمن الصناعي ‏والوقائي (مثلا أحذية قفازات خاصة للعمل في الملاحات ونظرات وقائية للعمل في ورش الحدادة والنجارة الخ).‏
ولكن قضية العدل والعدالة ترتبط أيضا بسرعة وسهولة إجراءات المحاكم وهذه مسائل تتعلق بتوفير الإمكانيات البشرية والمادية ‏بما في ذلك المباني والكادر الكتابي المساعد وتحديث مكتبات القضاة وإدخال الكمبيوتر والتصنيف الإلكتروني للقضايا والسوابق ‏القضائية، وتدريب القضاء وتحسين وضعهم المعيشي والوظيفي.‏
المحاكمة العادلة
والعدالة ترتبط أيضا بمفهوم المحاكمة العادلة، والمحاكمة العادلة هي التي تتم وفقا لقانون قائم أمام القاضي الطبيعي والمحكمة ‏المختصة ووفقا للإجراءات القضائية والجنائية المتعارف عليها (لا محاكم استثنائية ولا إجراءات استثنائية ولا سريان لقانون بأثر ‏رجعي) ويعتبر فيها المتهم بريئا حتى تثبت إدانته دون أي شك معقول وفقا لأسس الإثبات المتعارف عليها ويتمتع فيها المتهم ‏بحقه في الدفاع عن نفسه وفي اختياره محاميا للدفاع عنه وواجب الدولة في توفير محامي له إذا لم يكن قادرا على تحمل نفقات ‏المحامي وأن يكفل للمتهم حق مقابلة محاميه دون تنصت وأن تكفل له حق حضور محاميه عند التحقيق معه وان تكفل المحكمة ‏للمتهم حق الاستئناف لمحكمة أعلى درجة. ومفهوم المحاكمة العادلة يجب أن يضمن عدم الاعتراف بالأدلة التي يتم الحصول ‏عليها بالإكراه أو التعذيب أو بطرق غير قانونية وأن عبء الإثبات يقع بكامله على المدعي وألا يجبر أي شخص على تقديم دليل ‏على نفسه. ‏
وكثير من هذه الأسس يجب أن ينص عليها في الدستور وألا تترك للقانون العام. فمثلا يجب النص في الدستور على مدة الاعتقال ‏رهن التحقيق والاشتباه وسلطة الشرطة في ذلك وسلطة النيابة والسلطة القضائية بحيث لا يمكن أن يحتجز شخص بدون أمر ‏النيابة لمدة تزيد عن الثماني وأربعين ساعة، وأن تتحدد الفترة القصوى التي يتم فيها الحبس رهن التحقيق بأمر قضائي والفترة ‏القصوى التي يقضيها الشخص في انتظار المحاكمة والنص على الحق في إطلاق السراح بضمان حتى تاريخ المحاكمة في ‏القضايا المدنية وبعض القضايا الجنائية التي يترك للقانون تفصيلها؛ بحيث يكون المبدأ العام هو تقليل فرص مصادرة الحرية ‏الشخصية لأي مواطن قبل إدانته بواسطة محكمة ذات اختصاص.‏
تحريم التعذيب
ويقود هذا إلى ضرورة تحريم التعذيب على مستوى الدستور وقد نص الدستور الإنتقالي لعام 2005 على ذلك في المادة 33 بقوله ‏‏" ـ لا يجوز إخضاع أحد للتعذيب أو معاملته على نحوٍ قاسٍ أو لا إنساني أو مُهين." غير أني أرى ضرورة النص بوضوح ‏بعدم سقوط تهم التعذيب وانتهاكات حقوق الإنسان وعدم إمكانية العفو عنها بقانون أو قرار من أي سلطة وعدم قبول تبرير ‏صدور فعل التعذيب لصدور أوامر عليا في دفاع أي متهم بقضية التعذيب. واعتبار أي قانون أو قرار يمنح الحصانة لأي ‏موظف عام عند ممارسته التعذيب أو أي فعل يؤدي لانتهاك حق إنساني ينص عليه الدستور بأنه قانون أو قرار غير دستوري. ‏وهذا يعني إعطاء حصانة لأي موظف عمومي أو ضابط أو فرد في جهاز عسكري يرفض تنفيذ أوامر بالتعذيب وانتهاك حقوق ‏الإنسان أو يرفض ارتكاب جرائم يحرمها القانون الدولي باعتبارها جرائم ضد البشرية.‏

حكم مركزي ام حكم فدرالي أم حكم إقليمي؟
لقد ظل الشيوعيون السودانيون يدعون لقيام نظام حكم مركزي يتمتع فيه الجنوب بالحكم الذاتي الإقليمي وتمتع فيه باقي أجزاء ‏الوطن بحكم محلي ديمقراطي واسع السلطات، ولم يتغير موقف الشيوعيين هذا منذ المؤتمر الثالث للحزب في فبراير 1956، ‏ومنذ ذلك الوقت كما يقولون جرت مياه كثيرة تحت الجسور، وتغيرت ظروف اجتماعية وسياسية في السودان، والشيوعيون ‏السودانيون المطالبون بإعادة النظر في موقفهم هذا، لم يقفلوا الطريق أمام تكور موقفهم فقد ىقالوا في بيان للجبهة المعادية ‏للإستعمار في 21 سبتمبر 1954 " كذلك نقر أنه ليست لدينا وجهة نظر محددة عن الموقف بين القوميات السودانية الأخرى في ‏الشمال والشرق إلا أنه مما يظهر لا توجد مشكلة حالية بالنسبة لها ولكننا من ناحية المبدأ لا ننكر أنه أنه إذا جاء وقت ولو كان ‏بعد الاستقلال بفترة طويلة واقتضت ظروف هذه القوميات نوعا معينا من الحكم الداخلي فيجب أن ينفذ." الصراحة في العدد 422 ‏الموافق 28 سبتمبر 1954 نقله الأستاذ محمد سليمان في كتابه "اليسار السوداني في عشرة أعوام" الذي صدر عن مكتبة الفجر ‏بودمدني صفحات 60-61. . والمسألة معقدة وينبغي أن تتم دراستها بموضوعية وتفصيل، فهي ليست قضية للمساومات المؤقتة ‏بين القوى السياسية، في نفس الوقت الذي لا يمكن فيه تجاهل موقف القوى السياسية المختلفة وخاصة القوى الإقليمية، ذلك أن ‏شكل الحكم في السودان هو من قضايا الديمقراطية والتي في النهاية يكون المرجع فيها للاختيار الحر للجماهير، ومهمتنا أن ‏نجعل ذلك الاختيار الحر واعيا بطرح الموقف والبرنامج الذين يعالجان قضيتين هامتين: ديمقراطية الحكم والتنمية في بلد تتعدد ‏فيه القوميات ويتفاوت فيه التطور الاقتصادي والاجتماعي. ‏
وفي الحقيقة فان هذين السمتين : التعددية القومية والتنمية غير المتوازنة يشكلان قطبين متناقضين فيما يتعلق بالعلاقة بين ‏المركزية واللامركزية، فبينما تدعو التعددية القومية والإثنية لأقصى درجات اللامركزية، فإن التنمية المتوازنة تتطلب لمعالجتها ‏درجة أعلى من المركزية تستهدف إعادة توزيع الموارد والاستثمارات والخدمات.‏
‏ ولنتناول القضية الأولى الخاصة بالتعددية القومية والثقافية، فالسودان من ناحية موضوعية تسكنه مجوعات قومية وإثنية ‏وثقافية متعددة تنتمي إلى ثلاث مجموعات أساسية زنجية وحامية وسامية تتحدث أكثر من مائة لغة وتسكن مناطق مختلفة في ‏التطور الاقتصادي والاجتماعي. ولكن السودان، المتعدد القوميات والثقافات هذا، ولظروف أسباب تاريخية متعلقة بالبنية ‏الاقتصادية الاجتماعية الموروثة من الاستعمار، ظل تحت سيطرة تحالف اجتماعي سياسي من أواسط السودان الشمالي ومن ‏أصل عربي إسلامي أو مستعرب مسلم، بينما وجدت المجموعات الاثنية والثقافية والدينية الأخرى بعيدة عن مركز السلطة ‏ومحرومة من نتائج توزيع الثروة والخدمات، بل أنها في بعض المناطق اضطرت لحمل السلاح للدفاع عن حقوقها.‏
‏ وبالطبع من السهل هنا اللجوء لعلم الديمغرافيا وتقسيم سكان السودان لمجموعات قومية ذات خصائص وثقافات متعددة، ولكن ‏هذا، رغم أهميته القصوى لفهم الواقع السوداني، يفقد معناه تماما إذا لم يرتبط بتطور الوعي القومي والإقليمي ونشوء الحركات ‏السياسية الإقليمية.‏
لقد بدأ الوعي الإقليمي بجنوب السودان لأسباب تاريخية محددة لا نحتاج لتكرارها، ولقد أدرك الشيوعيون السودانيون منذ مطلع ‏الخمسينات طبيعة الوضع الخاص لجنوب السودان واقترحوا لتلك الظروف الخاصة أن يتمتع جنوب السودان بحكم إقليمي ذاتي ‏وقد تبنى نظام مايو تلك المقترحات وعلى أساسها توصل لاتفاقية أديس أبابا التي منحت الإقليم الجنوبي حكما ذاتيا ولكن التجربة ‏فشلت خلال عشرة سنوات وذلك:‏
لأن الحكم الإقليمي الذاتي في جوهره حكم ديمقراطي لم يكن لينجح في ظروف الديكتاتورية التي كانت تحكم البلاد. ولعل أهم ‏سمات التناقض كانت أن الحكم الذاتي الإقليمي كان يتخذ النظام البرلماني وتعمل داخله تيارات تعبر عن تعددية حزبية بينما ‏النظام المايوي يعتمد الجمهورية الرئاسية والحزب الواحد.‏
لأن الحكم الإقليمي الذاتي كان من المفترض أن يمثل المدخل للتنمية المتوازنة ولإعادة تقسيم الثروة ولكن ذلك لم يحدث، و ‏أصبح عبأ جديدا على ميزانية الدولة وعلى جماهير الجنوب، ولم يؤد لتنمية الجنوب أو تطويره أو توسع الخدمات الاجتماعية ‏من صحة وتعليم به. بل حتى عندما أكتشف البترول بالإقليمي الجنوبي بدأت مخططات مايو لاستغلاله بدون تطوير الجنوب أو ‏إقامة منشآت به.‏
ظل نصيب الجنوبيين في سلطة الدولة المركزية ضعيف بطبيعتها الديكتاتورية وبطبيعتها الطبقية وتركيبتها الإثنية والإقليمية.‏
وجاء تقسيم الإقليم الجنوبي لثلاث أقاليم وإعلان الشريعة الإسلامية ليعبروا عن إستمرار سيطرة المجوعات الشمالية من أصل ‏عربي إسلامي على السلطة المركزية ومحاولتها لفرض أيديولوجيتها الدينية على بقية أهل السودان، وكانت تلك القشة التي ‏قصمت ظهر البعير فبدأت الحرب الأهلية من جديد.‏

وقد بدأت الحركات الإقليمية في جبال النوبة والبحر الأحمر منذ عام 1958 ولكنها ظهرت بشكل معروف ومؤثر بعد ثورة ‏أكتوبر ونال كل من اتحاد أبناء جبال النوبة ومؤتمر البجة عشرة دوائر في انتخابات 1965. ‏
وقد بدأت أول حركة إقليمية بدارفور كحركة سرية باسم سوني (اسم بحيرة بجبل مرة) ولكنها تحولت لمنظمة علنية بعد ثورة ‏أكتوبر باسم جبهة نهضة دارفور واختارت عدم خوض الانتخابات، رغم تدخلها كقوة ضاغطة مجبرة الأحزاب السياسية على أن ‏تختار مرشحيها من أبناء دارفور.‏
وتكونت أيضا بعد أكتوبر روابط إقليمية وقبلية كثيرة، ترفع مطالب أهلها حول تصفية الإدارة الأهلية وتحسين الخدمات مثل مياه ‏الشرب والخدمات الصحية والتعليمية وأستمرت كقوة ضغط فعالة حتى حلها نظام نميري.‏
ولكن منذ ثورة أكتوبر جرت متغيرات كثيرة، أهمها زيادة عدد المتعلمين من أبناء الأقاليم الأقل نموا والمهمشة، في وقت زاد فيه ‏التفاوت في مستوى تطور هذه الأقاليم لاستمرار سياسة تركيز الاستثمارات في المناطق الأكثر تطورا في أواسط السودان. وقد ‏أدى كل ذلك لنهوض حركات جديدة، بعضها يحمل السلاح تطالب بعدالة توزيع الثروة والسلطة.‏
وفي مثل هذه الظروف التاريخية، وبعد تجربة الحكم الإقليمي على أيام نميري والديمقراطية الثالثة وتجربة الحكم الفدرالي ‏الشائهة على أيام سلطة الجبهة، يصبح من الصعب بمكان الحديث عن شكل للحكم اللامركزي أقل مما تحقق لهذه الأقاليم.‏
ولكن وكما أثبتت فترتا حكم نميري والجبهة، أنه لا الحكم الإقليمي ولا الحكم الفدرالي (وهما في جوهرهما شكل واحد للحكم ‏تتباين فيه سلطات المركز والإقليم) قد حل مشكلة عدالة توزيع الثروة والسلطة وأن مجرد تبني هذا الشكل أو ذاك لا يحل ‏الأزمة، وبالتالي لا بد عند تبني أيهما أن يصاحب الشكل مجموعة من الإجراءات المركزية، التي تضمن إغلاق هوة التباين في ‏التطور الافتصادي وتوزيع الخدمات، من جهة ويضمن مشاركة حقيقية للمناطق المهمشة في السلطة المركزية وتحويل أي ‏سلطة إقليمية لسلطة ديمقراطية حقيقية.‏
الحكم المحلي كقاعدة للحكم الديمقراطي
لهذا يصبح من المهم النص في الدستور على أن الحكم الديمقراطي في السودان يقوم على قاعدة للحكم المحلي. صحيح أن تنظيم ‏الحكم المحلي وتقسيم دوائره هو مسألة تفصيلية تترك عادة للقانون. ولكن لا بد هنا من الاستفادة من تجربة السودان الطويلة في ‏الحكم المحلي التي تعود لعام 1937. وأرى أن نعود، حتى ولو بصفة مؤقتة، لتقسيم المديريات والمجالس المحلية والريفية القديمة ‏أو لشكل قريب منه بهدف تجميع الموارد واختصار التكلفة، مع زيادة عدد أعضاء المجالس البلدية والريفية لتمثيل قطاعات أوسع ‏من السكان، على أن تكون المديرية السابقة لعام 1970 هي وحدة الحكم الفدرالي أو الإقليمي، باستثناء منطقة جبال النوبة ومنطقة ‏جنوب النيل الأزرق وجبال الإنقسنا حيث يشكلان منطقتين دات حكم داتي ولاتالي تصبح الأقايم هي الخرطوم،الأوسط، ‏الشمالي، ىالشرقي، دارفور وكردفان.‏
نحو حكم فدرالي ديمقراطي
وانسجاما مع التحول الديمقراطي لابد من معالجة الأخطاء التي أدخلها نظام نميري حيث فصل المحافظين والحكام على شاكلة ‏رئيس الجمهورية وهو ما أستمر عليه نظام الجبهة عندما أنشأ الولايات بتفصيلها على أساس الجمهورية الرئاسية، فلا بد من قيام ‏أقاليم أو ولايات يسودها الحكم البرلماني المعروف، تتكون سلطتها من برلمان إقليمي منتخب انتخابا حرا مباشرا، ينتخب رئيس ‏للوزراء، ويقدم رئيس الوزراء سياسة حكومته الإقليمية ووزارته للبرلمان لنيل ثقته. وتتقسم الولايات لمحافظات التي تنقسم ‏لمجالس مدن ومجالس قرى، على أن تدار المحافظات ومجالس المدن والقرى بمجالس منتخبة يعمل أعضاؤها على أساس التطوع ‏مع ‏

تقسيم السلطات
لا شك أن تقسيم السلطات بين السلطة الاتحادية والأقاليم الفدرالية، يعتبر أحد أهم قضايا النزاع في السوداني. وليس العبرة ‏بإعطاء الأقاليم الفدرالية سلطات واسعة أو جعلها مسؤولة عن تقديم الخدمات لمواطنيها، فذلك تكتيك قديم اتبعه نميري من قبل ‏عندما أنشأ الحكم الاقليمي بهدف شغل الجماهير في المناطق المهمشة والتي بدأت تطالب بنصيب عادل في الخدمات ومشاريع ‏التنمية، توجه مطالبها لحكام أقاليمها وحكوماتهم بدلا من الحكومة المركزية. ولكن لا سلطة بدون موارد. لذا يجب الربط بين ‏تقسيم السلطات وتقسيم الموارد والثروة. ولكن في غير هذا يصبح تقسيم السلطات مسألة عادية تهتدي بتجارب البلدان الأخرى ‏وبالمفاوضات بين أطراف النزاع السوداني ويمكن اقتراح التالي:‏
السلطات الاتحادية:‏
‏1.‏ الحدود والمياه والأجواء الدولية.‏
‏2.‏ رسم حدود الأقاليم
‏3.‏ الدفاع والقوات المسلحة والشرطة والأمن
‏4.‏ ‏ الجنسية والجوازات والهجرة وشؤون الأجانب.‏
‏5.‏ العلاقات الخارجية
‏6.‏ نظم الانتخابات العامة للمؤسسات الدستورية الاتحادية والإقليمية والمحلية
‏7.‏ القضاء والمحاماة والنظم العدلية.‏
‏8.‏ العملة والسياسات المالية والنقدية والائتمانية والمصرفية.‏
‏9.‏ المواصفات والمقاييس والموازين والمكاييل والمواقيت.‏
‏10.‏ التجارة الخارجية والجمارك.‏
‏11.‏ القوانين المنظمة للمهن والحرف والتخصصات.‏
‏12.‏ التعليم العالي والجامعي بشقيه الفني والأكاديمي.‏
‏13.‏ الأراضي والموارد الطبيعية الاتحادية والثروات المعدنية والبترولية والثروات الطبيعية على سطح الأرض وفي ‏باطنها، والثروات في المياه الإقليمية السودانية وفي أعماق البحار.‏
‏14.‏ المياه العابرة والبحريات والأنهار.‏
‏15.‏ المشروعات القومية للكهرباء والطاقة والشبكات الناقلة لهما.‏
‏16.‏ المشروعات والهيئات والشركات القومية.‏
‏17.‏ النقل الاتحادي الجوي والطرق البرية والبحرية والنهرية العابرة والموانئ الجوية والبرية والمواصلات ‏والاتصالات العبرة الاتحادية.‏
‏18.‏ الآثار والمناطق الأثرية والوثائق القومية والمصنفات القومية الفنية والثقافية والتراثية وفقا لما يحدده القانون.‏
‏19.‏ مكافحة الأوبئة والكوارث الطبيعية.‏
‏20.‏ خطط التنمية الاقتصادية القومية.‏
‏21.‏ الموازنة العامة للاتحاد والموارد المالية للاتحاد وتخصيص أوجه صرفها.‏
السلطات الإقليمية ‏

‏1.‏ إدارة الإقليم وحفظ الأمن والنظام.‏
‏2.‏ التجارة والتموين.‏
‏3.‏ ميزانية وموارده المالية وتحديد أوجه صرفها.‏
‏4.‏ الأراضي والموارد الطبيعية الإقليمية والثروة الحيوانية والغابات.‏
‏5.‏ المياه والطاقة الكهربائية الإقليمية غير العابرة.‏
‏6.‏ التعليم العام.‏
‏7.‏ الصحة الوقائية والخدمات الصحية الأولية.‏
‏8.‏ طرق ووسائل النقل والمواصلات والاتصالات الإقليمية.‏
‏9.‏ وسائل الإعلام والثقافة الإقليمية بما في ذلك المتاحف ودور العرض السينمائي والمسارح.‏
‏10.‏ الحدائق العامة وأماكن الترفيه.‏
‏11.‏ الرياضة.‏
‏12.‏ تسجيل المواليد والوفيات ووثائق الزواج.‏

ولكن لأسباب الأزمة الاقتصادية وضعف موارد الدولة في الوقت الحاضر، لا بد أن تتحمل الدولة المركزية عبء تقديم بعض ‏الخدمات، على أن تعود هذه الخدمات للأقاليم عند تطور مواردها، وأنا أقترح أن توقع السلطات الاتحادية والإقليمية بروتوكولا ‏تقوم بموجبه الحكومة الاتحادية بتمويل وإدارة خدمات التعليم والصحة من المركز لفترة عشرة سنوات حتى يتم وضع أسس ‏حقيقية لموارد الأقاليم المالية وأن يكون هذا هو شكل الدعم المقدم من الحكومة المركزية في هذا الجانب، يقدم الدعم في شكل ‏خدمات مباشرة يقوم المركز بتحمل نفقاتها وهذا بديل للشكل الحالي الذي يذهب في شكل موارد مالية لا تصرف حقيقة في خدمة ‏المواطنين. ويكون الهدف الأساسي هو ردم الفجوة في تطور الخدمات بين مختلف الأقاليم السودانية بحيث تسلم هذه الخدمات ‏للأقاليم والمؤشرات الإقليمية تساوي المؤشر القومي أو تقاربه. ونعني بذلك مؤشرات مثل عدد الأماكن بالمدارس بالنسبة لعدد ‏الأطفال في سن التعليم، عدد المدرسين بالنسبة للتلاميذ، عدد الأطباء بالنسبة للسكان، عدد السرائر بالنسبة للسكان والأطباء إلى ‏غيرها من المؤشرات.‏

تقسيم الموارد والثروة
المهم في تفسيم الموارد والثروة ليس هو تقسيمها لتستفيد منها الطبقات والفئات المسيطرةعلى االثروة في الأقاليم والمركز، أي لا ‏تصبح القضية هي اقتسام مغانم بين السادة، وانما تقسيم للموارد على أساسيين: بين الاستهلاك الضروري والاستثمار الموسع في ‏الانتاج والخدمات، وتقسيم الفائض الاقتصادي بين الأقاليم الأقل نموا والأكثر نموا حتى نعالج مسألة النمو الاقتصادي غير ‏المتوازن في البلاد. وفي الحقيقة من الصعوبة معالجة المسألتين بنصوص دستورية، فالمسألتان لن تحلا حلا جذريا بمجرد تقسيم ‏الموارد بين المركز والاقاليم للآن كل من المركز والإقليم المعين قد يستخدما الموارد المتاحة لهما لغير متطلبات التنمية ‏الاقتصادية والاجتماعية. وهذا يجعل القضية هي قضية سلطة: من يحكم الإقليم أو المركز. ولثقتنا في النظام الديمقراطي فإننا ‏نترك ذلك للصراع السياسي والاجتماعي في نطاق التعددية والديمقراطية.‏
ورغم كل هذا نقترح صيغة لاقتسام الموارد فيما يلي:‏
أولا: الموارد الضريبية:‏
يكون للسلطات الاتحادية نسبة 60% من كل العائدات الضريبية بالسودان ويكون لكل إقليم نسبة 40% من العائدات الضريبية ‏المتولدة داخل الإقليم.‏
ثانيا:أرباح المؤسسات العامة والمشاريع والشركات الحكومية:‏
يكون لكل من السلطات الاتحادية السطات الإقليمية 40% من عائد ارباح المؤسسات الاتحادية والمشاريع والشركات الحكومية ‏ويخصص باقي ال20% من الأرباح للمؤسسات والمشاريع والشركات بهدف تطويرها وتنميتها وزيادة رأسمالها.‏
ثالثا:العائدات من استغلال الموارد الطبيعية كالبترول والغاز والمعادن والمناجم والمحاجر:‏
يكون لكل من السلطات الاتحادية والإقليمية 40% من العائدات ويخصص باقي ال 20% لتطوير الاستثمارات وزيادة رأس ‏المال.‏

خاتمة
هذه بعض الأفكار حول الدستور الديمقراطي علها تساهم في المناقشة حول الموضوع.



#صدقي_كبلو (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ملاحظات أولية عن الدروس المستفادة من الانتفاضة التونسية
- في الذكرى الثانية والتسعين لثورة أكتوبر: اللينينية ماركسية ا ...
- تحالف اليسار أم تحالف واسع من أجل الديمقراطية :إجابة على أسئ ...
- حول نظرية الثورة السودانية ( 2) الشيوعيون السودانيون وقضية ا ...
- حول نظرية الثورة السودانية (1) تجاربنا في صياغة البديل
- وداعاً مصطفى الشيخ ...وداعاً أيها الصديق العزيز .. وداعاً أي ...


المزيد.....




- السعودية.. ظهور معتمر -عملاق- في الحرم المكي يشعل تفاعلا
- على الخريطة.. دول ستصوم 30 يوما في رمضان وأخرى 29 قبل عيد ال ...
- -آخر نكتة-.. علاء مبارك يعلق على تبني وقف إطلاق النار بغزة ف ...
- مقتل وإصابة مدنيين وعسكريين بقصف إسرائيلي على ريف حلب شمال غ ...
- ما هي الآثار الجانبية للموز؟
- عارض مفاجئ قد يكون علامة مبكرة على الإصابة بالخرف
- ما الذي يمكن أن تفعله درجة واحدة من الاحترار؟
- باحث سياسي يوضح موقف موسكو من الحوار مع الولايات المتحدة بشأ ...
- محتجون يقاطعون بايدن: -يداك ملطختان بالدماء- (فيديو)
- الجيش البريطاني يطلق لحى عسكرييه بعد قرن من حظرها


المزيد.....

- كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل ... / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان / سيد صديق
- تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ ... / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- المثقف العضوي و الثورة / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- الناصرية فى الثورة المضادة / عادل العمري
- العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967 / عادل العمري
- المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال ... / منى أباظة
- لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية / مزن النّيل
- عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر / مجموعة النداء بالتغيير
- قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال ... / إلهامي الميرغني


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - صدقي كبلو - أفكار حول السمات الأساسية للدستور الديمقراطي ‏