أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد حامد السلامونى - عرض (الخبز اليومى) وإعادة تأسيس الواقعية ..















المزيد.....



عرض (الخبز اليومى) وإعادة تأسيس الواقعية ..


محمد حامد السلامونى

الحوار المتمدن-العدد: 3467 - 2011 / 8 / 25 - 09:08
المحور: الادب والفن
    


يختلف(مسرح الحياة اليومية) المعاصر عن(المسرح الواقعى)القديم، فى تقويض الأول لما كان ينبنى
عليه الثانى .. فإذا كان المسرح الواقعى يعد واحدا من المؤسسات المنتجة للحقيقة، فذلك يعنى أنـــــه
لم يزد عن كونه (جهاز سلطة) أوأحد أشكال الهيمنة الثقافية- التى تعمل الحقيقة فى إطارها ..
ويمكن القول بأن الميتافيزيقا التى وقع فيها ذلك المسرح تعود إلى أن تأسيسه لنفسه؛بوصفه(إنعكاسا)
للحقيقة (= حقيقة الواقع)، تماهى لديه مع مأسسة الحقيقة- أعنى أنه وقع فى المطابقة من ناحيتين :
أ – المطابقة بين نفسه (كجهاز أومؤسسة) وبين الحقيقة ذاتها ..
ب - المطابقة بين ما يقدمه وبين الواقع نفسه (فما يقدمه هو حقيقة الواقع) ..
أما مسرح الحياة اليومية فيسعى إلى تجاوز ذلك التأسيس عبر التالى :
أولا : تغيير النظام المؤسساتى لإنتاج الحقيقة- يقول (فوكو):[... القضية ليست أن نعتق الحقيقـة من
كل جهاز سلطة- هذا حلم مستحيل ، لأن الحقيقة هى نفسها سلطة- بل أن نفصل سلطة الحقيقـــة عن
أشكال الهيمنة (الإجتماعية والإقتصادية والثقافية) التى تعمل الحقيقة آنيا فى إطارها] (1) ..
أعنى بذلك أن مسرح الحياة اليومية يعى نفسه كفصل بين الحقيقة والمسرح(كجهاز سـلطة- ثقافى) .
ثانيا : تقويض الحقيقة ذاتها (أوتقويض الميتافيزيقا- بما هى الإدعاء بوجود ماهية خلف الوجــــــود
الظاهر) ..
وحول إعادة تأسيس الواقعية فى مسرح الحياة اليومية،عبر علاقته بالحقيقة،ستتمحور هذه الدراسة
، متخذة نموذجها التطبيقى من عرض (الخبز اليومى)- للمؤلفة الألمانية (جزين دانكفارت) ، ترجمـة
(فوزية حسين) ، إخراج (نورا أمين)- الذى قدم فى الجزويت بالأسكندرية ، بدعم من معهد جوته ..

سينوغرافيا
(المسرح والجراج) :
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
ضيق الحيز المكانى (المسرحى)، والتصاقه بأكثر من حيز آخر- عبر إلغاء المسافات الفاصلة بينها- فى
فضاء عام خانق ، يؤدى حتما إلى (محو التمركز الإنسانى فى ذات مستقلة).. ذلك لأن هناك ثمة إرتباط
عميق بين الصيغتين : (أين أنا ؟) و(من أنا ؟) ...
فالدلالات السينوغرافية- هنا- لا تصب فقط فى الزج بالإنسان نحو الذوبان ، بل تشى بوجــود إرادة ما
مهيمنة، مفارقة له ، تتسم بالغيبوية ، بقدر ما تستلبه وتخضعه فإنما تنتجه- وفقا لنموذج موحد .. لأن
[... الواقع الفعلى يمثل هنا فى وحدة الحسابات (الرياضية) التى تنقلها التصاميم] ، وكما يقول (عبــــد
السلام بنعبد العالى) : [فإن الإنسان ذاته يحشر فى هذه الوحدة والإنسجام] ، وينتج عن ذلك أن [(يمتد
الموجود فى غياب الإختلاف، ذلك الغياب الذى لايضمن ويضبط إلا عن طريق الفعالية والتنظيـــم الذى
يستجيب لمبدأ الإنتاجية، ورغم أن هذا المبدأ يظهر أنه يؤدى إلى نظام تراتب ،إلا أنه يقوم أساسا على
غياب كل تراتب ، حيث أن مرمى الإنتاج ليس إلا الفراغ الموحد)]، ثم يقول : [ يتجلى مما ســـــبق أن
ما يتمخض عن مبدأ الإنتاجية هو غياب الإختلاف . وأن التقنية تسعى نحو التطابق والإنسجام وتهـاب
التنوع والإختلاف . التقنية إذن شكل من أشكال الحقيقة ، وكيفية من الكيفيات التى يختفى فيها الوجود
اليوم ليظهر كمستودع . إنها الصورة التى أصبح فيها الوجود ذا طبيعة رياضية] (2) ..
إكتظاظ المكان المسرحى بالأشياء والبشر (كإنتاج منظم- خاضع للحسابات) ، يحوله إلى مســــــتودع-
ولعله لم يكن غريبا أن التقديم الأول لعرض (الخبز اليومى) فى الأسكندرية ، جاء فى (مسرح الجـراج)
؛ فدال (الجراج) يحيل إلى دال آخر هو (عصر التقنية)، على نحو ما أشرت سابقا . هذا ودال (الجــراج
- garage)، المستعار من اللغة الإنجليزية ، يعنى : بناية لتخزين المواتير والسيارات ، ومكان شـراء
البترول ، ومكان إصلاح السيارات- أى أنه (مستودع أومخزن- store) و(ورشة) .. تحويل مكان كهذا
إلى (مسرح)- كما يحدث فى المسرح الغربى الذى تشكل سينوغرافيا الجراجات حاضنة للعديــــــــد من
عروضه التجريبية- يعنى أن ثمة علاقة إستعارية متنامية بين الإنسان والآلة (السيارة تحديدا- بما هى
أداة اختصار المسافة- الزمن ؛ فمن خلالها تمت إعادة تعريفهما معا ، إنها الرمز الدال علــى الحضارة
التقنية الحديثة)؛ فوجود الإنسان تم اختزاله إلى(أداة وظيفية)، ومن ثم صار بالإمكان تفكيكه وإصلاحه
وإعادة تركيبه وشحنه (= إعادة إنتاجه)- إن الإنسان المودع أوالمحتفظ به فى (المســــتودع) يفـحص
نفسه ويعيد إصلاحها وتكييفها (آليا) !.. ومن ناحية أخرى يمثل العرض داخل الجراج عرضا للوجــود
برمته فى القلب من دلالته الرمزية؛ فالوجود المتحول إلى مستودع يلتحم بما يدل عليه(أى بالمستودع
نفسه)، هكذا، حائزا على إسمه الجديد (الذى هو معناه- فى عصر التقنية) ..
ربما كانت هذه بعض الدلالات التى تنطوى عليها (الإستعارة) المسرحية المتعلقة بالجراج- كمحــــاكاة
تهكمية (= باروديا) للوضع الإنسانى الحديث ..

الجسد والتقنية :
ـــــــــــــــــــــــــــ
[فى ظروف الحداثة العالية يصبح الجسد تدريجيا محورا مركزيا فى فهم الشخص الحداثى للهويـــــــة
الذاتية] ، كما يقول (كرس شلنج) ، ويقول : [أهمية الجسد ، تعود إلى أنه موردا شخصيا ورمــــــــزا
إجتماعيا يبعث برسائل عن هوية الشخص الذاتية] ويضيف، فى الحداثة العالية (أوالعليا) :[ثمة نزوع
عند الناس ... نحو إهابة قدر كبير من الأهمية للجسد أداة لتشكيل الذات] ف[ عند من فقد إيمانـــــــــه
بالسلطات الدينية والسرديات السياسية الكبرى ...لم تعد بنى المعنى المتجاوزة للشخص توفر له رؤية
واضحة للعالم أوالهوية الذاتية ]، ثم ينتهى إلى القول : و[بدا أن الجسد يوفر أساسا صلبا لإعادة بنـاء
معنى للعالم الحديث جدير بالثقة](3)..الملاحظة الخاصة هنا بإنتاج معنى جسدانى للعالم الحديث- بديلا
عن المعانى التى تضمنتها السرديات الكبرى- يؤكد عليه الكثيرون ، وعلى رأسهم (فوكو وجوفمــــان
وتيرنر ...) ، أما الزعم بأن هذا المعنى (جدير بالثقة) ، فهو تعميم لاسند له ، لا سيما أنه يتناقض مع
ما ذهب إليه الرواد السابق ذكرهم ، من أن [الجسد مستقبل ، عوضا عن أن يكون منتجـــــــا للدلالات
الإجتماعية] ، أى أن الجسد [مشكل بطريقة ما ، ومقيد بل ومختلق من قبل المجتمع](4) ، وهــــو ما
شدد عليه (شلنج) نفسه ، هذا فضلا عن أن الشواهد الناجمة عن معاينة الواقع الفعلى ، إلــــى جانب
الإستبصارات الأدبية والفنية (وهو ما يعنينا هنا) ، تفضى إلى أن(الجدير بالثقة : أى الذى لا شك فيه
، الراسخ ، المستقر ، المطمئن) ، ذهب إلى غير رجعة ، مع ذهاب اليقين المؤسس له ..
(1)
قام (السينوغراف- على غريب) بتوزيع العرض على ست مساحات ثابتة لا تتمدد ؛ مسطحات صغيرة
، (مربعة) ، متراصة أفقيا ورأسيا- كالزنزانات تماما- (هى نفسها مساحات الإرادة التى تمتلكهـــــــــا
الشخصيات)- أى أنهم لا يخرجون من ذواتهم الصغيرة ، لأنه ليس لديهم ما يخرجون إليه !..
هكذا ، فى إستعارة للنظام المعمارى الحديث الذى يتخذ شكل العلب المتراصة ، وترتد أصوله- حســب
(فوكو)- إلى نظام المؤسسات العقابية (داخل السجون) ؛ ليتسنى [مراقبتها باستمرار من خلال أجهزة
مراقبة مركزية]،أى أنه تم تعميمه بعد ذلك على المؤسسات الإجتماعية الأخرى، و[لقد أمن هذا سياقا
يمكن عبره إحكام الرقابة على قطاعات أوسع من المجتمع ] (5) ..
هذا والزمن- هنا- هو المكان نفسه ؛ إذ يبتلع الإنسان المختبئ داخل ذات هى(قوقعة) .. فأجساد الأفراد
فى الحياة اليومية ، تتوزع- عبر آلية سلطوية ؛ غير منظورة- على (نظام تمثيل) إرغامى ..
يتضح ذلك من محاولة العرض إعادة تمثيل الزمن- الذى لم يعد يمتلكه الإنسان ؛الزمن الذى تســتحوز
عليه السلطة تماما وتقوم بتوزيع الأفراد عليه(بعد تنظيمه مكانيا)- وتعمل بلا كلل على تثبيته ومراقبته
.. لدرجة أنه لم يبق للشخصيات سوى(التكرار)نفسه؛ فى فتات زمنى ؛تتناثر فيه(فى سـرديات وأقوال)
مبتورة ، متكسرة ، لا رابط بينها (أى أنها- سرديات- لاتصنع حكاية كاملة ذات معنى)، وتتخذ هيئـــــة
دوائر صغيرة(دوامات)تضيق بإستمرار- ولا تتسع أبدا ! ، حتى أنها (السرديات) كثيرا ما تتحول إلـــى
(فضلا عن تختلط ب) التأمل الأسيان فى الذات والوجود- أعنى بذلك أن (الوعى) الذى تتحصل عليـــــه
الشخصيات لنفسها ، بنفسها وواقعها ، لا يغير شيئا بقدر ما يضفى على وجودها عمقا مأساويا جديدا،
إنه عامل شقاء جديد !..
هذا والدوائر السردية تجد صداها فى الدوائر الحركية التى يأتيها المؤدون داخل المساحات المربعــة-
(كالآلات تماما- أوكنوع من إقحام التقنية فى الجسد)، فتتحول المربعات، أحيانا، إلى دوائر ، ثم تعــود
هذه الأخيرة لتتحول إلى مربعات .. هكذا ، فالجسد- فى العرض- تم ترويضه ليشكل الرابط بيــــــــــــن
الممارسات اليومية وتنظيم القوة والهيمنة .
لتتحقق بذلك الفرضية المستحيلة(المتعلقة بتحويل الدوامات المائية- الدائرية- إلى مربعات) تلك التى
ما كان لها أن توجد ، ذات يوم ، سوى فى عقل (صبى)، سيهنئه (أينشتين) على مجرد طرحها !!..
(2)
إذن، يحيا المؤدون- بالسرد والحركة- وفقا لإيقاع زمنى(تقنى)؛عوضا عن الإيقاع الإنسانى- الطبيعى
- الذاتى .. وتنحصر إشكالية العرض- أوتكاد- فى شكوى الشخصيات من الزمن ، [ فنحـن نعيش الآن
فى مجتمع أضحت فيه خبرتنا اليومية بالزمان تقل شيئا فشيئا عن أن تكون مجرد خبرة بالإيقاعــــات
البيولوجية والطبيعية وأخذت تنحو أكثر فأكثر إلى التكيف مع التنظيم المركب ، العقلانى ، للعمل الآلى
...] (6) ..
فى عرض(الخبز اليومى) يمتزج المسرح بالحياة اليومية المعاصرة،مستلهما إيقاعها .. ويمكن القول
بأنه تم الدفع بكافة عناصره لإبراز ذلك الإيقاع ؛ فهو (الحدث الدرامى) نفسه- لذا غابت(الأحداث) !..
هذا الملمح ، تحديدا، يعد واحدا من أهم الملامح المميزة لمسرح الحياة اليومية (الما بعد حداثى) عن
المسرح الواقعى(الحداثى)- فقد كان هذا الأخير يعمد إلى إخفاء وإذابة (الحدث)[... فى حركة مستمرة
تهدف نحو غاية بعينها ]، ذلك لأنه كان يسعى [لإستعادة الزمن لإثبات إستمرار عظيم وراء التشــتت
... ويحاول أن يبين أن الماضى مازال حيا فى الحاضر،بعد أن فرض على مسار الزمن صورة رسمت
منذ البداية] (7) ..
البديل الذى أتى به(مسرح الحياة اليومية)هو الإصغاء إلى الواقع بدلا من الثقة فى الأيديولوجيا- أعنى
إدراكه أن وراء الواقع الإنسانى هناك (واقع تقنى) ، وليس (ماهية) ، واقع رياضى (مصمم) ، لكــــن
ما يشكل حركته[ليس أكثر من علائق قوى لا تتبع هدفا بعينه،ولا تخضع لآلية مضبوطة وإنما لصدف
الصراع] (8) ..
المعالجة الزمنية الدالة- التى ينطوى عليها العرض- تقوم على إعتبار أن [... كل زمان حقيقى هو فى
جوهره متعدد الأشكال ...]- على حد قول (باشلار) (9)، لذا فإذا كان الزمن الداخلى للعرض يمتد ليوم
كامل(من الصباح إلى صباح اليوم التالى)، فهذا الزمن يمثل(الإيقاع الدورى الطبيعى)، إلا أنه يتناقض
مع (إيقاع الزمن التقنى)- كما أشرت من قبل ، أما الإنسان فيقبع فى (الفجوة) الفاصلة بينهما ؛ بحثــا
عن (إيقاعه الإنسانى- الذاتى)- فكما يقول (باشلار) :[إننا لن نكون كائنات مكونة بشدة وقوة ، تعيش
فى راحة مضمونة دائما ، ما لم نعرف كيف نعيش وفقا لإيقاعنا الذاتى) (10) ، ذلك الإيقـــاع الذى لن
نعثر عليه إلا فى تآلف الإيقاعات العديدة ذاتها ..
وحسب (هايدجر): [ليس بالإمكان تصور الوجود خارج إطار الزمان ، كما أن معنى وجودنا يكمن فى
هذا الوجود الزمنى نفسه]، فالزمان- كما يقول : بما هو[حركة دؤوبة نحو المستقبل] فـ [هو المحرك
للوجود ، وفيه تتفاعل الأفعال وبه تتحقق] .. وما حدث هو أن (الوجود الإنسانى) لم يعد فى موقـــــع
العمل على تحقيق إمكانياته ، لم يعد فى توتر مستمر مع المستقبل- كما يؤكد (هايدجـــــر)- لأن إرادة
النظام حلت محل إرادة الإنسان ؛ لقد امتص النظامُ الوجود ، وأخضعه لإرادة الهيمنة ، ومن ثم لم يعد
الزمن إطارا للوجود الإنسانى ، وإنما لإرادة الهيمنة- نعم ، لقد سرقت التقنية الزمن من الإنسان !..
وما يمكن إضافته هنا ، هو أن العرض ككل يتجاوز أنشودة البكاء الرومانسية ، على الطبيعة التــــى
غيّبها الحضور التقنى،وبتعبيرآخر، لا يحثنا العرض على ضرورة العودة إلى(الأصل الزمنى)الطبيعى
أوالتاريخى الضائع (= المفتقد) ، ويسعى- بدلا من ذلك- إلى التأكيد على تعدد (البدايات والأصول) –
التى يتركب منها الزمن ، وهذا تحديدا هو مايصنع المفارقة التى ينبنى عليها(العرض)، تلك المتمثلة
فى (الفجوة- المشار إليها سلفا) ؛ ويرمز إليها (البانيو) ..
(3)
ينبنى العرض (سينوغرافيا) على استعارة النظام الجسدى ؛ أعنى أنه يحول النظام (المؤسساتى) الذى
يخضع له الجسد إلى مكان:غرفة النوم ،المطبخ (فى البيت أوالعمل)، حجرة المكتب، حجرة المعيشة ،
الصالون ، الحمام (البانيو) ..
هذه الأماكن- الضيقة- المراقبة دائما (من قبل مدير المطعم ورئيس الشركة والجيران ...) تلتصق فيها
(عاملة المطعم) بالمكنسة و(موظف الشركة) بجهاز الكمبيوتر، وكما أنها لاتستطيع الجلوس فى فتـرة
العمل الرسمية- الممتدة إلى ثمانى ساعات،كذلك لا يستطيع هو إغلاق الجهاز- خشية أن يتهمه رئيسه
بإهمال العمل ...
هذا ويمتد من هاتين الشخصيتين؛من مكانهما فى خلفية المسرح، خطان متقاطعان يصلان إلى مقدمة
المسرح .. الأول : يبدأ من (أعلى- يسار) ، حيث(عاملة المطعم)المنتهكة ،الملقاة فى الخلفية المظلمة
(إذ يمزق الضوء جسدها، ويكاد يحوله إلى نثار- هذا فضلا عن إخفاء الديكور لنصفها الأسفل!)، تلك
المرأة التى تشكو وحدتها واستلابها ، هكذا، فى إطار إمتثالى : فهى تفعل كل ما يطلب منـها- دون أن
تحظى برضاء الآخرين !.. وفى الوقت الذى تعزى فيه نفسها التى اندمجت فى الطقس اليومـــــــــــى
واعتادت عليه ، نجدها تمنى نفسها- أيضا- بالويك إند ، وبالزواج والإنجاب فى يوم ما ..
ثم يمتد الخط مرتفعا قليلا ناحية اليمين وأكثر ميلا نحو منتصف المسرح ، لنرى امرأة أخرى نائمــة ،
تتقلب فى فراشها ضجرة ، ثم يتضح لنا مدى غرقها فى التفاهات اليومية : عن البطالة والمواصــلات
والعمل ، بحثا عن رابط ما ، بين هويتها الذاتية والهوية الإجتماعية- إذ تسعى لتحققها فى العمــــــــل
والصداقة ، بالكشف عما تخبئه من حنان وحب بالغين تجاه الآخرين ؛ حتى أنها ، لأجل ذلك ، تبتـــذل
نفسها حين تعرضها عليهم (فى التليفون ، ثم فى العمل الذى تعد فيه القهوة للزملاء ، عن طواعيــــة
منها ، متغاضية عن تحولها إلى مجرد عاملة بوفيه) هكذا ، دونما جدوى !..
أما عند نهاية هذا الخط ، فنعثر على امرأة ثالثة تبدى سأما من نوع آخر- يتناقض مع ما تبديه عاملة
المطعم- فكيفية التصرف فى قضاء (الويك إند) هى شغلها الشاغل .. وكما ترى هى فلا أحد يســتجيب
لمشاغلها تلك (لديها بعض المشكلات فى الشقة ، لكن إدارة العمارة منشغلة عنها- وطوال العــــرض
لا تكف عن معاودة الإتصال بهم ، والصياح والغضب ... دون جدوى / تذهب لتناول غدائها فى أحــــد
المطاعم ، لكنهم يتأخرون عليها كثيرا فى إحضار الطعام،مما يزيدها ضجرا / كما أن الجيران لايكفون
عن إحداث الضوضاء- لا سيما تلك الموسيقى التى يفضلونها وتصنع إيقاع حياتها رغما عنها ...)..
أما الخط الثانى : فينتهى إلى (أسفل- يسار) حيث نرى أكواما من زجاجات البيرة مبعثرة فى حجـــرة
المعيشة الخاصة بالرجل الثانى- فى العرض- الذى يحيا (الفشل) تماما ويشعر بوطأة الزمن (كعاطل-
حر) ، وطوال اليوم يبحث عن عمل ويتجول فى الطرقات ، لكنه، مع ذلك، يغرق فى الزمن- المتحـول
إلى حفرة عميقة- إلى نهايته ، (ولعل "البانيو"- الذى يتصدر مقدمة المسرح ، صاعدا إلى منتصـف
المسرح ، هو رمز هذا الغرق- إنه الفجوة بين الزمنين : الطبيعى والتقنى ، كما أشرت من قبل ) ..
(4)
ما نلاحظه هنا هو أنهم جميعا يعانون المشكلات ذاتها ، لكن إستراتيجية النص توزع تلك المشـكلات
على الشخصيات ، كنقاط إرتكاز (أعنى أن كل شخصية تنطوى على مركز محدد)، هكذا، لبـلورة تلك
النقاط على نحو كثيف ..
وهى تتوزع كالتالى :
أ ــــــــ (تلاشى الذات) : عاملة المطعم ..
ب ـــــ (التمثيل أوالقناع ) : موظف الكمبيوتر ..
ج ـــــ (الرغبة) : النائمة ..
د ــــــ (الآخرون) : الموظفة فى الويك إند ..
هـ ــــــ (الزمن) : العاطل ..
ما نلاحظه هنا هو أن القاعدة التى يرتكز عليها الخط الأول ، وهى ( أ ) : (تلاشى الذات) ، الذى تعانيه
(عاملة المطعم) بكثافة بالغة ، تستجيب لها قاعدة الخط الثانى ؛ وهى (ب) : (التمثيل أوالقناع) ، الــذى
يلجأ إليه (موظف الكمبيوتر) ، فى محاولته التوافق مع (النظام)؛ إنه يحاول إقناع نفسه- قسرا- بتحققه
فى العمل ومن ثم بالعثور على معنى لوجوده (أولهويته الذاتية) / تماما كما تفعل (عاملة المطعم)- التى
تتحدث كثيرا عن (اعتياد- أوالتوافق مع- الأوضاع) ، وفى الوقت الذى يترافق فيه وجودها مع العبوس
وإهمال الجسد(تآكل الوجه)، يتحدث الموظف عن(وجهه الذى سيخرج به إلى الشارع)ويتقنع بالإبتسام
والبهجة- وهو ما نجده لدى الشخصيات الأخرى ، وإن بكثافة أقل ..
مما يعنى وجود (ج) : (الرغبة) ، وكل رغبة هى (رغبة فى- الآخر) ، كضرورة لاكتمال الذات ، وهـــو
ما تمثله (النائمة) بكثافة .. هذا وحجرة النوم عامة تحمل دلالات عديدة،من ضمنها- هنا- (الحلم ب ...)
وهو ما نجده أيضا لدى الشخصيات الأخرى ، لذا يتحتم علينا أن نتساءل عن(الآخرين) :(د) ؟.. فتجيب
موظفة الويك إند بأن لا أحد يستجيب لما تطلبه- وهو نفس ما تقوله الشخصيات الأخرى .. هكذا لنجـــد
أنفسنا أمام السؤال عما هو أعم؛أى عن(الزمن):(هـ)- الزمن بما هو الوجود نفسه الذى يمنحه(العاطل)
معنى (الحفرة- التى يغرقون فيها جميعا إلى نهايتهم) ..
(5)
تلك النقاط ، التى ترتكز حولها الشخصيات، تمثل(المستوى الرأسى)للعرض ،وترتبط بالدلالات المكانية
؛ (المستوى الأفقى) على النحو التالى :
أـــــــ (المطعم) : مكان الأكل (= الإلتهام) ، إلا أنه يحمل دلالة (تآكل عاملة المطعم) ... أعنى أن عملية
الأكل (أوالإلتهام) تثير التساؤل حول : (من الذى يأكل ؟) و(من الذى يؤكل ؟)- وهو مايؤكده ( تلاشــى
الذات) ..
ب ـــ (حجرة المكتب) : مكان العمل والإنتاج ؛ مكان ممارسة الإنغماس فى التقنية ذاتها ، ومحــــــاولة
الإنسان التآلف معها- عبر (التمثيل أوالتقنع) ؛ أى عبر (خداع الذات والآخرين)..
ج ـــ (حجرة النوم):مكان النوم والأحلام والجنس،إنها مكان(الرغبة فى- الأخر).. هذا وقد عمد العرض
سينوغرافيا إلى وضع (حجرة النوم) مع (البانيو)على خط رأسى واحد ، يحتل المنطقة الوسطى بأكملها
، من أسفل إلى أعلى،وعلى مستوى مرتفع عن المستوى الذى تشغله الأماكن الأخرى، هكذا- كمحاولة
من العرض لإبراز والتأكيد على مركزية العلاقة بينهما ، ومركزيتهما معا فى الدلالة على (الإنســـانى-
الحميم جدا)..هذا ولم تستخدم المرأة التى تشغل حجرة النوم ذلك البانيو أبدا- على الرغم من مجاورتها
له- (وكذلك المرأتان الأخريان)- وإن اقتربت منه مرات عديدة ..الدلالة هنا تتمحور حول غياب (الآخر)
، وعدم تحقق التواصل الحميم ، لذا تظل الذات تعانى النقص- وهذا الأخير بقدر ما يعنى عدم الإكتمــال
فهو يشير لوجود فراغ ما، أوفجوة ما، هى نفسها ما يمثله البانيو الفارغ .. أعنى أن عدم تحقق علاقة
التواصل الحميم أدى إلى الغرق فى ذات فارغة ؛ هى فجوة معممة ..
د ــــ (حجرة المعيشة) : مكان العيش أوالحياة ، ونلاحظ أن (موظفة- الويك إند) التى تشغلها ، تحــاول
طوال العرض ، عن طريق التليفون ، دعوة الآخرين (عمال العمارة) للحضور ، لكنهم لا يستجيبون ..
هـ ـــ (حجرة الصالون) : مكان الإلتقاء بالأقارب والأصدقاء- هذا وزجاجات البيرة الملقاة تحت المائـدة
، توحى بذلك ، للوهلة الأولى .. لكننا نكتشف أن الشخصية الى تشغل المكان تعانى الوحدة (كموظفــة-
الويك إند)والفشل والعطالة بل والإنكار.. ويتمخض عن ذلك نوع من إهدارالذات والشعور بوطأة الزمن
، مما يفضى إلى محاولة تغييب العقل (بالسُكر المتواصل) ..
و ـــ (البانيو) : هو تلك البحيرة المنزلية الصغيرة التى جاد بها عصر التقنية ، ونلاحظ أنه على مقـاس
الإنسان تماما- وهو بالطبع مكان اغتسال الجسد والنفس .. لم يستخدمه فى العرض سوى الرجليــــــن
فقط ، وللحظات قصيرة .. ورغم مزاولتهما للإستحمام ، إلا أن أحدهما (وهو العاطل) بدا بداخله كمـيت
- منحته الإضاءة هيئة غريق طاف !..
هذا وإذا علمنا بأن الرجلين قد تبادلا المواقع (إذ ظهر كل منهما فى المكان المخصص للآخر)، دون أن
يطرأ عليهما- ومعهما العرض- تغيير ما ، أدركنا أنهما (ومعهما النساء)غرقا فى (البانيو) ؛ البحيرة ،
القبر- الذى هو (فجوة الوجود) !.. نعم ، إنه القالب الحديدى (التقنى) الموحد- المعد سلفا للجميع ..

الشخصيات والتمثيل والمتفرج :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)
الشخصيات لاتنمو وفقا للآليات النمطية التقليدية ، وإنما من خلال (التضاد) فيما بينها- فكل شخصيـة
تضئ- بقدر ما تضاء ب- الشخصية الأخرى .. هكذا ، فشخصيات- العرض- لاتنطوى على معنى فــى
ذاتها ، مما يعنى أنها ليست إطارا تنظيميا منوطا به توحيد العناصر المختلفة ، فعبر التضاد- الـــــذى
لاينقطع طوال العرض- تتغير تلك الشخصيات ، فيتغير تبعا لذلك وعينا بها ..
هذا يعنى أنها ليست ذواتا- أى لا تنطوى على وحدة ما .. إنها مجرد توزيعات على مواقع ومـــــواقف
يومية عديدة ، متناثرة- فى سرود صغيرة ذات طابع منولوجى- كأسطح بلا أعماق ، إلا أنه يســـتحيل
إختزالها إلى المعانى البسيطة التى تنطوى عليها تلك المواقف ؛ لأن المعانى تتغيرعبر آلية (التضـاد)
التى يشتغل عليها العرض ..
هذا فيما عدا(عاملة المطعم)؛ فهى الشخصية النمطية الوحيدة فى العرض- نظرا لما تكتنز به من أبعاد
عديدة تقترب بها من الشخصيات الواقعية التقليدية (فقد كانت تعمل مع زوجها، وبعدما ذهب،اضطرت
للعمل كى تعول نفسها ، ولم تزل تحلم بالزواج وإنجاب الأطفال ، وتنتظر "الويك إند" كى تسعد بلقـاء
العائلة والجيران على مائدة الطعام الأسبوعية التى تعدها لهم ... إلخ) ، أعنى بذلك أنها تحولت إلـــــى
(موضوع ؛ إلى شئ فى ذاته)، فما نراه هو (المرأة- عاملة المطعم- نفسها) .. وقد قامت (نورا أمين)-
مخرجة العرض- بأدائها بنفسها ، أداءا(إيهاميا- إندماجيا خالصا)، ولم يحررنا من الوقوع تحت سلطة
خطابها سوى القطع المستمر للسرد- أى الإنتقال منها إلى السرود الخاصة بالشخصيات الأخرى ، ثـم
العودة إليها ..
ويبدو أن العرض يبقى لنا عليها- من تاريخ المسرح (الواقعى القديم)- ليحدد بها إطاره كعرض جديــد
، وبالأحرى هو يشير بها إلى المسافة التى يبتعد بها عن الواقعية القديمة ، أعنى أنها تبدو كعلامـــــة
يبدأ هو بعدها كعرض مختلف ..
وقد أشرت فيما سبق إلى أنها- فى العرض- تبدو منتهكة ، ملقاة فى الخلفية المظلمة ... كما أشــــرت
أيضا إلى تآكلها وإلى أن عملية (الإلتهام) تؤكد (تلاشى الذات).. دلالة هذا التلاشى- فى تقديرى- يمتد
بها العرض لتشمل العالم القديم (بما فى ذلك الإنسان القديم ذاته) الذى تناولته الواقعية القديمة ..
غير أن (التضاد) بين شخصية (عاملة المطعم)- المصاغة وفقا للنمط الجمالى الواقعى القديــــــــــــم-
والشخصيات الأخرى- المصاغة وفقا للنمط الواقعى الجديد ، إنما هو تضاد بين (الشئ فى ذاتـــــــــه)
و(الشئ لذاته) ، بين التعريف (الماهوى) للإنسان والوجود- الذى لم تستطع الواقعية القديمة تجاوزه،
مما أنزلق بها إلى وحل الميتافيزيقا،وجعلها تدعى إمتلاك الحقيقة الواحدة الوحيدة،بل والتماهى معهـا
- إلى الحد الذى صارت معه ، هى نفسها (جهاز سلطة- ثقافى) .. وبين التعريف الآخر؛ النافى للماهية
، القائل بالتعدد والتشتت ..
وبمعنى آخر ، كل (نهاية) تندفع إليها الأحداث (فى المسرح الواقعى القديم) تفترض (بداية) محــددة ،
هى(أصل) تحددت فيه خصائص الحدث وتعينت ماهيته ليكون تطوره ، فيما بعد،مجرد انتشار وامتداد
لما سبق- وهو المعنى المتضمن فى القول المأثور (تاريخ الشجرة كامن فى بذرتها) ؛ المبدأ الحاكـــم
للميتافيزيقا ..
لذا يمكن القول أن البداية المتعينة بدقة، هى(الوقوف عند اللحظة الممتازة)التى تجعل الحدث ممكنا..
فالبداية تسبق الحدث الدرامى لأنها هى (موطن الحقيقة) ، (إنها السر الجوهرى الخالد)، ففى البداية
تكمن (هوية الأصل المحفوظ) ! (11) ..
أما (مسرح الحياة اليومية)- ممثلا فى العرض- فلا يبدأ (ومن ثم لايتطور فى اتجاه نهاية ما- لتحقيـق
غاية ما) ، وإنما (يدور)- فهو يبدأ كما ينتهى (فى الصباح اليومى المتكرر والمعتاد) ، أى أن البدايــة
هى النهاية ذاتها ، كما أنها لا تضمر سرا ما(كالشخصيات تماما- باستثناء عاملة المطعم- إذ لاتسبقها
ماهية ما؛ فهى يومية ومتكررة ومعتادة ،ويمكن لأي منها أن يحل محل الآخر .. هذا والعلاقات القائمة
بينها من جهة وبين (النظام) من جهة أخرى ، علاقات قوى متصارعة .. وبكلمة واحدة ، إنها تحتفى
ب(خطوط الهروب)التى يمكن أن تنبثق فجأة،عبر مسار الحدث الناتج عن المصادفات، بل إنها تسعى
إلى تلك الخطوط ، بكل ما تكتنز به من تعدد وتشتت ، ولا يحدوها سوى الأمل فى العثور على إيقاعها
الذاتى ..
(2)
شخصية (عاملة المطعم)- نظرا لكونها مصممة وفقا للبنية الجمالية الواقعية التقليدية- مجرد (تمثيل)
لتمثل سابق على وجودها ، لذا يعد أداء (نورا أمين) لها (تمثيل للتمثيل) ..
أما الشخصيات الأخرى فهى (تشتت وتبعثر)- كما أشرت من قبل- مما يستدعى فعالية الممثل كــــــى
يلملمها .. وبعبارة أخرى ، (عاملة المطعم) هى المركز الذى تتبعه الممثلة ، أما الشخصيات الأخـرى
فتعثر على مراكزها فى الممثلين أنفسهم ...
ولمزيد من إيضاح الأمر ، أقول : لعبت شخصية (عاملة المطعم) دور الإطار التنظيمى- المعد ســلفا-
لاحتواء العناصر المختلفة ، بما فى ذلك أداء الممثلة .. بينما الشخصيات الأخرى تستمد أطرها مـــن
الممثلين (إذ حاولوا بأدائهم الواقعى- الحياتى اليومى- إضفاء نوعا من التنظيم على التشتت والتبعثر
والتناثر ؛ الذى تنبنى عليه تلك الشخصيات) ..
ويبدو واضحا أن(عاملة المطعم) تنتسب إلى هوية ذاتية كاملة (سابقة)على وجودها،أما الشخصيات
الأخرى فتنتسب إلى هويات ذاتية ناقصة (لاحقة) على وجودها ..
(3)
العرض- كما رأينا- يضع(المتفرج) وجها لوجه أمام إيقاعه اليومى غير المأتلف، وكذلك أمام السلطة
التى تعمل على تنظيم وتثبيت ومراقبة ذلك الإيقاع- هكذا ، بلا سرد (أوبلا قصص ، بلا حكى ، بــــــلا
أحداث) بالمعنى المفهوم.. وإذا كان (بول ريكور) يؤكد أنه [لاوجود للزمن إلا من خلال الحكى]- هـذا
فضلا عن تأكيد (باشلار)على أن[المكان ، فى مقصوراته المغلقة... يحتوى على الزمن مكثفا](12)-
وكما رأينا فالمكان فى العرض مجرد تنظيم مكانى للزمن (المسروق من الإنسان)- فكل هذا يضــــــع
(المتفرج) كإنسان وحيد ، أمام مشكلة الزمن ..
أعنى بهذا أن المتفرج يتم امتصاصه داخل السياق السردى (المشتت) للعرض ككل- ذلك أن المتفرج
، بشكل أوبآخر ، هو أحد الشخصيات المكونة للعرض ؛ (فكل عرض إنما يقدم تصوره عن الــــــدور
الذى يمكن للمتفرج أن يلعبه- فى إطار "المتفرج الضمنى أوالنموذجى" :أى الدور الذى- أوالوظيفة
التى- ينتظر العرض من المتفرج القيام به- أوبها ..) ..
المتفرج- فى إطار أدائه لدوره- لا يكف عن إنتاج المعانى المتغيرة ، لكنه- وهذا هو الأهم- ينشـــــغل
فى الأساس بمحاولة جمع الشتات والنثار السردى فى حكاية متماسكة ذات معنى عام متماسك، ومن
هنا تحديدا يتم امتصاصه فى السياق السردى للعرض ، وبالإضافة إلى هذا ، فهو ينزلق- رغما عنه-
إلى إنتاج منولوج سردى صغير ؛ خاص به (أى أنه يروى مع الشخصيات) ..
كل هذا سيجعله يشعر- فى لحظة محددة من العرض- بينما هو جالس فى مقعده ، بأنه (مســـــــجون
ومراقب) من قبل أجهزة السلطة (بما فى ذلك جهاز السلطة الثقافى = المسرح) ، وبذا فســــــــــوف
يخوض نفس التجربة- مع الشخصيات ..
لذا تتراوح مواقف المتفرجين بين الرغبة فى مواصلة (اللعب- القاسى) إلى نهايته وبين الرغــبة فى
الفرار من ذلك اللعب (بما هو السلطة الثقافية التى يمارسها المسرح) .. لكن المفارقة تكمـــن فى أن
الفارين من عرض (الحياة اليومية) لم يفعلوا شيئا غير أنهم عادوا إلى (الحياة اليومية ذاتها) !!..
نعم ، لقد فروا من (الجراج- كوجود إستعارى) إلى (الوجود- كجراج إستعارى) ، بحثا عن (الخــــبز
اليومى) !!! ..
خاتمة :
ــــــــــــ
يقول(بول فاليرى):[الجلد هو الأكثر عمقا]،أى أن[أعمق ما فى الإنسان هو جلده]،ويعلق(جيل دولوز)
- على هذا- قائلا بأن الإهتمام بالسطوح [يعنى الإنخراط فى التجارب الحياتية وليس الإنصراف إلــــى
المجردات والمبادئ والعموميات ...](13) ، هذا ومسرح (الحياة اليومية) يسعى لإنجاز أكبر قدر مـن
الواقعية ، بالوقوف عند السطح بما هو العمق ذاته ، يقول (نيتشه) : [فإذا كان هناك قناع ، فلا شــئ
من ورائه ، إنه سطح لا يخفى شيئا سوى ذاته] ، ويقول : [ماهو الظاهر عندى ؟ من المؤكد أنه ليس
عكس الوجود . فما عسى يمكننى أن أقول عن الوجود مهما كان اللهم صفات ظاهرة ! ، إن الظاهــــر
ليس عندى قناعا لاحياة فيه . إن الظاهر عندى هو الحياة والفعالية ذاتها . إنها الحياة التى تسخر من
ذاتها كى توهمنى بأن لا وجود إلا للمظاهر]، ويعلق(عبد السلام بنعبد العالى) على هذا بقوله :[فبينما
تعتبر الميتافيزيقا أن السطح يخفى من ورائه الأعماق،فإن الأعماق هنا لن تعود إلا نتيجة للوهم الذى
يبعثه فينا السطح الذى يمنعنا من النظر إليه كسطح . ولكنه ليس السطح الفارغ الشفاف ، إنه ســطح
ثرى . ] (14) ..
وبعد ، هل يمكن لى أن أنتهى إلى أن الواقعية السطحية التى يقدمها لنا (مسرح الحياة اليوميــة)
هى الأكثر إنخراطا فى تجاربنا الحياتية ، من الواقعية العميقة التى تلغى الحياة كى تمسك بالوهم
الميتا فيزيقى الكامن خلفها ؟!..

محمد حامد السلامونى

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهـــــــــــــوامش :
ــــــــــــــــــــــــــــــ
[قام بالتمثيل فى هذا العرض : إيمان إمام وعادل عنتر وورفعت عبد العليم ونانسى عادل-
موسيقى : رمز صبرى ..]
(1) ميشيل فوكو (الحقيقة والسلطة) / مجلة الفكر العربى المعاصر/ العدد الأول ، أيار ، 1980 ..
(2- 7- 8-11- 14) عبد السلام بنعبد العالى(أسس الفكر الفلسفى المعاصر مجاوزة الميتافيزيقا)/
سلسلة المعرفة الفلسفية / دار توبقال للنشر / ط 1 / 1991 / الدار البيضاء /الصفحات على التوالى
: 8 ، 27 ، 27 ، 27 ، 26- 27 ، 34- 35 ..
(3) كرس شلنج (الجسد والنظرية الإجتماعية)/ ترجمة : منى البحر ونجيب الحصادى/ موقع سريب
على الشبكة االآليكترونية / الحلقة الثانية ..
(4- 5) المرجع السابق ، الحلقة الخامسة ..
(6) مجموعة مؤلفين (فكرة الزمن عبر التاريخ)، إشراف: كولن ولسون / ترجمة : فؤاد كامل /عالم
المعرفة / العدد (159) / الكويت / ص 45 ..
(9-10) جاستون باشلار (جدلية الزمن) / ترجمة : خليل أحمد خليل / المؤسسة الجامعية للدراسات
والنشر والتوزيع / ط 3 / 1992 / لبنان / ص 9 ..
(12) جاستون باشلار(جماليات المكان)/ ترجمة:غالب هلسا /المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر
والتوزيع / ط 2 / 1984 / لبنان / ص 39 ..
(13) توفيق رشد (الفلسفة) / موقع محمد أسليم على الشبكة الآليكترونية ..



#محمد_حامد_السلامونى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المسرح الاستعارى
- (1) التأسيس الميتافيزيقى لفن التمثيل
- التجريب فى المسرح المصرى وتقويض الحداثة
- الثورة المصرية ، تمثيلات (اللغة والواقع والجسد)


المزيد.....




- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد حامد السلامونى - عرض (الخبز اليومى) وإعادة تأسيس الواقعية ..