أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبد القادر أنيس - السياسة في الإسلام: ساس الدابة يسوسها















المزيد.....

السياسة في الإسلام: ساس الدابة يسوسها


عبد القادر أنيس

الحوار المتمدن-العدد: 3439 - 2011 / 7 / 27 - 01:02
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


هذه مقالة أولى ضمن سلسلة من المقالات حول كتاب القرضاوي (الدين والسياسة). حيث نقرأ في التقديم بأنه كتب هذا البحث ((عن (الدِّين والسياسة) استجابة لما طلبته مني الأمانة العامة للمجلس الأوربي للإفتاء والبحوث، لأفتتح به الندوة التي سيعقدها المجلس في دورته السادسة عشرة في أوائل الشهر السابع تموز أو يوليو 2006م حول (الفقه السياسي للأقليات المسلمة في أوربا).)) ص 5.
http://www.e-cfr.org/data/cat1212200920352.pdf
وشخصيا، وبعد أن قرأت الكتاب، زادت قناعتي رسوخا في عدم جدوى انتظار أي شيء إيجابي من الإسلاميين كاستجابة لما يطالبهم به البعض بإصلاح الدين ليتماشى ومتطلبات العصر وحقوق الإنسان: الشيخ القرضاوي بالإضافة إلى أنه لم يتزحزح عن مواقفه شبرا واحدا منذ ربع قرن رغم كل هذه الأحداث الجسام التي هزت العالم، فهو يتوجه إلى المسلم الأوربي بفكر قروسطي دفع من اقتنعوا بمثله نحو مزيد من العزلة والانكماش في مجتمعاتهم العلمانية كما ساهم في مزيد من تهديد الحياة العلمانية هناك وخلق نوعا من رد الفعل السلبي المتطرف في صالح الأحزاب اليمينية المتطرفة، والمؤسسات الدينية التي بدأت تطالب بإعادة النظر في موقف الحكومات والمجتمع المدني من الدين والعلمانية.... قلت لم يتغير الشيخ مقارنة بالأفكار نفسها التي كان قد طرحها في كتابه (الإسلام والعلمانية: وجها لوجه) أواسط الثمانينات من القرن الماضي والتي كانت موضوع مقالاتي النقدية السابقة.
يقول في المقدمة: ((ومنهجي هو الاعتماد على النص الصحيح في ثبوته الصريح في دلالته، وربطه بالواقع المعيش- الواقع الحقيقي لا المتوهم - دون افتعال أو اعتساف، معتمدا أسلوب الموازنة والترجيح بالأدلة، رابطا النصوص الجزئية بالمقاصد الكلية للإسلام وشريعته. ولم أعتمد فيما كتبت إلا على آية محكمة، أو حديث صحيح، أو دليل شرعي معتبر، أو منطق عقلي سليم، مسترشدًا بأقوال من يُعْتَد بهم من العلماء، ليشدوا أزري، حتى لا أقف وحدي، لا على أن أقوالهم في ذاتها حجة، فلا حجة في قول البشر إلا قول محمد صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله رحمة، ومنحه العصمة، وهدى به الأمة.))
وهو ما يعني بكل وضوح وصراحة أن تاريخ العرب والمسلمين في أذهان هؤلاء (العلماء) قد توقف منذ 14 قرنا بعدما قدم لنا الإسلام نظاما للحياة جامعا مانعا شاملا لا يحتاج إلى مزيد ولا يقبل أي مستزيد. إنه بعبارة أخرى نهاية التاريخ. ولهذا يقول: ((فالعقل هو الأداة الوحيدة لإثبات الوحي، أو نبوة النبي، فإذا أثبت العقل النبوة بطريق قطعي: عزل العقل نفسه – كما يقول الإمام الغزالي – ليتلقى بعد ذلك عن الوحي، ويقول: سمعنا وأطعنا.)) ص 182.
بعد المقدمة ينطلق الشيخ في جولة طويلة للتعريف بالدين والسياسة والعلاقة التي يجب أن تجمعهما.
ومن البداية يقدم لنا عينة عن فهمه العتيق للسياسة ((التي أصبحت تتحكم في مصايرنا، وتقودنا طوعًا أو كرهًا إلى ما يريد فلاسفتها النظريون، ومنفذوها التطبيقيون، والقادة السياسيون؟)) ص 9.
وهو ما يعني أنه لم ينتبه أو لا يريد أن ينتبه ويعترف بأن السياسة في البلدان الديمقراطية لم تعد هي التي "تتحكم في مصاير (الناس)، وتقود (هم) طوعًا أو كرهًا"، ذلك أنه ورغم التأثير الكبير للفلاسفة والمنفذين والسياسيين في حياة الناس قديما وحديثا وبفضل التطوير والتعديل والتحسين المتواصل لآلياتها المختلفة، لم يبق هؤلاء، اليوم، يتحكمون في مصاير الناس، بل صارت الكلمة الأولى للناس من خلال الآليات الديمقراطية التي ترسخت في تلك المجتمعات منذ مدة مثل الانتخابات والبرلمانات والأحزاب والنقابات والإعلام الحر. وقد يصح قول القرضاوي لو عنى به حالة مجتمعاتنا المتخلفة الرازحة تحت حكم الاستبداد الديني والقومي الرافض أصلا للاستفادة من التجارب السياسية الناجحة في غير ما مكان من المعمورة شرقا وغربا، شمالا وجنوبا.
ومن ضمن التعريفات الكثيرة التي عرف بها الدين، قال: "وقد يُراد بالدِّين إذا ذكر في القرآن: الإسلام خاصة، كقوله تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} [آل عمران:83]، وقوله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} [التوبة: 33، الفتح:28، الصف:9]. كما قد يُراد به العقيدة التي يدين بها قوم من الأقوام، وإن كانت باطلة، كما في أمره تعالى لرسوله أن يقول للمشركين الكافرين: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6]. )).
لاحظوا كلمة (باطلة) قبل أن تقرؤوا للقرضاوي وهو يزعم أنه يدافع عن حق وجود التعددية الدينية: ((ولقد أنكرتُ ما ذكره أحد العلماء في مؤتمر حضره عدد كبير من المدعوين، كان الحديث فيه عن حوار الأديان، والتقريب بين أهلها... الخ، وكان المؤتمر يدور حول هذه المعاني التي تحدث فيها المتحدثون والمشاركون. ولكن هذا العالم قام وقال بصراحة: لا يوجد هناك دين إلا دين واحد، وهو الإسلام، وهو الذي قال القرآن فيه: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} [آل عمران:19]، وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85]، حتى ما يُسَمَّى (الأديان الكتابية) لا يُعْتَد بها، ولا تُعْتبر دينا، بعد أن حرفها أهلها، وجاء الإسلام فنسخها. وقد ألزمني الواجب أن أرد على هذا الكلام الذي ينسف كل ما قيل في المؤتمر، بل جهود الحوار والتقارب بين الأديان والحضارات. وقلتُ فيما قلتُ: إن هذا الكلام يخالف صراحة ما جاء به القرآن، فالقرآن يعتبر أن هناك أديانا أخرى غير الإسلام، وإن كنا نعتبرها أديانا باطلة، ولكنها أديان يدين بها أصحابها. والآية التي استشهد بها المتحدث ترد عليه، وهي قوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً ...} الآية، فقد سماه الله دينا)).
فالقرضاوي، هنا، مع رفضه لكلام أحد زملائه من (العلماء) المسلمين لا يختلف ما قاله عما قال زميله (العالم) الذي لم يعجبه كلامه لأنه كان أكثر صراحة وتوافقا مع روح الإسلام ومنطوقه، لكنه يفسد عليه وعلى الجهات المسلمة الداعية لهذا الحوار لعبتهم الماكرة وهم يحاولون استغفال أطراف الحوار الأخرى حتى يعطوا صورة مقبولة عن الإسلاميين الذين يتهيئون لتسلم مقاليد الحكم في البلاد الإسلامية أو لتجميل صورة أولئك الذين يحكموننا باسم الإسلام الأصولي أو الوهابي أو النص نص، وهو ما نفهمه من قوله (فقد سماه الله دينا) ولكنه يعترف أنه باطل وقوله ((فالدِّين يشمل ما هو حق، مثل ما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم وما هو باطل، كالأديان التي جاء بنسخها والظهور عليها، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة:33، الفتح:28، الصف:9]، فما أرسل الله به محمدا هو (دين الحق) الذي وعد الله أن يظهره على (الدِّين كله) أي الأديان كلها، فهي أديان لم يعد لها أحقية بعد ظهور الإسلام. أي أنه أبطلها. ص 15 انتهى
فهل يعقل مثلا، أن تقوم العلاقات السياسية بين الأمم على هذا المنطق؟ هل يمكن أن تقوم علاقات بين دول تتضمن دساتيرها مواقف معادية لها وتعتبر الدساتير الأخرى باطلة مثلما يحاول الإسلاميون التحاور مع غيرهم من خلفية دينية تسفه أديان الآخرين. قد يصلح هذا الحوار لعقد هدنة مؤقتة مثلما يحدث بين الدول المتحاربة أما أن يؤدي إلى سلام عادل ودائم فهذا مستحيل. وكان مستحيلا في الماضي، ولحسن الحظ أن السياسة بين الأمم لا تحتكم إلى الأديان.
ماذا يقدم هذا الحوار أو يؤخر، إذن، إذا كانت نيتهم مثل حكمهم على أديان محاوريكم بأنها باطلة؟ لماذا يحاورون الباطل، وهم يتشدقون بأنهم لا يخشون في الحق لومة لائم والإسلام هو دين الحق، ولا يتوقفون عن تلاوة وتدريس القرآن باعتباره آخر الكتب السماوية وأصحها وما عداه محرف فباطل؟ هذا الموقف مع أديان يعتبرها الإسلام أديانا سماوية وإن أصابها التحريف، فكيف يكون الحال مع أديان أخرى يعتبرها وثنية كافرة بينما أتباعها يعدون بمئات الملايين؟ وكيف يكون الحال مع العلمانيين الذين يمثلون الأغلبية الساحقة من شعوب العالم المتقدم؟ وكيف يوجه هذا الكلام لجاليات مسلمة عليها التعايش في بلدان أغلب مواطنها علمانيين؟
ثم يقول: ((ومن الضروري هنا أن نقرِّر: أن مفهوم كلمة (الدِّين) ليس هو مفهوم كلمة (الإسلام) كما يتصور ذلك كثير من الكتاب المعاصرين. نعم يمكن أن يكونا شيئا واحدا، إذا أضفنا الدِّين إلى الإسلام أو إلى الله، فنقول (دين الإسلام) أو (دين الله) جاء بكذا أو كذا، أو هو الدِّين الذي بعث الله به خاتم رسله: محمدا صلى الله عليه وسلم وأنزل به آخر كتبه: القرآن الكريم. ولكن إذا ذكرت كلمة (دين) مجردة من الإضافة أو الوصف، فهي أضيق مفهوما من كلمة الإسلام، لأن (الدِّين) في الحقيقة إنما هو جزء من الإسلام)).
وهو ما يعني أن الإسلام وحده يستحق كلمة دين بأتم معنى الكلمة أما الأديان الأخرى فهي إما باطلة أو هي جزء من دين الإسلام باعتباره خاتم الأديان وأكملها. وهو، في النهاية، ما يجعلنا نقتنع أن الدين، كما هو الإسلام، لا يمكن بأي حال أن يشكل أرضية لحوار أو تفاهم دولي، وكيف يكون ذلك، وقد فشل حتى ليكون قاعدة سلام بين البلدان الإسلامية؟
حول مفهوم كلمة (السياسة) لغة واصطلاحا، كتب القرضاوي: ((السياسة في اللغة: مصدر ساس يسوس سياسة. فيقال: ساس الدابة أو الفرس: إذا قام على أمرها من العَلَف والسقي والترويض والتنظيف وغير ذلك. وأحسب أن هذا المعنى هو الأصل الذي أُخِذ منه سياسة البشر. فكأن الإنسان بعد أن تمرس في سياسة الدواب، ارتقى إلى سياسة الناس، وقيادتهم في تدبير أمورهم. ولذا قال شارح القاموس: ومن المجاز: سُسْتُ الرعية سياسة: أمرتهم ونهيتهم. وساس الأمر سياسة: قام به. والسياسة: القيام على الشيء بما يصلحه)).
وهو مفهوم يجعل السياسة عند المسلمين تسير في اتجاه واحد إيجابي من فوق إلى تحت، من الحاكم إلى المحكوم وفي اتجاه سلبي من تحت إلى فوق في علاقة الرعية بالراعي، ولعل السر في ذلك يعود أصلا إلى نظرة الحكام للرعية على أنهم أدنى منه مرتبة مثلما هي دونية الحيوان في نظر الإنسان الذي يسوسها. والراجح أن قول القرضاوي: ((فكأن الإنسان بعد أن تمرس في سياسة الدواب، ارتقى إلى سياسة الناس، وقيادتهم في تدبير أمورهم.))، غير صحيح لأن ترويض الحيوانات واستئناسها جاء متأخرا في تاريخ البشرية، بينما لا يمكن أن نتصور خلو الجماعات البشرية الأولى، مهما كانت بدائيتها، من سياسة تتعلق بتنظيم (قيادتهم (و) تدبير أمورهم).
في اللغات الأوربية مثلا نجد كلمة سياسة (politique أو policy) أو غيرهما من المصطلحات في اللغات الأخرى مشتقة من (polis) وتعني مدينة أو حاضرة بالمعنى السياسي للكلمة ومن (ikos)، ما يقابل ياء النسبة في لغتنا، والكلمة كانت صفة في الأصل وتعني (ما يتعلق بالمواطن). والفارق كبير بين مفهوم السياسة كما قدمه القرضاوي كأمر ونهي وردع وزجر حتى صارت السياسة مرادفة للتعزيز عند فقهاء الإسلام الأوائل، كما ورد في هذا الكتاب، وبين السياسة كما فُهمت في اليونان والرومان ثم في المجتمعات الحديثة بوصفها مجموع الممارسات والوقائع والهيئات والقرارات التي تتخذها حكومة أو دولة أو مجتمع خدمة للمجموع.
http://www.ac-orleans-tours.fr/lettres/coin_eleve/etymon/hist/politi.htm
ولقد تطور مفهوم السياسة كالتالي:
في اليونان القديمة: السياسة هي علم يبحث عن تصور لنظام (سياسي) مثالي.
في العصور الوسطى: كانت السياسة حكرا على الأمراء من المراتب الأولى وتدور حول تدبير مصالحهم الخاصة.
عند مكيافللي : (1469-1527): السياسة هي الكيفية التي يزيد بها الأمير نفوذه وسلطة العصبية القائمة.
مفهوم القرضاوي يتوقف هنا عند مفهومها في أوربا القروسطية بمسيحيتها الوافدة إليها من شرقنا الذي لم يعرف أية تجربة حكم ترقى إلى التجربة اليونانية أو حتى الرومانية. مع بعض الاستثناءات هنا وهناك مثلما عرفته مكة في العهد القرشي نسبيا من توافق بين العشائر استمر طويلا قبل أن يقضي عليه الإسلام.
في القرن السابع عشر: ومع بوادر الحداثة، بدأت سياسة "الأمير" تميل نظريا إلى خدمة مصلحة البلاد.
في القرن الثامن عشر: راح الحكم الملكي المطلق يفقد احتكاره للسلطة مع توسع السياسة لتطال مجموع الشؤون العامة.
مع الثورة الفرنسية: راح الفعل السياسي يتم باسم الأمة.
في القرن التاسع عشر: ظهور الأحزاب السياسية، ونهاية الحق الملكي الوراثي وإشاعة الديمقراطية في المؤسسات.
أما شيخنا القرضاوي، فقد عاد بنا في جولة طويلة مملة إلى موروثه الديني واللغوي حتى نفهم، حسب رأيه السياسة وعلاقتها بالدين. وفي الحقيقة، كان هذا ومازال ديدن الفكر العربي عموما الذي يبحث دائما، ربما لعقدة الدونية والتخلف، تجاه الآخر المتقدم، عن تأصيل كل فكرة والبحث لها عن جذر في التراث كنوع من التعويض عن النقص لكي لا نعترف للآخر بالفضل والسبق. شخصيا أشعر الآن بقدر كبير من التقزز عندما أتذكر كتبنا التعليمية وطرق التدريس التي كانت مسلطة علينا، وبعضها لا تزال قائمة تفعل فعلها السلبي في ناشئتنا، وكيف كان المدرسون يلزموننا عند تحرير مختلف المقالات والأجوبة وفي جميع المواد تقريبا، بضرورة الاستشهاد بما نحفظ من الآيات والأحاديث لتدعيم آرائنا وإلا اعتبرت ناقصة كنقص الملح في الطعام. ومع الصحوة عم هذا الاستشهاد السخيف ليطال حتى المواد العلمية المختلفة. ومن خلال متابعتي لتعليم أبنائي، لاحظت أن هذه الطريقة البائسة مازالت متبعة إلى حد كبير.
وهكذا فعل القرضاوي وهو يعالج علاقة الدين بالسياسة. حيث يقول: ((كلمة (السياسة) لم ترد في القرآن الكريم، لا في مكيِّه، ولا في مدنيِّه، ولا أي لفظة مشتقة منها وصفا أو فعلا... وقد يتخذ بعضهم من هذا دليلا على أن القرآن -أو الإسلام- لا يعني بالسياسة ولا يلتفت إليها. ولا ريب أن هذا القول ضَرْب من المغالطة، فقد لا يوجد لفظ ما في القرآن الكريم، ولكن معناه ومضمونه مبثوث في القرآن. فالقرآن وإن لم يجئ بلفظ (السياسة) جاء بما يدل عليها، وينبئ عنها، مثل كلمة (المُلك) الذي يعني حكم الناس وأمرهم ونهيهم وقيادتهم في أمورهم)).
يلجأ القرضاوي إلى هذا التكلف والجحود فقط لكي لا يعترف بتقصير الأسلاف وخاصة فقهاء الإسلام، بل والإسلام أيضا في هذا المجال وغير خاف تخلف الفكر السياسي الإسلامي في هذا المجال وهو ما يفسر تواصل الاستبداد طوال تاريخ هذه المنطقة حتى اليوم. ولكنه مهما فعل، فلن يقنعنا بعدم خواء الفكر الإسلامي من الفكر السياسي كما عرفته مجتمعات بشرية قبل الإسلام، وكما تعرفه المجتمعات الحديثة. بل إن أرقى ما وصل إليه هذا الفكر من خلال الماوردي مؤلف (الأحكام السلطانية) الذي تجاهله القرضاوي رغم أنه يعتبر في نظر الكثيرين منظر السياسة الإسلامية الأكبر، هو أن السياسة حكر على الحاكم لا غير وما عداه عبارة عن كَمٍّ من التُبَّع له عليهم واجب الطاعة والنصيحة. يقول المارودي في مستهل كتابه: ((أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللَّهَ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ نَدَبَ لِلْأُمَّةِ زَعِيمًا خَلَفَ بِهِ النُّبُوَّةَ , وَحَاطَ بِهِ الْمِلَّةَ، وَفَوَّضَ إلَيْهِ السِّيَاسَةَ، لِيَصْدُرَ التَّدْبِيرُ عَنْ دِينٍ مَشْرُوعٍ، وَتَجْتَمِعَ الْكَلِمَةُ عَلَى رَأْيٍ مَتْبُوعٍ فَكَانَتْ الْإِمَامَةُ أَصْلًا عَلَيْهِ اسْتَقَرَّتْ قَوَاعِدُ الْمِلَّةِ).
وهو ما يعني حسب الماوردي أن السياسة شأن رباني وأن الحاكم معين من الله وعلى المحكومين السمع والطاعة في السراء والضراء بشرط التزام الحاكم بمظاهر التدين وحضور صلاة العيدين وتقريب (العلماء) وتكريمهم.
بَحَثَ القرضاوي طويلا فلم يجد لمعنى السياسة في القرآن إلا معنى التحكم في الرعية والتسلط على البلاد. لم يجد إلا مفردات رأى أنها تقابل معنى السياسة (الحكم، الملك، التمكين..)، ومن أطرف الأمثلة عن ذلك قوله: ((وممَّن ذكره القرآن من الملوك: ذو القرنين الذي مكَّنه الله في الأرض وآتاه الله من كل شيء سببا، واتسع مُلكه من المغرب إلى المشرق، وذكر الله تعالى قصته في سورة الكهف، مثنيا عليه)).
ونحن نعرف اليوم أن ذا القرنين هذا كان الملك الغازي اسكندر المقدوني. فكيف يثني الله على هذا الوثني الذي أسال أنهارا من الدماء ليخضع ممالك وأمما تلبية لنزواته العسكرية؟ ولم ينتبه القرضاوي الذي استهجن تصور مكيافيللي للسياسة أن اسكندر المقدوني كان قد مارس نفس السياسة لتوطيد حكمه وكان مكيافللي معجب بدهائه. ولكن القرضاوي لا يستطيع أن يشكك فيما جاء في القرآن ولو تناقض مع حقائق التاريخ، ولهذا نجده أيضا يشيد بالفرعون الذي عاصر النبي يوسف !
وبعد الكد والعناء وجد في السنة مفهوما متهافتا للسياسة: ((على أن السنة النبوية قد وجدت فيها حديثا تضمَّن ما اشتقَّ من السياسة، وهو الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون". قالوا: فما تأمرنا؟ قال: "فُوا ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم الذي جعل الله لهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم")).
فأي سياسة هذه التي تجعل الحكم حقا إلهيا يكون الحاكم مسئولا عنه أمام الله وليس أمام الشعب؟ وتجعل البيعة مرة واحدة ومن يطالب بالحكم أو يحاول منافسة الحاكم القائم يستحق القتل؟ قد نتفهم شيوع هذه السياسة في قرون خلت أما أن ندافع عنها ونعتبرها بديلا ينافس السياسة الحديثة، فهو أمر مرفوض.
يتبع



#عبد_القادر_أنيس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لماذا نقد الدين؟
- تمخض الجبل فولد فأرا
- ما حقيقة الدولة الإسلامية (المدنية)؟
- هل العلمانية مسيحية متنكرة؟
- هل في الإسلام مواطنة: قراءة في فكر راشد الغنوشي 5
- هل في الإسلام مواطنة؟ قراءة في فكر راشد الغنوشي
- راشد الغنوشي هل في الإسلام مواطنة؟ 3
- راشد الغنوشي: هل في الإسلام مواطنة 2
- قراءة في فكر راشد الغنوشي: هل في الإسلام مواطنة
- العلمانية مفهوم للترك أم للتبني؟ 2
- العلمانية: مفهوم للترك أم للتبني؟
- انتفاضة الشباب في الجزائر من وجهة نظر لبرالية ويساري
- قراءة (2) في مقال ((الماركسية والتنوير المزيف)) لوليد مهدي
- قراءة في مقال ((الماركسية ُ والتنويرُ المزيفُ)) لوليد مهدي
- قراءة في مقال -الحزب الديمقراطي الاشتراكي الإسلامي هو الحل- ...
- قراءة في مانيفستو المسلم المعاصر لجمال البنا (تابع)
- قراءة في -مانيفستو المسلم المعاصر- لجمال البنا.
- هل تصح المقارنة بين الشريعة الإسلامية وتجارب البشر؟
- هل طبقت الشريعة الإسلامية في حياة المسلمين ماضيا وحاضرا؟
- حول صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان


المزيد.....




- أوكرانيا: السلطات تتهم رجل دين رفيع المستوى بالتجسس لصالح مو ...
- “خليهم يتعلموا ويغنوا ” نزل تردد قناة طيور الجنة للأطفال وأم ...
- فيديو خاص عيد الفصح العبري واقتحامات اليهود للمسجد الأقصى
- “ثبتها الآن” تردد قناة طيور الجنة 2024 Toyor Aljanah لمشاهدة ...
- بعد اقتحامات الأقصى بسببه.. ماذا نعرف عن عيد الفصح اليهودي ا ...
- ما جدية واشنطن في معاقبة كتيبة -نيتسح يهودا- الإسرائيلية؟
- بالفيديو.. مستوطنون يقتحمون الأقصى بثاني أيام الفصح اليهودي ...
- مصر.. شائعة تتسبب في معركة دامية وحرق منازل للأقباط والأمن ي ...
- مسئول فلسطيني: القوات الإسرائيلية تغلق الحرم الإبراهيمي بحجة ...
- بينهم طلاب يهود.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين تهز جامعات أمري ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبد القادر أنيس - السياسة في الإسلام: ساس الدابة يسوسها