أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - بلال سمير الصدّر - فيلم المرآة1975:محاولة لفك رموز تاركوفسكي المعقدة-تجلي العنصر الشكلي في حلم واقعي يقبع في ذهن مشتت والنتيجة أجمل أفلام شاعر السينما على الإطلاق















المزيد.....


فيلم المرآة1975:محاولة لفك رموز تاركوفسكي المعقدة-تجلي العنصر الشكلي في حلم واقعي يقبع في ذهن مشتت والنتيجة أجمل أفلام شاعر السينما على الإطلاق


بلال سمير الصدّر

الحوار المتمدن-العدد: 3446 - 2011 / 8 / 3 - 11:11
المحور: الادب والفن
    


تاركوفسكي....المخرج الروسي العظيم، الذي ينعت بالأوساط السينمائية بالمتأمل الثاني(على أن المتأمل الأول هو بيرغمان) وهو أهم مخرج في روسيا بعد إيزينشتاين.
هذا المخرج الذي تتميز أفلامه بالتأمل الشديد إلى درجة الروحية، كان قد صنع فيلما عام 1975 يدعى بالمرآة يتحدث فيه عن حياته وسيرته الذاتية بطريقة كانت مغرقة جدا بالرمزية والذاتية الشديدة إلى درجة نعت الفيلم(بالفرويدية) كما أن الفيلم كما تحدث عنه النقاد غير قابل للفهم أو التفسير والإنسان الوحيد القادر على تفسيره هو تاركوفسكي نفسه، وليس من السابق القول أن هذا الفيلم قوبل بالرفض من الجمهور والنقاد معا ولم يحترم أو يقدر كبقية أفلامه إلا متأخرا في عام(79-80)....
قبل محاولة تحليل هذا الفيلم أود أن أنبه القارئ أن هذا الفيلم تنقص كل مشاهده الوحدة الموضوعية رغم وجود الوحدة العضوية لأن كل شخصياته تتكرر بعشوائية وبشكل غير متسلسل في الزمن وعلى طول زمن الفيلم لذلك فلا يستغرب القارئ من عدم وجود أي ارتباط بين المشهد والمشهد الذي يليه.....
في بداية الفيلم، محاولة من أحد المعلمات لتخليص شاب ما من عقدة التأتأه، هذا الشاب يعرف نفسه ب(يوري جاري) ونستطيع أن نستشف بأنها تستخدم أسلوب التنويم المغناطيسي كطريقة للعلاج، ثم ننتقل إلى لقطة لامرأة تجلس على سور خشبي تطل على المدى الأخضر الواسع هذه المرأة ستبقى معنا حتى نهاية الفيلم والتي ستلعب دورا مزدوجا كأم لتاركوفسكي وكزوجته السابقة في نفس الوقت والتي تلعب دورها الممثلة(مارجريت يتركوفا) ويأتي شخص ما مجهول الهوية ويسألها عن قرية تومشينو....
يطلب منها سيجارة، ثم تنظر إلى الخلف لنرى طفلين معلقين في (أرجوحة) على أحد الأشجار، يجلس بجانبها فينهار السور الخشبي ويدخل هذا الرجل الغريب في نوبة الضحك، وسرعان ما يكشف عن هويته بأن طبيب، ويكشف أيضا بأن جزءا كبيرا من الحوار الذي دار بينها وبينه هو من إبداع الكاتب الروسي (تيشخوف) في دلالة على تؤثر تاركوفسكي بالأدب الروسي وهو الأمر الواضح في كثير من أفلامه....وبعد رحيله يظهر صوت ويبدأ بتلاوة الأشعار....أشعار توحي بأن هذا اللقاء أصبح من الذكريات:
أننا احتفلنا بكل لحظة للقائنا
كأنها لحظة عيد ظهور الرب
وتظل الأشعار تتلى على مشاهد الطفلين الشاحبين الذي يبدو بوضوح بأنهما شديدي القرب لهذه المرأة.....ثم تجلس هذه المرأة بجانب النافذة، ويلاحظ المشاهد بأنها على وشك البكاء، ثم تتابع أصوات سرد الأشعار من قبل راوي مجهول الهوية في مشهد صامت حتى من الخلفية الموسيقية(بدون أي مؤثرات صوتية) سوى من صوت هذا الشخص وهو يتلو الأشعار، وصورة المرأة وهي تبكي وحزن شديد واضح على وجهها...ولا ضير من الذكر أن الأشعار المستخدمة كخلفية لهذه اللقطات هي للارسيني تاركوفسكي والد تاركوفسكي نفسه....
تتحرك المرأة من مكانها، من قرب النافذة صوب الطفلين وتقول لهما:
إنه حريق.... ولكن لا تصرخوا
بينما يذهب الطفلين إلى الشرفة للتأمل بمنظر الحريق، هناك شخص ما من الخارج لا نراه(يبدو أن له علاقة بالحريق) أو ربما كان يصرخ من مكان ما قرب الحريق، يصرخ باسم كلا فكا
فيظهر طفل آخر من مكان لا نعرف من أين ويقول(ماذا تريد؟)
ويتحرك هذا الطفل إلى الخارج لنرى صورة امرأة ورجل ما أمامها يقفان بهدوء(ويديرون وجههم للمشاهد) ويتأملون كوخا ما يحترق؟!
يستخدم تاركوفسكي حتى الآن اللقطات الملونة، ولكننا ننتقل إلى مكان آخر ومشهد آخر بالأبيض والأسود هذه المرة إشارة إلى تغير الزمن الذي يحدث فيه المشهد عن المشهد الذي يليه أو الذي يسبقه وهو أمر يستخدمه تاركوفسكي بكثرة وهو تطور ثابت في الفيلم يشير به إلى تغير الزمن الذي تجرى فيه الأحداث....هذا المشهد يفتتح على صورة طفل(من الواضح إنه أحد الطفلين) يستيقظ على حلم متعلق بمشهد طبيعي(أشجار ونباتات كثيفة تحركها الرياح بقسوة، ويصرخ الطفل بشكل هادئ....أبتاه؟!
يتحرك الطفل من سريره، لنرى مشهدا لشاب يقوم بصب المياه على شعر امرأة ما تستحم(شعرها يغطي الوجه ولا يظهر من وجهها أي ملامح) كل هذا و اللقطة تتلون بالونين الأبيض والأسود فقط....لا يزال الشعر يغطي الوجه، تتحول الموسيقى المرافقة للتصوير من موسيقى هادئة إلى موسيقى متوترة تحاول أن تنبأ بأنه هناك حدثا رهيبا قادما.....
تبدأ أركان المنزل بالتهدم والسقوط على أرضية مغمورة بالمياه......في مشهد يشير بشكل واضح إلى انهيار العلاقة بين الوالد والأم؟!
لأن هذه الأم التي تدعى بالفيلم بماروسيا حتى الآن هي (أم تاركوفسكي) التي نتحدث عنها منذ بداية الفيلم....؟!
تنظر هذه المرأة إلى وجهها في المرآة لنرى وجه امرأة عجوز لا بد أن تكون هي نفسها ولكن بعد أن تتقدم في السن وهذا يثبته تاركوفسكي أيضا مع تقدم أحداث الفيلم.....
كل هذا يحدث في مشاهد رمزية شديدة التعقيد، بحاجة إلى جهد ذهني كبير للتوصل إلى أي نتيجة أو فكرة من خلالها....
إلى مكان آخر وبالألوان هذه المرة....صوت الهاتف يرد عليه شخص ما يدعى ألكسي، في منزل معلق على جدرانه ملصق لأحد أهم أفلام تاركوفسكي(أندريه رابلوف)
من هو هذا الشخص الذي يتكلم...لا نعرف؟!
مع من يتكلم....أيضا لا نعرف؟!....يقول للمرآة التي يتحدث معها على الهاتف:
إنني شاهدتك في حلم النوم.....ويبدأ بالتساؤل عن السنة التي غادرهم فيها والده،-كمحاولة لفهم الفيلم نستشف أن هذا الشخص هو تاركوفسكي-.....فتجيبه:
عام 1935، وكان الحريق حدث في نفس هذا العام....
إنه الولد يتحدث مع أمه التي تخبره أن ليزا التي كانت تعمل معها في المطبعة قد توفيت(القارئ لسيرة حياة تاركوفسكي يعرف أن والدته قد عملت مصححة في أحد المطابع بعد انفصالها عن والده). من الواضح أن هذه المحادثة تحدث في الوقت الحالي لسببين اثنين:
صوت المرأة التي من الواضح أنها متقدمة في السن، بالإضافة إلى الدلالة اللونية، حيث يستخدم المخرج في هذا المشهد الألوان.....يظهر هذا المشهد عدم التفاهم بين الابن ووالدته، بل أن طفولته هي محاولة للتواصل مع هذه الأم المشوشة....
نرحل إلى زمن آخر،إلى مشاهد بالأبيض والأسود،والأم تركض نحو مكان ما تحت المطر ....
(هناك حالة من القلق الدائم التي تشعر بها هذه المرأة بالإضافة إلى حزن واكتئاب شديد يسيطران بشدة على ملامحها......) ثم هناك مشهد استرجاعي نتعرف من خلاله على شخصية اليزا(اليزا فيتا بافلوفنا) وعن مدى حدتها في التعامل مع الأم(ماروسيا) بعد أن ارتكبت خطأ ما في المطبعة التي تعمل بها
يتحدث تاركوفسكي عن شخصية هذه المرأة في الفيلم في حوار له مع الشاعر والكاتب الروائي والسيناريست الإيطالي الشهير تونينو غوييرا:*
في فيلم " المرآة " الشخصية الرئيسية تقدم على أنها شخصية ضعيفة وتأملية إلى أبعد الحدود. إنها مثل رجل مريض يتذكر حياته خلال أزمة مرضه، دون أن يعرف هل هو سيخرج سالماً من مرضه أملا.
لنعود إلى أحداث الفيلم:
الأم وحيدة، تمشي في ممر طويل يظهر صوت الشخص الذي كان يتلو الشعر في المشهد السابق، ويبدأ بتلاوة الشعر مرة أخرى:
كنت أنتظرك أمس منذ الصباح
فأنهم قد ظنوا أنك لن تأتي.
ثم نرى شخصا ما يقوم باللحاق بماروسيا...أنها ليزا
ومشهد استرجاعي تقوم فيه ليزا بمعاتبة ماروسيا -المنحدرة جدا نحو الكآبة-بل توبيخها والوصول إلى درجة الاستغراب عن كيفية تحمل زوجها لها طوال هذه المدة؟
وننتقل مباشرة إلى مشهد آخر في مكان ما (بالألوان) صوب الأب وهو يقول للأم:
كنت أقول لك دائما بأنك تشبهين أمك....
فترد عليه:ربما لهذا السبب افترقنا....
الآن الأم أصبحت زوجة تاركوفسكي السابقة، وتتحول الهموم من التواصل مع الأم المشوشة إلى التواصل مع الابن، ويبدأ التداخل بين أحداث الفيلم يأخذ مجرى أكثر تعقيدا، ومما يزيد الأمر تعقيدا استخدام تاركوفسكي لممثلة واحدة(مارجريت يتركوفا) لتلعب دور أمه ودور زوجته السابقة.
المشهد يدل على الاضطراب الحاصل بين الأب و الأم ولمحة عن سبب الارتباط بينهما بأن الأم(هي نتاليا الآن) تملك ملامحا من والدة الأب، كما أن هناك (ايغنات ) الولد الناشئ كثمرة لهذه العلاقة، والذي يطالب الأب الأم بالزواج وإعطائه ايغنات، كما أن هناك حالة خصام بين الوالد(الذي لا يظهر في هذه اللقطة بل نسمع صوته فقط) وبين أمه .
هناك أشخاص في المنزل لا نعرف من هم، أحدهم واضح انه أسباني مولع بمصارعة الثيران، ومجموعة من الأشخاص القريبين لهذا الشخص بشكل أو بآخر، وما نستطيع استشفافه أن هؤلاء الأشخاص ذو صلة ما بالأم نتاليا.....
يستخدم تاركوفسكي أسلوب إدماج فيلمه ببعض اللقطات الإخبارية والذي سنتحدث عن سببه لاحقا في هذا المقال، حيث يقوم بإظهار لقطات إخبارية عن مصارعة الثيران وأيضا لقطات تبدو كأنها عن الحرب الأهلية في أسبانيا، وسيستخدم تاركوفسكي هذا الأسلوب في لقطة قادمة عندما يقوم الوالد باسترجاع ذكرياته.....
يكتشف ايغنات أن هناك تيارا كهربائيا يسري في عروقه ويؤكد أن هذا ليس صدفة لأنه حدث معه من قبل أن شعر بمثل هذا التيار....يبقى ايغنات وحيدا في المنزل ولا يلبث أن يدير وجهه حتى نرى امرأتين, احدهما امرأة عجوز من الواضح أنها تعمل خادمة عند المرأة الأخرى التي تملك سيطرة واضحة على ايغنات من خلال صيغة مخاطبتها له ونكتشف أنها معلمة لايغنات، وتطلب منه قراءة مقتطفات من رسالة لبوشكين إلى تشاعدايف مؤرخة في 19/10/1836، وهذه الرسالة بالإضافة إلى اللقطات التي سيدمج بها تاركوفسكي فيلمه بشريط إخباري يضم جنودا حقيقيين-عندما يقوم الوالد باسترجاع ذكرياته هو الآخر-لن تكن لقطات عبثية، بل هي متعمدة، فماذا كان يقصد تاركوفسكي منها؟!
يتحدث تاركوفسكي في كتابه(النحت في الزمن):
{في فيلمي"المرآة" أردت أن اجعل الناس يشعرون بأن باخ وبرجوليسي ورسالة بوشكين والجنود المرغمين على عبور بحيرة سيفاش، وأيضا الأحداث المحلية والعائلية الحميمة، أن يشعروا بأن كل هذه الأشياء هي، من بعض النواحي، هامة بصورة متساوية مثلما هي التجربة الإنسانية.فيما يتصل بتجربة الفرد الروحية فإن ما حدث له بالأمس قد يكون له الدرجة نفسها من الدلالة والأهمية تماما مثلما حدث للبشرية قبل مئة سنة.}نهاية الاقتباس....
سنتحدث لاحقا عن دلالات المكان و الأشياء والموسيقى وارتباطها بالفيلم لاحقا....لنعود إلى أحداث الفيلم:هناك صوت طرق على الباب، تطلب منه المرأة بأن يذهب ويفتح الباب وتكون امرأة قد ضلت الطريق، فيعود ايغنات إلى الغرفة التي كانت فيها المعلمة فيجدها قد تبخرت وتحولت إلى سائل....إنها غير موجودة
ثم ندخل إلى مشهد آخر عن طفولة الأب-الذي يتخللها مشاهد الجنود الإخبارية-وقصة حب في حياته المبكرة يوم أن كان يتدرب بالجندية وهو لازال في عمر الأطفال...
نعود إلى الأم (ماروسيا) مستفتحين بصوت شخص نرى منظره لأول مرة في الفيلم يسأل عن الأولاد...من الواضح أنه عائد من الجندية أو شيء من هذا القبيل.
يصرخ هذا الشخص:مالينا، فيركض نحوه فتاة ما و ايغنات في مشهد يصطبغ بالألوان....ثم يعود الأب ليطالب الأم بأن يسكن ايغنات معه بمشهد بالأبيض والأسود مطالبا أن يكون القرار لايغنات أولا وأخيرا.
ثم يعرض الفيلم صورا تجمع الأم الشابة مع المرأة العجوز التي انعكست صورة ماروسيا لها في المرآة في مشهد سابق....يقول الأب:أن هناك شيء مشترك بينهما.
من الواضح أن المرأة العجوز-التي هي أم تاركوفسكي المخرج في الحقيقة- هي أم الأب التي سبق أن قال بأنه تزوج ماروسيا لوجود شبه بينها وبين أمه..(يقودنا الفهم إلى أن الأب هو أب تاركوفسكي، وعذرا فالفيلم ذو أسلوبية مغايرة في السرد والتسلسل الزمني والترابط، وهي من الأمور-كما قلت سابقا-التي جعلت من الفيلم يرفض من قبل الجمهور والنقاد معا، والتي أوقعت المشاهد بالذات في حيرة شديدة من أمره).
وتؤكد الأم هذه الحقيقة بوجود شيء مشترك بينها وبين العجوز في الصور....
(هناك مشاعر من الذنب اتجاه الأب لأمه التي ضحت بحياتها من أجلهم)
ثم نرى الأم تتحدث مع الأب وهي في حالة تشوش ذهني وتخبط في القرار حول شخص ما تريد الأم الارتباط به، ونكتشف أن هذا الشخص الذي تود الارتباط به ليس إلا الكاتب الروسي(دوستيوفسكي) في مشهد مغرق جدا بالرمزية.
دوستيوفسكي في الفيلم, شخص غير معروف ولم يؤلف أي شيء حتى الآن.
يعود الأب للحديث عن طفولته(أبيض وأسود) تتخللها أمه التي تشبه تماما زوجته الحالية.
ثم نعود إلى ايغنات ووالدته اللذان يبحثان عن مأوا ويطلبانه من امرأة ترتبط الأم بزوجها بعلاقة قرابة من ناحية ما، وتعرض عليها أقراطا للبيع(في مشهد قال عنه تاركوفسكي بأنه تأثر بطريقة تصويره ب بيرغمان).
يجلس ايغنات وحيدا في هذا المنزل الكئيب الذي تنساب من سقفه مياه الأمطار....ينظر إلى وجه بالمرآة، فتظهر صورة حبيبة والده-والد ايغنات-الذي تحدث عنها في لحظات استرجاع ذكرياته وهي تقوم بوضع الحطب داخل المدفأة....
تريد المرأة أن تذبح ديكا على شرف الضيوف وتطلب من الأم أن تفعل هي ذلك، متذرعة بأنها حامل في الشهر الرابع، وتشعر بالغثيان وعندما ترفض الأم ذلك تقترح المرأة:
سنطلب من اليوشا-الذي هو اسم ايغنات في هذا المشهد؟-فعل ذلك فهو رجل على أية حال،ولكن الأم تختصر الطرق وتقوم هي بقطع رأس الديك....
فجأة تظهر صورة الأب(أبيض وأسود) -ويبدو أنها تظهر في مخيلة الأم-وهو يقوم بمداعبة يد ماروسيا التي تشعر بتوعك واضح، وهي مستلقية في الهواء فوق السرير متخلية عن كل قوانين الجاذبية وحمامة تحلق من فوقها.(ربما يشير هذا المشهد إلى لحظات وضع ايغنات رغم أن المشهد لا يوحي أن ماروسيا حامل).
نعود إلى ماروسيا الأم التي تغير رأيها في البقاء عند هذه المرأة وتصر على الخروج, ويعود صوت الشاعر إلى خلفية المشهد، ويبدأ بإلقاء الشعر، و ايغنات ووالدته يمشيان بالعراء، وهما حافيا الأقدام في طقس بارد جدا:للإنسان جسم واحد كأنه في عزلة
وجزعت النفس من هيئتها الأبدية
ذات الأنين والعينين بحجم قطعة الدينار المعدنية
ثم صورة لمنزل بالأبيض والأسود وهي تضربه الريح من داخله من كل ناحية....لنتوقف هنا قليلا.....المكان عند تاركوفسكي يتكرر دائما بالبيت أو المنزل، ثم هناك الكتب التي تتناثر هنا وهناك بكثرة وفي أي بيت، ثم هناك المناظر الطبيعية التي توحي بالجمال والقسوة، فإلى ماذا تشير هذه الدلالات ولماذا يستخدمها تاركوفسكي بكثرة، بل تقريبا في كل أفلامه:
يقول تاركوفسكي في معرض حواره السابق مع غوييرا:*
تاركوفسكي: هذا صحيح. ابتداء من فيلم " سولا ريس" مروراً بـ "المرآة" و انتهاء بـ "الدليل" ثمة أشياء تتكرر نفسها دائماً. قناني معينة، كتب قديمة محددة، مرايا، أشياء وحاجيات صغيرة متنوعة على الرفوف أو على حواف النوافذ. إنها الأشياء التي أحببت أن أمتلكها في بيتي، والآن هي تمتلك كامل الحق أن تجد نفسها في داخل لقطة أو أكثر في أفلامي. لو كانت تلك الأشياء لا أحبها، فببساطة لا أسمح لنفسي أن أبقيها في الفيلم، رغم أن شخصياتي تختلف بعضها عن البعض الآخر في سلوكها ومزاجها وطريقة تفكيرها، ولا تشبهني. ومع ذلك، ومن وجهة النظر هذه، فأنا أحاول أن أقصي وأزيل أي شيء لا أحبه من اللقطة. *
كما أن المطر بالذات-يغلف كثيرا، بل كثيرا جدا من مشاهد فيلم المرآة، وله حضور واسع في جميع أفلام تاركوفسكي تقريبا، فماذا يقصد تاركوفسكي بهذا الحضور الطاغي للمطر في أفلامه....يقول تاركوفسكي حول دلالة المطر في كتابه(النحت في الزمن):
المطر، قبل كل شيء، عنصر نموذجي في المنظر الطبيعي الذي نشأت فيه. في روسيا، تجد تلك الأمطار المديدة، الكئيبة، المتواصلة. من جهة أخرى، أنا أحب الطبيعة ولا أحب المدن الكبيرة، وأشعر بسعادة بالغة حين أكون بعيدا عن أدوات الحضارة الحديثة. هذه السعادة وهذه الروعة كنت أشعرها أيضا في روسيا عندما كنت أقيم في منزلي الريفي الذي يبعد عن موسكو 300 كيلومتراً.
المطر، النار، الماء، الثلج، الندى، الريح.. كلها جزء من المحيط المادي الذي فيه نحن نقطن ونوجد.. بل أنها جزء من حقيقة حياتنا. بالتالي أشعر بالحيرة والارتباك حين يقال لي بأن الناس لا يستطيعون الاستمتاع بالنظر
إلى الطبيعة عندما يعاد إنتاجها بحب على الشاشة، إنما يرهقون أنفسهم
بالبحث عن معنى خفي ومستور يعتقدون بأنه لا بد أن يكون متضمنا.
بالطبع، يمكن النظر إلى المطر كمجرد طقس سيء، غير أنني أستخدمه لخلق محيط جمالي خاص فيه تتشرب حركة الفيلم. لكن هذا لا يعني على الإطلاق أن الطبيعة مصورة في أفلامي بوصفها رمزاً لشيء آخر.
في السينما التجارية، الطبيعة- في الغالب- لا توجد أبدا. إننا لا نرى سوى إضاءة ملائمة ومواقع داخلية لغرض التصوير السريع. كل شخص يتابع الحبكة ولا أحد ينزعج من اصطناعية الموقع أو من الاستخفاف بالتفاصيل والأجواء.عندما تجلب الشاشة العالم الحقيقي إلى الجمهور، العالم كما هو في الواقع، بحيث يستطيع أن يراه في عمقه ومن جميع جوانبه، أن يستحضر "رائحته"الحقيقية وان يشعر بنداوته أو جفافه على بشرته..عندما تفعل الشاشة ذلك ولا يستجيب المتفرج فإن هذا يعني أن المتفرج قد فقد القدرة على التسليم بالانطباع الجمالي العاطفي المباشر، ويبدأ فورا في كبح نفسه ويسأل:لماذا ؟لأي سبب أو غرض؟ .
الإجابة هي أنني أريد أن اخلق عالمي الخاص على الشاشة، في شكله المثالي والأكثر كمالا، كما أراه وأحسه.إني لا أحاول أن أتصرف بحياء مع جمهوري، أو أن اخفي بعض نواياي السرية:إني أعيد خلق عالمي بتلك التفاصيل التي تبدو لي الأكثر كمالا ودقة للتعبير عن المعنى المراوغ لوجودنا.*

لنعود إلى أحداث الفيلم:
تتركز الكاميرا على مرآة قديمة ينعكس من خلالها صورة لطفل وهو أحد الطفلين في بداية الفيلم-وهو يحمل بين يديه وعاءا من الحليب يحاول الشرب منه، يتردد ولا يقوم بالشرب.
الولد نفسه يقوم بالسباحة(في مشهد بالألوان) في بركة تقوم الأم بالغسيل فيها(أعتقد أن الأم هنا لا زالت ماروسيا)....أشخاص مجتمعون حول سرير مستلقي عليه أحدهم-من الواضح أنه الأب الذي كان يطالب دائما بايغنات- منهم طبيب يشخص حالته بالتهاب اللوزتين، ونعرف أن هذا الشخص قد توفت زوجته وأمه وطفله فجأة، ويطلب هذا الشخص أن يتركوه وشأنه.
ونلاحظ أن هناك عصفورا ينزف الدماء، يستلقي بجانبه ويمسك هذا الشخص العصفور ويطلقه من يده طائرا في السماء....ربما هذا المشهد الذي تحدث عنه تاركوفسكي في النحت في الزمن:
بطل "المرآة"رجل ضعيف، أناني، غير قادر على أن يحب حتى أولئك الأقرب والأعز إلى نفسه، الذين لا يتطلعون إلى شيء مقابل الحب، ولهذا السبب يشعر بعذاب النفس في أيامه الأخيرة، حيث يدرك بأنه لا يملك أي وسيلة لإيفاء الدين الذي يدين به للحياة*
ينتهي الفيلم على مشهد مدى واسع مفتوح أخضر، تحيط به الأشجار من كل ناحية، وهناك منزل الطفولة، وهناك الأم ماروسيا تستلقي فوق الأب في مشهد ملون، والأب يسألها:
هل تفضلين ولدا أم بنتا؟!....فلا تقوم بالإجابة بل تبتسم فقط
ويظهر بوضوح، أن هذا المشهد الختامي تجتمع فيه أبعادا متداخلة للزمن، لأن صورة المرأة العجوز والطفلين التي ستظهر بعد قليل في نفس المشهد, ليست في نفس الزمن الذي يسأل فيه الأب الأم عن رغبتها بالولد أو بالبنت، رغم اشتراكهما في لقطة واحدة.
ثم تتسلط الكاميرا على أشياء متناثرة-تذكرني بالأشياء التي كانت متناثرة بكثرة في فيلم الدليل-ملقية على الأرض وليست واضحة المعالم....
ثم تمسك العجوز الولد من يده وتهم بالمشي، ويظهر الطفل الآخر الذي يقوم باللحاق بهما.
تنظر الأم إلى الكاميرا بضحكة ممزوجة بالبكاء ثم تعاود النظر إلى المرأة العجوز-التي كانت في مشهد سابق انعكاسا لها في المرآة-وهي تجر الطفلين من خلفها.
وينتهي الفيلم على صورة المدى الواسع الأخضر،وأحد الطفلين يصرخ صرخة غير مفهومة والمدى يعكس صدى هذه الصرخة....

هكذا يضعنا تاركوفسكي في حيرة ما بعدها حيرة، وجعلنا في حاجة إلى راحة ذهنية طويلة بعد مشاهدتنا لمثل هذا الفيلم الرمزي المغرق في الذاتية، بل وربما في حاجة إلى مشاهدته مرة ثانية وثالثة حتى نخرج في فكرة واضحة عنه....هناك غموض في الحبكة، وغرابة في طريقة السرد السينمائي تتميز بالتداخل الشديد وغير الواضح للزمن وطبعا سيكون الفيلم عبارة عن عنصر درامي غير تقليدي.
ولكن....يعتبر هذا الفيلم تحفة سينمائية عظيمة عبقرية لهذا المخرج، يتميز بالجمال الشديد رغم غموضه، واستعمال أساليب الفن السينمائي بعبقرية شديدة، ويعتبر في نفس الوقت سيرة ذاتية متفردة في تاريخ السينما لم يسبق لها مثيل....وأجمل ما في الفيلم هي الموسيقى التصويرية التي استخدمها تاركوفسكي في الفيلم....
موسيقى لاس باخ_بيرغوليزي-بيرسل
الأمر الذي أضفى على الفيلم جمالا شديدا، يناسب الجو الشعري الذي يزخر به الفيلم:
في بعض مشاهد فيلم "المرآة". هنا أردنا من الصوت أن يكون قريبا من الحفيف، من التنهد، وأن يكون مليئا بالإيحاء الشعري. كان على النغمات الموسيقية أن توصل حقيقة أن الواقع مشروط، وفي الوقت نفسه أن ينتج حالات ذهنية دقيقة و يولد أصوات العالم الداخلي لشخص ما. لقد تعين على أرتيمييف أن يستخدم حيلا معقدة جدا لإحراز الأصوات التي كنا نريدها. يجب أن تتخلص الموسيقى الالكترونية من أصولها"الكيميائية" بحيث، ونحن نصغي إليها، قد نأسر فيها أنغام العالم الأساسية.*
ويقول في مكان آخر من نفس الكتاب:
في فيلم "المرآة المتعلق بالسيرة الذاتية
على سبيل المثال، الموسيقى هي غالبا مقدمة كجزء من مادة الحياة، من التجربة الروحية لخالق العمل، وبالتالي كعنصر أساسي، مفعم بالحيوية، في عالم بطل الفيلم.
يمكن استخدام الموسيقى من اجل إحداث تحريف ضروري للمادة البصرية في إدراك الجمهور، لجعلها أكثر كثافة وثقلا أو أكثر خفة واحتمالا، أكثر شفافية، أكثر لطفا أو على العكس..أكثر خشونة. بتوظيف الموسيقى، يمكن للمخرج أن يحث انفعالات الجمهور في اتجاه معين، وان يوسع نطاق إدراكهم للصور البصرية. إن معنى الشيء لا يتغير، لكن الشيء نفسه يتخذ مظهرا جديدا.الجمهور يراه (أو على الأقل تتاح له الفرصة لرؤيته) كجزء من كينونة جديدة والتي إليها الموسيقى تكون متممة والإدراك يتعمّق.
لكن الموسيقى ليست مجرد تابع، أو جزء ثانوي، للصورة البصرية، بل يجب أن تكون عنصرا أساسياً لتحقيق الفكرة العامة ككل.عندما تكون الموسيقى موظفة على نحو لائق فإنها تملك القدرة على تغيير النبرة
الانفعالية للمشهد....*
وأعيد وأكرر على مدى جمالية هذا الفيلم، ومدى تمكن مخرجه وحرفيته من إخراج لوحة جميلة جدا محاطة بهالة من عدم الفهم، وإذا طرقت باب هذا الفيلم لا بد أن تطرقه مرات عديدة كما قال أحد النقاد في جريدة صندلي تايمز، ومن الجدير بالذكر أن المخرج الإيطالي الكبير(مايكل أنجلو أنتونيوني) طلب شخصيا مشاهدة فيلم المرآة في 25 تموز من عام 1975 فلم يستجيبوا لطلبه إلا بعد أن هدد بمغادرة المهرجان.*
ونختم هذا المقال، بكلمات تاركوفسكي نفسه عن هذا الفيلم، في كتابه النحت في الزمن:
حتى في فيلم"المرآة"، الذي هو عن مشاعر إنسانية ثابتة، أبدية، وعميقة..هذه المشاعر كانت مصدر ارتباك وعدم فهم بالنسبة للبطل الذي لم يستطع أن يدرك لماذا هو محكوم بأن يعاني ويتعذب على الدوام بسببها، إن يعاني بسبب حبه وعاطفته.
بلال سمير الصدّر
بتاريخ1/1/2007



#بلال_سمير_الصدّر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الثور الهائج 1980: عن حياة ملاكم نيويوركي أصيل
- سائق التاكسي 1976 لمارتن سكورسويزي: فيلم عن اللحظة بامتياز-س ...
- أندريه رابلوف 1969:الفن والجمال،والفكرة والمضمون،وكل شيء عن ...
- للمخرج الألماني Tin Drum 1979:Volker Schondorffالحالة الغريب ...
- أكاذيب وجنس وأشرطة فيديو لستيفن سوديربرغ:عندما تلعب تقنيات ا ...
- طفولة ايفان 1962 لأندريه تاركوفسكي:ولادة شاعر السينما الأكبر
- رجل ميت 1995 لجيم جارموش: رحلة قدرية مرسومة مسبقا لتقرير الم ...
- زهور محطمة لجيم جارموش2005: عندما يرتاح جارموش من عناء الأسئ ...
- ماندرلاي 2006 “لارسن فون تراير”قصة نجحت في أن تكون كناية ولم ...
- الحياة حلوة 1960 لفدريكو فليني: تأريخ للحظات معينة في حياة ص ...
- دوغفيل 2003:تجريد ومسرح بريختي في ثلاثية جديدة عن الولايات ا ...
- الاحتفال1998:دوغما لم تضل الطريق لكن بقيت عاجزة عن خدمة المخ ...
- تحطيم الأمواج 1996 للارسن فون تراير: رؤية عن الإنسان الطيب ا ...
- جوليتا والأرواح 1965:عندما تخون الأحلام فليني
- فيلم الحمقى1998 :فكرة غير واضحة لدوغما ماتت قبل أن تولد
- آلام جان دارك لكارل دراير 1928:التحفة الأبرز في مجال السينما ...
- فيلم غريزة أساسية 1992: عناصر ناجحة لفيلم ناجح على شباك التذ ...
- فيلم الطريق 1954 لفليني:الفيلم الذي قاد فليني إلى التحف
- فيلم (Bocaccio 70)رسالة حب موجهة للمرأة
- الحالمون2004:أين كنا عام 1968


المزيد.....




- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - بلال سمير الصدّر - فيلم المرآة1975:محاولة لفك رموز تاركوفسكي المعقدة-تجلي العنصر الشكلي في حلم واقعي يقبع في ذهن مشتت والنتيجة أجمل أفلام شاعر السينما على الإطلاق