أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد حامد السلامونى - التجريب فى المسرح المصرى وتقويض الحداثة















المزيد.....



التجريب فى المسرح المصرى وتقويض الحداثة


محمد حامد السلامونى

الحوار المتمدن-العدد: 3449 - 2011 / 8 / 7 - 19:43
المحور: الادب والفن
    


يعود ارتكاز هذه الدراسة على (التجريب المسرحى)، فى تناول موضوعة(المتغيرات
الثقافية وأثرها على- المسرح المصرى) ، إلى أن سقوط الأيديولوجيات الكبرى؛ بما
هو المتغير الرئيس ،الحاكم الآن ،وسقوط النماذج الجمالية الجاهزة ،المصاحبة لها ،
دفع بالبعض إلى مراجعة البدهيات والمسلمات والمواضعات والتقاليد والأسس- التى
كان ينبنى عليها التصور الحداثى للعالم- ومن ثم ، لم يعد هناك من ســـــــــبيل سوى
(السؤال) ؛ فهو كل ما نملك ، وما من سبيل سواه لإقتحام المجهــــول عبر (تجريب)
الوعى بالوجود بطريقة أخرى ..

إستدراك أولى :
ــــــــــــــــــــــــ
بادئ ذى بدء، يمكن القول أن لدينا أجيالا تلو أخرى تعمل وتنتج (ثقافيا)فى مناخ متفجر
بالتناقضات ، لكن الإشكالية تنحصر فى أن تلك التناقضات،يحلها(أويقوم بالتأليف بينها)
كل طرف من أطراف الصراع ، وفقا لأيديولوجيته الخاصة ، هكذا، دون أن تنعكس- تلك
التناقضات- فيما ننتجه ، لذا ظل مسرحنا طوال تاريخه القصير ، فقيرا (فى عروضه) ؛
لأنه يعتمد الكلمة المسموعة- تلك التى سرعان مايتبخر(دالها- الصوتى)ولا يتبقى منها
سوى(المدلول) ..
هذاولم يستطع النقد المسرحى لدينا أن ينمى نظرية خاصة بتناول العروض- حتى بعدما
تخلص ، جزئيا على الأقل ، من نقد النصوص وانتقل إلى نقد العروض ، ذلك لأن شـغله
الشاغل ظل هو (المدلول- إذ لم يكن سوى التجلى الجديد لما كان يعرف من قبـــــــــــــل
بالمضمون أوالمحتوى الأيديولوجـــــى) ، وليس أدل على ذلك من لجوء النقد لدينا إلى
(السيميولوجيا) ؛ فهى العلم الذى ينصب على دراسة (المدلول) ..
وبذا يمكن القول أن النقد لدينا إنما يتناول علامات العرض على مرجعية (الكلمة) ، أى
أن الكلمة ظلت تحتل مركزية العرض (حتى لو لم تكن هناك كلمات) !..
وبالإضافة إلى ذلك ، فالنقد الذى تتحدد وظيفته على هذا النحـــــو (الذى هو البحث عن
المدلول)- علما بأن تحديد وظيفة النقد هى نفسها الإجابة عن سؤال :(ما المسـرح ؟)-
أقول بأن النقد الذى تتحدد وظيفته على هذا النحو ، هو الذى يُعرف العروض ويمنحها
معناها ويرسخ الإعتقاد بأن الأشكال المسرحية (التقليدية أوالتجريبية) تعنى كذا ، وبذا
نجد أنفسنا أمام (تشوه) ما، ذلك أنه هو الذى يضع إطار التفسير ، النقد هو الذى يحدد
لنا الأطر التفسيرية التى يجب علينا أن نرى العروض من خلالها ..
هذا يعود إلى أن المؤدلجين إنما يمتلكون الواقع بالكلمات ، أو أن الواقع ، لديهــم- بما
هو الوعى نفسه- إنما يسـكن اللغة ... فعلى الرغم من تنوع الأيديولوجيات واختلافها،
إلا أن(البنية المركزية) لثقافتنا لم تزل تتمحور حول الكلمة ، فكل أيديولوجيا تعتقد بأن
مسمياتها (أولغتها) هى الواقع نفسه محولا إلى كلمات أوالعكس (وفى كلتــــا الحالتين
اللغة لدينا تنتج الواقع)، والآن ، بعدما تراجعت سطوة وسلطة وهيمنة الأيديولوجيـات
، غمرتنا العولمة وما بعد الحداثة وعبر أدوات الإتصال الجديدة ، تم الزج بنا أو دفعنـا
- قسرا- للإندماج فى العالم الجديد ، الذى يتميز بأن (الصورة فيه هى المنتجة للواقــع
- بودريار) ..

مفهوم التجريب :
ــــــــــــــــــــــــــ
إعتدنا أن نعثر- فى مقدمات وثنايا الدراسات التى تناولت موضــــــــــــوعة (التجريب
المسرحى)- على تعريفات مستعارة من(المعاجم والقواميس الأجنبية)؛ على إختلافها..
وأيا كان الأمر ، فالملاحظة المبدئية هنا، تتعلق بالنزوع العلمى ،التأسيسى ،المتناقض
مع كونه كذلك ؛أعنى الذى يقوم بالمصادرة على علميته ذاتها،ذلك أن إستعارة تعريف
ما ، لظاهرة ما (سوسيوثقافيـــــة) من خارج السياق الحضارى ، المؤطر بل والداعى
لوجودها، هو قفزعلى وتجاوز للمنهج العلمى ذاته،إذ يوقع بنا فى تجريدات وتعميمات
غير علمية بالمرة ، وغنى عن البيان أن مثل هذا المنحى إنما يكشف عن وجود بنيــــة
عقلية (مرجعية) ؛ لا تستطيع التفكير والعمل خارج إطار النمـــــاذج المقررة والجاهزة
والمعدة من قبل- وغنى عن البيان أيضا أن هذا المنحى نفسه يعد منافيا للتجريب ذاتـه
ومصادرة عليه (!) ..
وإن كنت أتحدث هنا عن تناول(التجريب)نفسه بطريقة تجريبية- وفقا لسياقه الحضارى
- فإ نما أعنى بذلك ضرورة التحرر من المواضعات النظرية المعهودة ؛ تلك المتعلقــــة
بالمجال النوعى الذى يعمل التجريب فى إطاره- وهو المسرح نفسه .. ذلك أن موضوع
التجريب هو تلك المواضعات نفسها- إذ يضعها فى موضع سـؤال ، بماهى وعى بلحظة
أو لحظات درامية ، منتسبة إلى الماضى .. مما قد يسفر- فى نهاية الأمــــر- عن إعادة
تعريف (النوع- المسرحى) نفسه ..
هذا ولم يعد أحد من الباحثين المسرحيين إلى معنى(التجريب)فى ثقافتنا نحن،وبتعبير
آخر ، إلى ما يعنيه التجريب بالنسبة إلى الجماعة الثقافية نفســـها ؛ التى حملت على
عاتقها مهمة (خوض غمار المجهول)- وكلنا نعلم كم هو مألوف ذلك التعبير، إذ يبدو
كتعويذة يتحتم تلاوتها على كل من يشرع فى الحديث عن التجريب !..
التجريب- وفقا لهذا المعنى- يعنى البحث عن آفاق جديدة أكثر إتساعا وانفتاحا؛خارج
الأفق(المعلوم)،الواطئ- بل المردوم- الذى نحيا فيه.. لكنه يعنى أيضا ضرورة معرفة
ذلك (الأفق المعلوم) حق المعرفة ؛ ليس لأنه هو وحده الأفق الذى نســــتظل به- قبل
الشروع فى التجريب- وإنما لأن سؤال التجريب ذاته ، هو (النجمة الوحيدة المضيئة
، المتبقية لنا، من الأفق القديم المنطفئ ، والهادية لنا إلى الآفاق الجديدة الممكنة) ..
وبعبارة أخرى ، ليس سؤال التجريب نفسه (بما هو سؤال المجهول) سوى الســؤال
عما صمت عنه (المعلوم) ؛ عما أخفاه النسق الخطابى المسرحى السائد ، وعمد إلى
تغييبه ..

(1)
ــــــــــــ
على الرغم من أن فكرة التجريب experimentation ،ولدت فى الغرب فى عصر
النهضة- مع فرانسيس بيكون- إلا أن النزعتين(الوضعية والعلمية)لم تجتاحا الغرب
إلا فى القرن التاسع عشر ، وأصبح (التجريب) يعرف [منطقيا] بأنه [إختبار منظــم
لظاهرة أوأكثر وملاحظتها ملاحظة دقيقة للتوصل إلى نتيجة معينة ، كالكشــف عن
فرض من الفروض أوتحقيقه ...]، و[المنهج التجريبى : جملة العمليات التى نضـع
بها فرضا من الفرضيات موضع الفحص ...]، هذا وقد امتد هذا المفهوم من العلوم
الطبيعية إلى العلوم الإنسانية ومن هذه الأخيرة إلى الآداب والفنون ..
ودون أن يستغرقنا هذا الأمر كثيرا- إذ تتوفر عليه مراجع جمة- أقول بأن التجريب
المسرحى لديهم ، كان جزءا لا يتجزء من مشروع تجريبى ذو طابع تاريخـــــــــى ،
حضارى ، عام وشامل ..
أما لدينا ففكرة (التجريب- التى دعى إليها يوسف إدريس ؛ فى بيانه المســـــــرحى
المعنون بـ " نحو مسرح مصرى") كانت قد ولدت فى الستينيات فى طارالمشروع
القومى- الذى تبنته ثورة 52، إلا أننا نلاحظ أن الفكرة نفسها كانت جزءا لايتجزء
من (مشروع سياسى فى جوهره- تماثلت فيه الدولة مع الثقافة) ، وبتعبيـــر آخر ،
الخطاب المسرحى- الإدريسى- يموضع نفسه ، فى القلب من (السياســى) ، أى أنه
فى الوقت الذى يقرن فيه (أصل- وجود المسرح) بـ (أصل- وجود الشعب المصرى)
، فإنما يشير أيضا إلى (أصله) هو نفسه ؛ إلى الأرض الأيديولوجية التى يتجذر فى
تربتها ؛ إلى النظام الأيديولوجى- كقوة سياسية مهيمنة على (الموضوع- المسرح)
!..
أما تسويغ الخطاب لديه فينبنى على رد(الثقافة)- أوالمسرح كظاهرة ثقافيـــة- إلى
(الطبيعة- البشرية)؛بما هى مجموع[القوى الجبلية فى الإنسان،أى السمات الثابتة
لديه والتى لا تتوقف على مجتمع بعينه أوبيئة بعينها ، كما تعنى الجانب الطبيــعى
فى الإنسان من رغبات وغرائز ودوافع وغيرها مما يمس الجانب البيولوجــى فى
الإنسان بالخصوص] (1) .. ويخلص (إدريس) إلى :
[إننا نقصد ، حين نتكلم عن المسرح ، ذلك المكان العالى ذا القبوة والخشـــــــــبة
والممثلين والروايات ، وهذا مسرح صحيح ولكنه ليس كل المســـرح ، فللمسرح
أشكال كثيرة متعددة ليس هذا النوع سوى أحدها فقط ، مجرد شـــــكل واحد تطور
على يد الإغريق ... أما بقية الأشكال المسرحية فهى موجودة فى حياة كل شـعب،
ولابد أن تكون موجودة وحية سرت ولا تزال سارية وستبقى سارية إلى الأبد] (2) ،
ويضيف : [هذه الأشكال ممكن جمعها تحت ظاهرة واحدة ، ظاهـــــــرة بيولوجية
حيوية تدفع الناس بعد انتهاء العمل واكتفاء غريزتى الوجود وحفظ النـــــــوع أو
حتى من أجل اكتفائهما إلى غريزة التجمع بلا سـبب فردى أوذاتى وإنمـــــا بتأثير
الغريزة الجماعية فى كل إنسان وتلبية لها ..] (3) ..
وإذا كان (موان) يقول :[ ليس هناك أية سمة خاصة بالإنسان لا نجد لها مصدرا
بيولوجيا ، إننا نحمل معنا كل الإرث المنحدر من ماضينا الحيوانى فى لعبنـــــــا،
وملذاتنا، وحبنا، وبحثنا ...] ويضيف :[الأفعال الأكثر بيولوجية هى أيضا الأفعال
الأكثر إنصباغا بالثقافة ، الميلاد ، الموت ، الزواج ...] (4) ..
إلا أن التأويل (الإدريسى) لتلك النظرية ، يصب فى ربط النظام المعرفى بالنظــام
السياسى .. ففى الخطاب الإدريسى ، المسرح (كظاهرة ثقافية) يبدو مؤطــــــــرا
بنظامين- أحدهما : (بيولوجى- عام) ، والآخر : (أيديولوجى- خاص) ..
هكذا ، لقد مثلت محاولة الإنفلات من قبضة التبعية الثقافية للـ (آخر- الغربــــى)
قوام المشروع التجريب الإدريسى ، كجزء لايتجزء من المشروع القومــــــــى ،
الإستقلالى ، الذى تأسست عليه الدولة القومية آنذاك .. وبتعبير آخر ، لم يكـــن
مشروع البحث عن الهوية القومية ، بالعودة إلى الأشكال التراثية المتجـذرة فى
التربة الثقافية ، الشعبية المصرية ، سوى محاولة (سياسية) لتجريد الوعـــــى
الغربى من المركزية (التى يدعيها عادة) ، بتحطيم مطلقية التعريف الذى منحـه
ذلك الوعى للفن المسرحى ، هذا فى مقابل إرساء مبدأين جديدين ، أحدهمـــــا
يقول بصدور الظاهرة المسرحية عن (غريزة التجمع) ، والآخر يقـــــــول بأن
مسرحا ما يستحيل تعريفه إلا فى إطار ثقافى محدد ..
وإذا كانت هذه محاولة لتأسيس التجريب المسرحى على معطيات(سوسيوثقافية)
لتحقيق غاية (سياسية) ، فلدى (الغرب) كان (التجريب) منهجا لثورة (حداثيــة)
شاملة ، طالت كافة مستويات الوجود الإنسانى ، تأسست على وجود نزعتين :
الأولى هى ــ (النزعة االإنسانية) :
[يربط العديد من الدارسين نشأة الحداثة بمبدأالذاتية.وهذاالمفهوم متعدد الدلالات
فهو يشكل مضمون ما سمى بالنزعة الإنسانية . ومن ثمة فهو يعنى مركزيــــــة
مرجعية الذات الإنسانية وفاعليتها وحريتها وشفافيتها وعقلانيتها ] ، ويضيــف
(محمد سبيلا) :[يرى هيجل أن مبدأ الذاتية هذا بدلالاته المختلفة قد فرضتــــــــه
الأحداث التاريخية الكبرى : الإصلاح الديني ، والأنوار، والثورة الفرنسية . فمع
الإصلاح البروتستاني لدى لوثر أصبح الإيمان الديني مرتبطا بالتفكير الشخصي،
وكأن العالم القدسي قد أصبح واقعا مرتبطا بقرارنا الشخصي . فهذا الإصلاح قام
على التأكيد على سيادة الذات،وأبراز قدرتها على التمييز والاختيار باعتباره حقا
من حقوقها ،في حين كان الإيمان التقليدي قائما على ضرورة الإتباع والخضوع
للقوة الآمرة للتراث والتقليد . كما أن الثورة الفرنسية وإعلان مبادئ حقــــــوق
الإنسان قد فرضت مبدأ حرية الاختيار،بمقابل الحق التاريخي المفروض،كقاعدة
أساسية للدولة .هكذا أصبح مبدأالذاتية محددا في كل مجالات الفعل ، ومحددا في
كل أشكال الثقافة الحديثة . فالحق والأخلاق أصبحا قائمين على الإرادة الحاليــة
الحاضرة للإنسان في حين أنها كانت من قبل مدونة ومملاة على الفرد . كمــــــا
أصبحت الذاتية أساس المعرفة العلمية التي تكشف أسرار الطبيعة بقدر ما تحرر
الذات العارفة ، فالطبيعة تصبح جملة قوانين شفافة ومعروفة من طرف الذات .
وعلى وجه العموم فإن الحياة الدينية، والدولة، والمجتمع، وكذا العلم والأخلاق
والفن تبدو جميعا كتجسيد لمبدأ الذاتية . هذا المبدأ الذي يظهركذاتية مجردة في
الكوجيتو الديكارتي أوالوعي الذاتي المطلق لدى كنط ] (5) ..
أما الثانية فهى ــ (النزعة التاريخانية) :
وهى تلك التى [ترجع كل شئ للتاريخ وتشرطه به لدرجة أنه تم وسم الحداثـــة
بكونها عبادة التاريخ ... الذى أصبح هو المصدر أوالمنتج الأساسى للمعنى] ..
وما يعنيه هذا ،هو أن الحداثة تنبنى معرفيا على[الإنتقال التدريجى من المعرفة
التأملية إلى المعرفة التقنية . فالمعرفة التقليدية تتسم بكونها معرفة كيفيـــــــة،
ذاتية وإنطباعية وقيمية ... أما المعرفة التقنية فهى نمط من المعرفة قائـم على
إعمال العقل بمعناه الحسابى .أى معرفة عمادها الملاحظة والتجريب والصياغة
الرياضية والتكميم . النموذج الأمثل لهذه المعرفة هو العلم أوالمعرفة العلميـــة
التى أصبحت نموذج كل معرفة ]، ويضيف :[عقل الحداثة عقل أداتى والمعرفة
الحداثية معرفة تقنية بمعنى أنها إضفاء للطابع التقنى على العلم، لكنها بنفـس
الوقت ومن حيث هى إضفاء للطابع العلمى على العلوم الإنسانية والإجتماعيـة
على وجه الخصوص ، فهى إضفاء للطابع التقنى على الثقافة ككل] (6) ..
والملاحظة التى يجب ذكرها هنا ، هى أن التجريب الغربى ينفتح على العالـــــم
ويتمدد خارج الأطر الجمالية السائدة والمعهودة ، بالإرتكاز على (مبدأ الذاتية)
الذى استرد فيه الإنسان الفرد وديعته من السماء- كما يقول (فيورباخ) ..
بينما التجريب المصرى بطابعه القومى وبتمحوره حول (البحث عن الهويـــة-
القومية)، وإن بدا منغلقا ومنكمشا داخل أطار (جمالى- سياسى) محلى ، ضيق
،إلا أنه من غير المنصف إدراك طبيعته ومغزاه خارج سياقه التاريخى- إذ كان
ردة فعل على الحقبة الإستعمارية السابقة، وهو نفسه ماتكرر حرفيا فى جميع
البلدان التى تحررت من الإستعمار آنذاك ..



(2)
ــــــــــــ
يعد (المهرجان التجريبى) الذى ابتدأ فى عام (1988) ، هو المرحلة الثانية من
المشروع التجريبى الممتد لدينا من الستينات..هذا والفرق بين التجريب الستينى
والتجريب الثمانينى- وفقا للسياق التاريخـى الملازم لكليهما- يكمن لدى المرحلة
الأولى فى النظر إلى(الآخر الغربى- كعدو)،بينما المرحلة الثانية تنظرإلى(الآخر)
كجزء لا يتجزء من (الأنا)- بعد إعادة تعريف الآخر،ومد مفهومه ليشمل (الغرب
والشرق) على السواء (تشهد على ذلك العروض المســـتجلبة من الخارج ، إلى
جانب إصدارات المهرجان التجريبى نفسه ؛ فالعروض والإصــــــــدارات تحاول
ما أمكن الإنفتاح على العالم بأكمله) ، هكذا ، أملا فى رسم خريطة ثقافيـــة أكثر
موضوعية ، تغطى مساحة شاسعة من العالم ..
ويبدو واضحا- من حيث النية على الأقل- أن التجريب الثمانينى ،بينما يسعى
لتجاوز تعريف الآخر (كعدو) ، إنما يعيد تعريف (الأنا) نفسها بالنســــبة إلى
(الآخر المتعدد)،أى أنه يسعى للدفع بالخطاب المسرحى المصرى إلى تجاوز
منوفونيته (الســتينية)- التى صارت مرادفة (للشيفونية) ، والإنتقال بها إلى
(البلوفونية) ، وبتعبير آخر ، هو يدفع بالمسرح المصرى إلى (تناصيـــة بلا
حدود) ، هذا على العكس من (التناصية السـتيتية المحدودة- والمحددة ؛ أى
المقتصرة على الآخر الغربى) ، ذلك أن (الآخــــــر الغربى)- رغم تعريفنا له
(كعدو) ، إلا أنه ظل يلعب دورا مركزيا فى تعريفنا لأنفسـنا ؛ (للأنا الخاصـة
بنا)، أعنى أن تلك الأنا ، فى تعيينها لنفسها- ودون أن تعى ذلك- ظلت تتخذ
من الأخر الغربى مرتكزا لها ، أى أنها كانت تعرف نفسها على ضوؤه هو ،
بما هو نقيضها ..
ومن ناحية أخرى ، نلاحظ بأن (الأنا- الستينية)- وفى إطار المشروع القومى-
كانت جزءا لا يتجزء من (النحن = الجماعة القومية) ، أى أن (فرديـة) الفنان
المسرحى ؛ فى إطار الطرح الإدريسى ، كادت تختفى وراء الجماعة ، هـذا إن
إن لم نصفها بالغياب والتلاشى.. أما(الأنا- الثمانينية)- ووفقا لتمحورالتجريب
حول (مغامرة البحث عن المجهول) ، دونما إطار إيديولوجى محدد وحاكــــم-
فتكاد تتمتع بفردية كاملة ، بات معها المسرح (بل والثقافة كلها) ، خاضـــــعا
للتقدير الإبداعى الشخصى ..

مرجعيات التجريب المعاصر :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يستند التجريب المسرحى الغربى المعاصر- بمنحاه مابعد الحداثى ، فى (بنائه)
لنفسه على(هدم)مرتكزات الحداثة ، تلك المتمحـورة حول(مبدأ الذاتية) و(مبدأ
الواقع) ، إلى جانب النزعات الأخرى المتعلقة بهما وعلى رأسها (النزعــــــــة
التاريخانية)- مما يمكن معه القول أن التجريب المعاصر إنما يســــــــعى بدأب
لتقويض الميتافيزيقا التى تأسست عليها الحداثة ،إلى جانب تلك التى تمخضت
عنها ..
(1)
ـــــــــــ
الصورة- فى تمثيلها للواقع- لم تعد شــفافة تجاه الحقيقة المتعلقة به ، وإنما
تحولت للدلالة على نفسها ، فى استقلال تام عنه ، بعد أن اغتالته وانتحــــلت
هويته (إفتراضيا) (7) ..
فالنسخة الشبيهة [لم تعد ... صورة فى المرآة عن أصل ما ، وبالتالى إشــارة
عنه ، وتعدى أمر النسـخة الشبيهة أيضا أنها استقلت وانفصلت عن أى أصل
، ولم تعد تشير إلى أصل موجود وبذا صارت إشارة إلى انتفاء الوجود نفسـه
ووصل الأمر إلى أن الواقع نفسه صار يصنع كليا من تناسل تلك النســـــــــخ
الشبيهة التى تنفى وجود الواقع .] (8) ..
هذا التصور(البودريارى)ينبنى على المبدأ القائل بأن[الوهم لم يعد ممكنا لأن
الحقيقة لم تعد ممكنة] (9) ، أى أن غياب الواقع الحقيقى (بماهو الدرجـــــة
الصفر)،الذى يتحدد الوجود الإستعارى بالنسبة إليها، يعنى إطلاق الإستعارة
من عقالها الإستعارى نفسه ، إلى الحد الذى تكف معه عن الإســـتكانة داخل
حدودها البلاغية والفلسـفية ، وتفيض على الواقع، تجتاحه ، تغمره ، تغرقه
، تميته ، محيلة إياه إلى إستعارة كبرى- أوإلى (مماثلة إستعاضيــــــــــــــــة
:simulation)، وهذه الأخيرة هى :[توليد نماذج من الواقع مع الإستغناء
عن الأصل أوالواقع ، بماينتج عالما فوق واقعى] (10).. وبكلمة واحدة، لم
يعد الواقع منتجا للإستعارات ، بل صارت هذه الأخيرة هى المنتجة له ..
وعندما نقول بأن الإستعارات تحولت إلى(واقع إفتراضى)، حل محل(الواقع
الحقيقى)،وأن هذا الأخيرصارهو الذى يتلقى الوجود والمعنى من الإستعارة
ذاتها،ألايعنى هذا أننا نحيا الآن فى ظل وضعية إنقلابية جذرية،تلاشى معها
(مبدأ الواقع) نفسه ؟..
ومعنى هذا أن التحول الذى طرأ على الفلسفة، منذ(نيتشه)- كما يقرر(فوكو
وريكور)- من (مشكلة الشئ- كما طرحها ديكارت) إلى (مشكلة المعنى)،قد
تحول الآن- بدوره- على يد (بودريار) عائدا من جديد إلى مشكلة الشـــئ :
(أحقيقى هو أم مجرد صورة زائفة تتظاهربأنها الحقيقة)،وإذا كانت مشكلة
الشئ عند ديكارت تتمحور حول الوجود:(إثبات وجود الشئ ،بمعنى مثوله
أوحضوره أمام الذات) ، فمشكلة الشئ عند بودريار تتمحور حول (الوجود
والتمثيل- وجود الشئ وتمثيل الشئ ،وسقوط المعيار الفاصل بينهما، بفعل
التقنية ؛ التى حاولت الذات من خلالها فرض هيمنتها على الطبيعة) ..
وما أعنيه بهذا ، هو أن (بودريار) إنما يعيد طرح الإشــــــكالية الديكارتية
المتعلقة بوجود الشئ ، على مرجعية وضع (الأنا العارفة- العقلانيــــــــــة
الديكارتية:بماهى الضامنة لإمكان المعرفة)وبالتالى عصرالتنوير والحداثة
الأوربية برمتها- فى موضع سؤال ..
والحقيقة أنه قد سبق لـ (هايدجر) أن تناول هذا الأمر ، فى مقاله عن (التقنيــة)
، وفيما أعتقد ، فـ (بودريار) لم يفعل سوى إضافة بعض الهوامش على المتـــن
الهايدجرى،أعنى أنه كان يسعى (للإنفلات من قبضة هيجل)؛ الذى اكتملت عنده
الميتافيزيقا ، على نحو ما فعل (هيدجر) الذى رأى فى (سيادة التقنية) إكتمـــالا
للميتافيزيقا ؛ إذ [يمتد الموجود فى غياب الإختلاف ، ذلك الغيـاب الذى لايضمن
ولا يضبط إلا عن طريق الفعالية والتنظيم الذى يستجيب لمبدأ الإنتاجية . ورغم
أن هذا المبدأ يظهر أنه يؤدى إلى نظام تراتبى ، إلا أنه يقوم أساسا، على غياب
كل تراتب ، حيث مرمى الإنتاج ليس إلا الفراغ الموحد] ، ويضيف (عبد السلام
بن عبد العالى) : [يتجلى مما سبق أن ما يتمخض عنه مبدأ الإنتاجية هو غياب
الإختلاف . وأن التقنية تسعى نحوالتطابق والإنسجام وتهاب التنوع والإختلاف
. التقنية إذن شكل من أشكال الحقيقة وكيفية من كيفيات الوجود . وما إنتشـــار
الآلات ونماذج التنمية والتصاميم والمخططات وتطورأدوات الإتصال،واكتساح
الإعلاميات لكل الحقول إلا شكل من أشكال الحقيقة ، وكيفية من الكيفيـات التى
يختفى فيها الوجود اليوم ليظهركمستودع.إنهاالصورة التى أصبح فيها الوجود
ذا طبيعة رياضية . هو إذن إنقلاب أنطلوجى جعل الفكر الكونى معادلا لعالــــــم
التقنية .] (11) ..
هكذا ، فالإستعارة التقنية- لدى هايدجر- تجتاح الواقع الفعلى ، وتصبــــح هى
الحائزة (للحقيقة) ، وما أتى به (بودريار) لم يزد عن كونه حفرة جديدة فــــى
نفس المنطقة التى أشار إليها (هايدجر) ..
هذا الإنفلات- من قبضة (الواقع)- الذى تمارسه (الإستعارة) ، يعنى أيضــــــا
تحررها من هيمنة (الذات) الهيجلية .. فحين نضع فى إعتبارنا أن الإستعارة-
هنا- هى نتاج الواقع التقنى الجديد ؛ الذى ينتج بنفســــــه عالمه الخاص وفقا
لشروطه الخاصة ، متحررا من الإرادة الإنســــــــانية- أى بمعزل عن (الذات)
أوبمعزل عن رغبة ووعى الذات ؛ فى مناقضة سافرة لخطاب الحداثة ، ممثلا
فى(ماركس) الذى كان قد قرر أن التقنية مجرد وسيلة إنتاجية محايدة ، ومن
ورائه الديالكتيك الهيجلى المفضى إلى هيمنة الذات على الواقع ..
حين نضع هذا فى إعتبارنا، سندرك أن تبادل المواقع بين(الإستعارة والواقع)
قد حتم على الذات نفسها أن تخضع لجملة من التحولات القسرية-على رأسها
تراجع الفكرة الأسطورية عن (الذات المهيمنة) ..
وما أعنيه بهذا،هوأن انفلات الإستعارة من سلطة الواقع وبلوغها حد التهامه
هو نفسه،أصاب الذات فى صميم تصوراتها عن نفسها ، ممايعنى أن إدراكها
لعدم هيمنتها على الواقع أضاء لها المقدار الذى تخضع به لســـــــــلطة الدال
الإستعارى نفسه، وبتعبيرآخر، لقد تبين للذات أن الواقع التقنى الجديد لم يكن
متماثلا مع وعيها بنفسها ..
وإذا أضفنا إلى ذلك ، أنه فى القلب من الحداثة ذاتها، وفى [مقابل ... التصور
العقلانى للإنسان كذات مركزية (التصور الديكارتى) ، عاقلة وعارفة ، مريدة
وفاعلة ، بدأ يتبلور خط فكرى معاكس قوامه أن الإنسان ذات مشـــــــــروخة
ومشروطة ، غيرعارفة بذاتها ، وخاضعة لحتمية البنيات الإقتصاديـــــــــــــة
والإجتماعية واللسانية والرمزية التى تحددها معا ، ذات يداهمها اللاعقـــــل
والوهم والمتخيل من كل جانب . لقد أدت الثورات المعرفيــــــــة الكبرى التى
حصلت منذ نهاية القرن الماضى (يقصد التاسع عشــــــــر) فى الفكر الغربى
(الثورة اللغوية ، الثورة الأبستمولوجية ،الثورة البنيوية ، الثورة التاريخية)
إلى فصل المعنى عن الوعى ، والمعرفة عن اليقين ، والمعنى عن التمثـــل ،
مبينة أن المعانى لا تصدر عن ذات سيكولوجية أوترانسندنتالية ،وإنما تتولد
فى اللغة ومنظومات القرابة ومختلف المنظومات الرمزية، وأن الذات ليست
فاعلا بقدر ما هى حصيلة مفاعيل ...] (12) ..
هذه الفجوة بين الوعى والواقع الجديد ، جعلت الذات تدرك مدى انبنــــــــاء
تصوراتها عن نفسها على (الوهم) ، أى أن الذات- بماهى (تصـور الأنا عن
علاقتها بالوجود- ذلك التصور القائم على التحقق- أى الهيمنة علــى الواقع
والمعنى)- قد تصدعت وتلاشت ..
وما نتج عن ذلك هو أن الإستعارة التى آل إليها الواقع،التهمت الذات أيضا-
بكلمة واحدة ،لم يعد الواقع تمثيلا لوعى الذات بنفسها وإنما أصبحت الذات
إمتدادا للواقع الإستعارى نفسه ..
أما (دريدا) فيستبعد [التمييز التقليدى بين (المعنى الأصلى) و(المعنــــــــى
المجازى)] (13) ، ذلك بارتكازه على تحليل الدال- بالمفهوم النيتشـــوى ؛
الذى يخفى تحته دوالا أخرى وليس مدلولا ما ، بمنأى عن الواقع الفعلـى ،
أى بمنأى عن المرجعية الحرفية التى تتحدد الإستعارة- بالمفهوم القديـــم-
كإنحراف عنها ..
مما يعنى أنه ينظر إلى الدوال باعتبارها إستعارات تنبنى على أضـــــاد غير
مؤتلفة ، ويقول : [... بما أن كل شئ بات إستعاريا ، لم يعد هناك من معنى
حقيقى وبالتالى من استعارة] (14) - هكذا، أى أنه يقول بانفلات الإسـتعارة
من هيمنة الذات ، وبذا تتحطم أسطورة الذات الإنسانية التى اختزلتهــــــــا
الميتافيزيقا فى الوعى وقلدتها مركز الكون ..
غير أننا نلاحظ أن ما انتهى إليه (دريدا) يلتقى بشكل أوبآخر مع ما انتهـى
إليه (بودريار)- على الرغم من إختلافهما الجذرى ومساريهما الفلســفيين
المتعاكسين .. فإذا كان (بودريار) ينتهى إلى القول بأن[الوهم لم يعد ممكنا
لأن الحقيقة لم تعد ممكنة]- فيبدو واضحا أن ماذهب إليه إنما يتأسس على
الثنائية الميتافيزيقية (واقع / صورة) وهـو مايعبر عنه بـ (الواقع الحقيقى
/الواقع الإفتراضى)؛وهذا الأخير هو مايعادل (الوهم) لديه،أما لدى(دريدا)
فـ (الحقيقة)هى(الوهم) ذاته ،لأنها تنبنى على (الإستعارة)، وبتعبير آخر ،
ينطلق(بودريار)فى مشروعه كله من الإقرارمبدئيا بوجود(واقع فى ذاته)؛
(واقع أصلى)، ويتساءل عن (مدلول) هذا الواقع ، أى أنه يتساءل :(ماهو
مدلول الواقع- عبر التمثيل ؟)، ويرى بأن واقع مابعد الحداثة ، هو الواقع
الإفتراضى ؛ أى الواقع التمثيلى (الإستعارى) ؛ واقع الصور الزائفة- التى
تتناسل من بعضها البعض، بمعزل عن(أو دونما إحالة إلى)الواقع الحقيقى
(بعد أن اغتالته)، هذا فى الوقت الذى تدعى فيه(وهما وخداعا) تمثيل ذلك
الواقع ..
أى أنه يقول بانقلاب العلاقة بين الواقع والتمثيل، فالواقع الحقيقى يسـتمد
الآن الوجود والمعنى من الصور- ويرى بأن هذه هى إشكالية عالم ما بعد
الحداثة ..
أما (دريدا) فالواقع (الحقيقى أوالخام أوالحرفى أوالفعلى أوالأصلى) ذاته،
لايقع هو نفسه ، بحضوره المباشر، فى دائرة إهتمامه ،أى أنه لايتساءل
عن (مدلول- الواقع) وإنما عن (دال- الواقع) ، وبالأحرى عن (مفهــوم)
الواقع كما يتواتر فى الإستخدامات المتعددة له ، وما أســـــفرت عنه من
معان متراكمة ، يتصف بعضها بالحضور لا لشئ سوى لأنه يحكـــم على
بعضها الآخر بالصمت ..
وإذا كان (دريدا) ينكر [قدرتنا على الوصول بالطرق التقليدية إلى حــــل
مشكلة الإحالة،أى قدرة اللفظ على إحالتنا إلى شئ خارجه فهو ينكر أن اللغة
(منزل الوجود)ويعنى بذلك القدرة على سد الفجوة مابين الثقافة التى صنعها
الإنسان والطبيعة التى صنعها الله] (15) ؛أى أنه يقول بجذرية(الفجوة)الفاصلة بين
الطبيعة والثقافة ، وبما أن (اللغة) منتجا ثقافيا ، إذن هى تستقل عن الطبيعة
ولا تعكسها، وبالتالى فما يلزم عن ذلك هو أننا نحيا أصلا- وبالضرورة- فـى
عالم من الإستعارات ، وما دام الأمر كذلك ، إذن لا يوجد جذريا ســــــــــوى
الإستعارة- وهو نفس ماقال به(نيتشه) من قبل.. فـ (بودريار)يقول بتاريخية
تلك الفجوة؛ أى أنه يعدها حالة طارئة ، فلديه، ظلت العلامات المنفصلة عن
الطبيعة، تتنامى مع ظهور والبرجوازية فى عصر النهضة ،غير أن تراكمها
هذا (عبر التطور التقنى) قد أحدث طفرة نوعية هائلة ، تلاشـــى على أثرها
الواقع الحرفى نفسه بما هو (الواقع الحقيقى) إذ تحول إلى واقع إســتعارى
(أو إفتراضى) صرف ؛ أى أنه إنتهى إلى أن كل شئ الآن بات إســــتعاريا ،
وبالتالى لم يعد هناك من إستعارة- لقد التحمت العلامة بالمرجع ، أوقل لقـد
حلت العلامة محل المرجع ، أوادعت كذبا (زيفا وخداعا) أنها هى المرجــع
نفسه ، فعلى الرغم من الإختلاف الجذرى بين(دريدا وبودريار)، ومضيهما
فى إتجاهين متعاكسين ، إلا أن تفكيك الإستعارة- لدى(دريدا) ؛ بمنحـــــــاه
النيتشوى،أفضى إلى(تلاشى الذات وموت المعنى)، بينما إجتياح الإستعارة
(الصور المستنسخة)- لدى (بودريار)- أسفر عن (تلاشى الواقع الحقيــقى
وموت المعنى) ، وبقدر ما أفضى هذا- عند بودريار- إلى إنتاج ميتافيزيقــا
عصرية معممة ، رأى دريدا أن (تلاشى الذات وموت المعنى) هو الضـامن
لتقويض الميتافيزيقا ..
هكذا ، تختفى الذات ويختفى الواقع ، تحت ثقل الإستعارة- مما يؤدى إلــى
اختفائها هى الأخرى ..

(2)
ــــــــــــ
السياق الحضارى الجديد ، الذى نحياه الآن ؛ ذلك المتعلق بالعولمة ؛ بكل
ما تعنيه من : (تساقط الحدود الجغرافية القديمة ، وانهيار الدولة القومية
، وانتشار التكنولوجيا ... وتدفق السلع الثقافية وتداخل الثقافات ، وانفجار
بل وتشظى الأنساق الثقافية المحلية القديمة ... إلخ) كل هذا وغيره كثير ،
أسفر عن تحول واقعنا نفسه- إذ صار جزءا لا يتجزء من الواقع العولمـى
؛ بطابعه الإفتراضى ..
وعلى الرغم من عدم استطاعتنا الزعم بتطابق الواقع المصرى الراهــــن
مع الواقع الغربى ، إلا أن أوجه التشابه بين الواقعين بات من المســتحيل
تجاهلها ، ويبدو أن أوجه الإختلاف بينهما ترتكــــز- الآن- على ما يسمى
بـ (الثقافة الثالثة) ؛ تلك التى نتجت عن تفكك النسق الثقافى المحلــــــى ،
ودخول العناصر المكونة له فى علاقات جديدة مع العناصر الثقافيــــــــــة
الوافدة من الخارج ،مما أدى إلى وجود مركبات ثقافية جديدة،ذات طبيعة
خاصة ..
لذا بالإمكان القول أن التغيرات التى طرأت على السياق التاريخى المؤطر
للمشروعين التجريبيين لدينا (الســـــــــتينى والثمانينى) ، بقدر ما دفعت
بالتجـــــــــريب الثمانينى إلى الإقتراب من التجريب الغربى ، إلا أنه ليس
بالإمكان الزعم بتطابقهما ..
فالبعد الجمالى الأبرز ، فى التجريب المسرحى الغربى المعاصر ، ينحصر
فى إنفتاحه على (فن الأداء- Performance) ، فإذا كانت (الحداثة) قد
أجابت عن سؤال المشروطية التى يتأسس عليها العمل الفنى ، بفكـــــرة
[العمل الفنى القائم بذاته ،الحامل لقيمته،الذى يفرض شرعيته من داخله
... ] (16) ، وبتعبير آخر، يتجلى سعى العمل الفنى الحداثى فى [تأسيس
شرعيته بنفسه] (17) ، بـ [الكشف عن شروط الفن الجذرية وقيمـــــــه
الأساسية] (18) .. وبتفصيل أكثر ، لقد تمحورت مشروعية العمل الفنى
الحداثى حول مدى حيازته لنقائه النوعى- فالمســـرح مسرح ولايجب أن
يختلط بغيره من الفنون الأخرى،مما يعنى أن المسرح الحداثى هومسرح
(الشكل البحت) (19) ، وبمراجعة تاريخ ذلك المسـرح سنجد أنه توقف-
بالفعل- عند مجموعة محددة من (المذاهـب والمدارس والحـــــــــــركات
والتيارات ...) التى سرعان ما تحولت إلى أنمــــــــــــــاط شكلية جامدة ،
كـ (الرومانسية والواقعية والتعبيرية والملحمية والعبثيــــــة والتسجيلية
...إلخ) ، فى مناقضة واضحة لما وعدت به من قبل بالسـعى نحو التجدد
الدائم ..
وعن سؤال (الشكل) ؛ الذى يستمد منه العمل الفنى مشـــروعيته ، ومما
يكتسب مبررات وجوده ؟.. أجابت الحداثة بأن [الوظيفة تفرض الشـــكل
الفنى وتحدده](20) ..
ولكن- ما الوظيفة ؟..
مايعادل الوظيفة (النفعية- فى العمارة الحداثية) هو الوظيفة (الأيديولوجية-
فى الأدب والفنون،بما فى ذلك فن المسرح)- فالغاية التى يصبو إليها العمل
الفنى(الوظيفة الإجتماعية والسياسية ...إلخ) هى التى تملى عليه خصائص
الشكل ، بل إن الشكل ليس شيئا آخر غير ما تقترحه الأيديولوجيــــا- (أنظر
التراث النقدى الماركسى- فهو النموذج الأنصع ، الدال على ذلك)(21) ..
لذا تعد (مابعد الحداثـة) محاولة لتصحيح مسار الحداثة ، بتحريرها من كل
ما يعوق سعيها نحو التجدد الدائم ..
هذا وقد أفضت(مابعد الحداثة)إلى الإنفتاح بالمسرح على فنون أخرى ،إلى
الحد الذى يتجاوز طاقته الإستيعابية ويفكك بنيته ويحوله- من ثم- إلى (فن
أدائى) ..
وفقا لهذا الطرح يجب الإقرار بعدم مبارحة (المسرحيين المصريين الجدد)
للخط فاصل بين الحداثة ومابعد الحداثة ، لأن أعمالهم لم تتجاوز بعد (فــن
المسرح) إلى (فن الأداء أوفن العرض)- أى أنهم لازالوا يشتغلون داخــــل
التعريفات والتصنيفات الحداثية- بدرجات متفاوتة ، وصولا بها- ربما- إلى
حدها الأ قصى ، عامدين بذلك إلى خلخلتها .. لكن حصر(بل وقسر) تعريف
(مابعد الحداثة المســــرحية)- على هذاالنحو- فى الـ (performance) ،
فضلا عن أنه يتناقض مع سعى ما بعد الحداثة إلى النأى بنفســــــــــها عن
الإنحسار فى حدود ما ، فإنما يحولها- هى الأخرى- إلى (شــــكل بحت) ذى
طبيعة وظيفية ،(وظيفته) الأساسية هى:(تجاوز الأشكال الوظيفية الحداثية
نفسها) !!..
ممايعنى أيضا أن الـ ((performance ، تحول إلى (نسق) يســـــــــــعى
المسرحيون المابعد حداثيون إلى تمثله والعمل فى إطاره (= الإبداع داخل
نظام جمالى سابق فى الوجـود على العرض) ، مما يعيدنا مرة أخرى إلــى
(الميتافيزيقا)- التى يمثل المشروع الما بعد حداثـى سعيا رديكاليـــــا حثيثا
لتجاوزها !..
المسرحيون المصريون التجريبيون(الجدد)،هم هؤلاء الذين يقفون وحدهم
(خارج- الحداثة)،(داخل- مابعد الحداثة) ؛ أوعلى الأقل داخل صورة ما من
صور هذه الأخيرة ، نعم ، لقد تجاوزوا (الحداثـــــة) إلى مابعدها ، دون أن
يتماثلوا بالضرورة مع المعيارالعام السائد الذى يتأسس عليه ذلك(التجاوز)
، وما أعنيه بهذا هو أن المعيـــــــار العام- المعتمد- الذى يقيس به البعض
التحول من الحداثة إلى مابعدها ،يختزل التحول التاريخى الراهن؛ بتجلياته
الجمالية- فى مجال المسرح- إلى مجرد صورة واحدة وحيدة (تجنــــح لأن
تكون نمطية) !..


التجريب المسرحى المصرى المعاصر :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أشرت من قبل- ضمنا على الأ قـل- إلى أن المســـرح الجديد لا ينحدر من
صلب المفهـوم الحداثى ، القائل بجنوح الواقع الحقيقى نحو (التمثيـــــــل
الإستعارى)- الذى يدخل الفن فى نطاقه ، وإنما يتجاوزه إلى المفهــــــوم
العكسى الذى يقول بانحدار(واقع مابعد الحداثـة)من التمثيل الإستعارى ..
وما أعنيه بهذا ، هو أن الواقع الإفتراضى هو الإستعارة المعممـــة أوهو
الميتافيزيقا التى نحيا فى ظلها الآن،هذاومايحاوله الجيل الجديد،بالضبط
؛(ذلك الذى يقبع خارج الأيديولوجيا- إذ لايقولون بوجود حقيقة مامطلقة)
، هو تمزيق تلك الغيوم الميتافيزيقية الكثيفة ، عبر الشك فى (اللغـــــــة)
وما تحمله من سلطة ، لذا ينبنى العرض لديهم على وجود (فجـــوة) بين
الدال والمدلول والمرجع ، من جهة ، وبين المسـموع والمرئى، من جهة
أخرى ، وهم إذ يفعلون ذلك ، فإنما يسعون (بوعى أوبدون وعـــى) ليس
للعودة إلى الواقع ذاته (الذى غيبته اللغة من قبل ، وتغيبه الصـورة الآن)
، فليس هناك (واقع فى ذاته) ، وإنما يسعون للحفر وراء الدوال (كلمـات
، صور ، رموز ...) بحثا (ليس عن مدلولات) وإنما عـن (الدوال الأخرى
المختبئة تحتها) ، أى عن مجموع إستخدامات الدوال ، التى هى جمـــــلة
هائلة من المدلولات (= تعدد المعنى) ، مفجرين بذلك تناقضات الوعـــــى
، ذلك أن الإنسان الآن تحول من (حيوان إستعارى) إلى (حيـــوان مفارق
- نسبة إلى المفارقة) ..
نعم ، لدينا جيل جديد من المسرحيين ، منهم على سـبيل المثال لا الحصر
(عبير على ، عفت يحيى ، هانى المتناوى ، عز درويش ، نـــورا أمين ،
ريهام عبد الرازق ... إلخ) ، يصنعون إختلافهم (مابعد الحداثــى) بالبحث
عن (الآخر- الغائب) وراء الحضور (الحداثــــــــــى) ، متماهين بذلك مع
(النسق الثقافى الثالث) الخاص بنا ..


الهوامش :
ــــــــــــــ
(1) (الطبيعة والثقافة) ، إعداد وترجمة : محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالى ،
دار توبقال
للنشر ، المغرب ، سلسلة دفاتر فلسفية ، ط1 ، 1991 ، ص (5)
(2) (3) إنظر مقدمة الفرافير ليوسف إدريس ..
(4) (الطبيعة والثقافة) ، مرجع سابق ، ص (13) ..
(5) محمد سبيلا (ماهى الحداثة ؟) ، موقع نادى الفكر العربى ..
(6) المرجع السابق ..
(7) يعترض البعض على إصطلاح (الواقع الإفتراضى) ، ويقولـون بأن عالم الصور تحول الآن
إلى واقع حقيقى ، مما يستتبع بالضرورة إعادة النظر فى جملة الأدوات والمفاهيم القديمة التى
نتناول بها الواقع والثقافة- إنظر عبد السلام بنعبد العالى (الكتابة وثقافة الشاشة) ، http://www.aljabriabed.net ، العدد (35) ..
(8) أحمد المغربى (غياب جان بودريار أبرز مفكرى مابعد الحداثة)، بالإضافة إلى موقع (سريب)
- المشار إليه سابقا- إنظر موقع (الزوراء) أيضا ..
(9) من مقال لبودريار بعنوان (الصـور الزائفة وصور الزيف) ، فى كتاب (الحداثة وما بعد الحداثة) ، إعداد وتقديم (بيتر بروكر) ، ترجمة : د . عبد الوهاب علوب ، منشورات المجمـع
الثقافى ، أبو ظبى ، ط 1 ، 1995 ، ص 246..
(10) ر. ك . ويلكيرسون( المماثلة الاستعاضية وبنية الحلم عند جون بودريارد)/ترجمة : سامح
فكرى مجلة (الفن المعاصر) أكاديمية الفنون- المصرية / العدد الرابع ، 2002 ، ص 314 ..
(11) عبد السلام بنعبد العالى (أسس الفكر الفلسفى المعاصر- مجاوزة الميتافيزيقا) ، دار توبقال
، المغرب ، ط 1 ، 1991 ، ص 8 ..
(12) ماهى الحداثة ؟ ، مرجع سابق ..
(13) (14) بيير ف . زيما(التفكيكية) ، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع) ترجمة
: أسامة الحاج ، بيروت ، 1996 ، ص 92 و 93 ، على التوالى ..
(15) ممدوح الشيخ (التفكيكية من الفلسفة إلى النقد الأدبى) ،
www.arabworldbooks.com ..
(16 ، 17 ، 18 ، 19 ، 20) نك كاى (مابعد الحداثية والفنون الأدائية)، ترجمة: د . نهاد صليحة
، الهيئة المصرية العامة للكتاب،سلسلة الألف كتاب الثانية، 1999 ،الطبعة الثانية، الصفحات على
التوالى (ح ، و ، هـ ، 2 ، 2) ..
(21) وبإمكان القارئ العودة إلى (مجلة فصول القاهرية- العددان الثالث والرابع ، من المجلـــــــد الخامس، الصادران عام 1985، المتمحوران حول (الأدب والأيديولوجيا) ، لاسيما الجـزء الأول ،
ليتبين ذلك بوضوح ، عند أهم النقاد والمنظرين الماركسـيين ، ومن خلال نصوصهم التأسيسية ..



#محمد_حامد_السلامونى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الثورة المصرية ، تمثيلات (اللغة والواقع والجسد)


المزيد.....




- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد حامد السلامونى - التجريب فى المسرح المصرى وتقويض الحداثة