أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - كاظم حبيب - هل ستكون تجربة محكمة الشعب درساً غنياً لمحاكمات عادلة للمتهمين من أتباع النظام الصدّامي؟















المزيد.....


هل ستكون تجربة محكمة الشعب درساً غنياً لمحاكمات عادلة للمتهمين من أتباع النظام الصدّامي؟


كاظم حبيب
(Kadhim Habib)


الحوار المتمدن-العدد: 1024 - 2004 / 11 / 21 - 12:23
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


لا شك في أن محاكمات العهد البعثي – الصدّامي سوف تبدأ بعد أن تكون وثائق الاتهام قد أعدت وبعد أن يأخذ القضاء العراقي على عاتقه محاكمة المتهمين وفق القوانين العراقية المدنية وبعيداً عن تشكيل محكمة عسكرية خاصة لهذا الغرض. ومن أجل أن نأخذ ذلك بنظر الاعتبار وجدت مناسباً طرح بعض الملاحظات الأولية حول محكمة الشعب وما نريده في المحاكمات القادمة لأتباع النظام البعثي – الصدّامي وفق التهم التي ستوجه لهم من الهيئات التحقيقية المدنية المشكلة لهذا الغرض.
أصدر مجلس السيادة في العراق القانون رقم 7 في السابع من شهر آب/أغسطس 1958 بشأن معاقبة المتآمرين على سلامة الوطن ومفسدي نظام الحكم وفق المشروع الذي قدمته الحكومة العراقية للمصادقة عليه. وتضمن القانون تشكيل محكمة جزاء تسمى ب "المحكمة العسكرية العليا الخاصة" للنظر في الجرائم الواردة في هذا القانون أو القوانين العقابية الأخرى التي يحيلها إليها القائد العام للقوات المسلحة. ثم صدر المرسوم الجمهوري المرقم 18 والمؤرخ في 20/7/1958 المعدل بالمرسوم الجمهوري رقم 164 وتاريخ 15/8/1958 القاضي بتعيين هيئة المحكمة الخاصة, التي ضمت في عضويتها الأشخاص التالية أسماؤهم:
العقيد فاضل عباس المهداوي رئيساً
المقدم عبد الهادي الراوي عضواً,
المقدم فتاح الشالي عضواً,
المقدم شاكر محمود السلام عضواً,
الرئيس الأول إبراهيم عباس اللامي عضواً,
الرئيس الأول كامل حسين الشماع عضو احتياط.
أما هيئة الادعاء العام فتشكلت بتاريخ 21/8/1958 وضمت إليها:
العقيد الركن ماجد محمد أمين رئيساً لهيئة الإدعاء,
الحاكم غازي عبد الهادي,
عبد المجيد سلام نائب المدعي العام.
كما شكلت هيئة تحقيقية واسعة برئاسة العقيد محمود عبد الرزاق, ضمت إليها مجموعة من العسكريين والمدنيين.
كانت المهمة المركزية التي أنيطت بالمحكمة الخاصة, التي سميت فيما بعد ومن قبل الشعب ب "محكمة الشعب", ومن قبل المناوئين لها ب "محكمة المهداوي", تتلخص بالنظر في القضايا المطروحة عليها والخاصة بأقطاب النظام الملكي الذين مارسوا الحكم طيلة الفترة الواقعة بين 1921-1958 وهم نخبة سياسية توزعت من حيث المبدأ على حزبين سياسيين هما حزب الاتحاد الدستوري برئاسة نوري السعيد وحزب الأمة الاشتراكي برئاسة صالح جبر, إضافة إلى عدد غير كبير من المسئولين عن أجهزة الأمن والسجون والقادة العسكريين وقادة الشرطة الذين شكلوا النخبة المدافعة عن النظام الملكي الإقطاعي في العراق والضاربة لكل المناوئين لها. إلا أن هذه المحكمة لم تكتف بالنظر في هذه القضايا, بل أحيلت إليها قضايا المتهمين بالتآمر على الجمهورية العراقية وأولئك الذين اتهموا بمحاولة اغتيال رئيس الوزراء, وبشكل خاص العناصر التي اتهمت بتنظيم محاولة انقلاب عبد الوهاب الشواف في الموصل ومحاكمة عبد السلام عارف, الذي اتهم بمحاولة اغتيال عبد الكريم قاسم, والمجموعة التي اتهمت بالمشاركة في محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم في عام, 1959 ثم عناصر أخرى اتهمت بالتآمر على الجمهورية أو إفساد نظام الحكم.
جرت جميع هذه المحاكمات بصورة علنية وفسح المجال للجمهور بالدخول إلى قاعة المحكمة ومشاهدة المحاكمات. وكانت أول تجربة من نوعها في العراق وتميزت بما يلي:
1. أول محكمة عراقية شكلت لمحاكمة قوى النظام السياسي الملكي المخلوع ممن شارك في رسم سياسة البلاد وممارسة اضطهاد وتعذيب وإفقار الشعب في ضوء التهم الموجهة لها طيلة وجودها على رأس السلطة, ومنها تلك القوى التي مارست التعذيب في المواقف والمعتقلات والسجون. وهي بهذا المعنى لم تكن محكمة جزاء فحسب, بل كانت محكمة سياسية لمحاكمة النظام الملكي المخلوع أيضاً.
2. أول محكمة علنية سمح فيها للجمهور بمتابعة جلساتها العلنية ونقلت وقائعها عبر شاشة التلفزيون والإذاعة. وتحولت تدريجاً إلى منبر للتبشير بسياسة عبد الكريم قاسم ومواقفه ومهاجمة المناهضين له.
3. فسح فيها للمتهمين بالدفاع المباشر عن أنفسهم وتوكيل محامين للدفاع عنهم.
كان هدف العاملين في المحكمة, كما يبدو من وقائع الجلسات كلها, يتلخص في تحويل جلساتها إلى مدرسة سياسية في الوطنية وكره الاستعمار والرجعية والإقطاع والظلم والفساد, وإلى موقع يدعم قضايا الحرية والديمقراطية والسلام ومصالح الشعب الأساسية.
أصدرت هيئة المحكمة تفاصيل المحاكمات التي دامت طيلة الفترة الواقعة بين 1958-1962 في 22 مجلدا. احتوت هذه المجلدات تفاصيل جلسات المرافعات يما في ذلك أحاديث رئيس المحكمة وأقوال الشهود ومرافعات الادعاء العام وأقوال المتهمين ومرافعات الدفاع عن المتهمين ثم الأحكام الصادرة بحق المتهمين.
إن دراسة هذه المجلدات تساعد في تسجيل عدد من الملاحظات المهمة حول سير المحاكمات, ومنها:
1. لم يكن ضرورياً بأي حال تشكيل محكمة عسكرية خاصة لمحاكمة المتهمين بقضايا النظام السابق, بل كان من واجب القضاء المدني العراقي النظر في جميع تلك القضايا والبت فيها وفق القوانين العراقية المعمول بها حينذاك. إذ أن إضفاء صفة العسكرية على تلك المحكمة أفقدها الكثير من ضمانات الحيادية والالتزام بالقوانين والشرعية الدستورية والنزاهة في إصدار الأحكام. إذ أن حكامها كانوا من الضباط الأحرار الذين نفذوا الانتفاضة العسكرية أو ممن يرتبطون بها ويؤيدونها. وهي مخالفة صريحة لمبدأ أساسي هو الالتزام بالشرعية واستقلال القضاء.
2. لم يكن ضرورياً تشكيل هيئة تحقيق عسكرية خاصة للتحقيق بقضايا هؤلاء الأشخاص, إذ كان في مقدور جهاز القضاء العراقي المدني توفير حكام تحقيق يتمتعون بالنزاهة والاستقامة واحترام القوانين والشرعية لإجراء التحقيق مع جميع المتهمين, مع ضمان الابتعاد عن ممارسة أساليب القهر في التحقيق لانتزاع المعلومات أو الاعترافات. إذ أن تشكيل هيئة تحقيق خاصة أعطى الإشارة إلى إمكانية ممارسة مختلف الأساليب المشروعة وغير المشروعة من أجل الحصول على أو انتزاع المعلومات والاعترافات من المتهمين, وهي مخالفة للشرعية والقوانين المعمول بها في العراق حينذاك, إذ كان يشار باستمرار إلى تعرض المتهمين إلى ضغوط نفسية وإلى تعذيب جسدي لانتزاع الاعترافات منهم. والمعلومات المتوفرة عن هذه الفترة أن عدداً من المحققين قد مارسوا ذلك فعلاً ومنهم رئيس اللجنة التحقيقية الجنرال هائم عبد الجبار.
3. لم يكن سليماً تحويل المحكمة إلى منبر سياسي للخطابة وإلقاء الشعر والإساءة للأفراد وإذلالهم بصورة لا تتفق مع الشرعية وأسس القضاء العراقي, أي أن المحكمة أصبحت منذ البدء,
وتفاقم هذا الاتجاه يوماً بعد آخر, إلى منبر يتسم بما يلي:
4. التعريض الواسع النطاق بالمتهمين وإهانتهم والإساءة إلى سمعتهم الشخصية والعائلية وإذلالهم أمام أنظار الجمهور وإضحاك الناس عليهم وتقزيمهم دون مبرر. لقد كانت كرامة الإنسان في هذه المحاكمات هي التي أهينت بغض النظر عن الجرائم التي ارتكبها هؤلاء الناس بحق الشعب والاقتصاد الوطني.
5. وأصبحت المحكمة موقعاً لتنمية الكراهية والحقد على المتهمين والرغبة في الانتقام من خلال طريقة عرض القضايا وأسلوب المرافعة وتمزيق شخصية المتهم. كما أنها ساهمت, شاءت ذلك أم أبت, وخاصة عند محاكمة خصوم عبد الكريم قاسم والمناهضين لحكمه من قوى البعث والقوى القومية وغيرها, في تعميق الخلافات في المجتمع وبين القوى السياسية المختلفة.
6. تحول رئيس المحكمة إلى معلم يمارس قراءة الأدب والتربية وقراءة الشعر, وسمح لنفسه بالإساءة إلى شخصيات أدبية ووجوه عربية, أي تحولت المحكمة إلى منبر سياسي على الصعيدين المحلي والعربي وفقدت تدريجاً طابعها القضائي الملتزم بالحيادية والقانون.
7. كما ساهمت المحكمة في تأليه عبد الكريم قاسم وتمجيد أفعاله وإبراز خصاله الحميدة ودوره في الثورة على حساب الأخري أمام الشعب.
وتؤكد الكثير من الدلائل إلى أن عبد الكريم قاسم كان مؤيداً بحرارة لمجرى المحاكمات وكان يتابع بعضها ولم يعترض عليها. وكانت هذه الحالة تثير على الجمهورية الأولى جملة من الإشكاليات على الصعيدين العربي والدولي, كما كانت تثير حفيظة عائلات المتهمين في مجتمع كان وما يزال عشائرياً ويرفض إهانة أفراده, وإثارة أتباع ومؤيدي تلك الشخصيات, سواء التي كانت ترتبط بالنظام الملكي أو من اتهم بالتآمر على الجمهورية والإطاحة بحكومة قاسم.
ويشير الأستاذ نجيب الصائغ, أحد السياسيين البارزين المعارضين للعهد الملكي وأحد الدبلوماسيين والسفراء البارزين في العهد الجمهوري الأول, إلى موقف عبد الكريم قاسم من هذه المحكمة في لقاء له مع الأخير, يقول بأنه نقل إلى عبد الكريم قاسم النقد الشديد الذي كانت تمارسه الصحف اللبنانية إزاء محكمة المهداوي رغم تأييدها لسياسة العراق, إذ قال له: "أما ترى يا سيادة الزعيم إن مثل هذا الأسلوب وهذه التعليقات وتلك الشتائم تسيئ إلى سمعة الجمهورية العراقية وتستغل للتهجم عليها والطعن بها خاصة وأن بعض هذه الشتائم منصبة على رؤوساء دول لنا علاقات سياسية معها وكثيراً ما يؤدي ذلك إلى إحراج موقفي مع سفراء تلك الدول عندما يجابهونني بما تلفظ به المهداوي ضد رؤوسائهم وزعماء بلدهم. وأضفت قائلاً أن مصلحة الجمهورية تقضي بوجوب الحد من تصرفات المهداوي هذه وفي هذه الحالة أعتقد بأن النقد الموجه إلى الجمهورية والتهجمات عليها تقل بنسبة كبيرة" . فكان تعقيب قاسم كما يلي, كما ورد في كتاب السيد نجيب الصائغ": أجابني عبد الكريم قاسم قائلاً أني أتفق معك أن الأسلوب الذي يتبعه المهداوي مع المتهمين في أثناء محاكمتهم يسيء إلى الجمهورية العراقية في الداخل والخارج. ورغم ذلك فأني أؤيده حيث أن فائدة هذا الأسلوب للبلد أكثر من ضرره والسبب هو لا زالت هناك عناصر كثيرة تنتهز الفرص المواتية للتآمر على الجمهورية العراقية إلا أن خوفها من الوقوف أمام المهداوي وممارسته هذا الأسلوب المذل معها أثناء المرافعات يردعها عن الإقدام على التآمر لأنها لا تخشى العقوبة التي تفرض عليها بقدر ما تخشى طريقة المهداوي في أثناء المحاكمة, وأني في الوقت المناسب وحسبما تقتضيه مصلحة البلاد وأمنها سوف أحد من تصرفات المهداوي هذه بل وأوقف محكمته" .
ولكن قاسم تصرف بطريقة أخرى حين علم بأن الهيئة التحقيقة تمارس التعذيب بحق المتهمين لانتزاع اعترافات منهم, إذ قرر مباشرة إبعاد رئيس الهيئة التحقيقة الجنرال هاشم عبد الجبار وتعيين آخر مكانه.
لقد صدرت الكثير من الأحكام الثقيلة بحق المتهمين, كما صدرت أحكام الإعدام بحق بعض أبرز حكام العراق ومنفذي سياساته ومن المتهمين بالتآمر على الجمهورية أو المختلفين مع سياسة عبد الكريم قاسم, ولكن ما نفذ من أحكام الإعدام كان محدوداً, إذ أن قاسماً أصدر أوامر بالعفو وأوقف تنفيذها وتحويلها إلى أحكام بالسجن المؤبد ومن ثم اطلق سراح البعض منهم ايضاً. ومع ذلك فقد كانت الأحكام قاسية عموماً ولم تخلق في المجتمع أجواء المصالحة والتعاون ونسيان الأحقاد, بل ساهمت في تعميق ذلك. وتشير وقائع تلك الفترة إلى أن الكثير من المتهمين قد تعرضوا إلى التعذيب الجسدي والنفسي وإلى إهانة الكرامة وسوء المعاملة, وهي أساليب كانت القوى السياسية العراقية المناهضة للنظام الملكي تشجبها وتدين القائمين بها. وبالتالي لم يكن مقبولاً بأي حال ممارسة ذات الأساليب غير الإنسانية التي مارسها النظام البائد مع المعتقلين لديه. ومن الجدير بالإشارة إلى أن النظام الملكي في العراق كان قد شارك في وضع اللائحة الدولية لحقوق الإنسان في عام1948 واعترف بها وقرر الالتزام بها, ولكنه عملياً مارس مختلف أساليب التعذيب الجسدي والنفسي والمحاربة بالرزق والتهجير القسري والإبعاد وإسقاط الجنسية ضد المعتقلين لديه والمخالفين لسياساته. ولا بد من دراسة هذه التجربة بعناية كبيرة, إذ أنها تشكل جزء من تراث القضاء السياسي العراقي الذي يفترض أن يوضع له حد وأن يصبح القضاء حيادياً مستقلاً وملتزماً بالقوانين الديمقراطية المنبثقة عن دستور ديمقراطي حديث.
ومن الجدير بالإشارة أن محكمة الشعب قد وجدت صدى تأييد واسع في صفوف الجماهير الشعبية الواسعة, وخاصة في صفوف الكادحين والفقراء الذي عانوا من الجوع والحرمان والبؤس في فترة العهد الملكي واعتبروا الحكام السابقين مسؤولين عن ذلك, إضافة ارتياح السياسيين العراقيين من جلسات محكمة الشعب لأنهم كانوا ضحية النظام الملكي. لقد حصل العقيد فاضل عباس المهداوي على تأييد وحب شعبي واسع في مناطق الوسط والجنوب وفي كردستان العراق أيضاً. حتى أن صوره قد احتلت موقعاً غير بعيد من صور عبد الكريم قاسم بسبب حب الناس له. إن الشعبية التي حظي بها شجعته على الاستمرار بممارسة هذا الأسلوب الزجري المهين ضد المتهمين وتشديده بصورة لم تكن مناسبة لمحكمة تمثل القضاء العراقي.
كانت شخصية المهداوي شعبية جذابة, وهو من أبناء منطقة شعبية في بغداد هي محلة الفضل. كان لبقاً سريع البديهة, حاد اللسان. وكان حافظاً للشعر وقارئاً جيداً للأدب العراقي والعربي. تميز بالإخلاص التام لعبد الكريم قاسم, إضافة إلى كونه قريباً له, وماثله في نظافة اليد.
قتل معه في دار الإذاعة العراقية. وكل الدلائل تشير إلى أنه كان متماسكاً وواعياً لما سيحصل له ومستعداً لاستقبال الموت دون وجل, رغم محاولات الاعتداء عليه وأهانته من قبل القوة البعثية التي اعتقلته.
إن تجربة محكمة الشعب يفترض أن لا تتكرر بأي حال في العراق. إن المحاكمات التي يفترض أن تمارس في حالات من هذا النوع يفترض أن تتم وفق القوانين المرعية وتصان فيها حقوق اإنسان وكرامته على وجه الخصوص بغض النظر عن الجرائم المتهم بارتكابها, وهي الطريقة الوحيدة التي يمكن أن تعود بالعراق إلى الحياة المدنية.
وإزاء هذه التجربة هل سيكون في مقدور الوضع الجديد في العراق مع بدء حياة الجمهورية الخامسة أن يمارس المعايير القضائية المستقلة والإنسانية والأخلاقية الصارمة في محاكمة صدام حسين وأعوانه بعد أن وجهت لهم تهماً كبيرة جداً بما فيها ارتكاب جرائم بشعة بحق الإنسانية لا في العراق فحسب, بل وفي إيران والكويت, إضافة إلى ما ألحقته هذه النخبة الحاكمة من دمار شامل في الاقتصاد ومن تخريب للبنية التحتية ومن تشويه للمجتمع ومصادرة كاملة غير منقوصة لحقوق الإنسان وتجاوز على شرعة حقوق الإنسان وممارسة العنصرية بمختلف أوجهها في البلاد؟ هل يمكن للقضاء العراقي أن يرتقي إلى مستوى المسئولية إزاء الشعب والوطن ليمارس مثل تلك المبادئ لمحاكمة هذه المجموعة التي حكمت العراق طيلة 35 عاماً عجافاً يبابا ومتهمة بقتل أو التسبب بموت ما يزيد على مليون إنسان عراقي, إضافة إلى الجرحى والمعوقين وتهديم البيوت على رؤوس ساكنيها وحرق القرى الكردية التي يزيد تعدادها عن 4250 قرية أو حرق الزرع والضرب وحرق الغابات وموت ما يقرب من ربع مليون إنسان في حروبه المتتالية ضد الشعب الكردي والأقليات القومية في كردستان العراق واستخدامه أسلحة الدمار الشامل في حلب?ة ومجازر الأنفال وإعدامات السجون ومكائن فرم أجسام المعتقلين والسجناء وهم أحياء أو تذويبهم بالحوامض أو تسميمهم بمختلف أنواع السموم أو تهجير مئات الآلاف من العوائل االكردية الفيلية والعربية إلى إيران واضطرار أعداد غفيرة من الكلدان والآشوريين والمندائيين والإيزيديين إلى ترك العراق والعيش في الغربية مما رفع من عدد العراقيين المقيمين في شتات المهجر ما يزيد عن ثلاثة ملايين عراقي بسبب تلك السياسات القمعية أو صرف أكثر من 150 مليار دولار أمريكي على الأغراض العسكرية ومئات المليارات الأخرى على الحروب وتدمير الأسلحة وإغراق العراق بالديون والتعويضات التي تصل إلى حدود 500 مليار دولار أمريكي...الخ؟
يقف القضاء العراقي اليوم أمام منعطف طرق:
الأول يقود إلى السلامة وإلى التعلم من الماضي ودروسه القاسية بما يساعد على تثقيف النفس والشعب العراقي كله وشعوب بلدان المنطقة بخبرة العراق في السبيل السليم لمحاكمة من مارس سياسات الاستبداد والقسوة والتعذيب والقتل والعنصرية والحرب والعدوان والتفريط بأموال الشعب, وبالتالي يضع حداً بين تاريخين, تاريخ منصرم كان مدمراً, والآخر في مقدوره أن يساعد الشعب على النهوض من الكبوات والتوجه صوب الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات والعدالة الاجتماعية وكسب ثقة العالم بقدرة الشعب العراقي على هضم الديمقراطية والتمسك بها وبناء مستقبله الجديد وفق أسس جديدة غير التي عاشها طوال قرون وعقود منصرمة.
والثاني يقود إلى استمرار البؤس السياسي والاستبداد والقهر والشعور بالحيف وعدم الإنصاف والتجاوز الفظ على القضاء المستقل وحقوق الإنسان, وبالتالي يعتبر استمراراً للماضي الذي لا نريد له أن يعود بل الاستفادة من دروسه فقط, ولا يعلم الشعب إلا ما تعلمه من الحكام السابقين المستبدين القساة والظالمين الطغاة.
أدرك مدى الصعوبة في انتهاج الطريق الأول, ولكنه الطريق الوحيد الذي يساعدنا في الوصول إلى الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات والعدالة الاجتماعية, إنه الطريق الذي يطهرنا من رجس الماضي والعودة إلى:
• بناء المجتمع المدني الديمقراطي في دولة ديمقراطية فيدرالية حرة ومزدهرة ويترك ورائه دولة الاستبداد والقمع والبؤس والفاقة والحرمان والعنصرية والطائفية المقيتتين.
• حظيرة الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية, ومنها منظمات حقوق الإنسان باعتبارنا نحترم هذه الحقوق ونمارسها في آن ونرفض التجاوز عليها ما دمنا نحاكم من نعتقد بأنه قد تجاوز عليها بفظاظة غير متناهية.
• حظيرة الشعوب التي تحترم نفسها وتحترم المواثيق الدولية والعهود والاتفاقيات الخاصة بشرعة حقوق الإنسان وترفض التجاوز عليها.
• حظيرة الشعوب العربية والشعوب التي تعيش لتؤثر بدورها على النظم السائدة في تلك البلدان التي تعاني من تجاوزات فظة على حقوقها المشروعة وحقوق القوميات الأخرى فيها وتعاني من استبداد حكامها وظلم نظمها السياسية ومحاول تقديم نموذج أفضل من النماذج السائدة فيها في هذا المجال أيضاً, خاصة وأن سجون الدول العربية عموماً مليئة بمعتقلي وسجناء الرأي ويتعرضون إلى شتى أنواع التعذيب والاغتصاب والحرمان دون استثناء.
• إقناع شعبنا بصواب النهج الجديد وخطأ الممارسات التي عمدت إليها النظم السابقة, وخاصة النظام الصدّامي, وإقناع أتباع النظام الذين لم يلطخوا أيديهم بجرائم النظام بحقيقة الجرائم التي ارتكبت في فترة حكم البعث الصدّامي من خلال محاكمة عادلة ونزيهة, سواء أكانوا قد عرفوا بها وسكتوا عنها أم لم يشعروا بها لأي سبب كان.
وفي ضوء ذلك يتطلب من الحكومة العراقية إصدار قرار جديد يصادق على القرار السابق الذي أصدره المدني لسلطة الاحتلال أو تعديله ليصبح قراراً عراقياً خالصاً, إذ أن القرار السابق يمكن الطعن القانوني فيه باعتباره صادراً عن تلك الجهة المحتلة وفي فترة الاحتلال, كما يمكن إقرار أو تشكيل لجنة التحقيق والإدعاء العام. كما يفترض أن تلتزم المحكمة العراقية المسئولة عن محاكمة هذه المجموعة من كبار المتهمين وعلى رأسهم قائدهم صدام حسين بالأسس التالية:
1. أن تكون المحكمة مشكلة من قاضيات عراقيات وقضاة عراقيين يملكون الخبرة والحصافة والحكمة في التعامل القضائي ويتسمون بالاستقلالية التامة. إن وجود قاضيات في هيئة المحكمة له جانب فكري ومعنوي كبير في هذه المرحلة من تطور العراق الجديد لا أجد مبرراً للتوسع في توضيحها.
2. تحريم مطلق لممارسة التعذيب ضد المعتقلين في سجون العراق ابتداء من صدام حسين وانتهاء بآخر منفذ لجرائم القتل في العراق ضد المعتقلين والسجناء أو ضد منفذي الاغتيالات وضد ممارسي التعذيب الذين قتلوا ضحاياهم أثناء تعذيبهم لهم أو ضد مستخدمي الأسلحة الكيماوية ومنفذي عمليات الأنفال ...الخ. وهذه المعاملة المطلوبة هي التي تضع الفارق النوعي بين المستبدين وبين الديمقراطيين ليس في العراق فحسب, بل وعلى الصعيد العالمي. فعندما مارست سلطة التحالف في العراق التعذيب في السجون العراقية فقدت الولايات المتحدة الكثير من مصداقيتها في العالم التي كانت تدعو وتؤكد على الديمقراطية وحقوق الإنسان.
3. يفترض أن يتم التحقيق مع المتهمين وفق أسس قانونية ديمقراطية وفيها احترام كامل لحقوق الإنسان. ورفض ممارسة أي ضغط أو ابتزاز للحصول على المعلومات, ولكن يمكن الوصول إلى اتفاقات بالرحمة في حالة تقديم معلومات تفصيلية عن الجرائم المرتكبة في العراق خلال العهد الصدّامي المنقرض.
4. منح المعتقلين حق توكيل محامين عنهم, بغض النظر عن البلد الذي ينتمي إليه المحامي, وفسح المجال أمامهم للقاء بموكليهم والاطلاع على أوراق القضية والتهم الموجهة لهم. فسح المجال أمام محامين عرب وغير عرب للدفاع عن المتهمين, إذ لا خشية من ذلك بل سيلعب ذلك دوراً مهماً في مصداقية القضاء العراقي الجديد والديمقراطية التي يسعى المجتمع إلى تكريسها في العراق.
5. توفير الحماية لهم أثناء المحاكمات أو أثناء الاعتقال وتوفير إمكانية اللقاء بعائلاتهم بما لا يلحق ضرراً بالدعاوى المقامة ضدهم.
6. عدم تحويل المحاكمات إلى منبر للخطابة السياسية والهتافات ... إذ أنها لن تصبح محاكمات موضوعية وهادفة إلى عملية تثقيف المجتمع. الابتعاد عن استخدام عبارات منافية للقواعد الأساسية للمحاكمات القضائية المحترمة, وفسح المجال أمام المتهمين للدفاع عن أنفسهم كما يشاءون دون منعهم منها.
7. نقل المحاكمات عبر شاشة التلفزيون وتوجيهها إلى العالم كله للاطلاع على ثلاثة مسائل مهمة:
أ?. طبيعة التهم الموجهة إلى هذه المجموعة التي حكمت العراق طيلة 35 عاماً بقيادة صدام حسين
ب?. طبيعة سير المحاكمات ومدى التزامها بالقواعد القانونية الديمقراطية من كل الأطراف, ابتداء من الحكام والمحامين والمتهمين وانتهاء بالمدعين العامين.
ت?. عملية تثقيف لكل المشاهدين من تجربة العراق المريرة خلال العقود المنصرمة.
8. الالتزام بمبدأ المتهم برئ حتى تثبت إدانته, ومن هنا يفترض التعامل الطبيعي مع المتهمين, رغم ثقل التهم الموجهة لهؤلاء الناس الذين سلطوا العذاب المرير على رقاب الشعب العراقي كله وبمختلف قومياته وأتباع أديانه ومذاهبه واتجاهات الفكرية والسياسية.
9. نشر لائحة الاتهام علناً والسماح لكل من يريد تقديم اعتراض أو تقديم إضافات إلى تلك الاتهامات أن يقدمها إلى المحكمة وفق الأصول القانونية المعتمدة في القضاء الديمقراطي الذي لم يكن سائداً في العراق. ويمكن أن تشمل التهم جرائم حرب ارتكبت في العراق أم في الدول المجاورة أم جرائم ضد الإنسانية وإبادة الجنس البشري أم استخدام أسلحة الإبادة الجماعية (الكيماوي والجرثومي) ضد الشعب الكردي وفي الحرب ضد إيران وفي مناطق أخرى من العراق أم تهم بممارسة العنصرية والتطهير العرقي والتعريب القسري وإثارة النزاع بين الشعوب ومصادرة حقوق الشعب في الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية ... الخ.
10. السماح بإقامة الدعاوى الفردية على المتهمين ممن تضرروا هم وأفراد عائلاتهم من النظام السابق ومن الأفراد مباشرة, لمقاضاة المتهمين.
11. السماح لمنظمات حقوق الإنسان المحلية والعربية والدولية بحضور المحاكمات ضد المتهمين.
12. السعي للحصول على دعم دولي في ما يخص قضايا التحقيق والمحاكمات من أجل إغناء القضاء العراقي بالتجارب الدولية, ومنها تجربة جمهورية جنوب أفريقيا.
إن هذه بعض الأسس التي أراها مناسبة لمحاكمة المتهمين. وبما أني عضو في منظمة العفو الدولية منذ أوائل الثمانينات وأرفض حكم الإعدام أياً كانت الأسباب, إذ لا يمكنني بأي حال تجاوز هذا الموقف الذي أعتبره مبدئياً وسليماً في آن, أطالب بمنع إصدار أحكام بالإعدام بحق المتهمين, وأن يكون أقصى حكم للمحكمة هو الحكم ببقاء من يحكم عليه بالسجن مدى الحياة, أي أن يبقى حقاً مدى الحياة بالسجن ليتابع كيف يتطور الشعب بعد أن تخلص من ظلم الطغاة. أدرك بأن هناك الكثيرين ممن لا يتفقون معي في هذا الأمر, ولكني هنا أطرح قناعاتي الشخصية لا غير ولا أستطيع تغيير ذلك, وأتمنى أن تنتقل هذه القناعات إلى الآخرين, وخاصة في العراق الذي عاني وما يزال يعاني الكثير من سفك دماء العراقيات والعراقيين.

برلين في 18/11/2004 كاظم حبيب



#كاظم_حبيب (هاشتاغ)       Kadhim_Habib#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- !كان القتلُ ديدنهم, ولن يكفوا عنه ما داموا يدنسون أرض العراق ...
- !!ليس العيب في ما نختلف عليه ... بل العيب أن نتقاتل في ما نخ ...
- ! ...أرفعوا عن أيديكم الفلوجة الرهينة أيها الأوباش
- لا تمرغوا أسم السيد السيستاني بالتراب أيها الطائفيون؟
- !بوش الابن والأوضاع السياسية في الشرق الأوسط
- هل من مخاطر محدقة بانتقال الإرهاب في العراق إلى دول منطقة ال ...
- ما هي الأسباب وراء لاختراقات الراهنة من قبل فلول النظام المخ ...
- إلى أنظار المجلس الوطني ومجلس الوزراء المؤقتين كيف يمكن فهم ...
- هل بعض قوى اليسار العربي واعية لما يجري في العراق؟ وهل يراد ...
- هل التربية الإسلامية للدول الإسلامية تكمن وراء العمليات الإر ...
- ما الهدف الرئيسي وراء الدعوة إلى محاكمة الطاغية صدام حسين ور ...
- الولايات المتحدة, العالم والعراق
- هل لوزارة الثقافة معايير في النظر إلى الثقافة والمثقفين؟
- إعلان عبر الإنترنيت إلى دور الطباعة والنشر العربية
- هل أمسك الدكتور ميثم الجنابي في تعقيبه بجوهر ملاحظاتي أم تفا ...
- مرة أخرى مع أفكار الزميل الدكتور خير الدين حسيب التي عرضها ف ...
- مرة أخرى مع أفكار الزميل الدكتور خير الدين حسيب التي عرضها ف ...
- فكر وسياسات الدولة السعودية والحوار المتمدن! غربال السعودية ...
- مرة أخرى مع أفكار الزميل الدكتور خير الدين حسيب التي عرضها ف ...
- من المسئول عن سقوط القتلى والجرحى يومياً في العراق؟ رسالة مف ...


المزيد.....




- استطلاع يظهر معارضة إسرائيليين لتوجيه ضربة انتقامية ضد إيران ...
- اكتشاف سبب غير متوقع وراء رمشنا كثيرا
- -القيثاريات- ترسل وابلا من الكرات النارية إلى سمائنا مع بداي ...
- اكتشاف -مفتاح محتمل- لإيجاد حياة خارج الأرض
- هل يوجد ارتباط بين الدورة الشهرية والقمر؟
- الرئيس الأمريكي يدعو إلى دراسة زيادة الرسوم الجمركية على الص ...
- بتهمة التشهير.. السجن 6 أشهر لصحفي في تونس
- لماذا أعلنت قطر إعادة -تقييم- وساطتها بين إسرائيل وحماس؟
- ماسك: كان من السهل التنبؤ بهزيمة أوكرانيا
- وسائل إعلام: إسرائيل كانت تدرس شن هجوم واسع على إيران يوم ال ...


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - كاظم حبيب - هل ستكون تجربة محكمة الشعب درساً غنياً لمحاكمات عادلة للمتهمين من أتباع النظام الصدّامي؟