أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - حقوق الانسان - محمد عبد المجيد - اليوم .. كلنا نرويجيون















المزيد.....

اليوم .. كلنا نرويجيون


محمد عبد المجيد
صحفي/كاتب

(Mohammad Abdelmaguid)


الحوار المتمدن-العدد: 3437 - 2011 / 7 / 25 - 21:50
المحور: حقوق الانسان
    


في المصائب الكُبرى تكبر الشعوب أو تصغر، تتوحد أو تتفرق، تعيد لملمة جروحها أو تترك الجُرح نازفاً، تكتشف من جديد قوتها وضعفـَها!
في المصائب الكبرى تقف الشعوب عند مفترق طريق يؤدي إلى الجنة أو النار، مزيد من المحبة أو ترك الكراهية تفترس النفوسَ ثم تتوغل فيها، التمسك بالتسامح كقيمة عـُليا أو الهرولة ناحية العنصرية كملاذٍ أخير!
عندما انتصرت ثورة يناير الشبابية في مصر وأزاحت عن كاهل أم الحضارات شيطانا عبث بـها ثلاثين عاما قال رئيس وزراء النرويج: اليوم .. كلنا مصريون!
ونحن نرد عليه في فاجعة وطنه الصغير بأننا اليوم نرويجيون، حتى لو ثبت بأن الحادث فردي، وأن الإرهاب مارسه شخص واحد، وروّع به بلداً آمنا يسير فيه رئيس الوزراء كأي مواطن عادي، يتسوق، ويستقل الحافلة، ويقود سيارته أو يجلس في حديقة عامة دون أن يلتفت إليه فضولي أو يعكر ثرثارٌ صفوَ سكينته وأمنه.
الكراهية لا دين تتدين به، ولا مذهب تذهب به، ولا عقيدة تعقدها حول معصميها، ولا قومية تقوّم بها النفسَ، ولا وطنية تتوطن خلف المشاعر والأحاسيس، لكنها نبتة شيطانية تختار أكثر المرضى النفسيين ضعفا فتــُظهره كأنه أقوى الأصحاء سلامة!
كل القتلة، الكبار والصغار، الطغاة وأعضاء الميلشيات، غضَّت المجتمعات الطرف عن شرارات الحقد التي كانوا ينفثونها بين ألفينة والأخرى ظنا منها أنهم لا يـُمثلون خطرا، فإذا بهم يمثـّلون بالجثث، ويُمثلون أدواراً وطنية تبدو للجاهل كأنها رسائل عشق للوطن، لكنها كانت تصديقا على أحكام بالأعدام ينفذها الشياطين ضد الملائكة، المذنبون ضد الأبرياء.
أربعة وثلاثون عاماً هي عمر إقامتي في النرويج ولم تستوقفني الشرطة أكثر من مرتين، وفي كل مرة ثلاث دقائق تعقبها ابتسامة، واعتذار، وتحية!
لكن السياسة والميديا والجهل بالآخرين ثلاثي بارع في صناعة عالم الكراهية، فأحزاب اليمين المتطرف تسرق الوطن كما يختطف فارسٌ فتاةً بريئة وعندما يصهل جوادُه، ويكشف الفارسُ وجهـَه، تكتشف الفتاة أنه لم يكن فتى أحلامها، إنما هو قاتل ارتدى قناعَ النبلاء، هكذا يلعب زعماء الأحزاب المتطرفة.
أما الميديا فتـُحرّك المواطن وهو جالس على أريكة في صالون بيته يشاهد شاشة ملونة يتحرك فيها بصورة مستمرة ومرهقة طيبون وأشرار، خيــّرون وخبثاء، وهو حائر يدور رأسه بينهم، ثم يسقط في حـِجر أحدهم، فالإنسان قرد تلفزيوني، كما ذكرت من قبل في مقال لي عن الحرب الكروية بين القاهرة والجزائر وكيف تحولنا جميعا إلى نموذج موحد للقرد ميمون، وبرنامج تلفزيوني مؤثر يجعل النرويجيين يفرّغون جيوبهم من أجل فقراء في أوغندا أو الهند، وبرنامج آخر غير محايد يجعلهم يصبـّون حـِمَمَ غضبهم على التطرف الإسلامي الذي يسمح بختان الفتيات الصغيرات فيتألمن، ويصرخن، وتستغيث الطفلة في عالم من الصمت!
أما الجهل بالآخرين فهو أم المصائب، ولا فرق فيه بين شرق وغرب، أو بين شمال وجنوب، أو بين أوروبيين يظنون العالمَ الثالث مرتعاً للإرهاب، وعربٍ ومسلمين يعتقدون أن أوروبا مكان خصب للانحلال والفجور والانفلات العائلي!
آندرس برينج برافيك سقط من بطن أمه في 13 فبراير 1979، وكان طفلا عاديا، وتلميذا طبيعياً، ولكن في سن الخامسة عشرة انقطعت صلته بأبيه وأمه، وغاب دفء العائلة، وبدأ عالم من الأسرار يتسلل إلى نفسه، لكنه كان مراقــِباً للمجتمع، وينزع ناحية الهدوء، وقد قالت لي ابنتي أنها تحدثت معه مرات كثيرة، فقد كان زميلاً لها في السنة الأولى الثانوية عام 1998، وكان طبيعياً، ولا يستخدم ألفاظاً نابية، ويرد بأدب جـَمٍّ على زملائه، ويتفاخر بقوة جسده رغم محاولاته الدائبة تغطية بشرة الوجه شبه المشوّهة بمساحيق، وجل أصدقائه الشباب من الذين يمارسون كمال الأجسام.
منذ تسع سنوات وهو يخطط لهذا العمل الإجرامي البشع، فالعالم كله ينبغي أن يتحدث عنه، لذا تم القبض عليه فور وصول الشرطة إلى جزيرة أوتويا Utøya ، فالقاتل يرفض أنْ ينتحر لأن رسالته في الكراهية ترتبط ارتباطا وثيقاً بصورته.
الانفجار حدث في الثالثة والنصف وكنتُ وقتها في محل هندي للخضروات والفواكه على مبعدة 400 متراً من مكان الانفجار، واهتز المحل ولعل الكثيرين ظنوا، مثلي، أنه ليس ذا أهمية.
بعد دقائق سمعت في السيارة البيانات الأولى حتى وصلت إلى البيت، وأشار مُعلق إلى أنه لم يمض وقت طويل على اغتيال أسامة بن لادن. في المساء سأل معلقٌ آخرٌ في الإذاعة النرويجية خبيراً في شؤون الإرهاب إنْ كان يتابع المواقع الإسلامية على النت!
لكن الشيطان كان من أهل البيت، ولم تـلفت كراهيته للأجانب والمسلمين انتباه أحد، فالأحزاب اليمينية المتطرفة تختطف الأوطان بحجة المحافظة عليها من الغرباء، وكما قلت لزوج هولندي وزوجته أثناء حواري معهما صباح أمس بأن القاتل النرويجي له نسخة هولندية وأخرى فرنسية متأثرة بجان ماري لوبان، وثالثة أمريكية فضلا عن مجرم ولاية أوكلاهوما، وهو قد يكون وطنياً حتى النخاع ( هتلر عام 1933)، وفاشيا حتى شغاف القلب ( موسوليني الذي أعدمه شعبه في ميلانو عام 1945 ) ووحدوياً حتى الجنون ( الليبي والسوري واليمنى، وثلاثتهم قتلة من الطراز الدراكيولي مصاص الدماء)!
كارثة أصابت النرويج كما لم تصبها قنابل النازية في الحرب العالمية الثانية، لكنها لم تكن في مقتل، فالصدمة من هولها توقظ الشعوب المتحضرة التي كافحت عقوداً طويلة لتقطف ثمرة الأمن والسلام والديمقراطية، وتصنع مجتمع الرفاهية، وتمارس حقوق الإنسان بكافة المعايير المتعارف عليها حتى لو زلت القدم بين الحين والآخر.
والصدمة ستنعكس ايجابيا، وليس سلبيا، على مستقبل النرويج، فاليمين المتطرف الذي كان يمكن أن يؤلف حكومة في أقل من عقد من الزمان وضع يديه على وجهه لئلا يرى النرويجيون حمرة الخجل عاراً، أو يشير أهل الأبرياء الذين قتلتهم يد الغدر إلى مصدر الكراهية، ومنبع القسوة.
برافيك ظل ساعة كاملة يفرّغ الرصاص في شباب بريء في جزيرة نائية ببلد آمن، وكان هناك 560 شاباً وفتاة أزمع القاتل أن يصرعهم جميعاً، وبدأ بقتل الفتيات، فالذي يخطط طوال تسع سنوات لهذا العمل المفزع والجهنمي لا يتوقف عند قتل بضعة عشرات، ولو تأخر وصول الشرطة فترة أطول لوصل ضحاياه إلى المئات!
وقفت النرويج كلها وقفة وطنية عاشقة لبلدها، وأغرقت الدموع وجوها لم تعرف مآقيها البلل قط، وبكى الملك هارالد والملكة سونيا أمام الشعب، فالدموع ليست فقط للحزن أو للتطهر، لكنها لتماسك الناس فتنتقل القوة من شخص إلى آخر، ثم إلى جماعة، ثم إلى سكان الوطن الحزين كله.
النرويج في سرادق عزاء، ومعها المواطنون الجدد من أجانب أكلوا من خيراتها، وتمتعوا بديمقراطيتها، وابتهجوا بتقدمها، ومارسوا حياة آمنة وحرة لم يعرف مثلها أكثرهم في بلدانهم الأصلية.
الكراهية تقرأ الأدب، والشعر، والأناشيد الوطنية، وتستشهد أحيانا من آيات في كل الكتب المقدسة محرّفة إياها عن مواضعها، وتمارس السياسة، وتختبيء خلف المتحاورين، وتـُخرج لسانها من صناديق الاقتراع، ولها عضوية كاملة في أحزاب تزعم أنها تحب فإذا بالدماء تسيل من أنيابها.
الكراهية عنف وقسوة ورغبة في الانتقام، وتستمد شرعيتها من البلهاء والحمقى الذين يـُصّدقون أن رسالة الإنسان ورثها عن قابيل، وكاليجولا، ونيرون، وهولاكو، وأن مانيفستو حقوق الإنسان الابن المتبنـَّىَ من محاكم التفتيش في كل البلاد و .. العصور.
النرويج كبرت مع الحادث، ونضجت، ونزعت براءة الثقة بسذاجة في الوطنيين المتطرفين، فهم قتلة حتى لو وقفوا بخشوع أمام اللعبة الديمقراطية، واحترموا ما يجود به عليهم صندوق الانتخاب.
والنرويج كبرت، وازدادت قوة ومنعة وحصانة مع تماسك أهلها، من الملك مرورا بالحكومة إلى أقل المواطنين شأنا رغم أنه مجتمع يساوي بين الجميع قدر الإمكان.
مهمتنا جميعا أن نحافظ على سلامة وأمن هذا الوطن الذي حقق لنا ما لم تستطع أوطاننا أن تفعله، وأن نقف مع النرويجيين في المصائب قبل الأفراح، وأن نـُعزي أنفسنا في ضحاياهم قبل أن نـُعزيهم، وأن نقول لهم من القلب بأننا جميعا نرويجيون.

محمد عبد المجيد
رئيس تحرير مجلة طائر الشمال
أوسلو في 25 يوليو 2011
[email protected]



#محمد_عبد_المجيد (هاشتاغ)       Mohammad_Abdelmaguid#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رسالة حب إلى ميدان التحرير
- الخطاب الأول لرئيس سلفي
- رسالة من بلطجي إلى المصريين
- مصر بدون مبارك كما شاهدتها الحلقة 5
- الفتاوى الصحيحة في الرد على العلمانية القبيحة
- رسالة مفتوحة إلى مصاص الدماء!
- عودة مواطن مصري من الجبهة
- مصر بدون مبارك كما شاهدتها الحلقة 4
- مصر بدون مبارك كما شاهدتها الحلقة 3
- سيدي القاتل .. نضمن لك خروجا آمنا
- مصر بدون مبارك كما شاهدتها الحلقة 2
- أعداء مصر في 27 مايو
- مصر بدون مبارك كما شاهدتها .. الحلقة 1
- هنا القاهرة .. لكنني لا أُصَدِّق!
- الأسد وذئابه يفترسون السوريين
- العد التنازلي لسفاح اليمن
- روح مبارك تتلبس خليفة عمرو موسى!
- أيها الفلسطينيون: انتفضوا، يرحمكم الله!
- مجلس الشعب كما أحلم به!
- أيها السودانيون: انتفضوا، يرحمكم الله!


المزيد.....




- طهران تدين الفيتو الأمريکي ضد عضوية فلسطين بالأمم المتحدة
- عشية اتفاق جديد مع إيطاليا.. السلطات التونسية تفكك مخيما للم ...
- الأمم المتحدة تدعو إلى ضبط النفس في الشرق الأوسط
- سويسرا تمتنع في تصويت لمنح فلسطين العضوية الكاملة في الأمم ا ...
- اعتقال أكثر من 100 متظاهر مؤيد للفلسطينيين من حرم جامعة كولو ...
- بمنتهى الوحشية.. فيديو يوثق استخدام كلب بوليسي لاعتقال شاب ب ...
- البرلمان العربي يستنكر عجز مجلس الأمن عن تمكين فلسطين من الح ...
- الكويت: موقف مجلس الأمن بشأن عضوية فلسطين في الأمم المتحدة ي ...
- قائمة الدول التي صوتت مع أو ضد قبول الطلب الفلسطيني كدولة كا ...
- لافروف يعلق على اعتقال شخصين في ألمانيا بشبهة -التجسس- لصالح ...


المزيد.....

- مبدأ حق تقرير المصير والقانون الدولي / عبد الحسين شعبان
- حضور الإعلان العالمي لحقوق الانسان في الدساتير.. انحياز للقي ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- فلسفة حقوق الانسان بين الأصول التاريخية والأهمية المعاصرة / زهير الخويلدي
- المراة في الدساتير .. ثقافات مختلفة وضعيات متنوعة لحالة انسا ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- نجل الراحل يسار يروي قصة والده الدكتور محمد سلمان حسن في صرا ... / يسار محمد سلمان حسن
- الإستعراض الدوري الشامل بين مطرقة السياسة وسندان الحقوق .. ع ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- نطاق الشامل لحقوق الانسان / أشرف المجدول
- تضمين مفاهيم حقوق الإنسان في المناهج الدراسية / نزيهة التركى
- الكمائن الرمادية / مركز اريج لحقوق الانسان
- على هامش الدورة 38 الاعتيادية لمجلس حقوق الانسان .. قراءة في ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - حقوق الانسان - محمد عبد المجيد - اليوم .. كلنا نرويجيون