أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - نهرو عبد الصبور طنطاوي - هل الاجتهاد مصدر من مصادر التشريع في الإسلام؟؟















المزيد.....



هل الاجتهاد مصدر من مصادر التشريع في الإسلام؟؟


نهرو عبد الصبور طنطاوي

الحوار المتمدن-العدد: 3458 - 2011 / 8 / 16 - 08:07
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


مما لا شك فيه أن العالم الإسلامي يعيش اليوم ومنذ قرون عديدة فوضى في الفكر الديني, فوضى ليست على مستوى المؤسسات الدينية والثقافية فقط, وليست على مستوى النخبة المثقفة فقط, بل امتدت هذه الفوضى الدينية إلى الأفراد في شتى أنحاء العالم الإسلامي. وبنظرة سريعة إلى هذه الفوضى الفكرية الدينية, في النواحي الفقهية والتشريعية, تتأكد لنا قناعة واضحة أكيدة أن هذه الفوضى في الفكر الديني ليست إلا حصادا لما يسمى بالاجتهاد الديني, الذي اخترعه الفقهاء بحجة بذل الجهد للوصول إلى الأحكام الشرعية في الكتاب والسنة.

إن اختراع مفهوم الاجتهاد الديني وإضفاء الشرعية الدينية عليه منذ القرون الأولى للإسلام عمل على تحويل فهم النص الديني إلى وظيفة يحتكرها قلة من الفقهاء ورجال الدين للسطو على الدين والتحدث باسمه، كذلك أباح لكل رجل دين أو فقيه حرية وضع تشريعات دينية وأحكام وتكاليف لم يأت بها المصدر الأساسي للتشريع الإسلامي"القرآن الكريم"ولا حتى السنة"مما أثقل كاهل المسلمين وألزمهم بأحكام وعبادات وتحريم أشياء ما أنزل الله بها من سلطان, بل إن كثيرا من الاجتهادات التي صدرت عن العلماء قديما وحديثا تتناقض تناقضا صريحا مع نصوص القرآن الكريم ونصوص السنة.

والاجتهاد الديني ليس اختراعا قام بابتكاره فقهاء المسلمين فحسب، بل هو اختراع وجد لدى رجال الدين في جميع ديانات الأرض، كان لذلك الاجتهاد أو احتكار وظيفة فهم الدين كثير من الآثار السلبية التي جعلت رجال الدين في كل الأديان يختلقون أحكاما وتشريعات يقوموا بإضافتها إلى الدين وهي ليست من الدين في شيء، فقد أضاف رجال الدين من خلال فرية الاجتهاد إلى الكتب المقدسة كثير وكثير من الاعتقادات والتشريعات والأحكام والتحليل والتحريم التي لم يأت لها ذكر على الإطلاق لا في في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن، ولا تمت بصلة إلى الكتب المقدسة، وإنما هي محض اختلاقات قام بوضعها رجال الدين بحجة الاجتهاد الديني، فحين تحول فهم الدين إلى وظيفة احتكرها أناس بعينهم من دون الناس جميعا على مدى تاريخ جميع الأديان، مهد ذلك لرجال الدين وبرر لهم عدم الاكتفاء بما جاء في النصوص المقدسة من اعتقادات وتشريعات وأحكام وحلال وحرام، وجعلهم يقومون باختلاق أكذوبة الاجتهاد لأغراض شتى منها على سبيل المثال:

• مواكبة التطورات والمستجدات وذلك لمحاولة تديين كل شئ على وجه الأرض.
• استحداث أحكام دينية لم تأت بها الكتب المقدسة.
• استيلاد واستنساخ أحكام جديدة بناء على أحكام الكتب المقدسة.
• التلاعب بالدين لأغراض سياسية.
• شرعنة رغبات وشهوات وحماقات الحكام.
• إخضاع الشعوب بصورة أبدية ومستمرة لنزوات وأهواء رجال الدين.

وسوف نأخذ الاجتهاد الإسلامي نموذجا لموضوعنا، وسوف نركز في هذه الدراسة على جوانب متعددة من جوانب الاجتهاد الديني كمفهوم الاجتهاد الديني" و "شرعية الاجتهاد الديني". أما مفهوم الاجتهاد الديني فقد وضع له الفقهاء والمفكرين قديما وحديثا عدة تعاريف نذكر منها على النحو التالي:
(الاجتهاد هو: "استفراغ الجهد في الوصول إلى الأحكام الشرعية التفصيلية" أو هو: "عملية استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية في الشريعة" أو هو: "فهم الحكم المستنبط من النص وعدم تجاوز النص, أو إمكانية تجاوز النص كما اجتهد عمر بن الخطاب في وقف سهم المؤلفة قلوبهم, ورفع حد السرقة في عام المجاعة".
ويستفاد من استقراء هذه التعاريف لمصطلح الاجتهاد الديني أن الاجتهاد قد تم اختراعه على أيدي الفقهاء القدامى بحجة البحث عن حكم واقعة جديدة أو مستحدثة ليس فيها نص قطعي محكم, عن طريق الاستيلاد والاستنساخ والتفصيل والقياس على نصوص قطعية محكمة. بمعنى أن أي حادثة أو واقعة لم يرد لها حكم شرعي أو نص مفصل واضح في القرآن أو السنة, يقوم الفقهاء وعلماء الدين بتفصيل واستنساخ حكم شرعي جديد لهذه الحادثة أو الواقعة من نصوص قرآنية أخرى أو نصوص من السنة فيها تشابه بين أسباب وعلة الواقعتين أو نتائج متشابهة بين الواقعتين القديمة والحديثة, وهذا ما يسميه الفقهاء بالقياس والاستنباط.

## الاجتهاد الديني باب من أبواب تحريف الدين :
لقد استخدم الاجتهاد الديني في جميع الأديان ليس لاستنساخ وقياس أحكام جديدة على أحكام موجودة بالفعل فقط، بل استخدم أيضا لاختراع أحكام جديدة ليس قياسا على أحكام أخرى , بل هي جديدة بالفعل، ليس لها أي أصل قيست عليه في القرآن أو أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام, بل استخدم الاجتهاد في وضع أحكام فيها مخالفة صريحة وواضحة لنصوص الكتاب والسنة. ويستخدم الاجتهاد كذلك من قبل بعض المهتمين بالفكر الديني لتجاوز نصوص الدين ذاته بحجة أن عمر فعل ذلك حين أوقف سهم المؤلفة قلوبهم, وحين أوقف حد السرقة في عام المجاعة. واستخدم الاجتهاد الديني كذلك بحجة فهم النص الديني مما جعل القاصي والداني يتصدر للاجتهاد في فهم النصوص الدينية وما قد نتج عن ذلك من تطرف وتشدد وإرهاب وما أشعل الخلافات والفرقة والتمزق بين عموم المسلمين.

وأقدم للقارئ بعض الأمثلة على استخدام الفقهاء للاجتهاد الديني في تفصيل واختراع الأحكام الشرعية التي ما أنزل الله بها من سلطان وإلزام الناس بها رغم أن الله لم يشرعها ولم يلزم الناس بها, بل إن ما شرعه الله يناقض ويعارض تماما ما جاء في اجتهادات الفقهاء, وهي كالتالي: "ذهب الإمام مالك إلى أن من أفطر في رمضان ناسيا فعليه القضاء". "وذهب الإمام أحمد بن حنبل إلى أن من جامع زوجته في نهار رمضان ناسيا بأن صيامه باطل وعليه القضاء". "وحكى إبراهيم الحربي إجماع التابعين على وقوع طلاق الناسي". (نقلا من جامع العلوم والحكم, لابن رجب الحنبلي). هذا جزء بسيط جدا لاجتهادات الفقهاء في تشريع أحكام دينية مع وجود نصوص قطعية محكمة في القرآن والسنة بالعفو عن الناسي, وتعارض ما شرعه الفقهاء ونذكر من هذه النصوص قول الله تعالى: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا}. وقول الرسول صلي الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه".

ونسوق نموذج آخر على اجتهادات الفقهاء في وضع تشريعات معارضة لنصوص القرآن والسنة ومنها:
"ذهب أحمد بن حنبل إلى أن من جامع زوجته في نهار رمضان وهي مكرهة فإن صيامها قد بطل وفسد". "وذهب أبو حنيفة وأحمد بن حنبل وعبد الله بن عباس وأبو العالية وأبو الشعثاء والربيع بن أنس والضحاك وسحنون أن من أكره على الزنا فهو آثم ويقام عليه الحد, ومن أكره على شرب الخمر فهو آثم ويقام عليه الحد ومن أكره على السرقة فهو آثم وتقطع يده, وروي عن الحسن أنه سئل عن من أكره على السجود لصنم فقال: إن كان الصنم تجاه القبلة فليسجد ويجعل نيته لله, وإن كان إلى غير القبلة فلا يسجد وإن قتلوه".

وهنا يحق للمرء أن يساءل، إذا أكره الإنسان على الزنا فهم آثم ويقام عليه الحد، وإذا سرق مكرها فهو آثم وتقطع يده، وإذا أكره على شرب الخمر فهو آثم ويقام عليه الحد، وإذا أكره على السجود لغير الله فهو كافر وآثم، فما فائدة آية الإكراه التي قال الله فيها: { من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان}. وما فائدة حديث الرسول الذي قال فيه "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"؟

أليست هذه الاجتهادات والتشريعات من العلماء معارضة لما أنزل الله؟، يجيب بن رجب الحنبلي عن هذه التساؤلات بقوله: "إن العلماء أجمعوا على أن الإكراه يكون على الأقوال لا الأفعال" ونحن نسأل بن رجب من أين لك أنت والعلماء أن الله أباح الكفر في الإكراه على القول فقط ولم يبح الكفر في الإكراه على الفعل؟، مع أن ما جاء في الآية الكريمة والحديث الشريف الإكراه مطلقا دون تحديد لصفة معينة من الإكراه أعلى الفعل أم على القول, وما ذكره بن رجب وما نقله عن العلماء هو تشريع ما أنزل الله به من سلطان, حيث من يحدد نوع الإكراه هو الله وحده, وليس أحد غيره, والله ورسوله لم يحددا قولا ولا فعلا في الإكراه, إذن فأي إكراه يقع على الإنسان سواء كان إكراها على القول أو الفعل فهو معفو عنه ما فعل وما قال ما دام فعله أو قوله هذا تم تحت الإكراه, بل إن ابن رجب الحنبلي ناقض نفسه أشد المناقضة حين قال: "إن الكافر لو أكره على الإسلام فأسلم فإسلامه صحيح" ونتساءل أيضا ما فائدة قول الله سبحانه: {لا إكراه في الدين}. فالله في هذه الآية نهى عن الإكراه في الدين فكيف يصح إسلام شخص أكره على الإسلام؟، في حين أن بن رجب ذكر قبل هذا أن من أكره على السجود لغير الله فهو كافر حتى ولو كان مكرها, فكيف يصح إسلام من أكره على الإسلام, ولا يقبل إكراه من أكره على السجود لغير الله ويعد كافرا حتى لو قتل؟!!.

## الاجتهاد لم يشرع لفهم النص الديني:
إن القول بأن الاجتهاد تم تشريعه لفهم النصوص الدينية قول مجانب للصواب ومجاف للحقيقة تماما، بل إن القول بهذا فيه التفاف كبير على النصوص التي تحدث بها الرسول عليه الصلاة والسلام في أحاديثه عن الاجتهاد، وسوف نتبين ذلك حين نتناول أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام التي تحدث فيها عن الاجتهاد، فسوف نتبين أن تلك الأحاديث التي وردت فيها كلمة (الاجتهاد) لا تعني على الإطلاق قضية فهم النص الديني، وإنما عنت ودلت على مدلول آخر تماما كما سنرى في المقالات القادمة.

أما فهم النص الديني وتبين مدلولاته هو أمر آخر لا علاقة له بالاجتهاد، ذلك أن قضية فهم النص الديني هي قضية منفصلة تماما عن قضية الاجتهاد، هذه القضية لها إطارها الخاص ولها معوقاتها الخاصة التي نعاني منها، هذه المعوقات تتركز في غياب المنهج العلمي الحقيقي، الذي من خلاله يمكن الوصول إلى حقيقة مدلول النص الديني بطريقة سليمة متفق عليها، ومرجعية وحيدة يرتكن عليها من يقوم على فهم النص الديني، وبما أننا معاشر العرب والمسلمين لا نرى للمنهج العلمي أية أهمية في حياتنا الفكرية أو العلمية أو الثقافية بشكل عام، وليس لدينا مرجعية وحيدة تكون هي نقطة الانطلاق نحو فهم النص الديني فلا لوم أن تكون البعثرة والفوضى والاختلاف والتناحر هي السمات الغالبة التي تطبع حياتنا وتميزها عن حياة الأمم المتقدمة علميا وفكريا،

أما الانطلاق إلى فهم النص الديني هكذا دون ضابط علمي ممنهج ودون مرجعية واحدة وحيدة متفق عليها لذلك الفهم, فإن ذلك يعد فتحا لأبواب شر لا تحمد عقباها, حيث إن المتطرفين والمتشددين والمغالين والمفرطين الجميع يدعي الاجتهاد في فهم النصوص الدينية دون أي ضابط علمي ممنهج, فالكل يفهم من النص ما يحلو له وما يوافق مذهبه وحزبه وفكره وأغراضه الشخصية وهواه, إن فهم النصوص الدينية دون ضابط علمي ممنهج ودون مرجعية واحدة وحيدة من باطن النص الديني ذاته يفتح أبوابا من جحيم الاختلاف والشقاق وسفك الدماء على مصراعيها وهو ما نشاهده الآن في شتى أنحاء العالم الإسلامي, والله يقول: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) فالاختلاف على النص يجعله من عند غير الله، وحاشا لله, بل إن ما بين أيدينا وما في عقولنا وما في تراثنا من دين هو الذي من عند غير الله, وليس كلام الله.

أما عن شرعية الاجتهاد بهذا الفهم الذي فهمه العلماء قديما وحديثا بأن يتم استيلاد واستنساخ أو اختراع أحكام جديدة غير ما نص الله عليها, فليس لهذا الاجتهاد أية مشروعية دينية، والفقهاء في كتب أصول الفقه قد ساقوا بعض الأدلة من القرآن والسنة على مشروعية الاجتهاد لفهم النص الديني, وبالنظر في الأدلة التي وردت في الاجتهاد, نجد أن الفقهاء لم يذكروا في مشروعية الاجتهاد إلا آية واحدة وحديثين فقط لا ثالث لهما، أما الآية فهي آية النساء التي قال الله فيها: {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولى الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم} وهذا النص القرآني الذي استدل به الفقهاء على حجية الاجتهاد, لا يمت بصلة من قريب أو بعيد إلى ما قصده الفقهاء من مشروعية الاجتهاد في فهم النص الديني بتشريع أحكام أو استنساخ أحكام زائدة على ما بين الله في كتابه, فالآية تتحدث عن أمور الإشاعات والأخبار التي لم تثبت صحتها أو كذبها, فإن كانت تتعلق هذه الأمور بالأمن أو الخوف فيجب ردها إلى أولى الأمر قبل إشاعتها بين الناس للتثبت من صحتها أو كذبها ومدى خطرها, حتى لا تحدث بلبلة واضطرابا بين الناس, ولا يفهم بأي حال من الأحوال من النص استنساخ أو اختراع أحكام أو تشريعات دينية من أولى الأمر, وإنما تحدثت الآية عن الرد إلى الرسول وإلى أولي الأمر في أمور الأمن والخوف لا أمور التشريع وفهم النص الديني.

## أحاديث الاجتهاد :
ما لا يعرفه كثير من الناس سواء الباحثون منهم أو الدارسون أو حتى القراء العاديون، أن نصوص الأحاديث التي سيقت لإثبات حجية الاجتهاد الديني أن هذه النصوص لم تشر على الإطلاق في منطوقها أو مضمونها لا من قريب ولا من بعيد إلى أن الاجتهاد المقصود في نصوص تلك الأحاديث ليس هو الاجتهاد بمفهومه السائد الآن بين الباحثين والمفكرين ولا بمفهومه السائد في كتب أصول الفقه التراثية منها أو الحديثة، ذلك المفهوم الذي يشير إلى بذل الجهد في فهم النص الديني، لأن نصوص الأحاديث التي تحدثت عن الاجتهاد لم يرد في نصها ولا في مضمونها أي إشارة إلى بذل الجهد في فهم النص الديني، وإنما الذي أشارت إليه نصوص الأحاديث هو بذل الحاكم والقاضي الجهد في كيفية تطبيق الحكم على الواقعة أو الحادثة المراد الحكم فيها، أو اجتهاد رأي القاضي في الحكم برأيه حين لا يجد نصا للواقعة في كتاب الله ولا في أحاديث الرسول، مما يعني أن الاجتهاد المقصود يكون ببذل الحاكم أو القاضي قصارى جهده في التدقيق والحرص على الإصابة في تنفيذ الأحكام على الناس وفي الوقائع والأحداث المختلفة، وليس الاجتهاد في فهم النص الديني.

والأحاديث التي وردت في الاجتهاد حديثان لا ثالث لهما، حديث عمرو بن العاص، وحديث معاذ بن جبل، والحديثان يحتاجان إلى إعادة قراءتهما قراءة جديدة لعدة أسباب منها: ما يحملان من خطورة في مضامينهما، ومنها: انحراف الفقهاء عن المنطوق والدلالة الحقيقية لنصا الحديثين إلى دلالة ومنطوق آخر يخرجهما عن سياقهما الحقيقي. وسوف نبدأ بحديث معاذ بن جبل ونص هذا الحديث كالتالي: (حين أرسل الرسول عليه الصلاة والسلام معاذ بن جبل إلى اليمن، قال له: بما تقضي يا معاذ قال بكتاب الله قال فان لم تجد فقال بسنة رسول الله فقال فان لم تجد قال اجتهد رأيي ولا آلو فقال الرسول عليه الصلاة والسلام الحمد لله الذي وفق رسول الله لما يحبه ويرضاه).

وقبل مناقشة نص هذا الحديث دعنا أولا نلقي نظرة على صحة نسبة هذا الحديث إلى الرسول عليه الصلاة والسلام كما جاء في كتب المحدثين، قال الألباني في "السلسلة الضعيفة والموضوعة" (2 / 273): (حديث منكر)، أخرجه أبو داود الطيالسي في “‎مسنده“ (1 / 286) و كذا أحمد (5 / 230 , 242) و أبو داود في “‎السنن“ (2 / 116) والعقيلي في "الضعفاء" ( 76 - 77 ) وابن حزم في "الإحكام" من طرق عن شعبة عن أبي العون عن الحارث بن عمرو عن أصحاب معاذ بن جبل عن معاذ بن جبل: أن النبي صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن قال له: كيف تقضي إذا عرض لك قضاء? قال: أقضي بما في كتاب الله. قال :‎فإن لم يكن في كتاب الله? قال: بسنة رسول الله، قال: فإن لم يكن في سنة رسول الله? قال: أجتهد رأيي لا آلو, قال : فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره, وقال: فذكره. وقال العقيلي: قال البخاري: هذا حديث لا يصح, و لا يعرف إلا مرسلا.

وقال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه, و ليس إسناده عندي بمتصل. وقال ابن حزم: :هذا حديث ساقط ,‎لم يروه أحد من غير هذا الطريق, وأول سقوطه أنه عن قوم مجهولين, لم يسموا ,‎فلا حجة فيمن لا يعرف من هو? وفيه الحارث بن عمرو, و هو مجهول لا يعرف من هو? و لم يأت هذا الحديث قط من غير طريقه". وقال في موضع آخر بعد أن نقل قول البخاري فيه: "لا يصح". "وهذا حديث باطل لا أصل له". وقال ابن الجوزي في "العلل المتناهية": "لا يصح و إن كان الفقهاء كلهم يذكرونه في كتبهم و يعتمدون عليه, وإن كان معناه صحيحا". و قال ابن طاهر في تصنيف له مفرد, في الكلام على هذا الحديث: "اعلم أنني فحصت عن هذا الحديث في المسانيد الكبار والصغار, وسألت عنه من لقيته من أهل العلم بالنقل, فلم أجد غير طريقين: أحدهما: طريق شعبة. والأخرى: عن محمد بن جابر عن أشعث بن أبي الشعثاء عن رجل من ثقيف عن معاذ وكلاهما لا يصح. و قد أخرجه الخطيب في كتاب "الفقيه والمتفقه" من رواية عبد الرحمن بن غنم عن معاذ بن جبل, فلو كان الإسناد إلى عبد الرحمن ثابتا لكان كافيا في صحة الحديث.
وقد أخرجه ابن ماجه في “‎سننه “ من حديث يحيى بن سعيد الأموي حدثنا معاذ بن جبل قال: لما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قال: لا تقضين ولا تفصلن إلا بما تعلم, و إن أشكل عليك أمر فقف حتى تبينه, أوتكتب إلي فيه".

فصحة الحديث كما رأينا أن جميع المحدثين حكموا ببطلانه وأنه منكر وموضوع، هذا من ناحية السند، أما من ناحية مناقشة نص ومضمون الحديث، فسنفترض صحة نسبته إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وسنقوم بقراءة نص هذا الحديث لنرى هل نص هذا الحديث يشير إلى الاجتهاد في فهم النص الديني كما ذكر فقهاء أصول الفقه أم لا؟. وهذا هو نص الحديث كالتالي: (حين أرسل الرسول عليه الصلاة والسلام معاذ بن جبل إلى اليمن، قال له: بما تقضي يا معاذ؟، قال: بكتاب الله. قال: فان لم تجد؟، فقال: بسنة رسول الله. فقال فان لم تجد؟، قال اجتهد رأيي ولا آلو. فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: الحمد لله الذي وفق رسول الله لما يحبه ويرضاه). وقد أخرجه ابن ماجه في "‎سننه" من حديث يحيى بن سعيد الأموي حدثنا معاذ بن جبل قال: (لما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قال: لا تقضين ولا تفصلن إلا بما تعلم, و إن أشكل عليك أمر فقف حتى تبينه, أو تكتب إلي فيه).

فنص الحديث يقول أن الرسول قال لمعاذ بما تقضي؟ مما يدل على أن معاذ أرسل إلى اليمن ليحكم ويقضى بين الناس, أي حاكما أو قاضيا، ولم يرسل مفتيا أو واعظا، فأجاب معاذ بكتاب الله فقال له الرسول فإن لم تجد؟ فأجاب معاذ فبسنة رسوله فقال الرسول فإن لم تجد فأجاب معاذ أجتهد رأيي. فالمفهوم لأي أحد يقرأ هذا الحديث أن معاذ ذهب إلى اليمن ليحكم أو يقضي بين الناس إما بكتاب الله فإن لم يجد في كتاب الله فسيقضي بالسنة وإن لم يجد في الكتاب والسنة فسوف يجتهد رأيه في القضاء بين الناس. هذا هو المفهوم الواضح لأي أحد يقرأ هذا الحديث, فلم يرد في النص أن الاجتهاد المقصود هو الاجتهاد في فهم النص الديني، ولا أن معاذ سوف يصدر تشريعات برأيه ثم ينسبها إلى الدين، كما يقول فقهاء أصول الفقه ويقررون أن ما يصدر عن فقهاء الدين من تشريعات واجتهادات هي تشريعات دينية.

إن الإسلام لا يحرم ولا يمنع من وضع حاكم ما أو قاض ما بعض التشريعات أو القوانين برأيه، ولا إثم على أي شخص كان أن يضع تشريعا في أي واقعة ما وفي أي وقت كان وفي أي زمن كان, ما دام أن تشريعه هذا لا يناقض شرع الله, ولا ينقص منه ولا يزيد عليه, وما دامت هذه التشريعات أو هذه القوانين لا تنسب إلى الدين، إنما هي مجرد آراء من صنع البشر يمكن مناقشتها ويمكن مناقشة من اجتهد برأيه في اجتهاده ويمكن تخطئته أو تصويبه ما دام تشريعه أو أحكامه قامت على العدل وعدم التحيز أو اتباع الهوى. وما لم ينسبها إلى الدين وما لم يقل أنها دين أنزله الله. فمعاذ بن جبل لم يقل أنه سيجتهد في وضع أحكام أو تشريعات ثم ينسبها إلى الدين، ولم يقل إنه حكم الله أو تشريع ديني، وإنما قال أجتهد رأيي، أي مجرد رأي يقبل النقد والرد ويحتمل الصواب ويحتمل الخطأ . وخلاصة ما تقدم في معنى الاجتهاد كما ورد في حديث معاذ بن جبل على فرضية صحة الحديث كالتالي:

- إن معاذ ذهب إلى اليمن قاضيا وليس مفتيا, وعند ورود واقعة لم يرد فيها حكم لا في الكتاب ولا في السنة فعلى الحاكم أن يجتهد رأيه بتحري الحقيقة والعدالة في حكمه, وحكمه برأيه ليس حكما مقدسا بل هو اجتهاد بشري قد يصيب وقد يخطئ وبالتالي فهو قابل للأخذ أو الرد.
- الاجتهاد لا يعني تشريع أحكام ننسبها إلى الدين أو نقول هذا شرع الله أو هذا حكم الله, فهذا ما لم يقله رسول الله ولا يفهم ذلك من نص الحديث.
- إذن فالاجتهاد الديني الذي يضع أحكاما جديدة لم يأت تفصيلها بصورة قطعية محكمة في القرآن، أو قياسا على أحكام موجودة في الكتب المقدسة هو اختراع بشري من صنع رجال الدين وليس تشريع إلهي.

## عمرو بن العاص وحديث الاجتهاد :
الحديث الثاني الذي استدل به فقهاء أصول الفقه في شرعنة ما يسمى الاجتهاد الديني الذي يعني عند الفقهاء بذل الجهد في فهم النص الديني، حديث رواه عمرو بن العاص، وهو حديث رواه البخاري ومسلم، ونص هذا الحديث كالتالي: عن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر) متفق عليه.

وأود قبل مناقشة نص هذا الحديث أن ألقي نظرة توضيحية على الصحابي عمرو بن العاص راوي هذا الحديث، لأن عمرو بن العاص شخصية مثيرة للجدل وشديدة المكر والدهاء السياسي، وما يرد عنه من أراء وما يروي من روايات ينبغي أن يتم الوقوف أمامها طويلا للتعرف على المدلولات الحقيقية التي تحملها تلك الآراء أو حتى الروايات التي يرويها عن النبي عليه الصلاة والسلام، فعمرو بن العاص بدهائه ومكره السياسي كان هو أحد الأسباب الرئيسة في إشعال الفتنة بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، الفتنة التي راح ضحاياها الآلاف من المسلمين على الجانبين، فهذا المقال والمقال التالي سألقي قيهما الضوء على دور عمرو بن العاص في إشعال الفتنة بين علي ومعاوية، ثم بعدها نعود لهذا الحديث الذي رواه هو في الاجتهاد لنرى هل من أمر ما يمكن قراءته واستجلاءه في رواية عمرو بن العاص لحديث الاجتهاد هذا؟.

لما فرغ على بن أبي طالب من موقعة الجمل التي كانت عائشة زوج النبي عليه الصلاة والسلام طرف فيها ضد على بن أبي طالب, قام على ببعث الرسل إلى البلدان والأقاليم لأخذ البيعة له على الخلافة, وكان يومها معاوية بن أبي سفيان والياً على الشام فأرسل له على بن أبي طالب احد أتباعه لأخذ البيعة منه على الخلافة، فلما بلغت معاوية رسالة على بن أبي طالب جمع معاوية عمرو بن العاص وكبار أهل الشام، فاستشارهم معاوية في رسالة على بن أبي طالب فكان ردهم أن رفضوا البيعة لعلى بن أبى طالب بالخلافة حتى يقتص علي بن أبي طالب من قتلة عثمان بن عفان, بل إن معاوية اتهم على بن أبى طالب بأنه أعان قتلة عثمان بن عفان وانه آواهم, ثم شرط معاوية حتى يبايع على بن أبى طالب على الخلافة أن يقتل قتلة عثمان أو يدفعهم إلى معاوية ليقتلهم هو بنفسه.
أما عن الخوارج فهم جماعة من قراء أهل الشام وقراء أهل العراق قد اجتمعوا لكي يتوسطوا ويوفقوا بين على بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان في نزاعهم حول قتلة عثمان عفان.

وبعد ذهاب وإياب هؤلاء القراء بين على ومعاوية لعدة مرات فشلت محاولات الوساطة هذه في فض النزاع القائم بين الطرفين فاندلع القتال بين على بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان واستمر أياما طويلة حتى كاد النصر أن يكون حليفا لعلى بن أبى طالب وأتباعه من أهل العراق ضد معاوية بن أبي سفيان وأهل الشام, فلما أحس أهل الشام بأنهم قاب قوسين أو أدنى من الهزيمة قاموا فرفعوا المصاحف فوق أسنة الرماح وقالوا لأهل العراق هذا بيننا وبينكم.

وذكر بن جرير وبن كثير أن أول من أشار برفع المصاحف على أسنة الرماح وأول من اخترع هذه الفكرة هو (عمرو بن العاص) كما ذكر ذلك بن جرير الطبري في تاريخه وبن كثير واحمد بن حنبل في المسند وغيرهم وكانت هذه خدعة شيطانية من عمرو بن العاص ليوقف القتال حين أحس بالهزيمة ويستطيع من خلال هذه الخدعة أن يشتت ويفرق أصحاب علي بن أبي طالب، إلا أن علي بن أبي طالب رفض الانصياع لهذه الخدعة الماكرة الخبيثة, وعندها قام جماعة من القراء سالفي الذكر إلى علي بن أبي طالب وطالبوه أن يستجيب إلى كتاب الله وإلا قتلناك أو سلمناك إلى أهل الشام فيقتلوك, وتجنبا لفتنة أكبر بين المسلمين أمر على بن أبى طالب بوقف القتال وأمر أمير قواته (الأشتر) بوقف القتال فأوقف (الأشتر) القتال على مضض.

وبعدها تراضى الفريقان بعد مكاتبات ومراجعات على التحكيم وهو أن يحكم كل واحد من الأميرين على ومعاوية رجلا من جهته ثم يتفق الحكماء على ما فيه مصلحة المسلمين، فبعث معاوية عمرو بن العاص وبعث على بأبي موسى الأشعري, ثم كتب على بن أبي طالب كتاب بموافقته على التحكيم ثم أعطاه للأشعث بن قيس الذي مر على جماعة من بني تميم فقرأ عليهم الكتاب فقام إليه عروة بن جرير من بني ربيعة بن حنظلة فقال: أتحكمون في دين الله الرجال, وقد أخذ هذه الكلمة من الرجل طوائف من أصحاب علي من القراء سالفي الذكر وقالوا لا حكم إلا لله فسموا (المحكمية).

ولما رجع على بن أبي طالب إلى الكوفة اعتزل من جيشه ما يقرب من اثنا عشر ألفا وهم الخوارج وكان من أمرهم ما كان فقد كفروا على بن أبي طالب ومعاوية وجميع الصحابة واستحلوا دمائهم وأموالهم وأعراضهم ثم قاتلهم على بن أبى طالب بعد ذلك وهزمهم وكسر شوكتهم فلم تقم لهم قائمة بعدها أبدا.

ويمكن للقارئ الكريم أن يراجع كل ما لخصناه وذكرناه بالحرف الواحد دون زيادة أو نقصان في كتاب البداية والنهاية لابن كثير –الجزء السابع المجلد الرابع الناشر دار الفكر العربي , بالطبعة الأولى 1933م طبعة نهر النيل للطباعة , الجيزة . وسيجد ما لخصناه موجود من صفحة 268 إلى صفحة 314.

إذن فإن أول من اخترع هذا الاختراع أو هذه الحيلة الخبيثة هو عمرو بن العاص وليس الخوارج وقد تلقفها جماعة من القراء من أتباع علي وسموا بعد ذلك بالخوارج، وهذا ما ذكره بن كثير في البداية والنهاية عن بعض المؤرخين كابن جرير وبن حنبل وغيرهم يقول بن كثير:
"قال أبو وائل: كنا بـ (صفين) (الموقعة التي كانت بين على ومعاوية) فلما استعر القتال بأهل الشام(معاوية وأتباعه) اعتصموا بتل، فقال عمرو بن العاص لمعاوية: أرسل إلى علي بمصحف فادعه إلى كتاب الله، فانه لن يأبى عليك، فجاء به رجل فقال بيننا وبينكم كتاب الله).

وقال بن كثير أيضا في البداية والنهاية نقلا عن بن جرير وغيره من أهل التاريخ: (إن الذي أشار بهذا هو عمرو بن العاص وذلك لما رأى أهل العراق (على وأتباعه) قد استظهروا في ذلك الموقف، أحب أن ينفصل الحال وان يتأخر الأمر، فإن كلا من الفريقين صابر للآخر، والناس يتفانون فقال لمعاوية: إني قد رأيت أمرا لا يزيدنا هذه الساعة إلا اجتماعا ولا يزيدهم إلا فرقة، أرى أن ترفع المصاحف وندعوهم إليها فان أجابوا كلهم إلى ذلك برد القتال، وإن اختلفوا فيما بينهم، فمن قائل نجيبهم، وقائل لا نجيبهم فشلوا وذهب ريحهم"

إذن يتضح لنا مما ذكره بن كثير وبن جرير وغيرهما أن حيلة رفع المصاحف كانت من بنات أفكار عمرو بن العاص الذي اشتهر باللؤم والدهاء والمكر، وها هو قد استخدم المصاحف لمصالحه وأغراضه السياسية، مع أن عمرو بن العاص وصاحبه معاوية كانا لا يعرفان من الإسلام إلا اسمه ولا من القرآن إلا رسمه، وكان من يعلم عنهم ذلك على بن أبي طالب وذلك حين قال لأصحابه بعد طلب أهل الشام الاحتكام إلى المصحف فيما ذكره بن كثير في البداية والنهاية على النحو التالي:

( فلما رفعت المصاحف قال أهل العراق (أتباع على بن أبي طالب) نجيب إلى كتاب الله، وننيب إليه إلا أن عليا رد عليهم قائلا: امضوا إلى حقكم وصدقكم وقتال عدوكم، فان معاوية وعمرو بن العاص وابن أبي معيط، وحبيب بن مسلمه، وابن أبي السرح، والضحاك بن قيس ـ ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، أنا اعرف بهم منكم، قد صحبتهم أطفالا، وصحبتهم رجالا، فكانوا شر أطفال وشر رجال، ويحكم (ويلكم)، والله إنهم ما رفعوها لأنهم يقرءونها ولا يعلمون بما فيها وما رفعوها لا خديعة ودهاء ومكيدة، إنما أقاتلهم ليدينوا بحكم الكتاب فإنهم قد عصوا الله فيما أمرهم به وتركوا عهده ونبذوا كتابه) وبعد هذه الوقائع التي ذكرها المؤرخون يتضح لنا جليا أن دعوة رفع المصاحف والدعوة إلى التحاكم إليها كانت فكرة الداهية عمرو بن العاص وكانت دعوة لأغراض سياسية.

## مناقشة نص حديث عمرو بن العاص في الاجتهاد:
(عن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر) متفق عليه)

أول ما يلفت انتباه القارئ لهذا الحديث أنه ينص على الحاكم، وليس الفقيه أو رجل الدين، والحاكم هو من يقوم على أمر الناس ويسوسهم، أو من يقضى بين الناس ويحكم في خصوماتهم, والمفهوم البين الواضح لأي قارئ لهذا الحديث لا يمكن أن يفهم منه سوى أن الحاكم إذا حكم بين الناس بالحق ولم يتبع الهوى وحكم بما بان له وبما توافر لديه من أدلة قطعية وقرائن واضحة تطمئن نفسه إليها ثم أصاب في حكمه فله أجران أجر على تحريه الحق والصواب وبذل الجهد في ذلك، أي أنه لم يكتف بما توافر لديه من أدلة وقرائن فحسب، بل إنه بذل جهدا في التحقق والتدقيق من تلك الأدلة فأصاب لذلك في حكمه فله أجران, أجر بذل الجهد، وأجر الإصابة في الحكم،

أما لو قام الحاكم ببذل الجهد في التعرف على الأدلة والبراهين والقرائن واستبان له بعد ذلك الجهد أن الحق لطرف على آخر إلا أنه لم يصب في حكمه هذا، أي أنه قد أخطأ في إنزال الحكم على الواقعة أو أخطأ الظرف الزماني أو المكاني أو أخطأ الشخص الذي له الحق وحكم لغيره بعد اجتهاده في تقصى الحقيقة وبذل قصارى جهده ثم أخطأ في حكمه هذا فعندها "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها" وهو معذور لأن خطأه غير متعمد وغير مقصود ويجرى عليه قول المولى عز وجل: {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم}. وهذا الخطأ يكون في أن الخصم الذي عليه الحق أكثر جدلا وأدق تعبيرا وقدم ما يثبت أن الحق له وهو ليس كذلك، والطرف الآخر الذي له الحق لم يستطع أن يقدم ما يثبت حقه وما يقنع به الحاكم أو القاضي كأن يكون من العوام الذين لا يملكون فصاحة اللسان ودقة التعبير عن الحق فلم يستطع أن يثبت للقاضي بصورة جلية واثقة أحقيته بالأمر، والقاضي لا يعلم الغيب ولا يطلع على ما في صدور الناس، فيحكم لمن استطاع أن يبرهن ويقدم حججا قوية تثبت حقه حتى ولو كان ليس له حق بالفعل، وهنا يكون الحاكم أو القاضي غير آثم لو حكم لمن ليس له الحق فعلا إذا بذل جهده في تحري الحقيقة.

هذا هو مفهوم الاجتهاد الذي يفهمه أي قارئ لهذا الحديث، هذا لو افترضنا صحة الحديث وأنه بالفعل قاله النبي صلى الله عليه وسلم. فإن الاجتهاد الذي يفهمه أي أحد من الحديث هو في الجهد الذي يبذله الحاكم في إنزال الحكم على واقعة ما, أو في تحري الأدلة والحقائق قبل إصدار الحكم, وعندها إذا أخطأ الحاكم فلا إثم عليه ما دام قد بذل جهدا في تحرى الحق والعدل وتجنب الهوى والجور، وليس كما ذهب العلماء والفقهاء من أن الاجتهاد هو فهم النص الديني. أو وضع أحكام جديدة لم يذكرها الله في كتابه قياسا على نصوص نزلت في أشياء بعينها، فالقول بهذا هو قول على الله وعلى رسوله بلا علم وشيء لم يذكره الله في كتابه الكريم, ومحال أن يقول به رسول الله عليه الصلاة والسلام.

أما لو لم يكن الحديث صحيحا في نسبته للرسول عليه الصلاة والسلام، وكان من بنات أفكار عمرو بن العاص، كما افتعل فكرة رفع المصاحف في واقعة التحكيم بين علي ومعاوية، فربما يكون القصد من وراءه تبرير جرائم الحاكم في حق الرعية والمحكومين، وربما يكون عمرو بن العاص قد قام بتأليف هذا الحديث ليبرر لحليفه معاوية بن أبي سفيان جرائمه وطغيانه في حق الناس، فمعاوية كان حاكما وكذلك عمرو بن العاص كان حاكما، ولو كان هذا هو المقصود بالفعل فيكون الحديث مسوغا مشروعا للحاكم أن يفعل ما يشاء في حكمه بين الناس سواء بالصواب أو بالخطأ، بالحق أو بالباطل، وإذا عاتبه الناس على خطئه في حكمه يكون ذلك الحديث مسوغا ومبررا لأخطائه، بل هذا الحديث يجعله مأجورا على أخطائه في حق الناس.



#نهرو_عبد_الصبور_طنطاوي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- وماذا بعد سقوط حسني مبارك ومحاكمته؟
- المواقيت الصحيحة للإفطار والسحور
- لا دية لأسر شهداء 25 يناير
- النظام المديني وزوال الديمقراطية – الجزء الثاني
- النظام المديني وزوال الديمقراطية – الجزء الأول
- من أجل إنقاذ مصر
- الدعاء في سجن (مزرعة طرة) مستجاب
- ويل لمن تنكروا لفضل الرئيس مبارك عليهم
- ثورة 25 يناير ثورة إسلامية بلا خوميني
- حقيقة حياد الجيش وقراءة أخرى في المشهد المصري
- العلاقة المشبوه بين البابا شنودة والرئيس مبارك
- ثورة مصر: ثورة طاهرة في بيت دعارة
- احذروا أيها المصريون: هؤلاء يتآمرون عليكم
- شعوب تستلهم خلاصها من المنتحرين والمحروقين والغائبين
- البطولة الزائفة للمنتحر التونسي (محمد بوعزيزي)
- الطائفية الريفية والإجحاف بالمسيحيين
- مسيحيو مصر ليسوا سواء
- متى يعتذر المصري المسلم عن انتمائه للإسلام؟
- الإعلام الخاص يحرض على الفتنة بازدرائه للمسلمين
- أخطاء الرصد الإعلامي لتوجهات الناس تجاه الفتنة الطائفية


المزيد.....




- “خليهم يتعلموا ويغنوا ” نزل تردد قناة طيور الجنة للأطفال وأم ...
- فيديو خاص عيد الفصح العبري واقتحامات اليهود للمسجد الأقصى
- “ثبتها الآن” تردد قناة طيور الجنة 2024 Toyor Aljanah لمشاهدة ...
- بعد اقتحامات الأقصى بسببه.. ماذا نعرف عن عيد الفصح اليهودي ا ...
- ما جدية واشنطن في معاقبة كتيبة -نيتسح يهودا- الإسرائيلية؟
- بالفيديو.. مستوطنون يقتحمون الأقصى بثاني أيام الفصح اليهودي ...
- مصر.. شائعة تتسبب في معركة دامية وحرق منازل للأقباط والأمن ي ...
- مسئول فلسطيني: القوات الإسرائيلية تغلق الحرم الإبراهيمي بحجة ...
- بينهم طلاب يهود.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين تهز جامعات أمري ...
- أسعدي ودلعي طفلك بأغاني البيبي..تردد قناة طيور الجنة بيبي عل ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - نهرو عبد الصبور طنطاوي - هل الاجتهاد مصدر من مصادر التشريع في الإسلام؟؟