أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - شادي عمر الشربيني - يوليو...و خيارات يناير 1 - عن رثاء الحقبة الليبرالية















المزيد.....


يوليو...و خيارات يناير 1 - عن رثاء الحقبة الليبرالية


شادي عمر الشربيني

الحوار المتمدن-العدد: 3442 - 2011 / 7 / 30 - 18:37
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


ما بين ثورة يوليو و يناير هناك طرحان يبدوا أنهم أكثر من غيرهم يسودان الساحة و الأعلى صوتا، الأول يصف ثورة يناير على أنها قامت لنقض و هدم نظام يوليو، قامت لإنهاء حكم ستين عاما من العسكر، و الثاني أن ثورة يناير، و إن كانت ليست نقضا لثورة يوليو، لأن شرعية هذه الثورة انتهت بوفاة قائدها و ما أعقبه من انقلاب كامل علي مسارها بدءا من سبعينيات القرن العشرين، فإنها تمثل تجاوز لهذه الثورة، تؤسس لنظام جديد يتجاوزها بالكامل و هي منبتة الصلة عنها و لا تعنيها تجربتها في شيء!!
قد يبدوا أن هناك مسافة تفصل ما بين الطرحين، و هي بالفعل موجود، ما بين الطرح الأول الذي يريد صلب يوليو و تصفيتها نهائيا، بما تمثله من قطع عنيف و مجرم مع التجربة الليبرالية المصرية و إجهاض مسارها، و يناير تمثل الرد على هذا الإجهاض و استئناف لهذا المسار الليبرالي الديمقراطي، و الطرح الثاني الذي يرى في يوليو تجربة لها ما لها و عليها ما عليها، و لكنها لم تعد تصلح للقرن الواحد والعشرين، أسئلتها غابت و طرقها في العمل استنزفت و ما كانت تسعى لتحقيقه من أهداف لم يعد مطروحا، لذلك فليس لها من مكان سوى متحف التاريخ!!
بالطبع هناك مسافة ما بين الطرحين، و لكن اختلاف المسارات لا يعني بالـتأكيد اختلاف محطة الوصول، أو اختلاف الاستنتاج النهائي، و التطابق الأخير للجوهر الذي يجمع الطرحين، و هو أن يناير تمثل قطيعة كاملة و شاملة مع ثروة يوليو، و هذا بالضبط ما يريد أن يناقشه هذا المقال عبر حلاقاته الممتدة.

تقف ثورة يناير عند مفترق طرق، أحدى هذه الطرق يحول مصر إلى لبنان أخرى، دولة مفتوحة للتأثر و فناء خلفي تمارس فيه مختلف القوى نفوذها و حضورها بل و عربدتها، و عندها سيكون عهد الدعارة السياسية تحت حكم مبارك، هو أحدى فترات الاستقلال الوطني مقارنة بما لحقه!! و طريق آخر يؤدي إلى عودة نظام مبارك، مع بعض التعديلات في أشكال التحالف الطبقي و السياسي الحاكم، لا تمس جوهر السياسات البائدة، بل ربما تعطيها قبلة حياة و شرعية متجددة، لتستمر مسيرة الانحطاط و الانحدار التي دشنها الراحل أنور السادات بداية من الربع الأخير من القرن الماضي، أو أخيرا، و هذا ما أعتقد أنه نسعى إليه جميعا، أن يتم تدشين عقد اجتماعي-سياسي جديد، يشكل قطيعة حقيقية على كل المستويات مع المنظومة الساداتية- المباركية، يبدأ بتجميد مسلسل الانحطاط و الانحدار، الذي شهدته مصر طوال عدة عقود ماضية، يعقبه استئناف لمشروع النهضة الوطني، بأفقه الحضاري التقدمي التحرري.
يقيني أن أيا من هذه المسارات الثلاثة ستسير عليه ثورة يناير، يتوقف على أجابتها على هذا السؤال، كيف يرى جيل يناير ثورة يوليو، و كيف سيبني علاقته بها...؟؟!!
ليس في هذا نوعا من الاختزال، أو تلخيص لمصير ثورة يناير في الإجابة على سؤال واحد، بل هو محاولة للأطلال على المستقبل من خلال النفاذ إلى البنية العقلية و المنظومة المعرفية التي تحكم مصر الآن و تتعامل مع الحاضر، و شكل استيعابها و تمثلها لهذا الحاضر. فصلاح هذه البنية و المنظومة، كفاءتها و قدرتها على النفاذ وراء ظواهر الأشياء، ديناميكيتها و حيويتها و قدرتها على استيعاب حقائق العصر و الاستجابة لتحدياته، و قبل كل ذلك تمثلها العميق لذاكرتها التاريخية و تجاربها النضالية في التحرر و الصعود و التحقق الإنساني، هو الشرط الأول، و ربما الأخير، الذي ينبئ بمصير ثورة يناير و أيا من المسارات سيكون طريقها.
الذاكرة التاريخية، تمثل أهم مكونات البنية العقلية و المنظومة المعرفية لأي شعب و أمة، سلامتها و يقظتها الدائمة، هي مصدر وحدة الشعب القومية، و عاصمته من التشرذم و الاحتراب، و هي قبل كل ذلك أهم محددات الرؤية الإستراتيجية و أهم تجليات الخصوصية الوطنية، في آن واحد، لأنه إذا كانت الجغرافيا هي التاريخ جامدا، فإن التاريخ نفسه هو الجغرافيا في حالة سيولة.
ما هو مؤلم و خطير في نفس الوقت، هو أن هذه الذاكرة التاريخية تعرضت لغارات بربرية وحشية على مدار العقود الماضية، لم يكون حصادها فقط هو قطع الطريق على نمو صحي و خلاق للبنية العقلية و المنظومة المعرفية للشعب والأمة، بل و تشويه هذه البنية و تمزيق منظومتها، لتصبح في حالة خصومة بل و احتراب دائم مع تراثها النضالي التحرري، و تقع في غرام و تمجيد فترات الخضوع و العبودية و العيش تحت حراب الاستعمار. لقد كانت أهم الحملات المضادة لمصر، و أكثرها ضراوة و خبثا و تركيزا و استمرارا، هي تلك التي وجهت إلى الذاكرة التاريخية لهذا الوطن و لهذه الأمة، و هذا مفهوم، فهي التي تمثل الجسور الممتدة ما بين منظومة القوة الوطنية، و بين العقل و الوجدان ثقافة و إبداعا و اجتهادا، فتكسير هذه الجسور و تحطيمها، يعني بصلة مفقودة، بل أمة في غيبوبة.
لذلك ليس من المصادفة و المفارقة سيادة هذا الحس الثأري ضد ثورة يوليو، و الإصرار العنيف على تصويرها أنها مجرد قاطع طريق الذي أختطف جنين التطور الديمقراطي، و أودى بتجربة ليبرالية ناجحة في النصف الأول من القرن الماضي..!! و المطلوب دائما هو إزالة هذه القطعة من الذاكرة الوطنية و إغراقها في بحر النسيان، ثم وصل منتصف القرن الماضي، بالقرن الجديد مباشرة، و طرد تراث يوليو في الاستقلال و السيادة و العدل و التصنيع و العمل في سبيل دولة الوحدة، لكي تصبح المشروعية جاهزة لاستقواء مشروع آخر، مناهض لأهم قيمها و مبادئها، يكون هو البديل الأول و النقيض الذي ينفرد بساحة العمل الوطني وحده..!!
لهذا يبدوا من المفيد، استهلالا لهذا النقاش حول سلامة الذاكرة التاريخية كشرط أساسي لاستقامة و كفاءة و حيوية و يقظة البنية العقلية و المنظومة المعرفية للأمة ، إنعاش هذه الذاكرة بسرد سريع، موجز و مكثف، لبضع من الحقائق الواضحة عن حصاد التجربة الليبرالية في مصر:-
1- إن دستور سنة 1923، عنوان تلك الحقبة الليبرالية و مفخرتها، و هو أول دستور في تاريخ مصر كما يقولون ( الواقع أن أول دستور صدر عام 1882 إبان تصاعد الحركة الشعبية التي انتهت بالثورة العرابية و لم يطبق إلا 47 يوما)، و ضعته لجنة من ثلاثين أسماها سعد زغلول، زعيم الشعب وقتئذ، " لجنة الأشقياء". و أصدره الملك فؤاد عام 1923 و خرقه خرقا مشينا عام 1924. و عطله محمد محمود عام 1928. و ألغاه إسماعيل صدقي عام 1930. و عاد عام 1935 ليعطل فعليا عام 1939 بإعلان الأحكام العسكرية و وضع مصر- أرضا و شعبا - في خدمة الحلفاء في الحرب العالمية الثانية (1939-1945). و أهدرت أحكامه أهدارا مشينا عام 1942 حين حمل حزب الوفد إلى الحكم بقوة السلاح. و أهدرت أحكامه أهدارا مشينا حين تآمرت أحزاب الأقلية مع الملك فتولوا الحكم في مرحلة ما بعد الحرب. و أهدرت أحكامه أهدارا مشينا حين أقيل حزب الأغلبية من الحكم بعد حريق القاهرة في يناير 1952 لتأتي تلك الوزارات المقطوعة الصلة بالشعب و يكون آخر قرار يصدر منها هو القرار الذي أصدره مرتضى المراغي وزير الداخلية يوم 12 أبريل 1952 بإيقاف الانتخابات.
2- إن الديمقراطية الليبرالية أو البرلمانية تعني مجموعة من القواعد الثابتة، كلها ضرورية لنجاح عملها، و غياب أي منها يعني أنه لا يمكن لهذه الديمقراطية أن تعمل بشكل سليم أو حتى أن توجد. ربما كان أهم هذه القواعد هو وجود تعددية حزبية و تداول للسلطة بين هذه الأحزاب، مع قناعة تامة بأنه عندما يخسر حزب الانتخابات يستلم الحزب الآخر الفائز، أو الأحزاب الأخرى الفائزة، السلطة سريعا دون أية مشاكل. و بالفعل فقد كانت حرية تكوين الأحزاب، معادا تلك الشيوعية، مباحة، و كان على الساحة الحزب الوطني، حزب الوفد، حزب الأحرار الدستوريين، حزب الاتحاد، حزب الشعب، حزب مصر الفتاة، حزب السعديين، حزب الكتلة الوفدية، حزب الفلاح، جبهة مصر بالإضافة إلى جماعة الأخوان المسلمين. و لكن فعليا كان لعبة السلطة في مصر مقتصرة على ثلاثة أطراف، هم، بحسب ترتيب التأثير و القوى، الانجليز و القصر و الوفد، أي أنه لم يكن هناك تشكيلات حزبية حقيقية يتم تداول السلطة بينها، كما تقتضي أهم قواعد الديمقراطية الليبرالية أو البرلمانية. بل إن الوفد، مع بدء ظهوره مع ثورة 1919، لم يصف نفسه بأنه حزب، لأن الحزب، بمعناه الاصطلاحي الأوروبي، يعني قسما من أقسام الأمة، و هو لم يعترف قط بأنه كذلك، و كان دائم التعبير عن نفسه بعبارة "الوفد المصري" باعتباره "وفدا" موفودا من الأمة المصرية كلها بموجب وكالته عنها " للسعي في تحقيق استقلال مصر استقلالا تاما حيثما وجد إلى السعي سبيلا"، و لازمه هذا الإصرار على عدم اعتباره حزبا حتى نهايته، و حتى عندما قامت ثورة 23 يوليو و أصدرت قانونا للأحزاب و ألزمت الأحزاب القائمة بتقديم طلباتها للاعتداد بوجودها و بقائها، حتى عندما حدث ذلك و انصاع له الوفد، فإنه صدر طلبه بعبارته التقليدية " إن الوفد المصري" بغير أن يسبقه لفظ حزب، و كان ذلك في سنة 1953. أي أن الطرف الثالث في لعبة السلطة في مصر، الوفد، كان يعتبر نفسه الممثل للجماعة السياسية في عمومها و المشخص المؤسسي لها، مما ينفي أي صفة للتمثيل لأي جماعة سياسية أخرى عن الأمة أو حتى قسما منها..!!
و أخير، و حتى تكتمل الصورة، فإن الوفد منذ تأسيسه لم تخضع قيادته لرأي غالبية الأعضاء إلا في المسائل التي لا تهم القيادة. فبالمقاييس الليبرالية الديمقراطية، أعطى قائد الوفد، سعد زغلول ثم مصطفى النحاس، نفسيهما "استبدادية" في مواجهة أعضاء الحزب تكررت حتى استقرت تقليدا في الحزب الليبرالي العتيد. ففي عام 1923 قرر سعد زغلول - منفردا – فصل أغلبية أعضاء الوفد ( عشرة من أربعة عشر – و الوفد هنا تطلق على القيادة العليا للحزب). و في عام 1932 كرر مصطفى النحاس الأمر ذاته فاتخذ قرار منفردا بفصل أغلبية الوفد (ثمانية من إحدى عشر). و لقد كان هذا التقليد "الاستبدادي" من بين أسباب الانشقاقات المتتابعة التي حدثت في الحزب و كانت السبب الرئيسي في خروج (أو فصل) عباس محمود العقاد و روز اليوسف و أحمد ماهر و محمود فهمي النقراشي على الوفد أو عنه.
لقد فصل محمود فهمي النقراشي يوم 13 سبتمبر 1937. و لم يكن النقراشي عضوا عاديا في حزب الوفد. كان يلقب باسم "ابن سعد" و كانت تسانده إلى ابعد الحدود السيدة الجليلة "أم المصريين" أرملة سعد زغلول. و كان يعد نابغة التنظيم في الوفد و يحظى بإعجاب أغلبية قواعده، و بسبب ذلك المكان المرموق للنقراشي لم يمر قرار فصله بسهولة، و طرحت من خلال الدفاع عنه أو الهجوم عليه "أيديولوجية" ما عرف في تاريخ الوفد باسم الزعامة المقدسة. لقد كان أوضح تنظير للزعامة المقدسة هو ما نشرته الجريدة الوفدية "كوكب الشرق" يوم 3 يناير 1936، و ردد مصطفى النحاس نفسه معنى ما نشرته الجريدة و نسبه إلى ذاته يوم 10 سبتمبر 1937، تمهيدا لفصل النقراشي بعدها بيومين، حيث قال :" ما كنت في يوم من الأيام رئيس حزب أو هيئة، بل زعيم أمة بأسرها، فمن خرج عليها صبت عليه غضبها، و من وقف في طريقها كان كمن يقف أمام التيار الجارف يكتسحه فيلقيه في قاع اليم، فلا يجد لنفسه مخرجا ولا إلى الحياة طريقا". تلك كانت فكرة الزعامة المقدسة التي يستند إليها رؤساء حزب الوفد ليبرروا قراراتهم الاستبدادية. أعني القرارات التي تصدر غير متفقة مع قواعد اتخاذ القرار جماعيا و سيادة رأي الأغلبية. "كيف تتحقق الديمقراطية مع فكرة تقديس الزعامة؟." هذا كان تعليق عباس محمود العقاد على الفكرة، اكتفي به كخاتمة لهذه النقطة.
3- قد تبدو مفارقة متعددة الدلالات أنه بين عامي 1914 و1950 احتكرت 18 عائلة كبيرة فقط إمداد مجلس الوزراء المصري بأعضائه من الوزراء، بينما لم تقدم هذه العائلات الثمانية عشرة - تحديدا - ضابطًا واحداً إلي صفوف الجيش المصري، وكانت الظاهرة نفسها من نصيب بقية العائلات الكبيرة.
أما الوجه الآخر لهذه المفارقة فهو متعدد الدلالات أيضاً، فعندما تم تأسيس أول حزب وطني مصري في بداية القرن الماضي، كان بيان التأسيس يضم توقيعات ثلاثمائة وسبعة وعشرين وطنيًا مصريًا في مقدمتهم ثلاثة وتسعون ضابطًا، بينما كان بيان التأسيس يتحدث بحروف قوية عن أن: .. هذا الشعب الكادح لا يريد عبودية بعد تحرره اليوم .
4- ليس ثمة وصف يحيط بأوضاع الاقتصاد المصري خلال العقد الممتد من الحرب العالمية الثانية حتي ثورة 23 يوليو أكثر دقة من تلك الصورة التي رسمها د.عبد الجليل العمري التي رأي فيها هذا الاقتصاد: .. كبقرة ترعي في أرض مصر، ولكن ضروعها كانت تحلب خارجها .
لقد بلغ الارتفاع في تكاليف المعيشة في مصر خلال سنوات الحرب العالمية الثانية وحدها 350%، رغم أنه لم يتجاوز في إنجلترا نفسها 145%، وقد شكل ذلك مقدمات الاضطراب الاجتماعي الكبير، الذي سرعان ما تحول إلي احتراب اجتماعي بعد أن انهارت طلائع الطبقة المتوسطة الجديدة وازداد العمال والفلاحون انسحاقًا فوق انسحاق. ففي ظل حكومة الوفد خلال هذه السنوات نفسها، ارتفع عدد أصحاب الملايين في مصر من خمسين مليونيرًا إلي أربعمائة وزادت الودائع في البنوك من خمسة وأربعين مليونًا إلي مائة وعشرين مليوناً دون أن تصاحب ذلك زيادة إنتاجية تتكافأ معه.
5- وإذا كان ضرع البقرة المصرية قد استمر حلبه في الخارج، فإن البقرة نفسها التي لم تجد ما تأكله قد أخذت تأكل في لحمها، لقد كان حافظ عفيفي نفسه هو الذي لاحظ أن أربعة ملايين شخص من المصريين يعيش الواحد منهم بإيراد يقل عن جنيه في الشهر، أي بنحو ثلاثة قروش في اليوم الواحد.
ومن بين ما كانت الحكومة تجمعه من ضرائب، كانت الطبقات المطحونة تدفع من دمها ما يساوي ثلاثة أرباع إيرادات الدولة المصرية، لذلك لم يكن غريبًا وفق الإحصاءات الرسمية أن يكون عدد المصابين بالبلهارسيا اثني عشر مليون مواطن، أي حوالي ثلاثة أرباع عدد السكان، وبالديدان المعوية ثمانية ملايين مواطن أي نصف السكان، وبالرمد الحبيبي أربعة عشر مليون مواطن، أي نسبة تسعين بالمائة من السكان وعندما تم فحص طلاب الجامعة للخدمة العسكرية تبين أن ثلاثة وثمانين بالمائة منهم، لا يصلحون نهائيا لأداء الخدمة علي المستوي الصحي.
كانت الأرض التي يملكها كبار الملاك في ازدياد مستمر، بينما كان عدد المالكين في نقصان مستمر. وفي مواجهة خمسة عشر مليون مواطن لا يملكون شيئًا علي الإطلاق، كان هناك اثنا عشر ألف مالك يملكون ما يربو علي مليونين من الأفدنة. أما في المدينة فقد تركزت الثروة في أيدي عشرة آلاف مالك، هم كبار التجار، وكبار أصحاب الأسهم والسندات والودائع وأعضاء مجالس إدارات الشركات.
6- وإذا كان إجمالي الدخل القومي قد قدر في ذلك الوقت بحوالي خمسمائة مليون جنيه، فإن نصيب الأرباح والإيجارات التي تخص كبار الملاك من بينها قد تجاوز ثلاثمائة مليون جنيه، لكنه حين عرضت حكومة أحمد ماهر بعد ذلك علي مجلس الشيوخ فرض ضريبة سنوية - للدفاع - علي الأطيان الزراعية بمقدار قرش ونصف القرش سنوياً علي كل فدان - أي جنيه ونصف الجنيه ضريبة دفاع سنويًا علي كل مائة فدان - عارض الملاك بشدة ورفضوا أن تخضع الضريبة لعنصر مساحة الأرض المملوكة لهم.
لقد نمت الرأسمالية المصرية خلال هذه السنوات، وحملت معها طبيعة نموها غير الرشيدة. فعندما تزحزحت أجور العمال إلي أعلي قليلا، أعلن تقرير للاتحاد المصري للصناعات 1944 أن متوسط إنتاج العامل قد هبط نتيجة محاولة تحسين حاله من الناحية المادية، بدلاً من تربيته اجتماعيًا وفنياً، وعندما طرح مشروع لإنشاء مناطق صناعية واجه الاتحاد المشروع بضراوة لأن: "حشد العمال في أماكن بعينها قد يغريهم بأشكال ثورية تجتاح الأمن والنظام". كما عارض الاتحاد نفسه مشروع عقد العمل الفردي بعد أن أقره مجلس الوزراء ورفض فرض ضريبة علي الأرباح الاستثمارية.
7- مع حكومة الوفد الأخيرة كان الإحساس من زلزال قادم، ومن نهاية فاجعة معه يغشي جميع الذين يجلسون علي مقاعد الحكم، ويبدو أن هذا الإحساس العميق قد ترجم نفسه في صورة سعي محموم إلي جمع الثروة وتكديسها، فبينما كانت مصر تزداد فقرًا وإملاقًا، كانت الثروات الخاصة تزداد تضخمًا من خلال أشكال من النهب المنظم، حتي تكاد المرحلة في جوهرها تكون مرحلة تنمية الثروات الخاصة علي حساب الوطن.
إن تقرير السفارة البريطانية نفسه 1951/2/23 هو الذي يعرف حكومة الوفد بأنها حكومة الأثرياء ، والقائم بالأعمال البريطاني هو الذي يطلق علي المجموعة المحيطة بالملك، قبل الثورة بيومين وصف: "العصابة"، والسفير البريطاني نفسه هو الذي يكتب إلي لندن 1951/6/15 :"إن الفساد في مصر قد وصل إلي درجة أكثر إثارة للقلق". وعندما اتخذت حكومة نجيب الهلالي شعارًا لها التطهير قبل التحرير كان كريم ثابت مستشار الملك، الذي عمّق ومليكه صلاتهما بالسفارة الأمريكية، هو الذي ذهب إلي السفير الأمريكي - حسب تقريره إلي واشنطن - ليحذر من السماح بتحقيق هدف حكومة الهلالي باشا في تطهير الإدارة.. لماذا؟ لأنه حسب ألفاظه في التقرير: لو تحقق ذلك لنتجت عنه نتائج سيئة لأنه سيجعل المواطن المصري العادي، يعرف أن حكامه في السنوات العشر الأخيرة علي الأقل كانوا من اللصوص !
........................
........................

الأكيد أن الغرض من السطور ليس تأريخ للحقبة الليبرالية في حياة مصر، بل هو مجرد محاولة لرصد سريع لبعض من حصادها و مآلاتها على أصعدة مختلفة سياسية و اجتماعية و اقتصادية، و الأكيد أيضا أن الهدف ليس الإدانة أو إصدار أحكام، فلا أحد يمكنه أن ينفي النضال الوطني و الكفاح المشتعل طوال هذه الفترة، و لكنه كان نضالا و كفاحا، و خاصة الثوري و الجزري منه، يبغي تجاوزها و ليس الحفاظ عليها أو حتى تطويرها.
أربعون عاما من الثروة المضادة، استمرت محاولات دائبة لا تهدأ تحاول تصوير أيام الاحتلال و الملك على أنها الفترة الذهبية في تاريخ هذا الوطن، حيث كانت الحريات، تحت ظل الاستعمار والاستغلال..!! و الخير و أنهار اللبن و العسل التي تتدفق على المصريين..!!
كفى... آن الوقت أن يتوقف هذا العبث، و أن يعود لهذا الوطن ذاكرته و... و عقله.....
و ما سبق غيض من فيض الحال المصري عبر و عند خاتمة هذه الفترة الذهبية...!!!
عند لحظة فارقة، و مفترق طرق أمام هذا الوطن، يصبح السكوت خيانة، و الهروب من مواجهة الزيف و الخداع، جبن و هروب من ساحة المعركة يستحق الإعدام...
الحديث موصول... والصراع دفاعا عن ضمير و وعي هذا الوطن ممتد و طويل...
وفي المقال القادم نكمل الحديث و نحاول أن نكشف الحقيقة عن ضباط يوليو و ما فعلوه بهذا الوطن...!!!



#شادي_عمر_الشربيني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حتى تكون ثورة...1- في معنى الثورة


المزيد.....




- الشرطة الإسرائيلية تعتقل محاضرة في الجامعة العبرية بتهمة الت ...
- عبد الملك الحوثي: الرد الإيراني استهدف واحدة من أهم القواعد ...
- استطلاع: تدني شعبية ريشي سوناك إلى مستويات قياسية
- الدفاع الأوكرانية: نركز اهتمامنا على المساواة بين الجنسين في ...
- غوتيريش يدعو إلى إنهاء -دوامة الانتقام- بين إيران وإسرائيل و ...
- تونس.. رجل يفقأ عيني زوجته الحامل ويضع حدا لحياته في بئر
- -سبب غير متوقع- لتساقط الشعر قد تلاحظه في الربيع
- الأمير ويليام يستأنف واجباته الملكية لأول مرة منذ تشخيص مرض ...
- -حزب الله- يعرض مشاهد من استهداف وحدة المراقبة الجوية الإسرا ...
- تونس.. تأجيل النظر في -قضية التآمر على أمن الدولة-


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - شادي عمر الشربيني - يوليو...و خيارات يناير 1 - عن رثاء الحقبة الليبرالية