أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد محمد موسى - نذور لعودة الغائب















المزيد.....

نذور لعودة الغائب


سعد محمد موسى

الحوار المتمدن-العدد: 3443 - 2011 / 7 / 31 - 20:12
المحور: الادب والفن
    


نذور لعودة الغائب

سعد محمد الموسوي

ألواح الطين وبوابات المعابد حين توشمها اصابع النسوة المعفرة بالحناء وهي تنقش بالآهات والهواجس رغبات مدفونه ومعتقة باحشاء أقبية العشق، فترسم خرائط الامنيات وقدسية المثلث وبهاء حجر اللازورد وام سبع عيون وغنوصية الحروز والادعية. وتلك الطلاسم والنقوش ترمزً الى الدلالات والرموز الروحية المقدسة فعلى بوابات وشبابيك المعابد والاضرحة وبيوت القديسين والشيوخ والدراويش واصحاب الحظوات والمكارم كانت تعلق النذور وتشعل الشموع ويحرق البخور بشفاعات التبرك.
وكان للتضرع صدى يتراجع في أروقة المعابد ثم يأفل بعيداً متوسلا ًحضور المراد والمبتغى في قداس الخنوع وشلالات الدموع التي تنهمر في وديان الغياب.
دعوة لعودة الحبيب أو الزوج او الابن من دوامات الحروب او بعد الاسفار.

"تعميد جسد الامنيات في نهر الطين".
تعيدني هذه اللوحة لاستذكار المدينة التي ولدت بها، وقضيت بها سنوات الوجع لاحقاً. استحضرت وجوه المدينه وشواخصها ومن ضمنهم ام غايب المراة التي كانت تعج بالفرح والغنج وكانت في بدايات العقد الرابع من عمرها مصابة بالعقر وكانت عادةً ماتنعت الزوجة العاقرانذاك بهذا اللقب وايضاً الزوج الذي لاينجب يلقب (ابو غايب)
كانت ام غايب وأسمها موزة متزوجة من رجل بسيط يدعى"مطر" وكان سكان المحله يدعونه ايضاً ابو غايب. حينها كان الرفيقان ام غايب وابو غايب يعيشان بوئام وحب دائمي وكأن حرمانهم من انجاب الاطفال جعل عشقهم يتالق اكثر.

بدأت حرب تشرين 1972 وكان ابو غايب حينها مطوعاً في الجيش العراقي وقد شارك بالحرب ضد اسرائيل ضمن الوية الجيش العراقي التي التحقت مع بقية الجيوش العربية.
وحين انقطعت اخبار ابو غايب اثناء حرب تشرين. هامت ام غايب بحنائها ونذورها وعشقها توشم بها بوابات المساجد والاضرحة وتوقد شموع (الخضر) على ضفاف الفرات وهي تتشفع بايقونات العودة .
في ضفة الموت الاخرى ربما كانت ام غايب اخرى، يهودية تمسد بحائط المبكى في اورشليم وتنوح تحت اطلال اخر جدار لهيكل سليمان وتتوسل لعودة الغائب الذي يحمل نجمة داوّد في حرب الغفران. فكانت زوجتا العدوّين تتشاركان بالتوسل والنواح لانتظار الغائب.
بين قلق الحضور وحزن الغياب تدور ام غايب كمجرة ضائعة في مدارات الاسى .
اخيراً عاد (ابوغايب) من حرب تشرين سالما،ً فاخذت (ام غايب) قرابينها ونذور الشكر الى الاضرحه ومقامات السادة تنثر الحلوى في طرقات حبيبها الجندي العائد بسلام. وتعالت هلاهل ام غايب فوق القباب والمنائر وسطوح المدينة وكانت تتغنج من وراء العباءه بظفائرها المعطرة بالطيب والمحلب والحناء.
تسرح ابو غايب من الخدمة العسكرية بعد نهاية حرب تشرين
وعاش حياة اخرى بعيداً عن قساوة الجيش والبعد القسري عن العيش مع حبيبته ، استلقى باحضان موزه في منتهى السعادة والسلام. وكان مطر، يتباهى احيانا، ويذكر موزه، كيف تحدى اهلها وابناء عمومتها سابقاً حين كان مولعاً بعشقها وقد كان اهل موزه يرفضون فكرة قدوم مطر للزواج ببنتهم الوحيدة ، لكن مطر العاشق لم يكل او ييأس عن المحاولات لخطبة حبيبته وقد ارسل شخصيات وأعوانا من سادة وشيوخ الى اهل موزه حتى استطاع اخيراً ان يتزوجها عنوة عن أبناء عمومتها.
كان مطر احياناً يظهر لموزه وشمأً قديماً طبعه على ذراعة الايمن كان يمثل قلبا وبداخله عبارة "موزة حبيبتي" نقش هذا الوشم بابرة ورماد التنور حين كان جمر الجوى يحرقه في ليالي البعد والحرمان وهو يمر خلسة في الليل في شارع بيت موزه ينتظر مشاهدتها ولو للحظة , وكانا عادة مايستذكران المقالب والاعذار التي كانت تعملها موزه لكي تقنع اهلها حتى تفر من البيت وتلتقي بمطر.

بعد أن تسرح مطر من الخدمة العسكرية اتفق مع موزة على بناء حانوتٍ بسيطٍ تابعاً لبيتهم القديم الذي يقطنونه منذ سنوات وقد عرضوا على الرفوف حلويات وعلب سجائر وبعض المعلبات.
كنت عادة ماأرى ام غايب وابو غايب يجلسان سوية في الحانوت يتغازلان مع بعضهما ويقهقهان بضحكات عالية وقد اعتاد المارون على سماع ضحكاتهما ونكاتهما أو احيانا كانا يداعبان أطفال المحلة الذين يتقافزون امام باب الحانوت لشراء الحلوى وكان المذياع لايفارقهما في متجرهما الصغير وهم يستمعان الى الاخبار او يطربان بسماع الاغاني بصحبة قطتهم البيضاء الكسولة والمدللة.
استمرت حياة الزوجين وديعة وعادية لسنوات لن تشوبها اية هموم. حتى مجيء سبتمبر عام 1980 الذي غير خارطة الحياة في العراق وبدا الانذار لتعبئة الناس لحرب ضروس طويلة بين العراق وايران .
استدعيت مواليد أبو غايب عام 1982 للالتحاق بجبهات الحرب ، ذهب ابو غايب مرة اخرى الى حرب طويلة لاأحد يعرف نهايتها.
عاد ابو غايب من الحرب باجازتين شهريتين لايام قلائل بعدها، وكانت ام غايب تتباهى باجمل ملابسها وتستعرض حليها الذهبية في المدينة. وكانت كل ليلة تنصب فوق سطح الدار ( الكله) الناموسيةالمستلقية تحت شهوة القمر.
" ليلة العشق الاخيرة"
الساعات المتبقية من الليلة الاخيرة قضاها ابو غايب مع زوجته بوصال حزين يشوبه شعور غريب.
ودع مطر إمراته في فجرٍ باردٍ وموحش من نهاية شهر نوفمبر بعد ان عبّأ حقيبته الصغيرة ببعض الحاجات الشخصية وايضا حشر في الحقيبة صورة زفافهما ورسائل الغرام قبل الزواج وبعض ملابس ام غايب الداخلية التي كان يعشق الوانها ورائحتها. عانقت موزة حبيبها قبل ان يغادر الدار وناحت بوجع عميق فسالت دموعها الساخنة على رقبة واكتاف زوجها وقد بللت قميصه العسكري بدموع الوداع. غادر أبو غايب بقلب يعتصره الاسى ارتحل مرغماً عن داره وزوجته وقطته وحانوته.
غاب ابو غايب اكثر من المعتاد في إجازته الشهرية المفترضة، فتوجست موزة من تاخر قدومه، فزادت من رحلاتها الى المقامات والأضرحة وهي تمنح النذور والقرابين، ولكن الغياب كان يتسع ويطول. تمر الاشهر وليس للغائب من خطى او حضور . لم يكن اسم ابو غايب ضمن قوائم الاسرى ولا ضمن قوافل الجنود العائدين بالاجازات الدورية. أدركت ام غايب ان زوجها في عداد المفقودين ممن تركوا في الارض الحرام ولن يعود ابداً.
لم تعد ام غايب تثق بما قالته العرافه اخيراً، حين زرعت لها حقول الامل بعودة الغياب الوهمي, وايضا قبلها بائت نبوءة العرافة بالفشل حين اخبرتها بالحمل الكاذب.
في الاشهر الاخيره بدات تضاريس الشيخوخة والقهر تكتسح وجه موزة الذي اعتاد الناس قبل غياب مطر في الحرب الاخيرة على رؤيته وهو يشع بالفرح والغنج والاشراق، تخلت الزوجة عن روائح الطيب او الديرم الذي كان يصبغ شفاهها الشهية او الكحل العاشق الذي غادر محراب الليل لينام فوق جفون موزة.
ارتدت الارملة ملابس العزاء وانزوت بحزن وانطفا قداس الفرح في اروقة روحها المشرقة. لم تعد تفتح بوابة الحانوت الا قليلا بعد المصاب الذي حل بها، اخذ الحزن يغطي بيت الغياب والعناكب تنسج خيوطها فوق زوايا سقف الدار والغباريغطي كل شيء حتى السرير الملون الذي اعتادت ان تهتم به كثيراً في السابق. وكذلك القطة المدللة بدت اكثر حزناً وكسلاً وقد كان اغلب الناس في المحلة يتجنب السؤال عن أخبار ابو غايب تعاطفاً واحتراماً لمشاعر ام غايب.
في احدى الليالي الشتائية نفذت سجائري وذهبت الى حانوت ام غايب القريب من البيت لكي اشتري علبة سجائر فكانت القطة تموء وهي تتربع مكان ام غايب وسط الحانوت الصغير. انتظرت لحظات وصاحبة الحانوت لم تظهر ناديت في ارجاء الحانوت المطل على فناء البيت : "ام غايب .. أم غايب". لم تكن هنالك استجابة غير مواء القطة، التي كانت تحدق بي وكانها تريد ان تنبأني بشيء. ثم استحال المواء الى نواح. و بعد ان تطلعت في احدى زوايا البيت، وقع نظري على جسد ام غايب الملتحف بالسواد مسجى امام بوابة الغرفة وهي تعانق صورة المفقود ابو غايب وبالجانب الاخر المذياع المغطى بتراب اخر اغنية.
براكين العشق والحنين صادرت اخر نبضة كانت تئن وحيدة على قلب موزه الموشوم وكانه لوح طيني نقش مطر العاشق مزاميره واناشيده فوقها ثم ارتحل.
فكان رحيل ام غايب لابد منه لايمكن لها ان تعيش اطول مما يتحمل قلبها كل هذة الاشهر لحلم عودة الرجل الذي لن يعود مرة اخرى.
استراليا – ملبورن
اغسطس 2011



#سعد_محمد_موسى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- البحث عن الماء
- احتراق الخطى مابين الرمال والمدن
- النزوج بعيداً
- اغتيال الجسر الاخير
- مزامير الشمس وينابيع الياسمين
- تراتيل تحت نصب الحريه
- مابين نايّ تومان.. وعازف ساكسفون سوهو
- رأس ومنفى وقمر
- الحلم العاري يغادر الخيمة
- مابين وشاية القمر.... وعبور الحدود
- الله والمطر
- التوحد في حضرة النخلة
- ثوابت مشتركة للانتفاضات المعاصرة
- انشودة اذار 1991
- تراتيل في ساحة التحرير
- انتفاضة الجسد ..وظل الرصيف


المزيد.....




- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد محمد موسى - نذور لعودة الغائب