أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - راضي شحادة - امبراطورية رأس المال وثورات العرب















المزيد.....



امبراطورية رأس المال وثورات العرب


راضي شحادة

الحوار المتمدن-العدد: 3423 - 2011 / 7 / 11 - 16:16
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


يقول الفيلسوف العربي مراد وهبة: "انا متشائم كمفكِّر ومتفائل كمناضل"

أهدي هذا البحث:
*الى روح المفكر المتنوّر "فرج فودة" الذي واجه الفكر بالفكر فوُوجه بالرّصاص.
*الى روح نصر حامد أبو زيد الذي هُجِّر حتى الرحيل عن الوطن.. وعن الدنيا.
*الى روح حسين مروّة الذي اغتيل بسبب فكره التقدمي الحر وهو في السابعة والسبعين من عمره، ولم يُمهلوه حتى يتحرّر من قيد الشيخوخة.
*الى روح الشاعر الكبير خليل حاوي الذي لم يستطع ان يتحمّل دخول جيش إسرائيل الى بيروت سنة 1982، فانتحر رافضا الذّل، سابقاً بعشرين سنة التونسي "محمد البو عزيزي" الذي قدّم روحه هديّة للثورة التونسية المجيدة.
* الى روح المفكّر الكبير محمود امين العالم الذي بقي متفائلا ومؤكّدا على حتمية التغيير والثورة، بالرغم من وصول مصر الى قمّة الفساد، فرحل قبل أن يرى المنظر الجديد لثورة ميدان االتحرير.
*الى المفكّر الرائع سيد القمني لإصراره العنيد على مواصلة معركته المباركة من أجل إعمال العقل في سبيل التحرّر والأخلاق والتنوّر.
*الى ثورات العرب المجيدة وعلى رأسها الثورة المصرية والتونسية التي نأمل ان تقودنا نحو التحرر والانفتاح الفكري والحضاري.

النموذج الرأسمالي في أوج تغوّله وتوغّله:
توطئة: في إحدى زياراتي الى مصر قبل الثورة المصرية الأخيرة المباركة سألت المخرج السينمائي المعروف "علي بدرخان"، وهو تقدّمي ووطني ومتحيّز بتطرّف للقضية الفلسطينية، وفنان ذو خبرة طويلة في مجاله: "متى يثور المصريون على الفساد والظلم والجوع؟"، فأجاب بامتعاض مع قليل من السخرية المُرّة: "نحن الشعب الوحيد الذي كلّما جُعنا أكثر فإننا نتمرّد على الجوع بالمزيد من شدّ الأحزمة على البطون بدلا من الثورة ضد المسبّبين لنا في الجوع"، فقلت له: "ولكن الضغط لا بدّ ان يولّد الانفجار". وهكذا كان، فالمصريون لا يشذّون عن هذه القاعدة، وأنّ التاريخ لا بدّ ان يأخذ مجراه الطبيعي.
صُلب الموضوع: عندما نستعمل كلمة إمبراطورية فنحن لا نقصد معناها الحرفي القديم حيث كانت الإمبراطورية محكومة من قبل إمبراطور فرد يتمتّع بقدسية وبتفرّد في الحكم ويسعى الى توسيع إمبراطوريته بقوّة نفوذه وجدارة إمكانياته، وإنما هي الإمبراطورية العصرية، وهي نظام حكم قويّ لدرجة انّه يستطيع ان يتوسّع بلا منازع حقيقي، فينتشر فيصبح ذا نفوذ كبير فيَغْنى فَيَصِل قمّة مجده ثم يبدأ بالضعف والاضمحلال، مُفْرِغاً الساحة لقوة أخرى تأتي مكانه. هذا النوع من المنظومات الحُكمية ثبت عبر التاريخ انه لم يستطع ان يكرّر نفسه، بل بدا وكأنما هو عبارة عن دورة بالمناوبة، ولم يحدث أن استعادت هذه المنظومات مجدها مرّتين. فنظام الحكم الفرعوني واليوناني والروماني والإسلامي والعثماني والانجليزي والسوفييتي المتّحد لم يُعِد مجدَه مرّتين، وها هي الصّين تستعدّ لكي تأخذ دورها مكان الولايات المتحدة الأمريكية.
وتأسيسا على ما تقدّم، فإن الحالمين باستعادة مجد الحضارة الإسلامية عن طريق استعادة نموذج الحكم الخلافي فإنما هم يتَحدّون منطق التاريخ، فجميع من تناوب عملية الجلوس على عرش الإمبراطوريات والحضارات انما أخذوا تجارب الإنسانية وأضافوا اليها مما عندهم من تجارب وفلسفة وتجديد، ما خوّلهم استلام زمام النظام، راضخين لفلسفة انّ كل قديم حديث في عصره، ولكنّ القديم هو فترة من الماضي بينما التاريخ يتقدّم ويرفض التّوقّف، ومن التخلّف بالفعل وبالقول تكرار ما جُرِّب، بناء على المقولة الشعبية:" لا تجرِّب المجرّب".
إن الحركات السّلفية والأصولية التي تنادي باستعادة نموذج الخلافة إنما هي تشدّ للعودة الى الخلف، فبريطانيا العظمى مثلا توسّعت بحيث انها أصبحت إمبراطورية مترامية الأطراف لدرجة انها وُصفت بالإمبراطورية التي لا تغيب الشمس عنها، والحضارة الإسلامية توسّعت عبر الخلافة الأموية والعباسية، ولكنها انهارت وتسلّمت السلطنة العثمانية مكانها، وحيث تنتهي الخلافات والإمبراطوريات فإن التاريخ لن يسمح لها بالعودة كما كانت، او بناء على المفاهيم ذاتها التي تأسست عليها، لأنّ كل قديم حديث في عصره، ولأنّ تراكم التجارب الإنسانية تجعل التطور نحو الأمام وتخزين البشرية لتجارب مشتركة وحضارات متأثرة بعضها من بعض، لا يسمح الا بالتقدم نحو الأمام ذهنيا وعلميا واقتصاديا وتكنولوجيا وسرعة وتراكم تجارب، بحيث يحتاج الذي يريد ان يبني حضارة مميزة عن غيره بأن يكون أقوى وأكثر اختراعا وسرعة ونفوذا وقوة..
وكلما تقدّم التاريخ وتطوّر أصبحت إمبراطورياته أكثر تجربة وحنكة، وأصبحت أدواتها أكثر حداثة وتطورا، وأصبحت تجارب العلوم والتكنولوجيا والسياسة والاجتماعيات والاقتصاد أكثر دقّة، وتحتوي على إبداعات واختراعات جديدة، وهي تجارب مستوعِبة لكل ما قبلها من تجارب الإنسانية، فوصلنا الى قمّتها في زمننا، زمن العقول الذكية والمؤسسات العلمية والتخصّصات، وكلها جزء من منظومة الإمبراطورية العصرية ذات النفوذ والقوة والمال والقدرة على الحكم، والأهم من ذلك أنها وصلت الى درجة عالية من الحنكة بحيث انها أصبحت هي التي تخلق المشكلة، بهدف ان تخلق ردّ فعل محسوب على هذه المشكلة، ثم هي هي ذاتها تتقدّم بطرح حلّها، فيوافق الواقعين في فخّها على الحل راضين شاكرين، وربما تعمي بصائرهم لدرجة انّهم يظنّون انه لا خيار آخر لديهم سوى الخيار المطروح.
سأحاول هنا الربط بين الحاجة الماسة للثورات العربية الحتمية التي تحدث حاليا بناء على فلسفة التطور الحتمي للتاريخ، وحتمية انّ الضغط يولّد الانفجار، هذا من جهة، وبِعدم قدرتها في هذه المرحلة على التخلّص الكلي من المنظومة العالمية لإمبراطورية رأس المال والاحتكارات العائلية والأُسَر الحاكمة الاستبدادية الضخمة المتغوّلة والمتوغّلة في أرجاء الكرة الأرضية، ومصر جزء منها وعالمنا العربي جزء مهم منها، من جهة أخرى.
كمّية الأثر الذي سيحدثه هذا النوع من الانفجار الثوري مرتبط ولو مرحليا بمنظومة عالمية مادية احتكارية لن تسمح لهذا الانفجار بأن يتعدّى حدود قوانينها وضوابطها، فهي منظومة تنظيريّة براغماتيّة مضبوطة القوانين ومُحكمة البناء، نظرياً وعملياً، تجعل فلسفة عصر الغاب البدائية تتحوّل الى فلسفة عصر الهيمنة للأقوى، ولو لفترة لا نعلم مداها الزمني بالضبط، وَصَلتْ الى قمّة التطبيق بعد ان انفردت في شكلها الإمبراطوري الجديد كنظام رأسمالي تغلّب على الاشتراكية والشيوعية، التي انتكست وهي لا تزال في مرحلة البناء والتجريب، وقد تَفَرَّدَ هذا النظام في الحكم بدون منازع، يطرح بديلا واضح المعالم، ويتمتع بأدوات قوية على شكل إمبراطورية عملاقة متفرّدة في الحكم، ولكنها لا بدّ انّ لها بداية ونهاية بحكم منطق التطور الحتمي للتاريخ، فهي في النهاية سيثبت فشلها أمام حاجة غالبية البشر للعدالة الاجتماعية وللحرية الناقضة للعبودية، ورفضهم لتلك القلة من المستأثرين في الحكم والاقتصاد، والذين يريدون الاستيلاء على كل شيء، والبطش بكل الوليمة بمفردهم، وعندما تصل هذه القلّة الحاكمة المهيمنة الى قمّة الخطر، فإنها إما انها ستدمّر ذاتها مع غيرها متذرّعة بفلسفة "عَلَيّ وعلى أعدائي يا ربّ"، او انها سترضخ لمسار التطور الحتمي للتاريخ عبر الرّقي بدرجاته المتَحوّرة والمتطورة نحو الأفضل.
انها منظومة لا تعتمد على قيم أخلاقية إنسانية مثل: "التعاطف مع"، "المساواة"، "حقوق الإنسان"، "الاشتراكية"، " الغزارة في الانتاج والعدالة في التوزيع"، "الطِّبابة المجّانية"، "التعليم المجاني"، "حرّية الاعتقاد"، "حرّية التعبير"..الخ، بقدر محاولتها استغلال هذه المفاهيم كشعارات نفعية كي تلعب على عقول الضعفاء كي تبقيهم فيما هم عليه، فتنفّسهم قَولاً، فيُنَفَّسون فعلاً الى حين يتحكّم هؤلاء المهيمنون بكل شيء..
لقد تربّينا لفترة وبشكل حاد بين هذين النموذجين، وقد عشنا فترة التوازن بينهما، وكنا على قناعة تامة بأن الشعوب اذا هبّت ستنتصر، وان القرار النهائي في شكل العدالة الاجتماعية سيأتي عبر الشعوب، وأنّ التأميم الذي صنعته ثورة ضباط مصر الأحرار بقيادة جمال عبد الناصر لا بدّ ان يكون أساساً للاستقلال والحرية وتقرير المصير، وسرعان ما أصابنا الإحباط عندما لم تهبّ الشعوب ولم تنتصر، ولم ينجح التأميم، بل اندحر أمام الانفتاح والخصخصة، لا بل ان أصحاب نظرية الأُممية والعدالة الاجتماعية والاشتراكية انهارت إمبراطوريتهم بزعامة الاتحاد السوفييتي بحرب باردة جدا، وزالت منظومتها كفصّ الملح الذائب، وعندما أحسّت الصين ب"الشَّرْبة" انتقلت الى مرحلة ما بين العدالة الاجتماعية ومنظومة رأس المال، ولكنها اضطرت الى أن تستعمل أدواتها الإنتاجية والاقتصادية عبر نظرية النظام الرأسمالي القائم على فلسفة "معك قرش تساوي قرشا"، ومن يعمل باجتهاد يحافظ على بقائه، ومن يتكاسل ويتوانى فإنه يُداس بين الأقدام ويموت جوعا، والشاطر من شطارته.
انهيار المنظومة الاشتراكية واعتلاء الرأسمالية سدّة عرش الإمبراطورية بلا منازع:

تمهيد: عندما يتم تنفيذ حفر قناة بدون سدود واقية بين البحر الأحمر والبحر الميت فالنتيجة الحتمية ستكون فيضانا تسوناميا على كل الغور وما يحيط به من مناطق. الاتحاد السوفييتي فتح السوق وهو في مستوى البحر الميت ففاض عليه تسونامي بحر النظام الرأسمالي فغمره وغمرت مياه سوق الكولا وتجارة الجنس والجينس والمارلبورو والمافيا، فانهار سدّ جدار برلين أمام الفيضان المفاجيء.
عندما وقفت مادلين اولبرايت في وسط بكين ورقصت مع الصينيين وهي تحمل زجاجة الكوكاكولا بيدها فاضت الكولا على الصين فأغرقتها. صحيح ان المواطن الصيني ذاق طعم الكولا الأمريكية ووجد عملا له واستفاد، ولكن في المقابل ربحت أمريكا اكبر سوق تجاري، فحقّقت حلمها بجني ثمار ما سبّبه الفيضان التجاري على مليارات البشر القاطنين في الصين. هذا الاقتصاد المتبادل انتهجته الصين بمغامرة أدّت الى رفع مستواها الاقتصادي، مع يقينها بأنّ جزءا كبيرا من طاقاتها البشرية الإنتاجية تصبّ في خزنة الاحتكارات الغربية، متأملة أن تتخطى هذه المرحلة كي تنتقل الى مرحلة السيادة الذاتية.
****
ماذا بقي من الاشتراكية الماويّة في الصين الحالية؟ ماذا بقي من صفة الاشتراكية الملتصقة اسماً فقط بالحزب البعثي الاشتراكي العراقي والسوري والملتصقة بأسماء أحزاب ونظم حكم في العالم؟ ماذا بقي من التأميم الناصري بعد نظام أنور السادات وحسني مبارك؟ هل ستصمد ثورة كوبا أمام هذا الغول الإمبراطوري المتوغّل والدّاهم؟
لقد انتقلت الصين بسرعة الى معادلة النظام الرأسمالي متفادية الانهيار الذي كادت أن تتعرّض له كما حدث للاتحاد السوفييتي، ولكنها حافظت على استقلاليتها العسكرية والاقتصادية، وعملت بذكاء على التطور بهدوء وبدون جعجعة، متفادية الصِّدام المُسلّح، ومنتهجة سياسة النَّفَس الطويل، بينما هي تهيّء نفسها بحنكة منقطعة النظير لكي تمسك زمام الإمبراطورية الجديدة البديلة لإمبراطورية الولايات المتحدة الأمريكية.
انهارت المنظومة الاشتراكية التي كانت متمثلة في الاتحاد السوفييتي وانضمت روسيا ومن كان يحذو حذوها الى المنظومة الرأسمالية كشكل نظام منظّم ودقيق القوانين، معتمد على الخصخصة وعلى التنافس الاحتكاري وعلى ان الحياة للقوي، وأنّ الأغنى هو الأكثر قدرة على التخطيط والتنفيذ والإنتاج والعلم والتكنولوجيا، وبالتالي، وهذا هو الأهم، القادر على بسط نفوذه على أكبر رُقعة من البشر واليابسة.
فآدم سميث مثلا، والذي يعد أحد مؤسّسي التَّرويج للفكر الرأسمالي ولنظرية الاقتصاد الحر، آمن بأنه: "عند سعي الإنسان الى المصلحة الشخصية انما هو أيضا يدعم المصلحة العامة". وفي الاقتصاد الرأسمالي الحر فإن الذين يسعون الى ذلك انما هم يحاولون ان تكون حصّتهم من المصلحة الشخصية أكثر بكثير من عطائهم للمصلحة العامة، فيتحوّلون الى محتكرين ومستغلِّين ومستعبِدين للآخر المرتبط بهم في المصلحة العامة، فتحدث الهوّة الشاسعة بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة.
وبناء على ذلك يطمح أصحاب الاحتكارات، وقد نجحوا في ذلك، الى الهيمنة والتملك لأوطان بكاملها، والخروج من الهيمنة خارج الوطن الأم الى بَسْط هيمنتهم على خارج حدودهم الجغرافية، ونستطيع ان نعترف بتواضع بأنّ آدم سميث تَغلّب في نظريته ولو مرحليا على الفكرة الماركسية التي لم تصل الى مبتغاها وأحلامها وطموحاتها الأممية بالسرعة التي حلمت بها، ولم تستطع تطبيق نظريتها العادلة وتحويلها الى فعل ملموس، وهي بناء على فلسفتها الجدلية تؤمن أنه بناء على منطق التطوّر التاريخي فلا بدّ أن يأتي يوم تصل الرأسمالية الى ذروتها، وعندما تنتقل الى مرحلة الاستعمار الأكبر فإنها عمليا تكون في آخر مراحلها، أي أنّ المرحلة التالية لا بدّ ان تكون الاشتراكية والشيوعية، هذا اذا لم تصل الرأسمالية الى مرحلة التدمير الذاتي الذي يقود الى تدمير كل شيء، فإما الدمار الشامل وإما العدالة الأممية والحرية من أوسع أبوابها.
أصبحت الإمبراطورية الجديدة المهيمنة عبارة عن عائلات تجارية وأُسر حاكمة احتكارية ونظم استبدادية، تبدو في ظاهرها حضارية جدا وإنسانية للغاية، ولكنها في جوهرها محكومة من قبل شركات احتكارية أخطبوطية، تُدار من قبل مليارديرات أفراد او عائلات متنفّذة بلا حدود، فتتحكم بالبشر والحجر، ويهيمنون ليس على الدولة التي يسكنون فيها فحسب، بل يتحكمون في كل مكان على الكرة الأرضية، لذلك فقد أصبحوا هم الدولة والإمبراطورية، وأصبحت الدولة التي يتواجدون فيها او يحكمونها ب"الريموت كونترول" تحت تصرفهم وتحت سلطتهم، فهم يتحكّمون في المأكل والمشرب والميديا والسلاح والانتخابات وشخصية الحاكم وطريقة تصرّفه وتحرّكه، ويستطيعون افتعال حرب معينة كي يسوّقوا أسلحتهم ويشغّلوا مصانعهم كي يحافظوا على المزيد من الربح والمنافسة والقوة والمزيد من الاحتكار والمونوبول، وامتدّ نفوذ الخصخصة بشكل مهول لدرجة انّ شركات السّلاح هي التي تقرر للدولة متى تبدأ الحرب ومتى تنهيها، وأنّ شركات الموت والتفجير والقتل كما هو الحال بالنسبة لشركة "بلاك ووتر" الأمريكية التي صنعت الأهوال في العراق وغيره تتحكّم بتكنولوجيا الإمبراطورية "العصرية"، بحيث تقتل وتفجّر آلاف البشر عن بعد او من الجو او بزرع كل أنواع العبوات الناسفة او بالاغتيالات الفردية والجماعية، كي يجني أصحابها المزيد من غنائم النفط وسبايا الحروب والنصر المبين.
لقد بدأت هذه الصّورة تتّضّح بسرعة بعد الحرب العالمية الثانية حيث قامت الدول المنتصرة باستعمار العالم، وبخاصة استعمار العديد من دول العالم الثالث، فتقاسمت ولا زالت تتقاسم ثرواتها وأسواقها، ومن ثم انتقلت الى مرحلة احتلال وهيمنة على العالم كله وتحويله الى مستعمرات للدول الاستعمارية الكبرى التي تسير على نهج أصحاب النظرية الرأسمالية المنتصرة فِكراً وعَملاً. لقد تحرّرت هذه الأُسر الحاكمة من مرحلة التقوقع داخل قومياتها الى مرحلة الانتشار الأوسع عبر الشركات الاحتكارية اللاقومية، وحوّلت المنافسة الحرّة التي آمن بها آدم سميث ببراءة الى فلسفة الاحتكار والهيمنة والبطش والاحتواء.
والخطورة الأخرى في هذا الأسلوب من النظام الرأسمالي في انه شجع إمكانية الفرد للحصول على اكثر ما يمكن ان يحصل عليه بأسرع وقت وبأقل ما يمكن من مجهود، فعزّزت بذلك التفكير الفردي الأناني وقلّلت كثيرا من إمكانية الإحساس بالآخر، فجذّرت التفكير ب"الأنا" اكثر من التفكير بال"نحن".
المال يجرّ المال والقَمل يجرّ الصّيبان:
انّ الخصخصة الراديكالية تُنتِج قيادات فاسدة، وعائلات سياسية، وأُسر توريثية، ونظم سائدة بالمال والفساد، والتي لن تسمح بدورها لغيرها بالتناوب على الحكم، فهو حِكْرٌ عليها كطبقات رأسمالية ممتلكة لنظام الحكم ومستولية عليه، وما يستتبع ذلك من منطق ولادة فِرَق من المافيا والفساد و"البَلطَجيّة" و"الشّبّيحة" والإرهاب المنظّم، وكل ذلك من أجل الدفاع المستميت عن المصالح "العائلية" لهذه الطبقات.
اذا وافقتَ ان تكون جزءا من المنظومة الرأسمالية القوية، فعليك الاحتماء بها لأنها هي القوية وهي التي توهمك بأنها المدافعة عن مصالحك، وإن حاولت عدم الاحتماء بها، فهي التي ستسعى بكل جهدها ووسائلها العديدة كي تجبرك على الاحتماء بها، وإلاّ فإنها ستدوسك بأقدامها الديناصورية، على طريقة عمل المافيا وفِرَق "الخاوَة"، ولكنك بمجرَّد ان تعلن ولاءك لها ولسلطتها، فإنك عمليا توقّع لها على اتفاقية خضوعك النهائي لسلطتها ولقراراتها التي ستمليها عليك متى تشاء.
إنّ أصحاب رؤوس الأموال أينما كانوا يحاربون من أجل الحفاظ على أموالهم ونفوذهم المادي، فوجدوا في إمبراطورية النظام الرأسمالي أكبر حماية لهم ولأموالهم، لذلك فإنهم يخزّنون ويرهنون ويكدّسون أموالهم تحت إمرة صناديق النّقد الدولي وخزنة البنك الدولي، او يقترضون منهما مرغمين بفوائد عالية جدا وتعجيزية، وفي نفس الوقت أصبحوا تحت رحمتهما خوفا منهما ان يبطشا بمدّخراتهم. هؤلاء الرأسماليون المتحكمون بأموال الأغنياء لا يمكن ان يسمحوا لأحد ان يشاركهم غَنائِمَهم الا بالقدر اليسير.
وفي الوقت ذاته فعندما يكون اقتصادك قويا ولا يوجد لديك قوّة عسكرية وعلمية تحميه، فإنك لا تستطيع ان تكون حُرّاً وسيّد نفسك، بل عبداً للذي يملك هاتين الصفتين: القوة العسكرية والعلمية، وهما عمليا موجودتان في أوجهما لدى الإمبراطورية الأمريكية المتّحدة وشركات رأس المال المتحكّمة في رقاب البشر.
"هيك مَزْبَطَة بدها هيك ختم":
اذا كانت المنظومة السياسية العليا السائدة تسمح بحريّة الثراء مهما كان فاحشا، فكيف نلوم الأثرياء لأنهم أصبحوا هكذا تحت ظلّ هذه المنظومة؟ بل انّ كونها كذلك تجعلهم يلجؤون الى جميع الوسائل التي تسهّل عليهم الوصول الى المزيد من الإثراء، ولذلك فقد استطاعوا ان يصبحوا هم السلطة ومجلس الشعب والحزب والكونغرس ومجلس الشيوخ واللوبي والحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري والحزب الوطني وأصحاب النفوذ الأعلى، كما حدث لعائلات الاحتكارات العالمية العظمى في أمريكا وأوروبا، ولدى العرب نماذج كهشام طلعت ورامي مخلوف واحمد عزّ وصفوت الشريف ويوسف بطرس غالي وسوزان مبارك والحريري وحسين سالم وبندر بن سلطان وامراء النفط والغاز، لا بل يصبح رؤساء الدول هم على رأس هذا الإثراء، والمنتفعين منه كحسني مبارك وزين العبدين بن علي وعلي عبدالله صالح وزعماء الخليج، ومعظم- ان لم يكن جميع- زعماء العرب ووزرائهم وأصحاب المناصب السياسية فيه الذين يتحولون الى أصحاب النفوذ الاقتصادي المهيمن على كل موارد الأمة والبشر.
كل ذلك بنِسَبٍ مُتفاوتة، فمنهم من يحصل على هذه الأموال ويستغل جزءا كبيرا منها لفائدة الجمعيات الخيرية ولبناء مشاريع تفيد المواطنين، ومنهم من يكدّسونها في خزائن الغرب، ومنهم من يتحوّلون الى مافيا تعمل على المزيد من الدّمار والاحتكار والمزيد من الهبش والنهب. وكلما ازدادوا غِنى ازداد الفقراء فقراً بموجب نظرية رأس المال الرئيسية:" المال يجرّ المال والقَمل يجرّ الصّيبان".
تقسيم الكعكة بين الأغنياء وترك الفُتات للأكثرية:
عندما يعلن "رامي مخلوف" و"ماهر الأسد"، و"الوليد بن طلال" وغيرهم من المتموّلين الكبار ووكلاء النفط في الخليج العربي، الذين يعملون تحت راية الدولة الرأسمالية القائمة على التجارة الحرّة والخصخصة، بأنهم يخصصون جزءا من أموالهم الطائلة لدعم الجمعيات الخيرية وخدمة المجتمع وبناء مؤسسات اجتماعية واستيعاب آلاف البشر كي يكونوا عُمالا وموظفين تحت راية مؤسساتهم، فإنما هم بذلك لا يزيحون عن الخط العام للمنظومة التي فتحت لهم كل السبل من أوسع الأبواب وبدون عوائق كي تزداد أرباحهم. إِرْبَحْ كما تشاء شريطة ان تساعد على إبقاء الأُسر المتموّلة الحاكمة في سُدّة الحكم، وما الدولة الا أداة بسيطة تُشرّع لهذا النوع من الرِّبح وتُساهم في حمايتهم من المعوزين الفقراء واللصوص الذين قد يشكّلون خطرا على كيانهم المادي والبَذْخي. إنّهم يقومون بمشاريعهم بشكل فرديّ، بينما المنطق يقول إنّ مؤسسات الدولة هي التي يجب ان تقوم بهذه المشاريع وليس الأفراد المتصرّفون كدُول داخل دولة او كدولة داخل دول.
قد يسأل سائل ولماذا لم تضع "بيل غيتس" اكبر مليارديرات العالم وصاحب شركة مايكروسوفت في قائمة الآنفي الذّكر؟ الإجابة بسيطة، صحيح انّ بيل غيتس هو جزء من المنظومة الرأسمالية، ولكنّ هذه المنظومة سمحت له بأن يخترع ويجتهد ويغنَى ضمن قوانينها الصارمة، فهو أيضا قدّم جزءا كبيرا من أمواله لمساعدة مرضى الإيدس ولدعم جياع أفريقيا ولحوسبة دول فقيرة ولأعمال خيرية كثيرة، ونحن على يقين بأنّ هذا النوع من المساعدات هو جزء من "عدّة الشّغل"، فهذا التبرع والدعم يزيد من تحسين صورته، وبالتالي يزيد من أرباحه ودعايته الإيجابية، ولكنّ الفائدة بالمجمل تكون لصالح جميع الأطراف، للذين يُقدّم لهم الدعم، وللدول التي تتعامل معه- لأنّه كلما زاد دخله زاد دخلها- ولصاحب الشركة، ولآلاف العمّال الذين بدلا من أن يكونوا في صفوف العاطلين عن العمل والذين تُمَوّلهم الدولة، يكونون منتجين في شركته ومضيفين لنفوذها ولمدخولها ولمدخولهم. هذا النوع من الدعم والتبّرع بشكل عام ينطبق على سائر أصحاب رؤوس الأموال الذين ينتهجون نهجه.
ولكن بيل غيتس عندما قارب على الاحتكار الفردي قُدِّم للمحاكمة وتحمّل العقوبة، بينما لم يُحاكم معظم هؤلاء المذكورين أعلاه، وغيرهم كثيرون، لأنّهم أصبحوا، ليس فقط محتكرين لمجالات متاجراتهم المختلفة، بل أصبحوا هم الدولة ومؤسساتها، وهم الذين يتحكّمون بالقانون وبالدستور وبالانتخابات، وهم الذين يستغلون حالة اللانظام والفساد والقمع كي يزيدوا من ثرواتهم وغنائمهم بدون أن يسائلهم أحد، لا بل هم الذين يسعون من أجل هذه الفوضى والفساد والتفرقة كي يحافظوا على سيادتهم. انّ كلا الطرفين موجودان في نظام رأسمالي، ولكن الفارق هو في أنّه يوجد نظام رأسمالي فوضوي نفعي مخاتيري يطغى على نظم الحكم في العالم الثالث، ونظام رأسمالي مُمَأْسَس ويحترم قوانينه ليس مائة بالمائة وإنما على الأقل أكثر بدرجات كثيرة من النظام الرأسمالي البدائي المصنّف كدرجة ثالثة في العالم الثالث.
أملنا كبير بأنّ الثورة المصرية بعد أنْ بدأت بمحاسبة هؤلاء سوف تنقلنا الى مرحلة أرقى من النظام الأنقى والأنفع للشعب، وهو سيكون نبراسا لباقي العرب كي يحتذوا به، بالرغم من كل العوائق الداخلية والخارجية التي تقف حائلة دون ذلك.
إذن فالمشكلة ليست في هؤلاء الأفراد فحسب، وليس كافيا المطالبة بتقديم بعضهم للمحاكمة بحجة انهم ينهبون خيرات البلد، فإنما هم يفعلون ذلك بتفويض من الدولة ومنظومتها وبتشجيع منها، وما محاكمتهم الا تبرئة للنظام العام الذي سمح لهم بذلك، وهم يشكّلون دعامته الرئيسية، فهم يتحرّكون ضمن منظومته مسبقا، فلو كانت قوانين الدولة قائمة على نظرية خذ ما تحتاج وقدّم كل ما تستطيع لصالح الشعب والوطن والدولة لكانت استثماراتهم موجودة ضمن صناديق الدولة وخزائنها وليس في صناديق البنوك الغربية، بحيث تحفّز المجتهد والذكي كي يحصل على حصة أكثر من الذي لا يقدّم خبرات وإنتاج أكثر منهم، شريطة ألاّ تسمح له الدولة بالبطش بكل الكعكة لوحده او الاستيلاء على كل الخيرات، بينما الملايين يموتون جوعا.
الشركات المالكة للدول:
وهكذا تمّ تقسيم العالم بين العائلات الرأسمالية، بين الدول الكبرى، والدول الكبرى عملياً هي مُلك لشركات كبرى محتكرة للدولة، ومُلك للدول وللحكام الذين أصبحوا خاضعين لمخطّطاتها وعبيدا ينفّذون أوامرها، وأَسرى لا يستطيعون الإفلات من قبضة نفوذها الجبّار. أصبحت الشركات الكبرى هي الدولة، وأصبحت الدولة الشكلية هي الخادم المطيع لتلك الشركات القائمة على عرش الخصخصة، وهذه الشركات الكبرى بمجملها أصبحت هي أَهم دعائم الإمبراطورية الرأسمالية المتربّعة على عرش الكرة الأرضية حاليا.
ولأول مرّة ضمن حدود هذه الإمبراطورية المنتصرة والمنتشرة كونياً، أصبحت جميع المؤسسات الفاعلة تتحرّك ضمن خطّتها، وضمن حيّز تفكيرها وتنظيراتها، فانتصارها أدى الى انهيار حلف وارسو والى استلام الحلف الأطلسي مكانه، وانتصارها أوجد حلف الأقوياء اقتصاديا، فتزعّموا عرش الG8 (الثمانية العظام)، ومن خلاله نظّموا أرباحهم وتحكّمهم بالاقتصاد العالمي، وشرّعوا لذلك بالمنطق "العادل" مجلس الأمن، والأمم المتحدة التي تبدو في الظاهر أنها تشكّل مؤسسات لبسط العدل على وجه الكرة الأرضية، ولكنها في الواقع تنفّذ متطلبات المنتصِر القوي والمهيمِن، فوعظوا ويعظون لصدق مبتغاهم عبر الميديا الفضائية والإنترنتية والصحفية المرئية والمكتوبة والمسموعة، وكلما تكرّر الوَعظ عبر غالبية القنوات أصبحت إمكانية التصديق أكثر، وأصبحت عملية غسل الأدمغة أكثر سهولة، حتى وان كان ما ينوونه كذباً، فالكذبة بعد تكرارها المستمر ستصبح في ذهن المتلقّين حقيقة.
بسط نفوذ الإمبراطورية على كل العالم بواسطة العولمة:
وأمريكا وراء الباب أمريكا، فإذا ما تابعنا الميديا فإننا سنلاحظ بسهولة التدخل الأمريكي في كل صغيرة وكبيرة في كل بقعة على الكرة الارضية، فكلما حدثت مشكلة في اي مكان في العالم تتدخل الولايات المتحدة وتعطي رأيها وموقفها، وتلمّح لكل ذي خارج عن الطاعة ماذا يجب عليه ان يفعل بناء على تعليماتها، وإِن رفض فإنه سيعرّض نفسه للخطر، فيرضخ لشروطها الصارمة خوفاً على كرسي عرشه من الاهتزار وعلى أمواله من الضّياع، ضاربا عرض الحائط نقمة شعبه ضدّه لتفضيله الانصياع للقوى الخارجية بدلا من الانصياع لمصالح شعبه، كما حدث لعمر البشير ومعمر القذّافي وسائر الزعماء العرب وبعض زعماء أفريقيا وشرق آسيا، ولكي يبدو الأمر إنسانيا ومنطقيا وعادلا ومقبولا، فهي تبثّه على شكل شعارات مثل: "الديمقراطية" "حرية التظاهر"، "حقوق الإنسان"، "محاربة الإرهاب"، "مساعدات إنسانية"، "حرية التعبير"، وأخطر نموذج لها يتمثّل في جمعيات أمريكية رصيدها المادي الضخم المعتمد على مجموعة من المتبرعين المليارديرية، وعلى المؤمنين ب"مبادئها الإنسانية" لمساعدة الملهوفين والفقراء والمرضى، بحيث تذهب أرصدتها لدعم التقسيم والانقلابات في العالم وإسقاط النظم "المارقة"، كما حدث في دارفور وتقسيم السودان، ومحاولة تقسيم اليمن وليبيا والعراق، والتقسيم العرقي والطائفي في كل أرجاء العالم، وكل ما يمكن ان يؤدي الى اي نوع من التقسيم كي تتحقّق فلسفة فرّق تسد، فتجعل المُقسَّم يعترف عاجلا ام آجلا بالقول:" أُكِلت يوم أُكِل الثورُ الأَسْود". التفرقة والقبائلية والطائفية والبطريركية موجودة في مجتمعاتنا، ولكن شطارة الاستعمار انه استغلّها كأداة تؤدي الى التجزيء والتفريق والعنصرية، ونحن لَبّينا رغبته بجهلنا وتخلّفنا.
ضمن هذا المفهوم، فإن جنوب أفريقيا مثلا، والتي تحررت من نظام الأبرتهايد، لم تستطع ان تتحرر من قبضة ديمقراطية رأس المال. لم تُحل مشاكلها الاقتصادية بعد التحرر، لأنّ النموذج الرأسمالي هو الذي بقي رابضا فوق صدرها، وبما ان البِيض هم الذين كانوا يستولون على خيرات واقتصاد البلد، فإنهم لمجرد بقائهم أصحاب النفوذ، فإنما سُمِح لهم عمليا بالاستمرار في الهيمنة الاقتصادية التي تشكل دعامة رئيسية للنفوذ السياسي، والاستيلاء على نظام الحكم من جديد وتحكّم الأقلية بخيرات الأكثرية. اذاً فعدم كونها ثورة اشتراكية فإنما هي مرحليا انتقلت من حالة الأبرتهايد الى مرحلة أخرى تسمح لها بممارسة "عنصريتها" الديمقراطية الرأسمالية، اذا صحّ التعبير.
كي تحسم الولايات المتحدة أمر تربّعها على عرش الإمبراطورية الكوكبية والكونية في نهاية الحرب العالمية الثانية كانت اليابان قد استسلمت، ولكن، ولكي لا يبدو ان استبسال الاتحاد السوفييتي في الحرب ضد النازية هو الذي رجّح كفّة الحرب لصالح النظام الاشتراكي، فقد أسقطت الولايات المتحدة القنبلة الذرية على هيروشيما وناغازاكي كي تُظهر للعالم انها هي التي حسمت المعركة، وانها هي القوة الحاسمة التي تستحق الهيمنة على العالم، اي انتصار الفكر والفعل الرأسمالي على الفكر والفعل الاشتراكي، واستمر هذا الاستبسال من أجل كسب المعركة خلال الحرب اللاحقة المُسمّاه بالحرب الباردة بين القوتين العظميين، الى حين استأثرت الولايات المتحدة بالنصر لنفسها، ومنذ ذلك الحين وهي تتربّع على عرش أكبر إمبراطورية في التاريخ، لأنها أصبحت إمبراطورية كونية وليست إمبراطورية لجزء معيّن من الكرة الأرضية.
قالوا لليابانيين: قواعدنا العسكرية مزروعة في بلدكم وممنوع عليكم الاستقلال العسكري، وإذا أردتم النهوض، فما عليكم سِوى تقليدنا وانتهاج النموذج الرأسمالي الأمريكي، ولكن بدون تسلّح. لديكم حرية الاستقلال الاقتصادي المرتبط باقتصادنا وممنوع عليكم الاستقلال العسكري، لأن الاستقلال العسكري هو الحاسم في النهاية في جميع الحروب، ولأن عدم تسلّحكم هو الضامن الأبدي لتفوقنا عليكم ولجعلكم دائما تحت رحمتنا.
لقد تسارع التاريخ وتطوّر وأصبح الاستقلال الاقتصادي هو الأقوى، وما المارد الصيني الا نموذجا للدب البطيء الذي يمشي الهُوَينا كي يصل من خلال انتهاجه فلسفة النفس الطويل الى إمبراطوريته البديلة للإمبراطورية الأمريكية، وقد لا تصل في النهاية الى الحلم الماوي لأنّ تجربتها الجديدة سوف تنتج عنها تجربة مختلفة وأكثر ديناميكية.
عندما تشرف الولايات المتحدة على اي تحرّك في اية بقعة على الكرة الأرضية، فإنما هي تريد ان تضمن بأَنّ إمبراطوريتها الرأسمالية تُطبَّق بحذافيرها على أحسن وجه وبدون منازع، على غرار المنظومة الرأسمالية المُطوّرة عن فلسفة "عصر الغاب" و"البقاء للأقوى"، وأما الضعيف فمصيره الى الهلاك او الاستهلاك، اي أنْ يكون فقط مستهلكا لإنتاج الإمبراطورية التي أصبحت متمثّلة بشركات كونية احتكارية تتحكّم بكل خيرات العالم بدون قيود، وكأنما لا حدود لهذه الإمبراطورية لا على اليابسة ولا في الفضاء، وانه لا أَحد يستطيع الخروج عن هذه القاعدة.
الانتخابات لعبة مافيوية تستعملها الديمقراطية الرأسمالية لصالحها:
ضمن حدود الديمقراطية الرأسمالية المتطورة التي لا تؤمن بالحدود الجغرافية، فإنه لا حاجة لمراقبين من مجلس الأمن او الأمم المتحدة كي يشرفوا على عملية الانتخابات في العالم الغربي. اوروبا والولايات المتحدة لديها من الاستقلال الذاتي ما يجعلها تمنع اي مراقبين للإشراف على انتخاباتها، لأنّ رأسماليتها متطورة ومُمَأْسَسة، ولديها خبرة وتقنية وتكنولوجيا واضحة المعالم، بينما عندما تحدث الانتخابات في العالم الثالث وبخاصة في العالم العربي، فإنهم يفرضون على العرب لجنة مراقبة على الانتخابات، لأنهم ليسوا ذوي كفاءة، ولأنهم لم يصلوا بعد الى مستوى "الديمقراطية" الرأسمالية المطلوبة.
اللعبة الديمقراطية المتمثلة بلعبة الانتخابات مرهونة بشروط إمبراطورية رأس المال، فهي التي تتحكم في النقود وشراء الأصوات والإشراف على الانتخابات وتوجيه الشعوب عبر الإعلام الديماغوغي الذكي، بحيث تجعل المنتخِب المُرتَشى يختار ناخبَه، ظانّاً أنّه انتخبه بحرّية، بينما هو عمليا يكون قد انتخبه بناء على تأثير قوة رأس المال وقوة أصحاب النفوذ وأصحاب الشركات، الذين يسيطرون على الميديا والاقتصاد ولقمة العيش والوظيفة والعَمالة، وعندما يتذمر المواطن بأنّ النظام ظلمه، يقولون له بأنك أنت الذي انتخبت هذا النظام بطريقة ديمقراطية وعليك الانتظار حتى الانتخابات القادمة كي تقول رأيك وتدلي بصوتك، فتتكرّر اللعبة كدورة المياه في الطبيعة، ولا مخرج من هذه المتاهة وكأنما نحن في دوّامة او في حلقة مفرغة.
انها من خلال الانتخابات تستطيع ان تصرف المليارات وتشتري الأصوات وتحسّن صورة الأشخاص والمؤسسات التي تحمل رايتها عبر الميديا الذكية التي هي أيضا تحت سلطتها من فضائيات وانترنت وصحافة وإذاعات وفنون وآداب ودعايات تجارية، فيغسلون أدمغة المستهلِكين والمتلقّين، ويجعلونهم يصدّقون ما يقولون، حتى وإن كانت كذبة مكرّرة، وكلما تعدّدت وسائل النشر، وكلما تكررت الكذبة عبر عدّة قنوات، ازدادت إمكانية قيادة القطعان البشرية فكرياً وكيانياً لصالح المنظومة المنتصرة المهيمنة عبر منطق نظرية رأس المال المبرّر بمنطق متسلسل وعقلاني قابل للتصديق وله مفكِّروه ومُنَظِّروه وفلاسفته وأتباعه. عندها يكون بمقدورهم التحكّم بالوظيفة ولقمة العيش والأرض والمسكن والفلاحة والصناعة والمنتوجات والهواء والماء والطب، فيتربّع النموذج الأمريكي على رأس كرسي العرش، حيث يرضخ لسلطته ملايين الفقراء والعاطلين عن العمل من الضعفاء، وسائر السائرين على نهجه من الأغنياء وأصحاب رؤوس الأموال والطامحين للنيل من بعض كعكة رأس مالهم.
تلك العائلات المتنفّذة من أصحاب الشركات والاحتكارات، هي هي ذاتها التي لديها القدرة على التحكم بالانتخابات وبمن يصلح ان يكون رئيسا للإمبراطورية ومن لا يصلح، فهو لا بد ان يكون من أصحاب رؤوس الأموال لأنه يجب ان يثبت ان لديه القدرة على الإنفاق السَّخِي والأسطوري كي يجلس على قمة كرسي حكم رأس المال.
وأما إذا عَاند طرف ما وكانت نتائج الانتخابات عكس ما يريدون، حتى وإن أشرفت عليها لجنة مراقبة يرأسها رئيس الولايات المتحدة الأسبق "جيمي كارتر"، فإنهم سيدَّعون انّ الفئة التي نجحت هي إرهابية ولا ساميّة، لذلك فإنهم لا يعترفون بالنتائج كما حدث في الانتخابات الفلسطينية، وإذا حاول أحد الحكام التمرد او رفض خططهم التقسيمية التفريقية، فإنهم يقدِّمونه الى المحكمة الدولية، التي هي أيضا مُشَكَّلَة من سلطتهم، وهي القاضي وهي الغريم، واذا كان غريمك القاضي فلمن تشكو همّك، كما حدث للسودان؟
ثورات الجياع والمهمّشين وطالبي العدالة والحرية:
جحافل من الشباب الذين يشاهدون نِعمة البذخ في العالم الجديد سرعان ما وجدوا أنفسهم عاجزين عن الحصول على فرصة عمل او لقمة عيش، فيمتلؤون غيرة وحقدا وشعورا بالنقص، ويتراكم الحرمان ويتفجر بُركاناً وثورة، وهي قد تبدو في البداية كافية لأن تكون مطلبا إنسانيا كعدالة اجتماعية، فهم لا يجدون أنفسهم مُرَفََّهين بَذْخاً ورخاءً كي يطالبوا بالاشتراكية والشيوعية، بل يجدون أنفسهم أفرادا فرادى يسعون للّحاق بلقمة العيش، وسرعان ما يجدون أنفسهم في الساحات والشوارع، يجمعهم مطلب واحد الا وهو المطالبة بالعدالة الاجتماعية والمساواة ورفض الظلم والذل والكذب والرشوة. انهم يجدون أنفسهم في جو لا حماية لهم فيه، حيث تتواجد القلة القليلة من الأغنياء الذين ينعمون بخيرات الدنيا، بينما هم يموتون جوعا ومرضا وحرمانا.
مكاتب العمل والبطالة لم تنشأ من أجل المساواة والعدالة، بل من أجل إسكات المحرومين كي لا يثوروا ضد أصحاب رؤوس الأموال الجشعين. عندما ابتكر الانجليز فكرة التسجيل في مكاتب العمل كي تدفع الدولة للعاطلين عن العمل راتب بطالة، فإنهم لم يبتكروها لسواد عيون الفقراء والمحرومين، بل لأنّ الجائع سيشهر سيفه ضدّ مُجَوِّعِه. هؤلاء الذين يشكّلون النسبة الأكبر من الناس سيشكّلون خطرا على أصحاب رؤوس الأموال، فإذا استمروا بتجويعهم فإنهم سيثورون وسيحرقون الأخضر واليابس، لذلك فإنّ القلّة من الرأسماليين المتحكمين بخيرات الوطن تدفع للدولة نسبة بسيطة من دخلها كي تُسكِت الجياع وتكفّ شرّ انتفاضهم ضدّهم، فتمنعهم من الثورة وتسكتهم، وتنفّسهم كي لا يتحوّل الضغط الى انفجار وثورة. انهم لا يفعلون ذلك عن عاطفة او محبّة او نيّة حسنة، بل لكي يخدّروهم الى حين يستمروا هم في المزيد من الكسب والتّملك والغِنَى والتحكّم بخيوط الحكم والاستبداد والبطش، وهذا "المستوى الرفيع" من الرأسمالية أثبت نجاعته، وأثبت انه يخدم الديمقراطية الرأسمالية لفترات طويلة.
والأخطر من ذلك بأنه في عصر السرعة والآلة والثورة الالكترونية أصبح صاحب رأس المال يميل الى تشغيل الآلة نيابة عن العامل لأنها لا تطالب بحقوق وتعمل بسرعة فائقة وتنتج له ما يريد أكثر مما ينتجه العامل بآلاف المرات، مما حوّل جيوش العاطلين عن العمل الى طابور خامس يهدّد كل من يطالب بحقوق نقابية وزيادة في الأجر، فأصحاب المصانع يستغنون عن أي عامل يحاول التمرّد، فيدخلون مكانه من قوى لاعبي الاحتياط، فيروّضونه على مقاساتهم كي يصبح أكثر طاعة وامتنانا لأسياده الذين فضّلوه عن غيره من سائر العاطلين عن العمل، فيشكرهم ويشكر ربّه بأنه يستطيع ان يحصل على بعض قوته بما يكفيه للبقاء على قيد الحياة.
ولذلك فإنّ العرب في ثوراتهم، فإنهم اذا وصلوا الى هذا المستوى من الرأسمالية المخدّرة للثورة والانتفاض، فإنما هم ينجحون في المزيد من تحكّم القلّة في خيرات الشعوب ومنعها من المطالبة بالمساواة والعدالة والتساوي في الحقوق والواجبات، ولكنها على الأقل- اذا كنّا نملك بعض التفاؤل- فإنما هي تخطو خطوة الى الأمام كي تلحق بركب أصحاب منظومة الديمقراطية الرأسمالية السائدة.
أصبح الحلم بثورات سامية ليس انتقاما من النظام الديكتاتوري والحاكم فحسب، بل ان تكون الثورة ضد هيمنة فكر النظام الرأسمالي، وهذا الأمر لن يقتصر على شعب معيّن في دولة معيّنة، بل ينطبق على جميع البشر أينما كانوا، فهذا هو القاسم المشترك الأسمى بينهم. انها محاولة منع الشركات الرأسمالية من ان تؤسس دولة داخل الدولة او دُولاً داخل الدول، او إمبراطورية مشرفة على كل الدول والكيانات البشرية على سطح الكرة الأرضية. وضمن هذا المفهوم تبدو مظاهرات الأوروبيين والعرب والأمريكان والإسرائيليين والآسيويين والأفارقة والاستراليين متشابهة. انها ليست ثورات ضد الرؤساء والأحزاب فحسب، بل هي محاولة لتحجيم وكبح جِماح هيمنة القطط السِّمان.
رأس المال هو القاسم المشترك بين أصحاب رؤوس الأموال:
عمليا، فنظام الحكم في إسرائيل على سبيل المثال يبدو كأنه ولاية طبق الأصل عن نموذج الولايات الأمريكية، ناهيك عن كونه كيانا احتلالياً استعماريا استيطانياً، ومَن قال انّ الإمبراطورية الأمريكية ليست كيانا احتلاليا استعماريا استيطانياً بعد ان قَتل البيضُ القادمون من الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس خمسين مليونا من سكان أمريكا الشمالية الأصليين، وسكنوا مكانهم كي يُكوّنوا إمبراطوريتهم وولاياتهم القائمة على أراضي شعوب أخرى والتي هذه المرّة لا تغيب عنها الشمس ولا يتسع لتوسّعها الفضاء؟ وما دامت إمبراطورية رأس المال هي السائدة، فماذا يمنع أصحاب رؤوس الأموال من ان يتصرّفوا كالأعداء الأخوة، فيتبادلوا التجارة والمصالح مع بعض كما يحدث في المعاملات التجارية بين مصر وإسرائيل وعلى رأسها الغاز الذي تبيعه مصر لإسرائيل ب"تراب المصاري"، بينما أهل غزّة العرب يموتون برداً وجوعاً ممرّغي الأنوف، وكما يحدث في المصالح التجارية المخفيّة والمكشوفة مع الأردن ودول الخليج ودول أفريقيا العربية وغير العربية؟
ولكن هذا النوع من النظام الرأسمالي المُعَوْلَم المتطوّر والمستمِد المزيد من قوته عبر المزيد من الاستعمار والبطش بالآخَر، فإنه متساوٍ مع كل الكيانات التي تشبهه عندما يقمع معارضيه كي يحافظ على نفسه، فتماما كما نشاهد الجيش الإسرائيلي يقمع الشعب الفلسطيني الواقع تحت احتلاله، أصبحنا نشاهد صورا لجنود وشرطة ورجال أمن عرب في الدول العربية يقمعون أبناء شعبهم دفاعا عن سلطة ورأسمال الحاكم المتربع على عرشه الأبدي، مانعين أيّة فرصة للشعوب كي تثور ضد الظلم والفساد. هل يُعقل ان يتصادق المحتل مع الواقع عليه الاحتلال من أجل مصالحهما المشتركة، حتى وإن كان ذلك ضد الشعوب التي يقع عليها الاحتلال؟
أصبحت إسرائيل تطبّق علينا مقولة ان الاستعمار هو آخر مرحلة من مراحل الرأسمالية، كنظام احتلال بدأ بالاستيلاء على فلسطين والبطش بخيراتها، ومن ثم توسّعت فاحتلت القدس والضفة الغربية وقطاع غزة، وتحوّلت علاقتها مع الجغرافية الى احتلال اقتصادي استيطاني يدرّ عليها بالمزيد من الربح المادي والمزيد من التوسّع والنفوذ، من خلال سرقة خيرات الآخر والتحكم بموارده وإقصائه سياسيا واستغلاله اقتصاديا وإلغائه كيانياً.
الديمقراطية الرأسمالية وثورات العرب:
لم يزوّدنا الثوار العرب ببرنامج بديل وواضح وفكري لثورتهم، فهمّهم الأول والمستعجَل كان الانفجار ضد الظلم المتراكم من قبل نُظم أُسَر الحكم الرابضة فوق صدور الشعوب لعقود من الزمن. كان أول شعار يجمع جميع هذه الثورات هو الانتفاض والانفجار ضد الظلّم والذّل والإذلال، وضد الحكم الاستبدادي، والمطالبة بالعدالة الاجتماعية والحرية. إنّهم مشمئزّون لأنّ حاكمهم يخدم سيّده القوي المتحكم به من خارج حدود دولته بدلا من ان يكون خادما لشعبه، فينفّذ أوامره حتى وان أدى ذلك الى قمع شعبه وإذلاله وتجويعه وإخضاعه لإرادته مهما كانت هذه الإرادة ظالمة واستبدادية، فالمنطق يقول بأنّه أصبح حاكما لشعبه كي يخدم هو شعبه، وليس ان يكون شعبه خادما وعبدا مطيعا له.
وعندما نجحت بعض ثوراتهم، فإنهم لم يرفعوا شعارات كبيرة كي تكون عنوانا لثوراتهم ك:"فِكْر اشتراكي بدلا من الفكر الرأسمالي"، او "حكم الشعب بشكل مطلق" او "فصل الدين عن الدولة" او"لا للأحزاب الدينية في الحكم" او "الدين لله والوطن للجميع" او " الاستقلال من الهيمنة الخارجية"..الخ، بل بقيت طلباتهم في حدود طلب العيش بكرامة وبمساواة على الأقل في هذه المرحلة التي بدأ أصحاب الثورة يتنفّسون من خلالها الصّعداء. فثورة مصر التي لا زالت ساخنة قد تبقى مترّنحة لفترة من الزمن بين ثلاث احتمالات: أولا لكونها ثورة يتحكّم بسرعة تقدّمها المجلس العسكري، وهو ما يجعلنا نخاف عليها بأن تتحوّل من ثورة الى انقلاب عسكري كما حدث لثورة ال52 التي أخذت في التراجع الى أن بدت أمام التاريخ كشكل لانقلاب عسكري وليست كثورة، وثانيا كثورة من أجل مطالب إصلاحية، وثالثا كثورة تطالب بهدم القديم الفاسد وبناء الجديد النظيف. هي تبدو الى الآن والى لحظة كتابة هذا البحث شكلا من أشكال الانتفاض والتمرّد ولن تكتسب صفة الثورة الا بعد ان تلغي ما كان من شكل سائد للنظام ولطريقة ادارة شؤون الوطن، وتوجد شكلا جديدا فيه رؤية تغييرية تجديدية تقدمية تطهيريّة.
تحاول الولايات المتحدة الأمريكية ان تجيّر الثورات العربية لصالحها عن طريق تقريبها الى مستوى نظريتها، بحيث لا تتخطاها او تصبح أسمى منها او قابلة- ولو على المدى البعيد، او الأبدي اذا أمكن- لإمكانية التغلب عليها، فهي ضامنة لتفوّقها العسكري والاقتصادي والعلمي، وهي لا تمانع ان تلعب هذه الثورات لعبتها، كما سائر النماذج الرأسمالية ضمن قوانين الإمبراطورية الرأسمالية، شريطة ان لا تعود لتطالب وتعِظ بنموذج الشيوعية والاشتراكية وتوزيع أملاك الأقلية بشكل عادل على سائر المحرومين والمظلومين من الأكثرية، وهي تميل إلى أن تبقى هذه الثورات في حدودها الإصلاحية والانقلابية.
الثورات التي تحدث في العالم العربي الآن كما لاحظنا لا تطالب بأن تصبح الشيوعية او الاشتراكية بديلا للنظام الرأسمالي، فمنهم من يحاول الركوب عليها كي يجيّرها الى أفكاره السلفية الدينية ويحوّلها الى ثورات إسلامية، ومنهم، وهذه هي الأكثرية، من يريدون منها ان تصل الى أَعلى سقف لمطالبهم، الا وهو تحويلها الى ثورات تنادي بالعدالة الاجتماعية والتحرر من السلطة الديكتاتورية والقمعية وانتهاج الديمقراطية الحقيقية، وعندما يتدخّل الرأسمال الغربي المتطور رأسماليا، فإنما هو يريد ان يجيّرها كي تصبح نسخة عنه، اي ان تصل الى المستوى المؤسساتي والرأسمالي الذي وصل اليه الغرب وليس الى المستوى المتدني من الرأسمال البدائي غير المُمَأْسَس كما هو الحال لدى الحكام العرب ودول العالم الثالث. إذن فثورات العرب مكتفية بأن يرقى النظام درجة او بعض الدرجات كي يصبح في مستوى الرأسمال الغربي، اي ان يصبح جزءا من النموذج الرأسمالي السائد، اي الرأسمالية الغربية التي تغلبت على الاشتراكية والشيوعية، والصين انضمت الى هذا الركب أيضا، وهكذا أيضا بدأت اليابان طريقها بعد الحرب العالمية الثانية عندما انضمت الى معسكر الرأسمال الغربي المنتصر على الشيوعية والاشتراكية.
التطوّر العربي للّحاق بالعصر شريطة ان يكون الدين لله والوطن للجميع:
نحن في مرحلة نشعر فيها بأَنه ربما تكون فائدتنا، ولو مرحليا، كامنة في محاولة الانتقال التدريجي الى مرحلة أكثر رقيّاً في التطور الاقتصادي والعلمي، وتَجْيير العقول العبقرية من أجل رفع مستوى الشعوب الرَّفاهي والعلمي والاقتصادي، والى مرحلة أرقى في النقاش والحوار الحرّ الذي تثبت القوة من خلاله للأذكى والأكثر اجتهادا، فنحن نشعر، ولو مرحليا، بأننا نحتاج الى القفز الى هذه المرحلة كما اليابان وماليزيا واندونيسيا، كي نصل الى مرحلة أخرى أرقى، وهي المنافسة والاستقلال الذكي والانتقال من مرحلة الحكم القمعي المخاتيري الى مرحلة الرأسمالية العظمى، التي بحكم تطوّر التاريخ والمنطق الطبيعي ستساعد على القفز الى الأعلى، وليس عيبا ان يكون جزء من الدستور الأمريكي شيئا من تحقيق هذه العدالة حيث تصبح قيمة الإنسان الحقيقية الفعلية بعلمه واجتهاده وبقدرته على المنافسة، وليس ان نلهي أنفسنا بالعصبية الدينية والقبلية والتفرقة، وما العيب في الدستور الأمريكي اذا كان يمنع تدريس الدين في المدرسة او يمنع استعمال رموز دينية في أماكن عامة، وأنّ الوطن للجميع والدين لله، وأنك كإنسان وكمواطن متساو مع الآخرين ما دمت تقدم الواجبات وتأخذ الحقوق؟ واذا أضعت طاقتك العقلية في اجترار الماضي الميّت فان الدماغ سيخسر طاقته في استغلالها في التفكير الى الأمام وفي الرياضة الإبداعية والعلمية التي تفيد البشر هنا على هذه الأرض وليس إشغالهم بالغيبيات التي تعميهم عن تدبير أمورهم الحياتية بشكل يمنع عنهم الذل والفقر. صاحب العقل يَستغل جُلّ طاقته في البحث عن حلول لمشاكل هذه الدنيا، وليس ان يتغاضى عن هموم الدنيا ويقضي كل حياته باحثا عن طريقة يضمن لنفسه الحياة في الآخرة، وعندها ربما لا يحصل على هذه ولا تلك، فأنت عندما تحقن عقول الناس بتراث السلف وبكتبهم الدينية، فإنما انت بذلك تغلق مكانها غُرَفا صالحة من الدماغ قابلة للإبداع والابتكار وحل مشاكل البشر الدنيوية. لقد أعطى النظام الرأسمالي الحرية الكاملة لمن يريد ممارسة شعائره الغيبية والدينية شريطة ان يتلّهى بها كي يصرف طاقته فيها بدلا من صرفها في محاربة الإمبراطورية، لا بل شجّعها كما شجّع الطالبان والقاعدة عندما استعملهما في حربه ضد الاتحاد السوفييتي، وعندما تمّت المهمة على خير ما يرام استعملهما كغول إرهابي يكفيه لكي يشكّل منه ذريعة لبسط نفوذ الإمبراطورية على كل الكرة الأرضية بحجة محاربة الإرهاب والسلفية واللاساميّة والعنصرية.
لقد كان جزء من نجاح الولايات المتحدة في القضاء على الاتحاد السوفييتي لجوءها الى تكتيل الأديان، فكتّلت المسيحية والإسلامية بحجة محاربة الملحدين والفاحشين، فأنفقت في أفغانستان مليارات الدولارات لصالح الأصوليات الإسلامية ولجنودها ولطواقمها ولحلفائها.
ظنّ الإسلاميون أنهم سيقضون على الاتحاد السوفييتي ثم على الأمريكان بانتهاجِهم لفكر بن لادن وفِكر ابن تيمية والوهابية، وفي المقابل فالأمريكيون اثبتوا انهم أكثر دهاء لأنهم يؤمنون بأنه ما دام المسلمون ينتهجون فِكر ابن تيمية وليس فكر ابن رشد فالغلبة لنا، لأننا متطوّرون أكثر ونُعمِل العقل، بينما هم يُعملون الاتكال على الله وفلسفة الموت والشهادة والسّمع والطاعة بلا ثمن أرضي كي يحظى بجائزة ما بعد الموت، فيخسرون الدّنيا ويربحون ما ليس مؤكَّدا من ربح.
منذ انتهج المسلمون وسكّان الخليج وشبه الجزيرة العربية فكر ابن تيمية والغزالي أصبحنا تابعين للغيبيات وللغرب وللقمع الفكري بكل ما لدينا من عقل وقوة، ومنذ ذلك الحين ومعظم الغير يتّبع فلسفة إعمال العقل بينما نحن نزداد تعلّقا بالأصولية والسلفية، وهذان خطّان متوازيان لا يلتقيان الا بإذنه تعالى. أليس غريبا بأنّ أَتباع ابن تيمية قضوا بالحرق على ثلاثة كتب لابن رشد فكَفّروه وشرّدوه وطاردوه ونفوه. إنّ فلسفة تكفير التفكير لا زالت هي المهيمنة الى الآن على نهج التدين الأصولي، وعندما نسلّم عقلنا وفكرنا للفقهاء والمفسرين، فإنما نحن نوافق على تجميد أنفسنا على ان نترك لهم حرّية الحركة والتحكّم بمصائرنا، فيوصلوننا الى قناعة بأنهم متخصّصون في معرفتهم ويفهمون أكثر منا، ومن يخرج عن طاعتهم ويحاول ان يفكّر فإنهم يكفّرونه ومنهم من اغتيلوا تحت راية هذه الفلسفة العقائدية الخطيرة. إنّ أخطر ما في فلسفة هؤلاء الواعظين هو عنادهم المستمر وقناعتهم التامة بأنّ القديم يمكن ان يكون هو الحديث وهو العصري وهو الذي يجب إعادة تجريبه لأنه مطلق، فكيف لا نتوقّع المزيد من الجهل والتخلّف ضمن هذا المفهوم الرّجعي لهكذا فلسفة؟
إنّهم معنّدون وعن قناعة عمياء بأنّ فكر الغزالي وابن تيمية هو الفكر الذي يجب ان يبقى سائدا. انها فلسفة انتهاج الحكم المطلق الإلهي الذي لن يقود الا الى الديكتاتورية والظلم والإرهاب الفكري والتمييز بين البشر، بدلا من انتهاج فلسفة الفكر النسبي الديالكتيكي الخاضع لأحكام العقل والمنطق والتراكم المعرفي المستند الى التعلّم من الخطأ والاستفادة من التجارب السابقة، حيث يكون العقل هو صاحب السلطة ولا وصاية على العقل الا من خلال العقل نفسه، فالبشر المفكّرون والعقلانيون هم الذين يصنعون المجتمع، والمجتمع هو الذي يصوغ البشر وليس رجال الدين. وضمن هذا المفهوم يصبح كل شيء قابل للنقاش، مرئيا كان ام غيبيا ولامرئياً، أكان ذلك نصّاً دينيا او نصّاً علمياً. إن ّالظواهر الاجتماعية والإنسانية يجب ان تُعالج بالفكر النسبي وليس بالفكر المطلق. هؤلاء الذين يحاولون ان يقمعوا منتهجي هذا النوع من الفكر والفلسفة من خلال الدين، انما هم يفعلون ذلك لأنّ العلم والعقل يدحضان الفكر المطلق، مما يشكّل خطرا على منهجيتهم وسيادتهم المستمدّة من سلطة عُليا غير مرئية خارج نطاق العقل، يستغلّونها لإخافة ولإقناع أتباعهم الذين يصدّقونهم، لأنّهم يخافون مما هو غير مفهوم وغير مرئي وغَيبِيّ وغامض، فيتبعونهم ظانّين أنّ لديهم سرّ الخلاص. إنّ إبطال عملية إعمال العقل معناها إبطال الإبداع، وإبطال التفكير، والنتيجة الحتمية والمنطقية لذلك هي التخلف. إن تغييب العقل الناقد لمسار كينونتنا يزيد من إمكانية تربّع الحاكم على كرسي العرش الى الأبد لأنه يدّعي بأنه يملك الحقيقة المطلقة، وبالتالي فهو يوحي للبشر بأنه أقرب المخلوقات الى كرسي الله، وبالتالي فهو يخلق صورة في أذهان محكوميه بأنه إله او من نسل الآلهة، وعندها لن يجرؤ أحد على منافسته او معارضته فيصفى الميدان لأبي حميدان، وضمن هذا المفهوم فنحن لا زلنا تحت سلطة الفكر الفرعوني ولا زلنا نتبناها الى الآن.
لقد قام الغزالي في كتابه "تهافت الفلاسفة" بمعركته ضد الفلاسفة الذين يُعمِلون العقل في تفسير النصوص وأبعد من الظواهر الطبيعية الملموسة، ونفى عنهم قدرة التحليق أبعد من ذلك، فردّ عليه ابن رشد في كتابه "تهافت التهافت" مُبدياً انفتاحا فكريا أكثر تنوّرا وأكثر نفعاً.
إنّ استبعاد فكر ابن تيمية والغزالي الأصوليين منذ القرن الحادي عشر، واستعادة فكر ابن رشد المتنوّر، وإبداع وابتكار ابن الهيثم، هو الضمانة للّحاق بمن لا يُعادون الدّين الإيمانيّ ولكنهم يضعونه في مكانه الصحيح.. ما دام فكر ابن تيمية هو السائد فاللحاق بركب الحضارة سيطول أكثر، فها نحن نعيش الثورة الألكترونية في أعلى مراحل الثورات الحديثة بهدف تسريع العمل وإلغاء المسافات الزمنية والمكانية، فتشدّنا بذكاء الى الأمام، بينما السلفية تشدّنا بعنف الى الخلف.
لقد فات هؤلاء السلفيون بأن الحضارات هي من صنع البشر وترضخ لقوانينها ودساتيرها الدنيوية، بينما الديانات السماوية هي علاقة الإنسان مع خالقه وترضخ للأحكام الإلهية، وأنه لا توجد في هذه الأديان أية وظائف للعلم والسياسة والحضارة، فأعطني مثالا واحدا لاختراع أتت به الديانات.
عندما تاجرت الكنيسة بالدين أوصلت أوروبا الى أدنى درجات انحطاطها، وعندما تاجر الإسلاميون بالإسلام وسيّسوه فإنما هم يمرّون المرحلة ذاتها التي مرّت بها الكنيسة، ولا بدّ ان ينتهي هذا الانحدار نحو الحضيض والانتقال الى مرحلة الانتفاض والثورة الى الأمام مع التقدّم الطبيعي للتاريخ.
انّ التفكير بالنهج المطلق جعلنا نصرف جلّ طاقاتنا في الحفظ والاجترار والغيبيات، وبدلا من إعمال طاقة الدماغ في القادم أضعناها في القديم والغيبي المطلق. إنّ صرف جُلّ الطاقة الدماغية في تخيّلاتنا عن كسب حياة أخرى كامتداد لهذه الحياة الفانية وكبديل لها جعلنا نخسر المعركة في كليهما، بينما يفوز الآخرون ولو على الأقل في إحداهما، فركّزوا جلّ طاقاتهم فيما أتيح لهم عمليا هنا على هذه الأرض والقليل من مجهودهم يصرفونه على تلك الآخرة.
ولكي لا أُفهم خطأً فأنا هنا لا أروّج لانتهاج النموذج الرأسمالي الذي تتربّع على عرشه الولايات المتحدة الأمريكية، فالنموذج الأمريكي المتّحد أوجد دستورا ممتازا ولكنه لا ينفّذه بحذافيره، بل أيضا في أمريكا هنالك حركات ماسونية ودينية وحركات مسيحية صهيونية ولوبيّات مُتغَوِّلة تعمي قلوب البشر عن فساد النظام.
عندما عادى الحكام المسلمون والعرب الشيوعية كانت حجتهم ان الشيوعية نوع من الكفر والنظام اللاأخلاقي والمعادي للدين والمتنكّر لوجود الله، وأنه نظام فاسق يجيز للرجل معاشرة أخته ووالدته وابنته. هذا هو المنطق التحريضي الذي انتهجه الحكّام كي يكرّهوا الشعوب بالفكر الشيوعي او الاشتراكي. والحقيقة العلمية والتاريخية تقول عكس ذلك، فإنّ هؤلاء الحكام العرب وقفوا منذ البداية في صفّ النظام الرأسمالي الأمريكي والغربي، منذ حرب أفغانستان وبعدها حرب الخليج وما قبل قبل ذلك منذ بطشت الإمبراطورية الأمريكية وشركاتها الاحتكارية العملاقة بنفط العرب وأبقوا الحكام العرب على شكل مخاتير ودمى لا "يمونون" على شيء، لا بل وضعت الولايات المتحدة الأمريكية أساطيلها وقواعدها العسكرية في الخليج كي تؤمّن لنفسها التحكم بكل الخيرات بدون ان يجرؤ أحد المخاتير الذي يشرف على مراقبة شعبه كي يمنع أية إمكانية للتمرد على الإمبراطورية او من أجل قلب النظام، وبالتالي فهو يساعد على حراسة هذه القواعد من خطر تفجيرها ومنع اية محاولة للمطالبة برحيلها، فما تأسس على شاكلة معاهدة سايكس- بيكو لا يمكن لأحد زحزحته.
فإذا أرادت إمبراطورية رأس المال من الحكام المسلمين ان يقفوا ضد أنفسهم فلا خيار لهم سوى ذلك، فهم يقفون ضد إيران الإسلامية وهم مسلمون، بينما عندما حَذَت إيران حذو الولايات المتحدة في زمن حكم الشاه وكان الحكام العرب تابعين للولايات المتحدة وقفوا مع الشاه، وهم يستعملون درع الجزيرة للتحالف مع الغرب ضد العراق العربي، ويقمعون شعب البحرين المسلم المنتفض خوفا من أن تصبح مملكة البحرين مسلمة على الطريقة الإيرانية الشيعية، بينما نظام البحرين يُجري صداقات مع الكيان الصهيوني سِرّاً او جهارا، وهي دولة ليست مسلمة بل عدو مرشّح لأن يكون صديقا، بينما بعض العرب أخوة مرشّحون كي يصبحوا أعداءً بأمر من الإمبراطورية الأمريكية، اي انهم عديمو الإرادة، وينفّذون ما يمليه عليهم أسيادهم الرأسماليون الكبار وأصحاب نظرية الغلبة لإمبراطورية رأس المال.
الدين تكرار واجترار، والنصوص القديمة ومنها الكتب "المقدسة" هي نصوص ثابتة لا تقبل التحريف او التصحيح، والجمود الفكري كامن في عدم إتاحة الحرية في تفسير النصوص بل تركها تحت رحمة التفسير الحَرفي او التفسير النخبوي لقلة من المفكّرين المتّبعين لفلسفة الفكر المطلق.
الدين بشكل عام يرفض الإبداع والتغيير، والديانات لم تساهم في أيّة اختراع من اختراعات البشرية منذ بدايتها، لا بل انّها وقفت ضدّ الاختراعات عندما شعرت انّ عقل المخترعين قد يسمو على عقلية أصحاب السلطة الدينية التي تستمد قوّتها من المطلق بالمطلق، والتي تحوّلت الى سلطة دنيوية يصعب إسقاطها عن كرسي الحكم لأنها تؤمن وبعقيدة ثابتة بأنها تستمد قوّتها من المطلق وبشكل مطلق، وفي الوقت ذاته فهي تقمع بعنف أصحاب التفكير النسبي العقلاني خوفاً من ان يتغلّبوا على منطقهم المستند الى الغيبيات وليس إلى قوّة المنطق العقلاني. الطقوس التي يمارسونها في الكنيسة ثابتة والإنجيل ثابت، والقرآن ثابت لأنه مُنْزل، ولذلك فهم يمارسون عملية تكرارية، ولا أحد يريد ان يسلبهم حقّهم في ممارسة طقوسهم الدينية والدنيوية كأفراد كما يشاؤون، شريطة ان يبقى ذلك بحدود الإيمان الفردي وألا يتحوّل ذلك الى سلطة دنيوية بديلة لسلطة الدولة.
إنّ الدين كمعتقد يؤدي الى أصولية دينية، والأصولية الدينية تخدّر رجل الشارع، بينما الدين كإيمان وعلاقة عمودية فهي علاقة سامية وروحانية فردية ومتاحة ولا تشكل خطرا على الشعب.
لقد تحوّلت العبادة النّقية في علاقة البشر السامية العمودية مع الخالق الى عبادة نصوص قديمة واجترار لفكر جامد لا يتفاعل بشكل حرّ مع شؤون الدنيا، فيصرف جُلّ طاقته في أمور الآخرة. هنالك حاجة ملحّة لتنظيم العلاقة الأفقية فيما بين البشر كعلاقة دنيوية، وعلاقتهم العموديّة مع الخالق كعلاقة إيمانيّة.
أصبح الصراع عنيفا بين حياة الإبداع والاختراع والتجارب والعلوم والتقدّم واستعمال العقل لأقصى درجة من جهة، على طريقة الفيلسوف المتنوّر ابن رشد، وبين اتّباع فلسفة ابن تيمية الذي نادى بعدم الحاجة لإعمال العقل في تفسير النصوص الدينية، وما نتج عنها من إسقاط لهذه العقيدة بأن يصبح عدم إعمال العقل منطبقا على سائر نواحي الحياة، وما نتج عنها من الحركات الوهابية والسلفية.
وعندما يدّعي المتديّنون بأنّهم يعظون للأخلاق يقول لهم العلمانيون: ونحن كذلك، فدعونا نأخذ من الدين ما هو أخلاقي ونضيفه الى أخلاقياتنا المتراكمة عبر تجاربنا المتراكمة عبر التاريخ، ونضعه في دستور الدولة، فلماذا نجترّ ما هو جامد ونبقيه تحت سلطة الدين الذي هو سلطة لجزء من الشعب، ما دامت الدولة التابعة لكل الشعب تستطيع استيعابه في دستورها وتشريعاتها؟
وليكن دستورنا الحالي هو المعبّر عن تجارب كل الإنسانية بتاريخها وحاضرها وبخطّتها المستقبلية. إذن فلا يمكن استعمال ما كان قديما بشكل جامد بحجّة انه مُنْزل، وغَضّ الطرف عن كل التجارب التي أتت من بعده. إذن فهي النظرية ذاتها التي تقول بأنّ القديم لا يصلح ان يكون بديلا لكل شيء، والذي يريد القول بأنّ ما يتعلّق بالله والآخرة هو الذي لا يتغير وهو الهدف الأسمى الذي يسعى اليه الإنسان، نقول له فليحلم بذلك بمفرده، واذا كان ذلك نابع عن إيمان فَعَليه ألاّ يفرضه على الآخرين كدستور وشريعة حياة، بل هي مسألة شخصية تخصّه لأنّها غير يقينية ولا يحق له أن يحوّلها الى حزب او نظام حكم او طريقة حياة لكل البشر. وأما الادّعاء بأن المقدس هو أبَديّ ولا يمكن مناقشته، فإنما ذلك نابع من المطالبة بالتوقّف عند تجربة ما في فترة تاريخية ما وعدم الإبداع والتطور والاستفادة والتغيير بناء على التطور الطبيعي للإنسان واستغلال عقله الذي خلق معه كي يستعمله وليس لكي يجمّده، فهو نتاج الخالق.
أخطر ما في الدين ان يتمّ تسييسه، والأخطر في نتائج الثورات العربية ان تتحوّل الى ثورات تشرّع الدّين دستورا لها، بدلا من الوصول الى صيغة دستورية تعبّر عن مستوى حكم ديمقراطي راقٍ، أهم ما فيه فصل الدين عن الدولة، وإعطاء الناس حرّية العقيدة، ومنعهم من الوصول الى الحكم عن طريق الأحزاب الدينية، والسعي الى تحقيق العدالة الاجتماعية بأرقى أشكالها، وتحقيق حق المواطنة الذي يساوي بين المواطنين، مهما كانت أجناسهم وأعراقهم ودياناتهم وعقائدهم ولادينيّتهم. عليهم اذا وضعوا نصب أعينهم هدف تحقيق الديمقراطية أن يوصلوا من خلال برنامجهم وتخطيطاتهم المسبقة ان يوصلوا الشعب الى مرحلة الفهم للفكر الليبرالي والتنويري وأن يتمتّعوا بعقل اجتماعي راقٍ ويكون مفهوم العلمانية لديهم هو احترام السلطة لدى الفرد بدلا من تذويبه في سلطة المجتمع، بحيث يصبح هو كفرد عنصرا رئيسيا مساهما في بناء المجتمع والدولة ككلّ، وتصبح اهمية الفرد في المجتمع اهم من سلطة المجتمع او بمستوى اهميتها. انها ضمن التفسير العلمي للديمقراطية العلمانية مسألة تتعلّق بالاعتماد على العقل الاجتماعي والتنوير والليبرالية، والتفكير في النسبي بما هو نسبي وليس بما هو مطلق.
أملنا كبير بأنّ الدستور المصري الذي ستنتجه الثورة سيكون من أرقى الدساتير العالمية، وفي مستوى رُقيّ ثورة مصر وتونس المجيدتين.
تكفير التفكير:
ضمن فلسفة الحاكم بالمطلق والحاكم بأمره يصبح كل مفكّر بالمنطق النسبي عرضة للقصاص والقتل والإلغاء. ولدينا نماذج عبر التاريخ القديم والحديث لأناس كُفِّروا لأنهم فكّروا ولأنهم عارضوا الفكر المطلق السائد.
لقد هُدّد الفيلسوف العربي مراد وهبة بالقتل سنة 1994و 1996 من جماعات أصولية لأنه طالب بانتهاج الفلسفة الرُّشْدية، أي تبنّي فكر ابن رشد بدلا من فكر ابن تيمية والغزالي، واتهم في مؤتمر فلاسفة في القاهرة بأنه يحمل نوايا مبطّنة وسيئة بتبنّي ابن رشد، وكل ما في الأمر بأن فلسفة ابن رشد قائمة على مقولة: "لا تكفير مع التأويل ولا إجماع مع التأويل"، بينما الفكر المطلق السائد في العالم الإسلامي يطغى فكر الإجماع في الرأي ولا حرّية رأي في تفسير النصوص الدينية، ومن يخرج عن ذلك يُكَفّر، وأنّ الحقيقة المطلقة يجب الاّ تناقش إطلاقا الا من قبل قلة قليلة من الفقهاء والعلماء.
وضمن هذا المفهوم بقيت عامة الشعب تحت رحمة هذه الفلسفة التي تحكم بالمطلق، وقادتها هم الذين يتحكّمون برقاب البشر وبحياتهم وبتفاصيل عيشهم وبطريقة لبسهم ومأكلهم ومشربهم وبنوعية تفكيرهم وبمفردات كلامهم. لم تُعطَ لهؤلاء العامة إمكانية التنوّر والتعلّم وسماع الآخر، فكيف يحدث ذلك ومعظم القنوات التي تؤدي الى ذلك مقفلة، او مفتوحة فقط امام أصحاب الحكم المطلق وبالمطلق؟
اننا خلال فترة سباتنا الحضاري طويل الأمد تركنا الغرب يستفيد ويستوعب تجربتنا الحضارية بسرعة منذ ابن رشد وابن خلدون وابن الهيثم، فانطلق بثوراته الخاصة، فتحوّلنا الى مجرّد مستهلكين لفكره ومنتجاته وفلسفته، وتقوقعنا في الأصولية الدينية والفكر المطلق، بينما هو طرق أبواب الفكر النسبي والعقلاني من أوسع أبوابهما، فأوجد البراغماتية والوجودية، والمادية الجدلية(أي ان التاريخ انعكاس للنظام الاقتصادي الذي يخضع له الانسان)، وتحليل العلوم، وجميعها تلتقي في جذورها من حيث ان الانسان هو مركز الاهتمام على هذه الأرض، بحيث يجب بذل كل الطاقات من أجل خدمته وخدمة نفسه، ويجب عدم حثّه على خسارة حياته هنا كي يربح حياة أخرى هناك. لم نستطع أن نساهم بأية ثورة من ثورات الغرب، ولم نفلح في ايجاد ثورة تخصّنا، ولم نوجد فكرا خاصا بنا يتمثّل بثورة نموذجية، بل بقينا عبيدا لفكر ابن تيمية وفكر اتّباع فلسفة الجمود عند الفكر المطلق الذي حجّرنا في مرحلة اللاتقدّم واللامساهمة لقرون مضت والى الآن.
لقد استطاع الغرب ان يمارس ثوراته الفكرية والعلمية من أوسع أبوابها بينما بقي شرقنا عبداً لمسلسل الحضارات الدينية منذ الحضارة الفرعونية، واليونانية والرومانية والمسيحية والإسلامية، بينما تخطّاها الغرب فشقّ طريقه نحو حضارته العلمية الحديثة التي عمّمها على سائر البشر على وجه الكرة الأرضية.
ليس منطقيا ان نترك الشعب بدون وعي، واذا كنا نظن ان الفكر النسبي والعقلاني هو الذي يجب ان يسود فيجب الا يبقى هذا الفكر سائدا فقط بين المثقفين والفلاسفة، ورجال السياسة، وانما ايضا داخل الشعب، حيث يجب ان تحصل عملية التنوير والتّوعية، بينما نرى ساحة الميدان تصول فيها الأصوليات الدينية كي تبقي قبضتها محكمة حول رقبة رجل الشارع.
الم تلاحظوا انّ ميدان التحرير كاد يعجّ بالأصوليات الإسلامية والمسيحية؟ الم تلاحظوا أنّه عندما تستشرس هذه الأصوليات فإنها ستحوّل الثورة من ثورة علمانية شبابية عصرية الى صراع وصدام وقتل وحرق بين الأصوليات المتنازعة على الحكم المطلق؟
لم يُترك المجال من أوسع أبوابه للفلاسفة والمثقفين والحكماء والمفكرين وشيوخ الفكر لصياغة طريق الثورة المصرية، لذلك فهي لا زالت في مرحلة التخبّط. انها تبدو وكأنما هي ثورة شباب بدون فلاسفة ومثقفين يهدونها الى برّ الأمان.
ان الانشغال المبالغ ولمدة طويلة بالوضع القائم في الثورة المصرية، وعدم التخطيط للوضع القادم بشكل سريع ومدروس من قبل لجنة الحكماء والفلاسفة والمثقفين، يهدّد طريق الثورة ويحوّلها تدريجيا من ثورة شباب طامحين الى الغاء القديم وبناء الجديد، الى ثورة جياع وفوضى، لأنها لا تَطرح حلولا فكرية واجتماعية وإدارية واقتصادية وثقافية مستقبلية سريعة وحاسمة. انّ الصراع المستمر بين الوضع القائم والحاجة الى وضع قادم يخلق أزمة لا يمكن حلها الا بالقضاء على الوضع القائم، وهذا ما حدث في الثورة المصرية والتونسية، ولكن الى الآن لم يتم التحضير او طرح البديل السريع لما هو قادم.
ولكي لا تقع الثورة المصرية في فخّ التكرار، عليها الا تكون شبيهة بانقلاب الضباط الأحرار على الحكم الملكي سنة 1952، فالثورة هنا ليست انقلابا على نظام الحكم وليست بهدف الاصلاح، والا لما صحّ تسميتها ثورة، لأنّ الثورة تعني الغاء الحكم القائم وانتهاج تغيير جذري في طريقة الحكم القادمة بواسطة الشعب.
محكومون وعبيد لديمقراطية رأس المال:
تحاول الثورات العربية ان تتلمس طريقها نحو التغيير والتحرر والاستقلال، ولكن إمبراطورية رأس المال العظمى لن تتركها تسرح وتمرح على حالها، فتتدخل رأساً كي تجيّرها لصالح منظومتها السائدة، لذلك فالثورات العربية تبدو إصلاحية، ولكن هل ستستطيع انتهاج الإصلاح ِبحُريّة وبمعزل عن التدخل الإمبراطوري المفرط في التغوّل والتوغّل والهيمنة؟ هذا ما لم يتضح حتى الآن، فالشطارة ان تنتقل من مرحلة إسقاط النظام السابق والانتقال الى مرحلة تسييد نظام الدولة ونظام المؤسسات ونظام الدستور السامي والراقي، وليس الى الفوضى.
ويتساءل الكثيرون مستغربين: لماذا بعد كل هذا الضغط الشعبي الثوري الانتفاضي والمنطقي لا يتنحّى الحكام العرب عن كراسيهم ويكتفون بما حققوه من مصالح شخصية طوال عدّة قرون متتالية؟ والجواب بسيط: لأنهم لا يملكون حرّية القرار، فهم لا يمثّلون أنفسهم بل هم تحت إمرة شريحة من المشاركين في الحكم، وهذه الشريحة هي القلّة المستفيدة من بقاء ذلك الحاكم "الرمز" على سدّة الحكم، لأنه ببقائه يضمن لهم استمرارية تقدّم مصالحهم وأرباحهم، والمزيد من التملك لخيرات ومدّخرات الوطن. إنهم حكّام مسيّرون وليسوا مخيّرين، بالرغم من الهالة النّبوية التي يضفيها عليهم المحيطون بهم في الإعلام، وهي صورة شكليّة خالية من أية حرية لاتخاذ اي قرار بدون إرادة المتحكّمين بمصائرهم بسبب نفوذهم المادّي والمعنوي. إنهم حكّام دمى في يد المتنفّذين. وهذا ما رأيناه بشكل جليّ مع زين العابدين بن علي وحسني مبارك وعلي عبدالله صالح وغيرهم. لو ان الحاكم وقف الى جانب مطالب الشعب، حتى وإن فعل ذلك بشكل تمثيلي، كما فعل جمال عبد الناصر، عندما تنحّى عن الرئاسة معترفا بمسؤوليته التامة عن الهزيمة، لَكَسِب لنفسه رضى الشعب، لأنّه يعلم علم اليقين مدى حبّ الشعب لتقديس الفرد البطل، ولغفر له ممارساته الحُكْميّة الخاطئة عندما طارد التقدميون والوطنيون وزجّهم في السجون، عِلماً بأنّه، ولأنّه هو الحاكم، كان عليه ان يتحمّل المسؤولية لأنه لم يحضّر نفسه جيدا كي يتفادى الهزيمة، فهو طوال الوقت يطمئننا بأنّ النصر قادم لا محالة، بينما هنا في نموذج الرئيس الذي تتحكّم به قوّة أصحاب رؤوس الأموال المتنفّذين في السلطة، فإنه جزء من حساباتهم المادية، وقطعة من أرصدتهم وممتلكاتهم وقراراتهم وكل تصرّفاتهم، ما يجعله عبدا لأوامرهم، وكلما طالت مدة حكم الحكّام كلما صعب عليهم التنازل عن كراسيهم، لأنهم يُدخَلون قسرا في لعبة انّ الوطن هو ملكهم الخاص وان الشعب يعبدهم بعد الله، وما دام الأمر كذلك فإنهم غير ملزمين بخدمته، فهو يقبلهم عن رضى او بشكل قسري. انها عملية إدمان على الجلوس على كراسي العروش لما فيها من لذّة وتَرف وإمكانية حرّة للمزيد من الهَبْش والتملّك، حالمين بأن يبقى هذا الإدمان أبديّاً، وتحت الشعار المثلث الثابت والمقدّس منذ حكم الملوك الى حكم رؤساء الجمهوريات: الله، الوطن والحاكم.
الغَلبة لأصحاب رؤوس الأموال اذا فشلت الثورات في طرح البديل العادل:
ليس كافيا إسقاط النظام بدافع الثأر والانتقام من الظالم والديكتاتور، بل يجب اقتراح البديل الأفضل. ليس كافيا الانتقام من "الحزب الوطني" ورموزه بدون طرح البديل، لأنّ هؤلاء، وبالرموز ذاتها، سيؤسسون حزبا آخر اسمه: "الحزب الوطني جدا جدا"، وسيستولون على الحكم من جديد، وبدلا من حسني المبارك سيوجدون حسنين مباركين، والى جانب "حزب التّقوى والعبادة" سيظهر حزب "أحباب الله على الأرض وفي السماء" وسيفرضون على البشر تحت شعار فلسفة الإيمان بالطلق أحكامهم الدينية والدنيوية.
إنّ انتقام الشعب الفلسطيني من الفساد السياسي والمالي في السلطة الوطنية أدّى الى انتخاب سلطة أخرى لم تطرح بديلا أرقى يعبّر عن مستوى القضية الفلسطينية التي لم تكن عبر تاريخها الثوري قضيّة دينية، بل أَقرب الى القضية الإنسانية الأممية التي تستوعب أبناءها على تنوّعهم، وليس لأنهم مسلمون او تابعون لدين بعينه. إنها الثّورة الملهمة لباقي الثورات، وبالرغم من تميّزها عن غيرها بأنها لا زالت تحت الاحتلال فإن قضية دستورها تبقى ثابتة، الا وهي مسألة فصل الدين عن الدولة، او فصل الدين عن الثورة، ومواطنوها يرقون نحو الفكر الأممي ويرفضون ان يكون دستورها الذي سَتَسنُّه كشريعة وتشريع دنيوي يفرض عليها ان يكون الحكم الإسلامي هو مرجعيتها القانونية والتشريعية بناء على نظرية من ينادون جهارا بعودة حكم الخلافة، فلا يُعْقل بعد تراكم قرون من الخبرة البشرية والتقدّم والتعلّم، وكل الثّورات السياسية والعلمية والتكنولوجية والاجتماعية أن نتعامى عن تجارب الإنسانية ونطالب بالعودة الى تجربة حدثت قبل أكثر من ألف وخمسمائة سنة، ولأنّ الفكرة التي يجب ان تنوّر طريقنا نحو التقدّم هي ان يكون الدين لله والوطن للجميع، فمصر التي يقطنها 14 مليون قبطي وهم مواطنون أصليون، لا يُعقل أن يُفرض على دستورها بأن يكون الدين الإسلامي هو أصل الحكم فيها، وكون الأكثرية فيها مسلمون لا يعني أنهم يؤيدون بغالبيتهم ان تكون الشريعة الإسلامية هي أساس الحكم، لأنّ الملايين من هؤلاء المسلمين علمانيون، ومن العلمانيين من هو مؤمن ولكنّ لا يحق له ان يفرض تديّنه على الدولة والمواطنين، وإلا فماذا سيميّزنا في سموّنا كبشر ساميّين عن الكيان الصهيوني الذي يطمح بأن تكون دولته هي دولة يهودية بدلا من ان يعيش فيها المواطنون المتنوّعو الديانات والأعراق مواطنين متساوي الحقوق والواجبات؟ ثم كيف نُلصق صفة الإسلام على مصر بينما مصر هي نتاج غنيّ لحضارات إنسانية متتالية عاشت فيها صبغتها بالتجارب الإنسانية الواسعة، فهي خليط وتراكم لتاريخ الفراعنة والرومان والعرب والأقباط واليونانيين والعرب وشرق المتوسّط وجنوبه؟ أيعقل ان نمحو كل ذلك واختصاره بدين وظيفته عبادة الخالق وليس الصراع على الحكم والتلهّي بإقحام السياسة في الدين، ما يقلل من قدسية الدين وسُموّه وما يقلّل من خصوصيّة الهوية المصرية؟
الإمبراطورية هي النموذج الطاغي بحلوها ومرّها:
لقد نتج عن هذا النظام الجديد الرأسمالي المتحكم والحاكم لولايات ولدول ولممالك ولإمارات ولجمهوريات ولكل الكرة الأرضية، مؤسسة مشتركة اسمها الG8 اي الثمانية العظام، والذين تتربع الولايات المتحدة على رأس هرمهم، وتسيّرهم، وهم راضون بها او مرغمون على تقبّل منظومتها المنتصرة، والتي تضمن لهم جزء من القوة وجزء من كعكة رأس المال، ولكي تحسم أمورها العسكرية، فقد أسقطت حلف "وارسو" مع سقوط الكتلة الاشتراكية، وجعلت حلف "الناتو" هو الحاكم العسكري الوحيد الرابض فوق صدر الكرة الأرضية، متحّكما بمصائر البشر وسامحاً لنفسه بإنشاء قواعده على أية بقعة على الكرة الأرضية كي تشكّل حماية لمصالحه المادية والأمنية، وكي يتم تطبيق الفكر الرأسمالي المنتصر على الجميع بدون استثناء.
ولكن هذه الإمبراطورية بالمقابل ليست ساذجة كسذاجة النظم الديكتاتورية العربية المخاتيرية التابعة، بل هي إمبراطورية متكاملة الأوصاف، فيها من الحلو والمر، وفيها كل أنواع الإنتاج المدمّر والباني، فهي أمّ الاختراعات والدواء والمختبرات والفضاء والمفكرين والدستور المتنور وأدوات تسريع العصر والثورة الصناعية والزراعية والرقمية وثورة المعلومات والثورة الذرية والنووية والجينية والفضائية. انهم يشفون الناس من الأمراض فعلا ويساعدون بعض الفقراء والمعوزين فعلا، ويرمون بأكياس الطحين والطعام من الجو عبر الطائرات لمحاصري وجياع أفريقيا فعلا..
ولكنهم في اللحظة ذاتها يرمون من الطائرات قنابل حارقة ومدمّرة ويقصفون ويقنصون ويغتالون ويزرعون السموم ويشوّهون هندسة النباتات والبشر. ولديهم شركات أسلحة فتّاكة وشركات متخصّصة بالاغتيالات والتفجيرات والقصف المدمّر من الأرض ومن الجو ومن البحر، ولديهم السموم والمخدّرات والمافيا..ألخ.
وهكذا يضغطون كي يكون هذا النموذج متّبعاً في سائر الدول والدويلات في أرجاء العالم، وكي يكون نموجا مصغّرا عنهم وتابعا لهم ولا قدرة لأحد التخلص من تضبّعم، واذا لم ينجح الأمر في مكان ما فإنهم يلجؤون الى الحسم العسكري عن طريق تبرير اتخاذ قرارهم هذا بالقول بأنهم يريدون محاربة الإرهاب وزرع بذور الحرية والديمقراطية في نفوس البشر، وأنهم يريدون الحرية للشعوب وحقوق الإنسان، وأنهم إنسانيون يريدون التدخّل من أجل إنقاذ الجياع والأطفال، وتطبيب الناس من الأمراض المستعصية ومن الإيدس والسرطان.
معي او ضدّي ولا خيار ثالث:
انّ مبدعي عصر العولمة أطلقوا الكثير من الأفكار الإبداعية التي تلهي المواطن عن التعمّق في استعمال عقله وفكره كي لا يعي معنى المطالبة في حصّة من حقّه، فألْهُوه في الغيبيات واجترار الماضي واللجوء الى الألعاب المسليّة التي يصرف المواطن وقته فيها مرحليا، وملؤوا له وقته بحيث لا يستطيع التفكير أبعد من أنفه، فأصبحت ألعاب الانترنت وألعاب كرة القدم كالمخدّر الذي يجعل الناس عبيدا للّحظة الآنية، فلا يشغّلون أدمغتهم في الرياضات الفكرية وليس في رياضات الكتابة بالقلم، بل في رياضات كرة القدم، ، فتتغلّب رياضة الأقدام على رياضة الأقلام، وكلما ارتفعت الأقدام على الأقلام زاد الجهل، بينما عندما ترتفع الأقلام فوق الأقدام يزداد التقدم ويصبح مستوى الدولة والمسؤولين والشعب أفضل.
لقد نظّمت الديمقراطية الرأسمالية المُعَوْلمة نفسها بشكل متقن، بحيث سمحت بأن يكون في الساحة تياران لا ثالث لهما: التيار السلفي الديني الذي كلما تمّت تقويته وتشجيعه على التعبير عن نفسه بحرية كلما ازدادت حجّة النظام الرأسمالي بأنه يحارب الإرهاب والتطرف ويسعى الى "الديمقراطية"، وبما انهم على قناعة بأن هذا التيار السلفي يميل الى الغيبية والنّزوع الى العودة الى الخلف عبر التراث والتحفّظ والتشنّج، فإن ذلك يضمن للإمبراطورية الرأسمالية التقدم الى الأمام، ويضمن شلل الطرف الآخر واستعماله كأداة وكتبرير لمزيد من النفوذ والاحتلال، فتكون الحُجّة المعلنة محاربة الإرهاب، بينما يكون الهدف المبطّن المزيد من التوسع والاستعمار والنهب والاحتلال والبطش بخيرات الشعوب. إنّ تدمير البرجين التجاريين في نيويورك في الحادي عشر من سبتمبر 2001 كان أكبر خدمة لهذه المصلحة الإمبراطورية، سواء إذا كانت العملية مدبّرة ومنفّذة بالفعل من قبل تنظيم القاعدة الأصولي، او أنها كانت خطّة مدبّرة من قبل الإمبراطورية المتّحدة، فكلاهما يخدم الهدف ذاته. انهم يضمنون بذلك وجود طرفين فقط على الساحة لا ثالث لهما، فمَن معنا فهو ينتهج ديمقراطيتنا الرأسمالية ومن هو غير ذلك فهو ضدّنا، وهذه أكبر حجّة وذريعة لدى الإمبراطورية كي تبسط نفوذها النهائي على ما تبقّى من الكرة الأرضية وبِرِضى الجميع وبموافقتهم.
اذاً فلا إمكانية أمام البديل الثالث الاشتراكي صاحب نظرية العدالة الاجتماعية والاشتراكية ان يرفع رأسه لأنه سيُقمع فوراً بكل الوسائل، لذلك فإن طريق الثورات الشريفة العادلة ليست معبّدة بالورود، ومن يختار طريقها عليه ان يتحمّل نتائجها الصعبة وان يتحمّل الثمن، وهذا يتطلب تضحية وشجاعة منقطعة النظير، ونضالا ذا نفَس طويل .
عندما يأتي حلف الناتو "من أجل الدفاع عن الشعب الليبي"، فهو لا يفعل ذلك عن تعاطف وحب للشعب الليبي، بل كمدخل قوي للتحكم بكل خيرات القارة الأفريقية، بدءا بنفط ليبيا وخيرات السودان وامتدادا على طول وعرض القارة الأفريقية، وهو جزء من انتهاج النظرية الحتمية للاستعمار الرأسمالي في تطوّره المرحلي. طبعا الاستيلاء على نفط العراق والخليج أصبح أمراً مفروغا منه، وقد أصبح الخليج مَرتعاً للقواعد العسكرية والشركات الماصّة لخيرات العرب بدون منازع. وعندما سُئل الأمريكان لماذا يطالبون بإسقاط النظم العربية ولا ينتقدون السعودية وحكمها الملكي غير الديمقراطي والمتشنّج- وطبعا سائر دول الخليج غير ديمقراطية- ولماذا لا يطالبونها بالإصلاح و"الديمقراطية" الرأسمالية، وبالدفاع عن حرية الإنسان السعودي والمرأة السعودية التي لا زالت في القرن الحادي والعشرين ممنوعة من قيادة السيارة، أجابوا بكل صراحة بأن ما تقدّمه السعودية للولايات المتحدة لأمريكا أكثر بكثير وبدرجات مما كانت تطلبه او تتوقعه منها، فلماذا نطالبهم بالتغيير ما داموا يخدموننا ويخدمون مصالحنا على أحسن وجه؟ ومن سخريات القدر أنّ الولايات المتّحدة وكّلت السعودية بمطالبة النّظام السّوري بأن يخفّف من ديكتاتوريته ضدّ مواطنيه وأن يمتنع عن سياسة القمع وأن يسمح بالمزيد من الحُرّيات. إقلع الخشبة التي في عينك قبل ان تنظر القذى الذي في عين أخيك.
حدود الحرية في الديمقراطية الرأسمالية:
قناة الجزيرة كنموذج لميديا ديمقراطية رأس المال والتعطّش لحريّة الحوار:

تمهيد: عندما حدثت الهزّة الأرضية في أرمينيا ركّزت وسائل الاعلام العالمية الاعلام على كلب يحمل العلم الاسرائيلي وهو ينقذ الناس من بين الأنقاض وحَوْلَه مدرّبوه الإسرائيليون بلباسهم العسكري وكانوا يساعدون على انقاذ البشر من الموت. لم تكنّ البزّات العسكرية أكثر أثرا من قوّة الخبر الميديوية التي نفّذت وعن ذكاء منقطع النظير وملفت للانتباه، والتي تعبّر عن قوّة السلاح الإعلامي عندما لا يكون الخبر في أن "الكلب عضّ الانسان" بل انّ " الانسان عضّ الكلب".

لماذا قناة الجزيرة بالذات؟

ما قبل ولادة محطة الجزيرة الفضائية لم يكن لدينا نحن العرب قناة فضائية مهنيّة تستعمل الإعلام الحديث بكل أدواته العصرية المتطورة وتبثّ على مدى العالم، وليس كما سائر المحطات الإذاعية والتلفزيونية التي كانت تخصّص جُل برامجها لخدمة النظام الذي تمثّله بشكل مباشر، ولم نعتد على مشاهدة برامج يتاح لك فيها التعبير عن رأيك بكامل الحرية، والتي تعطيك المجال للتدرّب على إسماع رأيك للآخر وسماع الرأي الآخر، حتى وان كان الرأي الآخر هو الرأي الإسرائيلي الصهيوني او التقدمي، فهي تقول لك ما دمت صاحب حقّ عليك مواجهة المغتصِب او السارق لوطنك بمنطقك وبقوة حجتك، وإن لم تصل الى المستوى المطلوب لذلك فإن سارق وطنك سيبثّ منطقه وسمومه كي يقنع العالم عبر قناتك بمنطقه وبمنطق وجوده على حساب منطق وجود الآخر صاحب الحق الأصلي. طبعا فإدارة القناة تعترف بأنّ السّماح للإسرائيليين بالظهور فيها إنّما هو جزء من اتفاقية مسبقة، فإذا أرادت حرّية البثّ، فعليها الأخذ بالحسبان انّ إسرائيل موجودة في المنطقة كولاية إضافية من ولايات الولايات المتحدة الأمريكية ويجب إتاحة الفرصة لها بالتعبير عن وجهة نظرها من منطلق تطبيق شعار الرأي والرأي الآخر. إنها تفضّل ان تبثّ بمستوى إعلام الإمبراطورية الكبرى وليس بمستوى الفضائيات المادحة للأمراء والملوك والرؤساء، فهي بذلك تحاول ان تقلّد ال"سي ان ان" وال"بي بي سي" و"مونت كارلو" وغيرها من وسائل البثّ الموجّهة الى الشعوب وليس الى شعب بعينه، ولكن بوسائل الميديا العصرية والعلمية المعَولمة.
انه صراع على منبر إعلامي كي يمارس كل ذي حق حرّيته في التعبير والمنافسة على المتلقّي كي تقنعه بوجهة نظرك. لقد ساهمت الجزيرة مساهمة جمّة في تعلّم الحوار الديمقراطي الحر، بالرغم من النقاش المستمر حول مدى الربح والخسارة في إتاحة ساحتها مفتوحة أمام ممثلي الدولة الصهيونية بإيصال سمومهم المدسوسة في الدّسم الى ذهن العالم العربي. كنا نتعطّش كثيرا الى هذا النوع من الحوار الحر كشعوب تعيش في مجتمعات حكم التوريث وعبادة الفرد والبطريركية والحكم القبلي والعائلي، بينما تتشدّق إسرائيل بأنها واحة الديمقراطية في الشرق، الى أن انفضح أمر عنصريتها الذي كان مفضوحا أصلا، وعدم تفرّدها بذلك عندما برزت الثورات العربية، وبخاصة الثورة المصرية والتونسية، فكيف لدولة ان تكون حرّة وديمقراطية وهي تمارس التفرقة بين مواطنيها وتطالب بأن تكون دولة لليهود، بينما ديانة ثلاثة أرباع عدد سكّانها ليست يهودية، او انهم ليسوا متدينين يهوديا؟
بين إعلام النظام المغلق وميديا الجزيرة الكوكبية:
من هذا المنطلق يجب الاعتراف بأننا استفدنا كثيرا، ولو مرحليا، من هذا التوجّه الجديد. والجزيرة في ذلك كانت تشبه لحدّ معين إذاعة ال "بي بي سي" البريطانية، ومحطة "مونت كارلو" الفرنسية، اللتين تبثّان للشرق الأوسط للمواطن العربي بشكل عام- مع التحفّظ على أنّهما بشكل مبطّن تدسّان السمّ في الدّسم ببطء كي تمرّرا جزءا من سياسات الغرب الاستعماري الرأسمالي- ولا تلتزمان كما الإذاعات العربية والتلفزيونات بالبث عَلَناً لصالح نظام حكم معيّن، ولا تصرفان وقتا للصلوات والأذان والنقاشات الدينية التي لكثرتها تشعرنا وكأن النظام العام السائد هو الدين، وأنّ نظام حكم الفرد الحاكم مقدّس الا وهو الملك او الرئيس او الأمير، وليس نظام الدولة والمؤسسات، علماً بأن الجزيرة تخصّص قسطا كبيرا من برامجها للدين الإسلامي الوَعظيّ، وهي بذلك وكأنما تنقاد الى الفكر المرحلي السائد بدلا من قيادة الحريات العربية نحو الديمقراطية التي تساوي بين الناس ليس حسب المحاصصة الدينية بل حسب كونهم عربا لهم قومية موحِّدة لهم، وليس لكونهم مسلمين ينتمون الى العالم الإسلامي، فما يجمعنا كعرب، لغة وعادات وتاريخ أكثر بكثير مما يجمعنا مع اندونيسا او أفغانستان او باكستان، كمسلمين بشكل عام، وقد تجمعنا إنسانيتنا مع سائر الأمم اذا ما توسّعت قوميتنا الممتدّة عبر الحضارة الإسلامية نحو أمميتنا، ولوجه الدّقة هنا فأنا أميّز بين الحضارة الإسلامية والدين الإسلامي.
أيعقل ان يكون الإعلام متحرّرا من قيود الحاكم؟
الكثيرون يتساءلون بِحَيرة: كيف تتمتع قناة الجزيرة بهذه المساحة من الحرية الإعلامية بينما أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في الخليج تربض بجوار نقطة انطلاق بثّ الجزيرة في الدوحة عاصمة قطر حيث مركز حكم الإمارة؟ كيف يعطون كل هذه الحرية من الرأي والرأي الآخر لدرجة المطالبة بالحريات وتحدّي نظم الحكم السائدة بينما الأمير يموّلها ولا يتدخّل في شؤونها الإخبارية وفي مواقفها من آراء الشعوب؟
ولتسهيل الإجابة على هذا السؤال نسأل عن تجربة سابقة للجزيرة: كيف تدعم الحكومة البريطانية قناة ال"بي بي سي" بميزانيات ضخمة من أموال الشعب البريطاني، وتسمح لها بحرّية التعبير المطلق وعرض الرأي والرأي الآخر عبر برامج الحوارات المفتوحة على كل هواتف وإنترنتّات وفضائيات وإذاعات الكرة الأرضية لكل من تُسوّل له نفسه في التعبير عن رأيه السياسي والاجتماعي والاقتصادي بكامل الحرية، شريطة ان لا يستعمل الذّم والتشهير والتزام حدود الآداب الحوارية؟ كيف تتساوى مواقف الحكومة البريطانية الاستعمارية والداعمة بتعصّب لأمريكا وإسرائيل، مع مواقفها من دعمها لمحطّة فضائية وإذاعية وإنترنتية تتمتّع بكامل حرية إبداء الرأي والرأي الآخر؟
ان وجود ال"بي بي سي" في لندن مدعومة من ميزانية الدولة البريطانية يساوي وجود قناة الجزيرة في الدوحة مدعومة من الحكومة القطرية. ولتسهيل الإجابة أكثر يمكن القول بأن فكرة إقامة قناة الجزيرة في قطر جاءت في الأصل من محطّة ال"بي بي سي"، وهي محطّة بدأت كإذاعة تبثّ بشكل خاص للعالم العربي ولها فروع تبثّ الى كل أرجاء العالم وفي عدّة لغات، وعندما قرّرت التطوّر من محطّة إذاعة الى فضائية تلفزيونية أخذت قطر الفكرة ذاتها وحوّلتها الى فضائية الجزيرة، واستعانت وجذبت اليها بعض مذيعي ال"بي بي سي" الذين يملكون خبرة واسعة في مجالهم الإعلامي. المحطّتان متشابهتان بأنهما لا تعتمدان في ميزانيتهما على الدعايات التجارية بل على دعم خاص من ميزانية الدولة، بحيث لا تكونان عرضة بأن تتحكّم بهما الشركات التجارية الكبيرة، بل تحافظان على استقلاليتهما لحدّ معين، فهنالك شبه اتفاق مبطّن بأنّ المحطّة مستقلّة، ولكنها تتحرّك ضمن خطّ واسع وعام لم يتسنّ لنا كعرب ان نشهده في السابق من إذاعات وفضائيات النظم العربية التي هي في الأصل تخدم النظام الذي يدعمها بشكل مبالغ به لدرجة انها تبدو وكأنها بوق إعلامي مباشر للنظام الحاكم، وبشكل يميل الى الرأي الأحادي وعدم فسح المجال أمام الشعوب للتعبير الحرّ عن لواعجها وإبداعاتها الحرة. السؤال المحيِّر هو لماذا توقّفت الجزيرة بشكل ملحوظ عن سياسة الرأي والرأي الآخر بعد ان انطلقت الشعوب العربية في ثوراتها المتتالية؟
حرّية الرأي في ظل الديمقراطية الرأسمالية:
التفكير المبطّن لهذه الفضائيات والإذاعات وسائر وسائل الميديا المرئية والمسموعة والمقروءة، وعلى شاكلتها بعض الفضائيات الأمريكية، ترى انها تتمتع بهامش واسع نسبيا من حرّية التعبير عن الرأي، ولكنها في العمق تقول لك التالي: انت تستطيع ان تروّج لحرية الاعتقاد الديني، وللمطالبة بحقوق المواطنين وبالحرية وبنبذ الإرهاب وبإعطاء الفرصة أمام المواطن بأن يعبّر عن رأيه بكامل الحرية وبأن ينتقد سياسات الحكّام الظالمين والديكتاتوريين، وان يطالب ب"الديمقراطية"، ولكن كل ذلك منوط بألاّ يُرَوَّج لنظام خارج عن قواعد ولعبة النظام الرأسمالي الأمريكي السائد، وبالاّ يروّج للنظام الاشتراكي او الشيوعي البائد، لأنّ المنظومة السائدة والمتمثّلة بالنظرية الرأسمالية المسمّاة حديثا ب "العولمة"، هي التي تغلّبت حكماً وفعلا ونظرياً على النظرية الاشتراكية، فإنك تستطيع ان تطالب العالم والحكّام بأن ينتهجوا شكل الديمقراطية الرأسمالية التي تشكّل الولايات المتحدة النموذج الإمبراطوري السائد والقائد لها، فإذا كانت مناداتك بذلك شبيهة بالنموذج الأمريكي فهذا طموح مقبول، وأما ما عدا ذلك فإنه طموح يشكل خطرا عليها، وهو ما أطلقت عليه باختصار اسم: "الإرهاب" او "الخطر الأمني". لقد زُرع في ذهن المواطن قولا وفعلا بأن المنظومة الاشتراكية انهارت وانها عبارة عن شكل من أشكال النظام الفاشل، بدليل انّها منظومة انهارت بدون حرب متمثلة بإمبراطورية التوازن في حينه وهي منظومة الاتحاد السوفييتي.
هل الدلال الذي تتمتّع به إسرائيل الصغيرة من قبل أمريكا والتي تحمي مصالح أمريكا في الشرق، لدرجة أنك تظنّ انها ربما تكون إحدى ولايات الولايات المتّحدة هو الدّلال ذاته الذي تمنحه أمريكا لقطر الإمارة التي هي أصغر من إسرائيل مقابل رُبوض القواعد العسكرية الأمريكية فوق أراضيها حيث تقوم بحراسة نفط الخليج من خطر أهله عليها؟
وحتى في الولايات المتحدة التي تدّعي انها ام الحريات، فهي لا تسمح بالتظاهر من أجل تغيير نظام الحكم الى اشتراكي او شيوعي، بل إنها عَبْر تاريخها لطالما قَمعت بقسوة الأحزاب الشيوعية والحركات المعارِضة لهيمنة النظام الرأسمالي. المطروح حاليا عبر النماذج السائدة وعبر الميديا هو "نظام ديمقراطي" لا يتعدى نموذج الديمقراطية الرأسمالية المتربعة على عرش الإمبراطورية الكونية متمثلة بالولايات المتحدة الأمريكية، وضمن هذه الحدود يمكنك ان تلعب بحرية كما تشاء. وبما انّ البديل الثالث غير مطروح بكثافة وبوضوح وبقوة، فلا أحد يعيره اهتماما لا من قبل الإمبراطورية الحاكمة ولا من قبل أصحاب الثورات المتفجّرة حاليا. ولأن الأمر كذلك فإننا أصبحنا نلاحظ التخبّط الذي مرّت وتمرّ به الحركات اليسارية التي اعتدنا عليها إبّان الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة.
اذاً فهذا هو السقف المسموح به لهذه الفضائيات، وضمن هذا السقف تستطيع ان تقول ما تشاء، وهي تشجّع ان يكون رأي ورأي آخر، ولكن أحيانا اذا أرادت في المبطّن ان تشجّع فكرتها الرأسمالية الطاغية، فهي تجعل الرأي والرأي الآخر بين طرفين أحدهما قويّ جدا والآخر نادر الوجود على الساحة، وهذا "النادر الوجود" تبرزه وكأنه ظاهرة كبيرة خطرة، فتجعل المتلقّي يظن انه طرف قويّ فتحاربه. ومثال على ذلك رفع شعارات مثل: الإرهاب الإسلامي، الصراع المسيحي الإسلامي، الصراع الشيعي السنّي، العنصرية بين السود والبيض، او التفرقة العرقية، الدول المارقة، والمقصود بها الدول التي لا تريد ان تخضع لحكم الإمبراطورية السائدة، فتقوّي تقسيم الساحة الى معسكرات متقاتلة متضاربة، بحيث يذهب مجهودها في القتال الداخلي، بينما الذي يسود هو الفكر الرأسمالي الأعلى الذي يستغل هذا الشقاق من أجل المزيد من الهيمنة بأرقى الوسائل التكنولوجية.
هذا ما حدث للعراق من خلال استئجار شركة "بلاك ووتر" الأمريكية لزرع العبوات الناسفة والتفجيرات عن بعد والاغتيالات، وإِلْهَاء الناس بالثأر الطائفي، او إلْهاء المقاومة في مواجهة جنود الإمبراطورية المدجّجين بأحدث الأسلحة العصرية، بينما الشركات الكبرى ملتصقة بآبار النّفط والخيرات كي تمتصها بأسرع ما يمكن كما تمتص "العَلَقَة" دماء الكائن الضعيف. انها تخلق لها القليل من الوكلاء المتعاونين من حكّام ورؤساء أحزاب ومافيات تغريهم بالأرباح، بينما هي تتحكم بهم عندما يضطرون لتخزين أرباحهم في البنوك الأمريكية، وبالتالي تستعملهم كعملاء تتحكّم برقابهم، وتمتص طاقاتهم، ويكونون تحت رحمتها، بحيث يكون كل ما يجمّعون من أموال موجود تحت رحمة الإمبراطورية العظمى، وهذا ما حدث لنظام مبارك والقذافي وزين العابدين وعلي عبدالله صالح وكل الوكلاء والحكام الموجودين في نظام المخترة العربي وسائر وكلاء النفط والسّلع التجارية والبنوك الرابضين فوق خزنة العالم العربي.
لماذا التجربة الماليزية وليس التجربة اليابانية لثورات العرب؟
وجّهت "الثورة المصرية" دعوة للدكتور مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا الأسبق، والملقّب في بلاده ب"المبجّل"، الذي استقال طوعاً بعد 22 سنة من تولّيه منصبه بشكل متتالي، كي يزور مصر وميدان التحرير، ولكي ينقل تجربته الرائعة لثوّار مصر، فلبّى الدعوة ونقل تجربته على خير ما يرام.
لقد تأسّست الثورة الماليزية على كتاب ألّفه مهاتير محمّد، وكان لا يزال يمارس مهنة الطبّ البشري قبل أن يدخل مجال السياسة، واتّهم فيه الشعب الماليزي بأنه شعب كسول جدا، فقامت الدنيا ضدّه ولم تقعد. ما نظّر له في كتابٍ طبّقَه لاحقاً بحذافيره عندما استلم زمام السلطة. انّه الفرد والكتاب والبيئة المستوعِبه لهما ما ساعد على تحقيق الثورة الماليزية.
النقاط التالية هي أساس الانطلاقة:
- انتهاج النظام الرأسمالي مع الاستفادة من التجربة الشيوعية.
- نظام رأسمالي يسمح بالخصخصة، ولكن على أساس الوصول في النهاية الى العدالة في التوزيع وإشراف الحكومة على كل العملية الإدارية والإنتاجية..
- فتح مجال العمل من أوسع أبوابه أمام الشعب.
- فرض طباع العمل المكثّف والإنتاج خلال العمل، بحيث يصل العامل والموظّف الى قناعة بأن الشركة ومصدر الرّزق ومكان العمل سينهار اذا تكاسل، وانّه اذا توقّف مصدر رزقه عن العمل فسيخسر راتبه وعمله، بينما اذا اجتهد وأنتج أكثر فمكان العمل سيربح أكثر وهو سيحظى براتب أفضل.
- إتّباع أخلاق اليابانيين في العمل، ولا مانع من الحفاظ على الحريات الدينية، وبما ان الأكثرية في ماليزيا هي إسلامية، فوقتُ الصلاة يجب الاّ يكون على حساب ساعات العمل.
- الشاغل الأول للناس هو تحسين ظروف معيشتهم، وهذا أفضل من انشغالهم المُبالغ بالخلافات العرقية والدينية، وانشغالهم بصرف جُلّ وقتهم للدين.
- الحكومة هي التي تدير السوق الحرّة كي لا تحدث فوضى وفساد، وهذا يُضبَط عن طريق ضبط عِمْلة البلاد ومنع تدويلها وتعويمها، وعدم السماح للعملة الخارجية بالتحكم بعملة الداخل. كذلك عدم السماح للرأسمال الخارجي بالتحكم في الدولة، وبخاصة ان مهاتير رفض أخذ قروض من البنك الدولي، فأوجد طرقا محلية للتغلّب على العجز جعلته ينجح أكثر.
- جلْب الأجانب ذوي الخبرات ورؤوس الأموال للاستثمار في ماليزيا، واستيعاب خبراتهم، وبعدها يتولّى الخبرة والتنفيذ أصحاب البلد. (لاحظوا الفرق: عندنا نحن العرب أصبح جلب رؤوس الأموال الأجنبية، ليس من أجل الاستقلال الذاتي، بل من أجل احتكار الربح والنفوذ من قِبل النُّخبة المحلية المتغوّلة نفوذا ومالاً).
- القادة نموذج ايجابي للشعب، فهم يشتغلون ويخدمون باجتهاد أكثر من الآخرين.
إنّ محاولة الثورة المصرية تجريب النموذج الماليزي أكثر من الياباني نابع من أنها تشبهها لكونها دولة أكثريتها إسلامية. انها دولة متّهمة بأنّ شعبها شعب كسول واتّكالي. وفي ماليزيا أيضا فشعب المالايا مكوّن من أكثرية إسلامية، ولا مانع من الاحتفاظ بالهوية الإسلامية لماليزيا، ولا مانع من ان تمارِس سائر العرقيات والديانات حرّياتها وطقوسها وعباداتها، فهي بالإضافة للأكثرية الإسلامية، فيها أيضا هندوس وصينيون وبوذيّون وأقلية مسيحية.
ان العامل المشترك بيننا وبين الماليزيين هو في العلم والتطور وليس لكونهم أكثرية مسلمة، فقد تتلاقى المصالح العلمية والمادية والروحية والثقافية مع شعب معين أكثر من شعب آخر او مع أفراد الشعب ذاته، ليس على أُسس دينية، وانما على أُسس تخص الإنسانية عامة، ومن هذا المنطلق فمفهوم الحضارة يصبح كونيا وليس إسلاميا او غربيا. يمكن القول انها حضارة إنسانية واحدة تراكمية متعددة الثقافات، وليس حضارة إسلامية او حضارة غربية.
تذويب الحضارات:
أصبحت البشرية أقرب الى حضارة مشتركة، وستزول عملية صراع الحضارات التي نظّر لها الأمريكي هنتيغتون" بقوله إنّ الصراع الآن قائم بين طرف واحد قويّ هو الغرب المتقدّم والمتطوّر، وبين سائر البشر وفي مقدّمتها الإسلام، وهو يصبّ في الفكر ذاته الذي ينظّر له "فوكوياما"، وهو أمريكي من أصول يابانية من المحافظين الجدد، عندما يقول ان الليبرالية الرأسمالية هي الشكل الوحيد القادر على الحياة والاستمرار، فيها تكون للدولة سلطة محدودة تسمح للمواطنين أفرادا وجماعات بممارسة قدر كبير من الحرية وضمنها الحرية السياسية وحرية التعبير..الخ، والقدرة الحقيقية للشعوب على اختيار الحكومات، وهذا النموذج الذي ينظّر له هو عمليا الرأسمالية الحديثة التي ينتهجها الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية والمتمثّلة بالعولمة.
إنّ التاريخ الحالي يبدو صحيحا بالنسبة لكليهما، ولكنّه تاريخ يسير في ظلّ منظومة رأسمالية تتقدّم باتجاهين غامضين، فإمّا التدمير الذاتي او البناء السامي نحو العدالة الاجتماعية للبشر ومن ثمّ الاشتراكية العادلة، ومن هذا المنطلق ففوكوياما وهنتنغتون انما يعظان في فلسفتيهما للقوّة السائدة حاليا لأنهما يجدان فيها النموذج النهائي الذي يروق لهما ان يقدّماه كنموذج نهائي للتطور التاريخي، وهو ما تدحضه كلّياً وبحقّ وبمنطق، النظرية الديالكتيكية الاشتراكية، لأنّ التاريخ لا يتوقّف عند نموذج واحد غير عادل او فقط عادل.
من الخطر ان ندّعي ونقول بأن التاريخ وصل الى نهايته من ناحية شكل المنظومة النهائية الملائمة فيه للبشرية، بل يحقّ لنا القول بأن هنالك عملية ذوبان للتجارب الإنسانية مع بعضها لكي تسفر عن تجارب أخرى جديدة.
إنّ المأزق الجليّ الذي تمرّ به الامبراطورية الولايات المتحدة الأمريكية هي أنّ مَن حثّتهم على انتهاج نهجها الرأسمالي كي يشكّلوا سوقا حرّة لأرباحها ولتوسّعاتها الاقتصادية والاستعمارية، هم هم الذين أصبحت تخافهم، وبخاصة الصين، لأنّهم تعلّموا اللعبة وطوّروا أنفسهم بحيث لا يعطون فقط، بل يريدون الأخذ بقدر ما يعطون، ولديهم من الخبرة والحنكة والذكاء بأن يصبحوا هم أصحاب النفوذ والمصلحة، بحيث يستطيعون التحكّم باللعبة، لا بل ويستطيعون أن يفرضوا رأيهم وفكرهم على الآخرين، ويستطيعون عاجلا ام آجلا القول بأنهم هم من بدأ فكرة الامبراطوريات منذ آلاف السنين وأنهم لديهم كل المقوّمات التي تجعلهم قادرين على بناء الشكل الجديد والعصري لامبراطوريتهم البديلة.
خلاصة:
هل نجاح الرأسمالية وفشل الاشتراكية يعني انّ النظرية الماركسية خاطئة؟ طبعا لا يمكن الحسم في ذلك بناء على فترة عجزت الاشتراكية في تحقيق ذاتها، فالتطور التاريخي لا يُقاس بمرحلة تاريخية مرحلية وتجربة لم تصل الى اكتمالها، فالرأسمالية قد تبدو ناجحة لفترة معينة لأنها تعتمد على فلسفة البقاء للأقوى، ولكنّ المخلوقات الهوموسابيانية(الإنسان العاقل) تختلف في فلسفتها عن الحيوانات بأنها تستطيع ان تخطّط لنفسها باتجاه العدالة والسموّ الأخلاقي، وعندما تتقدّم في فلسفة استشراسها وحيوانيتها المتوحشة، وعندما تنتقل الى مرحلة الميكافيلية، فإنها تفقد أخلاقيتها الإنسانية، فإنما هي تصل الى الدّمار والتدمير الذّاتي وتدمير الآخر، لذلك فالإنسان يسعى الى خلق معادلة للحفاظ على البقاء من خلال عدم تدمير ذاته، وهذا ما يجعلنا نقتنع بأنّ الرأسمالية ما هي الا مرحلة من مراحل التاريخ، وليست نهاية المراحل، ولا بدّ ان تكون المرحلة الأسمى التي سيحاول الإنسان تحقيقها عبر نجاحاته العلمية والتكنولوجية والاقتصادية والإبداعية وطموحه نحو السعادة العظمى، هي المرحلة التالية.
يحاول العالَم العربي ان ينتقل عبر ثوراته الأخيرة الى مرحلة جديدة قد تساعده على التقدم خطوة الى الأمام، ويمكن ان تكون الخطوة قفزة تقرّبه قليلا او كثيرا من مرحلة التقدم التي وصلها غيره من باقي الشعوب التي قفزت قفزات كبيرة نحو ديمقراطية رأس المال الحديث، التي أوصلت الرأسمالية قريبا من مراحلها الأخيرة حيث تحوّلت الى الاستعمار، وبدأ هذا الاستعمار يفقد شكله الإحتلالي التقليدي، فأصبح معنى النفوذ الرأسمالي العام هو مدى إمكانياتك العلمية والتكنولوجية والمعرفية، بحيث تستطيع ان تنتج ما يكفيك وتصدّر للآخرين في أية بقعة على الكرة الأرضية مما أنتجته، منافساً باقي المنتجين بثقة وباجتهاد وإبداع، وبإيقاع يتمشّى مع سرعة العصر الرقمية والميديويّة الحديثة. عندما نصل الى مرحلة الفكر الرأسمالي الأعلى أُسوة بباقي أسياد هذه المنظومة سنكون جاهزين مع الباقين للانتقال الى مرحلة المطالبة الطبيعية المتطوّرة مع التطوّر الطبيعي للتاريح الى مرحلة العدالة الاجتماعية والتحرر الأرقى.
نحن نحاول ان ننتهج طريقة الاستفادة والتعلّم واللحاق بالمرحلة الحالية من التطوّر الرأسمالي السحري والسريع، والذي يحفّزك على المنافسة ضمن فلسفة ان "الشاطر من شطارته"، ونجد في ذلك مصلحة مشتركة للطرفين، لطرف الإمبراطورية السائدة، ولطرف الطامحين نحو التحرر والاستقلال. نحن بحاجة الى مرحلة الانتقال الى عصر العلوم والديمقراطية وتخطّي مرحلة القبلية والعائلية والتعصّب الديني القائم على فلسفة الإيمان الجماعي بالمطلق بدلا من الإيمان بالنسبية الديالكتيكية، ونحن بحاجة الى تخطي مرحلة عبادة الفرد الذي يحكمنا لصالحه ولصالح القلّة الحاكمة معه، بدلا من ان يخدمنا بموجب قوانيننا الدستورية المؤسساتية العادلة والديمقراطية والإنسانية، وعلى الأقل ننتقل كما تتطلب مراحل التاريخ الى مرحلة "القومية الحديثة" اذا جازت هذه التسمية الجديدة، ومن ثم الى مستوى الرأسمالية الحالية كي ننتقل مع الآخرين الى المرحلة الطبيعية من التطور التاريخي الذي تصل الرأسمالية فيه الى آخر مراحلها، حتى وهي تحكمنا باستعمارها، كما حدث لليابان مثلا ولاحقا للصين، وبعدها سنجرّب ما معنى الاستقلال الذاتي والقدرة على تحقيق إمكانية تقرير المصير.



#راضي_شحادة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- هل تتعاطي هي أيضا؟ زاخاروفا تسخر من -زهوة- نائبة رئيس الوزرا ...
- مصريان يخدعان المواطنين ببيعهم لحوم الخيل
- رئيس مجلس الشورى الإيراني يستقبل هنية في طهران (صور)
- الحكومة الفرنسية تقاضي تلميذة بسبب الحجاب
- -على إسرائيل أن تنصاع لأمريكا.. الآن- - صحيفة هآرتس
- شاهد: تحت وقع الصدمة.. شهادات فرق طبية دولية زارت مستشفى شهد ...
- ساكنو مبنى دمرته غارة روسية في أوديسا يجتمعون لتأبين الضحايا ...
- مصر تجدد تحذيرها لإسرائيل
- مقتل 30 شخصا بقصف إسرائيلي لشرق غزة
- تمهيدا للانتخابات الرئاسية الأمريكية...بايدن في حفل تبرع وتر ...


المزيد.....

- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل
- شئ ما عن ألأخلاق / علي عبد الواحد محمد
- تحرير المرأة من منظور علم الثورة البروليتاريّة العالميّة : ا ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - راضي شحادة - امبراطورية رأس المال وثورات العرب