أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - وليد مهدي - الماسونية ومفهوم الإله (4)















المزيد.....


الماسونية ومفهوم الإله (4)


وليد مهدي

الحوار المتمدن-العدد: 3434 - 2011 / 7 / 22 - 20:41
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


(1)

بعد ان قرأ المقال الاول من هذه السلسلة , سألني صديقي علاء ابو الفضل السؤال التالي :
هل تؤمن بوجود الله .. ؟
وفي الحقيقة ، هذا السؤال مجرد " ايقونة " تتخفى وراءها العديد من الاسئلة الكثيرة في الثقافة الإنسانية :
فحتى لو افترضنا بان الله موجود ، فهل يؤمن الناس بوجود الله لانه موجود ، ام يؤمنون بالغاية التي من اجلها اوجدوا " الله " و " الآلهة " في اطر ثقافتهم الدينية الموروثة اجتماعياً ..؟؟
فالنبي محمد حين يقول ( لولا الخبز ما عبد الله...) ، إنما يثبت بانه كان مدركاً لحقيقة منطوية وراء العبادة , وهي الحاجة إلى مصدر ميتافيزيقي للخير ليلجأ الناس إليه..
الله و الشيطان، مجرد مسميات لكائنات كونية ما ورائية كمصادر للخير والشر، بمعنى إن الله تجسيد للخير في كائن... ( وإن كان هذا غير دقيق، نفصل الحديث عنه بعد قليل..)
والشيطان تجسيد " دقيق " للشر في كائن.. ليصبح السؤال الاصلي الجوهري الذي من المفروض ان اُسأل به انا أو غيري :
هل تؤمن بوجود قيم الخير .. أو بوجود قيم الشر ؟؟
فسواء كان الله والشيطان موجودين ام لم يكونا ، هذا الامر لا يقدم ولا يؤخر في القضية الإنسانية المركزية : الصراع بين الخير و الشـر
الايمان بوجود خالق لهذا الكون مسألة ثانوية ولا تمثل جوهر القضية ، وشخصياً ، لا تكاد تعنيني في شيء ..
وجود قيم الخير والشر هو الاهم و بدونها لا يكون هناك معنى للإيمان ، وكذلك فإن هذه القيم المتناقضة تشكل الجوهر المشترك بين الموحدين والملحدين على حدٍ سواء ..
لكن ، حين تظهر فلسفة او ثقافة تستبدل هذه الاستعارة لوجود " نقيضي " الخير والشر إلى مسطرة او تدرج نسبي موحد ينفي وجود قيم حقيقية ومطلقة للخير والشر ويعتبر إن " الخير " في اطار ثقافي يمكن ان يكون " شراً " في اطارٍ ثقافي آخر أو ان يكون الحد الفاصل بين الخير والشر " شعرة " كالفرق بين حب الذات والانانية مثلاً ، فإن هذه الفلسفة " النسبية " رغم جذورها العلمية القوية ، إلا إنها من اخطر التحديات التي تواجه ثقافتنا الإنسانية و عقلانيتنا كبشر معاصرين دخلوا القرن الحادي والعشرين مع إنني اعترف بانها وبهيكلها الفلسفي – العلمي العام مصيبة ، لكنها " خطرة " وتجر العقل الإنساني لمشاكل سوء استغلالها من قبل فئات أو جماعات معينة ..
فحب الذات مثلاً ، طبيعي ومتجذر في كل انسان ، ولا يعتبر وجهاً من وجوه الشر .. لكن .. حين يتزايد حب الذات ، اي ان يحب فردٌ ما نفسه و يؤثرها على غيره بدرجة كبيرة يكون " شراً " مستطيراً لدى اغلب الاعراف والاطر الثقافية ..
نلاحظ ان حب الذات وفق قياس " عقلاني " إحصائي يمثل درجة واطئة من " الانانية " ، وهو بذلك قيمة متوسطة بين الخير والشر ..
وكذلك الإثرة والعطاء ، لا تكون على طرف نقيض منهما حين لا تكون نابعة من وعي وإدراك حقيقي لدى الفرد ، فالطفل او المجنون حين يكون معطاءاً فهذا لا يعني بانه " كريم " ..
ومثل هذا التسفيه يمكن استغلاله تحت يافطة " العقلانية " ..
فهناك من يلجأ لتبرير الانانية والوحشية تحت مظلة هذا التسفيه وهذا التدرج والتقارب بين القيم " المتوسطة " للخير والشر بالمنظار العقلاني المعاصر .
وهكذا نصل لثقافة " النخبة " الرأسمالية المسيطرة على العالم التي وجدت في العقل " الاحصائي " العلمي ومنهج العقلانية داعماً لها في نظرتها " النسبية " المتدرجة للخير والشر.
العقل الاحصائي هو احدث " باراديم Paradigm " من هيكل المعرفة والاستدلال العلمي .. وقد احتل مكانه في الواقع الاكاديمي البحثي العلمي في العالم بعد ان سيطر الباراديم القديم للعقل " الارسطي " الكلامي لقرون طويلة ، حتى بعد ديكارت ، بقي منطق ارسطو متخفياً في جوانح المعرفة والثقافة العامة ..
( لا تزال النخب الثقافية والعلمية العربية متمسكةً بمنطق ارسطو القديم ( علم الكلام ) حتى لو ادعت العلمانية والتنوير لان الارسطية متجذرة في لا وعيها الثقافي المستنبت في بيئة الثقافة الإسلامية – اليونانية التي لا تزال تؤمن بان مشاكل العالم يمكن ان يحلها " الكلام " ..!)
فيما نخب الغرب الاقتصادية ، التي تعتبر سلوكها وقيمها مدعومة بتبريرات " هذا التدرج " وهذه النسبية وهذه التقاربات و التماثلات بين الخير والشر حسب هيكل العقل الإحصائي ، فهي الاخرى تنزلق وتقود العالم إلى مهاوٍ خطيرة ، اذ قامت بتضليل اغلب المثقفين حول العالم عبر دوائر إعلامية وثقافية متشابكة ومعقدة تسهم في تعزيز روح " التفرد " والنزعة الوحشية الجامحة في النفس البشرية عبر روح التنافس الرياضية ومسابقات الجمال وبرامج المسابقات والتنافس المتنوعة التي وإن حملت بين جوانحها حافزاً ودافعاً للإبداع والتطور لكنها بمساعدة الترويج لثقافة راس المال تسهم في تشكيل واقع ثقافي حضاري جديد مناسب تماماً للمشروع العولمي الرأسمالي الكبير ( نتحدث عنه في المقال الخامس من هذه السلسلة ) ..
فقد اعدمت ونفت وجود الشر بشكل مطلق في عموم فلسفتها ونهجها ، واعتبرت إن الحياة ليس فيها إلا الخير ، ولا يمكن ان يوجد شيء في هذا العالم إلا " الخير " ، ما قد يبدو تفاؤلاً طفولياً لأول وهلة برؤية وردية للعالم ..لكنه بجوهره يستبطن القيام بدمج " الشر" كمفهوم اجتماعي انساني عام وراء قناع " الخير " كمفهوم فردي بحت ليس إلا ...
هذا التدرج والمدمج التصوري لقيم الخير والشر ورغم " حداثته " وشيوعه في ظل عالمٍ تقود تطوره العلوم والاقتصاد الرأسمالي ، إلا انه يوازي ظهور قيم الخير والشر كوحدة متدرجة مدمجة في فجر الحضارات الاولى حين كانت الطقوس والقرابين هي افعال الخير التي يراد بها ثواب الآلهة دنيوياً ، وهذا ما لا يجعلنا نعجب حين نسمع عن " الماسونية " كتنظيم عالمي يمثل ارفع النخب والكفاءات السياسية والاقتصادية في العالم وهي تمارس طقوس الكهنة في بابل ومصر القديمة وتعاليم الاسكندرية السرية الهيلينية كما ذكرنا في المقال السابق ..

(2)

ما هو الخير .. و ما هو الشر ؟
بغض النظر عن المفهوم " الإنساني " لكليهما ، سنحاول تعريف الخير والشر بزوايا خاصة تتعلق بكشف وجه التناقض بين رؤيتين متناقضتين للخير والشر في هذا العالم شكلتا محور الصراع والخلاف بين المعسكر الاشتراكي والمعسكر الرأسمالي في الحرب الباردة ..
فالخير حسب الفكر الكلي الاجتماعي هو كل عمل يخدم تلاحم وترابط وتطور المجتمع.. ويمكننا ان نسميه الخير الافلاطوني ..
اما الخير حسب الفكر " الفردي " الشخصي البحت ، فهو كل عمل يحقق سعادة الفرد الواحد ، ويمكننا ان نسميه بالخير الابيقوري ، او خير اللذة الجسدية ..
اما الشر حسب الفكر الكلي الاجتماعي ، فهو كل عمل يضر بالنظام الاجتماعي العام ..
والشر حسب الفكر الضيق باطار المنفعة الشخصية ، هو كل عمل يضر بالجسد وحياة الفرد الخاصة ..

لهذا السبب ، نجد بان اي عمل يخدم النظام الاجتماعي العام وفي نفس الوقت يخدم الفرد ويحقق له اللذة والسعادة .. يكونُ عملاً خيراً بالمعنى العام المطلق ... مثل قيام الانسان الفرد بالإنتاج وممارسة الجنس ضمن إطار اسرة وانجاب الاطفال ..
واي عمل يضر بالنظام الاجتماعي والحياة الفردية ايضاً ، فهو عمل شرير بالمطلق مثل قتل النفس البشرية ..
لكن محل الخلاف بين المنهج الابيقوري والمنهج الافلاطوني هو عندما تضر السعادة الفردية بالنظام الاجتماعي ، وعندما تضر المنفعة الاجتماعية بالواحد الفرد ..!
وكما تحدثنا في المقال السابق عن علاقة العقيدة السرية للماسون بالثيوصوفيا وراي العقلانية العلمية بهذه العلاقة ، فإن مسار تطور الفكر الاجتماعي لعموم الجنس البشري عبر التاريخ يرينا انتقالاً وتحولاً من مبدأ اللذة الذاتية الفردية حين كان الإنسانُ يعيشُ في جماعات صغيرة ، او اسرة واحدة ..
إلى مبدأ القيمة الاجتماعية حين بنى المدن والقرى مؤسساً الاعراف وتقاليد الاجتماع ..
هنا يمكننا ان نقول بان الخير والشر مفهومين نسبيين ، لكن ، المفهوم الاحدث لهما هو المفهوم الاجتماعي الكلي ..
مفهوم الخير والشر الابيقوري هو الاقدم .. لكنه " الاقوى " ... والاكثر سيطرة علينا كأفراد .. لماذا يا ترى ..؟
لان موروثنا الجيني والفطري وعبر مسار تطوره وتشكله خلال ملايين السنين إنما يحمل النزعة الابيقورية في قيمة الخير والشر بنسبة لا تقارن بالنزعة الافلاطونية الكلية ..
الخير والشر الاجتماعي مفاهيم فرضتها علينا " الدولة " أو السلطة السياسية قسراً منذ عشرة آلاف سنة تقريباً ، لان معاناة الإنسان الحديث تجاه الطبيعة جعلته بحاجة لمؤسسة سياسية بدائية والتي فرضت بدورها حياةً اجتماعية تطورت بالتدريج نحو بناء " الدولة " ..
وكما ذكرنا في المقال السابق ، نحن نرزح تحت عبئٍ ثقيل من موروث المليوني عامٍ أو تزيد من الميول " الجامحة " أو " الوحشية " تربينا حضارتنا العصرية منذ نعومة اظفارنا على كبتها وكبحها خدمةً للصالح العام ..
ولعل اكثر الناس قسوة على نفسه هو ذاك الذي يعمل متطوعاً مغامراً بحياته الشخصية وراحته خدمة لأهدافٍ إنسانية كبرى ، بمنظار ابيقوري ! ..
لكنه اكثرهم نبلاً وإنسانية بالمنظار الافلاطوني ..
الله , إله الخير .. دائماً مع الدولة، يتمثل في الكتاب المقدس والقرآن و الدستور والقانون المدني والموروث في محتوى ذاكرة دماغ الفرد العقلية ..
أما الشيطان ، إله الشر " الاجتماعي ".. دائماً مع الفرد ، ويتمثل في نوازعه الداخلية الدفينة الموروثة في شريط الـــ DNA ، ذاكرة المحتوى الجيني الخلوي للفرد ..!
الله مجرد تجسيد للخير في كائن ، وكذلك الشيطان تجسيد للشر حسب العرف الاجتماعي في كائن ..
لكن ، ماذا عن " العرف " الفردي الخفي غير المعلن ، الموروث منذ ملايين السنين ، ماذا يقول عن الله والشيطان ..؟

(3)

بما ان الخير حسب المبدأ الابيقوري هو اللذة والسعادة الفردية ، غاية الرأسمالية ومسعاها الاساس ، فإن الشيطان بعرف المجتمعات والحضارات جميعاً ... هو " الله " بالنسبة للعرف الخفي السراني الفردي ..
الشيطان هو رب الخير والنور بزاوية فردانية جامحة ، فردانية منفلتة عن العقال الاجتماعي وتسعى إلى مسح اي ملامح للدولة في العصر الحديث كما تتجلى في شكل " الدولة " في المجتمعات الرأسمالية الغربية ، حيث تمثل كياناً هامشياً غايته الاساس خدمة النخبة الاقتصادية وليس عموم المجتمع في نموذج دولة الرفاه ( welfare state ) حسبما يذكرها دوماً الاستاذ فؤاد النمري ، ففي مقابل الرفاهية التي تحصل عليها الطبقة الوسطى غالباً ، فإن النخبة الرأسمالية تحصل بالإضافة للسيطرة والثراء على " ضعف الإرادة " لدى هذه الطبقة من الفنيين والمتخصصين والوسطاء في الاعمال الإنتاجية ...
( هذا الضعف ونموذج الطبقة الوسطى سنتحدث عنه بالتفصيل في الجزء الخامس )

لا استغرب ما يقال بأن " الماسونية " كمنظومة للنخب الرأسمالية حول العالم تقوم بممارسة طقوس عبادة الشيطان ..
الماسونية في تعبير اكثر علمية و دقة اذن لا تعبد الشيطان ، لكنها تعبد " رب الخير والعطاء " بالمنظور الابيقوري لا اكثر ..
تعبد " القيم " الفردية التي تحقق انتعاش وسعادة هؤلاء الافراد الذين يتحكمون باقتصاد العالم ..
كل الطقوس والعبادات الوثنية القديمة ، وعلى مسار تطور الفكر الاجتماعي عبر الزمن خلال العشرة آلاف سنة القصيرة جداً مقارنة بعمر وجود الجنس البشري ، هي ممارسات تستدعي إعادة الارتباط بالميراث الفرداني الجامح الذي يجسد " الخير " في إله ٍ يبعث السعادة والخير للفرد الواحد ..
لكن ، سعادة الفرد الواحد غالباً ما تتعارض مع كيان وترابط المجتمع ، لذا ، اوجد هذا " المجتمع " تسمية خاصة منبوذة لهذا التجسيد في القيم الفردية ، الا وهي تسمية " الشيطان " او الشرير ..

(4)

ذكرت في مقدمة المقال بان تجسيد " الخير " حسب العرف الاجتماعي بالهٍ هو " الله " هو تجسيد ٌ غير دقيق ..
ففي عقيدة " طاو " في الصين يوصف الكون على إنه صراع وتبادل ادوار بين " الين " الانثوي المظلم الاسود ، و " اليانج " الابيض الذكري المنير ...
هذا التبادل تفسره الزردشتية في ايران القديمة بانه صراع بين " اهريمان " الاسود الشرير و " اهورومزدا " الابيض إله الخير ..
وحسب قناعتي الشخصية ، اهورومزدا أو اليانج ، الاله الابيض ، لا يمثل " الله " ..
هو ترجمة رمزية للملاك العظيم " الروح القدس " أو جبرائيل في ثقافتنا المسيحية الإسلامية ..
لماذا ..؟
كونه صاحب الانبياء و " الامين " على تعليمات السماء ، هذه التعليمات التي هي بالمقام الاول تعليمات للتنظيم الاجتماعي تتطور وتتغير حسب الواقع والبيئة ، وكما ذكرناه في مواضيع عديدة مسبقة ..
النسق الاجتماعي وما يتضمنه من " وعي جمعي " هو صاحب التشريع والتعليمات التي تعرف كأنها وحي من الله عبر " جبرائيل " الذي يمثل المكافئ المضاد للشيطان ..
لان الله هو الخالق ، هو مصدر الشر والخير معاً ، ولهذا السبب نجد بان فلسفة العقل البشري القديمة ما قبل العصر الحديث ، و الممتدة من الصين الطاوية مروراً بفارس الزردشتية وانتهاءاً باليونان القديمة ومنطق ارسطو حيث قانون " عدم التناقض " قد نهج بالمنحى الذي يفصل بين قوتين متضادتين في الكون والعقل على حدٍ سواء :
الخير والشر ، النور والظلام ، الليل والنهار ، الذكر والانثى ..
هذه الثنائيات عززت بتجرد في منطق ارسطو في فلسفة اليونان بــ : الشيء .. ونقيضه .....!
بالتالي ، وحسب تدرج الديانات السماوية في جزيرة العرب ، فإن " الله " بتمثيله مصدراً للخير والشر معاً ، فإن الوعي الجمعي الشرق اوسطي القديم كان بحاجة إلى تجسيد قوتي الخير والشر في كائنات ما ورائية مثلت بالروح العظيم او الروح القدس ( جبريل ) في مقابل الشرير او الشيطان ( ابليس ) ..

(5)

هذا يفسر لنا ببساطة الاسباب التي جعلت يهود المدينة ينفرون من اسم جبريل في القرآن ، واعلنوا بكل وضوح للمسلمين في ذلك العهد بان " جبريل " عدوٌ لهم ..!
وقد ورد في القرآن بان معاداة جبريل على هذا الاساس هي معاداة لله الخالق العظيم ..
فاليهود ليسوا بمؤمنين باعتناق " الشر " حتى يعادوا جبريل او يعبدوا الشيطان ، لكنهم على سجية وثقافة اجتماعية فردانية انعزالية تكره الاطر والحدود التي فرضتها القيم الاجتماعية التي تجسد في جبريل ...
وعلى النقيض من جبريل ، فإن في " يهوه " الإله اليهودي العديد من السمات التي تجسد الفردانية الجامحة " الطقوسية " القديمة التي تجعله شبيهاً بمردوخ البابلي او الإله الآشوري القومي المسمى " آشور " ...
لهذا السبب ، فيهوه اكثر قرباً من المعنى المجسد لفرادة الشيطان وتدين النخبة الرأسمالية المعاصرة بدين " المال " ( اذ يمثل اليهود جانباً مهماً من هذه النخبة ) ، تماماً كما كان " المال " هو دين الشعب اليهودي الحقيقي حسبما ذكر هذا كارل ماركس ..
بالتالي ، فمن لا يؤمن بالدولة كمنظومة لتحقيق رفاهية الشعب ، ومن يؤمن بان هؤلاء الشعب مجرد عبيد لأسيادٍ ولدوا بالفطرة ليكونوا اسياداً لانهم اذكياء ومتفوقون ..
كيف يمكن لمثل هذا الفرد أن يؤمن بجبريل أو اي إله ماورائي آخر يجعل قيم الترابط الاجتماعي والتكافل الجماعي هي اولى اولوياته كالمسيحية والكونفوشية والإسلام ..؟
كيف يمكن لمثل هذا الفرد ان يؤمن بالاشتراكية كفكر إنساني رفيع ؟
الحقيقة ، إن مفهوم الإله لدى النخبة الرأسمالية المسيطرة اليوم على العالم هو مفهوم قابل للتجسد في " عزازيل " أو الشيطان ..
فهو إله الفردية ، إله الخير بالمنظور الفردي البحت ، ومن الطبيعي جداً ان يتجسد في الرؤى والاحلام لدى هذه النخبة بصورة واضحة ويسمي نفسه بالشيطان ...!
لا يعني هذا بانني اقر بوجود هذا الكائن الماورائي ، لكن الثقافة الجمعية وترابطها الرمزي في الاحلام كوعي جمعي يمكنها ان " تجسد " القيم الفردانية الجامحة لمن يؤمن بها بكيان موضوعي حي وناطق يمكنه ان يسمي نفسه ... مردوخ او آشور .. أو يهوه .. او عزازيل ، على النقيض من قيم الترابط الاجتماعي والمعززة لروح التعاون والتكافل التي يمكن ان تتجسد في " الوحي " من الله كما حصل مع الانبياء ..

(6)

قرأت ذات يوم في احد المواقع المسيحية المعادية للماسونية العبارة الآتية :
Yes , Their God is The devil
نعم , إن إلههم هو الشيطان ..
وكان هذا تعليقاً على عبارة الدولار الامريكي الشهيرة :
In God We Trust
نحن نعتمد على الله ( أو نؤمن أو نثق أو نتوكل ) ..
والحقيقة إنهم يؤمنون ويعتمدون على " قيم " معينة في الله ، هذه القيم التي تجعل من الماسونية هرماً اقتصادياً يترأسه " الالومناتي illuminati " او المستنيرون من " نخبة النخبة " العليا ما يتيح لهم التحكم والسيطرة على بقية البشر من منظور ديني ماضوي ساحق القدم يعتمد على ما قبل الايديولوجيا ، حين كان الجانب الطقسي من الدين هو المسيطر وحين كانت النزعة الفردانية الجامحة هي الراجحة على النزعة الاجتماعية الكلية ..
من الطبيعي جداً ان يكون " الله " أو " الرب " لدى النخبة المستنيرة الماسونية هو نسخة مطابقة عن الشيطان كما عرفته الديانات التوحيدية كثائر متمرد على الملكوت الإلهي ..
فالنرجسية والغرور والتكبر المعروفة كصفات مشينة عن ابليس ، هي سمات ومزايا بالنسبة للنخبة الرأسمالية وما تتميز به من عنجهية وغرور وتكبر ..
من الطبيعي جداً أن يكون ربهم هو عزازيل وما يجسده من قيم الفرادة والحرية الشخصية المتعالية الفوقية ( بغض النظر عن ما اذا كان الشيطان وجبريل والله موجودون ام لا )
لكن السؤال الهام يبقى :
هل حقاً إن قيم الفردانية الجامحة يمكنها أن تحقق انتصاراً على قيم الاجتماع والتطور الاجتماعي ..؟
فالمسار الذي تسير به سفينة التاريخ يخبرنا بأن الفردانية الجامحة ورغم قوتها في داخلنا لأنها تمثل ما يزيد على 99% من موروثنا الفطري ، لكن ، الإرادة البشرية تصبح اقوى من موروثها الفطري حين تتعرض للضغط والمعاناة ..
الإرادة البشرية التي خلقت الحضارة واسست المجتمعات هي التي تقف في الضد من جموح فردانية النخبة الرأسمالية المنفلت في هذا العالم على مر التاريخ بسبب طموح العقل البشري بتحقيق حالٍ معيشي افضل ..
ارادة الإنسان اليوم تمر في اسوأ مراحلها بسبب دولة الرفاه التي شكلتها الطبقة الوسطى ، حيث ضعفت الارادة البشرية كثيراً بسبب هذه الرفاهية ، لكن التاريخ حينما يأذن بزوال هذه الرفاهية ، سيكون لمسار المعركة بين ارادة الإنسان و جموحه نتائج مختلفة ستؤدي لولادة نظام عالمي " عقلاني " جديد ، وهو ما سنناقشه في الجزء القادم من هذه السلسلة ..
وكما ذكرنا في المقال السابق ، يمكن للفردانية الطقوسية القديمة الجامحة ان تفتح الامكانيات الفردية للنخبة التي يصبح بمقدورها أن تحتفظ بسيطرتها على العالم بسبب ضعف " الارادة " الاممية لشعوب العالم .. لكن .. حين يعاود مارد الإرادة الممثل بالروح القدس في الثقافة الدينية بالنهوض من جديد ، وهو نفسه الممثل بالاشتراكية والشيوعية في الفكر الايديولوجي التقدمي المعاصر ، والممثل بالعقلانية كرائد وقائد للعقل الإنساني العلمي المعرفي الحر القاهر فوق التاريخ ، فإن النخبة المستنيرة و المستضيئة بالأنانية وامتصاص الدماء ستخسر معركتها لا محال وسيتم تحرير " العقلانية Rationality " من قبضتهم لتقود البشرية بواقعية تحترم كيانه الاعماقي الجامح في نفس الوقت الذي تؤكد فيه بان الإنسان فاضلٌ باجتماعه ومتحضرٌ بعقله وإرادته الصاعدة الطامحة لقهر الطبيعة والتجاوز التدريجي الممنهج للجِبلّة التي اسهم من سبقوه من اسلاف في تكوينها ، كي يضيف تكويناً " ايجابياً " جديداً لجبلة اجيالٍ اخرى ستاتي ..
و يسألونك متى هو..؟
قل عسى ان يكون قريباً ..



#وليد_مهدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الماسونية و الثيوصوفيا (3)
- الماسونية والشيعة والسلفية (2)
- الماسونية والهرم الاجتماعي - الاقتصادي (1)
- اقتصادٌ وديمقراطية ..وثورةٌ عربية !
- دولة الاساس القويم .. وهذا الجيل
- فؤآد النمري والمعضلة الماركسية (3)
- جمهورية بابل الاتحادية و عاصمتها بغداد !
- الاحلام في الثقافة الإسلامية : الرموز والدلالة
- فؤآد النمري يبحث عن سوبرمان (2)
- فؤآد النمري يبحث عن سوبرمان (1)
- نوسترداموس برؤية تفكيكية (2)
- وفاء سلطان ودروسٌ في الحرية !
- نوسترداموس برؤية تفكيكية (1)
- الإنسان و الروبوت (2)
- الإنسان و الروبوت (1)
- ولادةُ عالمٍ جديد : تعقيباً على قراءة الرفيق عذري مازغ (2)
- ولادةُ عالمٍ جديد : تعقيباً على قراءة الرفيق عذري مازغ (1)
- التجسس السايكوترونكي وتقنياته الخفية
- السيطرة على العقول ( السايكوترونك ) : توضيحات
- انظمة تشغيل المخ ...مدخل لعلم السايكوترونك ( السيطرة على الع ...


المزيد.....




- مؤلف -آيات شيطانية- سلمان رشدي يكشف لـCNN عن منام رآه قبل مه ...
- -أهل واحة الضباب-..ما حكاية سكان هذه المحمية المنعزلة بمصر؟ ...
- يخت فائق غائص..شركة تطمح لبناء مخبأ الأحلام لأصحاب المليارات ...
- سيناريو المستقبل: 61 مليار دولار لدفن الجيش الأوكراني
- سيف المنشطات مسلط على عنق الصين
- أوكرانيا تخسر جيلا كاملا بلا رجعة
- البابا: السلام عبر التفاوض أفضل من حرب بلا نهاية
- قيادي في -حماس- يعرب عن استعداد الحركة للتخلي عن السلاح بشرو ...
- ترامب يتقدم على بايدن في الولايات الحاسمة
- رجل صيني مشلول يتمكن من كتابة الحروف الهيروغليفية باستخدام غ ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - وليد مهدي - الماسونية ومفهوم الإله (4)