أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جلال نعيم - Glocal أو عالمو-محلي















المزيد.....



Glocal أو عالمو-محلي


جلال نعيم

الحوار المتمدن-العدد: 3411 - 2011 / 6 / 29 - 02:41
المحور: الادب والفن
    



Glocal!
أو: عالمومحلي!

قصة
جلال نعيم
ما زال الانسان يحاكي أمه الاولى: الطبيعة.. فيصمم سيارته على هيئة حيوان بري... وطيارته على هيئة حمامة او صقر.. وموسيقاه يقلد فيها لوعة العصافير.. وحدها وحشيته.. يخفيها تحت الف طبقة من الرياء واللغة والبدلات الانيقة والابتسامات الأكثر براءة! موهبة!
ج ن


يوم إجازة.. هذا كل ما يحتاجه.. لذواته المنقسمات!
منذ زمن وهو يشعر بانفصام شخصيّته يتضخم!
ارواحه تتباعد. يأكل لينام. ويصحو ليشاهد ال History Channel!
مرات يعتقد بأنه يطارد التأريخ، بينما يدهمه شعور آخر، ينبت في دخيلة نفسه، بان التأريخ ينبع منه ويشرع بمطاردته! نعم.. يشمّ رائحته احيانا وهو يطوف به في عوالم أخرى. عوالم 3D، كما يسميها، لانها تغطي ابعاد عوالمه الثلاثة: الحاضر، الماضي والمستقبل!
العالم الذي يمغنطه، او يفقس فيه، او يتحلّق من حوله بأحجيات أكبر من ان يطرحها ماموث على أوديبات اكثر حيوية وأقلّ بؤسا!
قرأ كثيرا حتى تفرّع في الكون: طولا وعرضا، سموّا وانحطاطا، قلاعا وبحيرات وأكواخ من قصب قديم!
يدخل "ستاربوكس" وكأنه يمد خطوته ليقتحم دار الندوة. ويفاجأ عندما لا يجد محمداً، ولا يستمع لنقاش عن الحجر الأسود! يا للوحشة.. اين يعيش؟
العالم قاحل رغم ضجيجه، او بفضله، ينظر حوله بامتلاء حاسة ما: ما عاد يستعمل عينيه الى بحدودها الدنيا ليرى العالم: هل فقد عينيه؟ أم هي الرؤيا التي تنفذ به، كما يظن طبعا، الى عمق الاشياء وهو يأخذها من ولادتها الى امتداداتها؟
أخبره طبيبه بانه يعاني من ال ADD.. واحدا من أمراض العصر ذات الحروف الثلاثة! أعراضه كما أخبره محرّك الفلك "كَووكَل" هو الملل.. عدم الاهتمام بالآني والتركيز على ما هو نائي.. (حلوة هاي التورية!) ترجمها هو الى: لا مبالاة داخليّة متوحشة بكل ما هو روتيني!
فيما مضى كان يحوّل اهتمامه في الحديث مع اية امرأة باختلاس النظر الى نهديها مثلا! أجمل تكويرة في الكون، كما يحلو له ان يدعوها!، أما الآن فان النهد، اعني الحاضر، قد بدأ يفقد فعاليته، سطوته وتأثيره. يشعر بانه عاشه يوما ما ولكن بسيماء اخرى! وتحت مسميات تقابل بعضها البعض في دوامة تفضح نفسها! ولا يضيره ذلك كثيرا. ربما لانه ادمن عليه أو تعايش معه تحت يافطة اعذب الاسرار انفضاحا: الاعتياد!
لذا، كلّما لامس موضوعا جديدا، تعاجله الخيبة، لانه يبدو اعتق من لوعة شائكة: يتصارع في دراميتها كل من: الحب والموت وما يتجاذبهما!
يا للتاريخ من أخ قحبة! يكذب علينا بسيماء الحاضر؟ هكذا تتشكل خيوطه لتعيد انتاج الشبكة ذاتها!
قبل يومين احتل هتلر العالم. أعني حاول. متواطئا مع الملايين ومسمّرا بحملاته المليونيّة ايضا.. الملايين التي تتفاخر بتحضرها وانسانيتها اليوم رغم إنها كانت تزايد بأشكل وحشيتها منذ أقل من ثلاثة أرباع القرن! هل احتفظ هتلر بسره طويلا قبل ان يشرع بمحاولته؟ أم استهوته انزلاقة القوة الماحقة؟ اي جنون يحكم عالم يدعي عقلانيته؟
الا جنونه الذاتي يبدو له أكثر عقلانيّة! نعم.. نعم.. نعم.. هذا العالم يشبهنا.. عقل وقلب ومعدة وعضلات.. ولكن باختلاف نوعي.. وتعدّد هائل.. وان هذا التعدّد لا يمنع من التشابه.. التطابق احيانا.. رغم حرب الوظائف.. او ربما تكاملها!
هكذا قالها لأحد زبائنه مرة:" مشكلة عالمنا انه يسرع ليلم اجزاء جسده الواحد.. ولكنه ينقسم الى من يحيا في جمجمته او روحه او قلبه.. وفي من لا يتلقى غير خراءه.. لانه يحيا في امعاءه.. عالم وصل اعلى درجات التخصص وتقسيم المهام والادوار الى حد بت اخشى من تطوره اذا ما واصل السير بنفس المسار!"
فأجابه زبونه الاميركي الوسيم:" الحمد لله اننا نحيا في جمجمته.. ونسأل الله ان يبعدنا عن مؤخرته!"

اسكت هذياناتك.. انما تستبيح نفسك لا أكثر!
دون كيخوته من نمط مضحك.. تطاحن طواعين التاريخ وكانها حاضر ابدي مسوّر بقصص متشابكة!
قرأ كثيرا عن حرب بلاده.. اعني حرب راحت ضحيتها بلاده.. حرب انقذتها ولكنها راحت ضحيتها.. ولكن لماذا "راحت" و"راحت"؟ اين عادت او ذهبت؟ اكره الافعال. نعم بتّ أكره الافعال لأن كل فعل لا يتحدّد بفاعله! الفاعل وهم! وقواعد اللغة لن تتمكن ابدا من ان تعكس قواعد الحياة! ربما لأن وظيفتها الأولى ان تضلّلها؟ تنزل الستار ما بينها وما بين واقعها؟ حقيقتها؟ والادهى ان الفاعل، في الواقع، انما هو مفعول به.. او لأجله.. أو فيه؟ او فقط لا يليق به ان يكون الفاعل على الاقل.. ممكن ان يكون حرف جر مثلا؟ مثل بوش الابن؟ او الاب.. او العم! من يتزوج امي.. اسميه واحدا من البوشات مثلا؟ لا ليس هجاء.. انما هي ارادة التاريخ.. او حركته- كما اتفلسف أحيانا- والتي تتراوح طرديّا مع القوى الفاعلة فيه!
بل هي إرادة القوة! السوبر باور!
وهل خلقت السوبر باور ذاتها؟ ام هو الله.. ام حركة التاريخ؟ وهل الله ممل لهذا الحد ليعيد مشاهدة الفلم أوفر اند اوفر؟
إنجب!
يرن هاتفه. يسند قهوته الى الطاولة ويفتح البلوتوث المعلّق في أذنه:
- جي ليمو.. صباح الخير؟
- هل ممكن ان يوصلني أحد الى المطار بعد نصف ساعة من الآن؟
- طبعا.. اوصلك الى الجنة اذا احببت؟
- هو ذاك انت.. لم اعد اذكر اسمك؟ معذرة؟
- جي.. نعم..
بعد لحظات يجد نفسه منطلقة مع حركة سيارته.. وهو يتجه اليها. ما عاد يذكر متى استوعب ان حياته في أميركا تعني ان يمسك عمله بيد وولده الصغير، الذي تركته له طليقته، باليد الاخرى. هو يثق بعقله جيدا ولن يخشى هجمات الفصام المتكررة. قرأ ان العقل يبرمج الذات وكياناتها بما يتناسب والواقع بطريقة شبه ديجيتاليّة. بمجرد ان يضع شيئا مكان آخر وينطلق، في عملية إحلال دائمة، كما يستبدل غذاء بآخر، او كما يتفاعل مع فلم بعد آخر مرّة بحرارة وحماس وأخرى برؤيته لذاته اكثر من تماهيه مع شخصيّاته! الفرق دائما، فيما نحياه، فيما هو أكثر مللا، او ما هو أكثر إثارة للاهتمام!
A D D طبعا!
هو يعرف جيدا ان الذات انعكاس للعالم الذي تحياه بأجزاء كثيرة من معطياته، سواء بالصد او بالاندماج، بالتواؤم او بالتناحر، لذا رفع منسوب طاقته لحب الاشياء والاتفاق المشروط معها: ان لا تحب الفاصوليا معناه ان تخسرها انت.. لأنها لا تخسر أحدا! وأما العالم فهو ما نستورد منه من الاشارات ونبقيها احيانا، نحتفظ بشيء منها، نخمّرها، او نقذفها، مثل فيلم تتمنى لو لم تشاهده او حدث لم يعد يهمك ان تحياه!
مغرم بالسينما ابن الابنللل!
كذلك يعرف بان لحظاته القادمة تدعوه دائما للخوض فيها بنداء داخلي، رغم انها تحتفظ بمسافتها الخاصة في الغموض والتشكل والانفلات او الانطباق! يتفلسف على نفسه كثيرا مثل شاعر رغم ان نيّته غالبا تأتي من محاولته لتوليد لحظة باذخة أكثر من نيته باختراعها فيما بعد كقصيدة! لأنك إما ان تحيا او تتحول الى شاهد/كاتب لما تحياه! القصيدة للعالم بينما اللحظة هي ما يحتفظ به لنفسه، نفسه وحدها، المستحق الرئيسي والوحيد لاستهلاك منتوجات روحه! لذا فهو يحاول ان يخلق لحظة غير قابلة للبيع والشراء او المبادلة المفجعة: التخلي مقابل الاعجاب او تبضيع الذات ومنتجاتها لنيل شهرة من نوع ما! ولكنه لم يعد يذكر منذ متى بدأ التاريخ يهمس له في نداء داخلي ناعم ويخلق له بعضا او شيئا من تلك اللحظات؟ يفقس فيه ثم يسيل، مثل دماغه وهو يذوب، الدماغ سائل، وسريع التأثر والذوبان، أو هو كما يعرّفه العارفون: أعلى تشكيل للمادة تفرز الوعي.. وتساهم في حركة التاريخ! اويلي يالتاريخ! وماذا عن الاقدام؟ الحناجر؟ الافكار؟
هو ذاك. العقل وظيفته افراز الوعي. ولكن هل ينتجه؟ هل يتولّد منه مثل لعاب أو طنين او محض خراء؟
الخراء هو ما سيقودك للانتحار يوما!
لا أحد ينتحر من ال ADD غير المراهقين! يقول "غووغل"، سلام الله عليه، ان %3 فقط ينتحرون من جرّاءه.. ارتاحيت؟
لا على العكس. انت واهم. أنا اسعد حشرات الكون بؤسا. الانتحار ترف لا ارتجيه!
أممممممممممداك لعد! تسطّر جملا فارغة أحيانا وتحاول ملئي بها.. مثل حذاء فارغ يبحث عن قدم إضافيّة!
وك ليش؟ مو هسة جنا اصدقاء ونسولف؟
انقلاب مؤقت. لا تقلق. شيء من الدراما في لعبة تعدد الارواح!
ودار الندوة؟
إنجب. خلينا نسوق عالخط السريع. وبلوس انجلس مو بمكة.
اويلي عالفايخين!
التفكير ترف لا راد له! لم تقل ذلك أمي طبعا! ولم يفكر به ابي. ربما لانه كان مشغولا بممارسته دائما وهو يستمع الى اذاعة لندن!
البي بي سي!
نعم. وهي مثل ستار بوكس. تمد شبكاتها الى آخر العالم. ولا أحد يدقق فيما تقوله. او تقدمه. رغم انها: وأعني البيبي سي وليس امك؟ تدار بظلال من المخابرات البريطانية! وأحلفلك.. بأمر معلن ومنشور ووثائق! رغم ذلك العالم منشغل بالاستماع اليها متجاوزا خبث اصلها وفصلها! وهذا ديدن عصرنا!
طبعا. مثل عاهرة جميلة. وأنت في قمة اللذة تنسى غايتها ولا تذكر غير حسنات طلّتها! ألم تقل بأن ما نحياه يجعل ارتقاءنا الى قمة اللذة مسألة فيها نوع من الارتباك: لأننا بتنا غالبا نحيا في قممها وليس في سفوحها؟
طبعا.. لأن ما يتمتع به الانسان العادي حاليا يتجاوز، بمجمله، حتى ما حلم به اي قيصر او خليفة مهما كانت درجة وحشيّته!
انجب متآمر! لانك من دعاة نظرية المؤامرة!
لك بابا احنا في عصر جليدي. الجليد يغطي حتى الأرض التي ننظر اليها ولا نراها! كذلك العالم نحيا ونفكر فيه، وفقا للمعطيات المقدمة الينا، ولكننا لا ندركه!
ربما بسبب الكم الهائل من المعلومات؟
نعم. والمعلومات، وإن كانت صحيحة، فانها تملأ العقل ولكنها تعطل الحواس.. والحواس هي صاحبة حقوق الطبع الكاملة لما نسميه: الادراك! لذا وكأنك تحيا مع، او في، إمرأة ما طوال حياتك.. وانت بلا شك تعرفها.. الا انك لا تدركها!
لأن عصرنا مزدحم بالرموز والاشارات التي تغطّي التوجهات ولا تكشف غير الخزعبلات! وكل يحاول ان يخفي غايته في محاولة للأغواء! من البائعين الى السياسيين! وانت ما زلت تفكر بحفر خندق للتهيؤ لخوض حرب قادمة!
ممسوس!
لا محسوس. ابن الكلب!
هو التاريخ يتكور على الحاضر مثل نهد. او كدوّامة من موت وفرح وبساتين لا تحيا فيه غير الاشجار التي تتحول الى اعواد مشانق مرة وقصائد مرات!
انت عاجز.. لا أكثر!
لست عنينا. هو فقدان للرغبة لا اكثر.
انما هو العجز من مسايرة الحاضر الذي تحياه!
تذكر يوم كتبت قبل اسابيع جملتين: ربيع عربي أم ثورة فرنسية؟
حرية، إخاء، مساواة؟ واهم! العالم اكثر تواشجا من قيطان حذاء الآن.. ولن تتمرد عقدة مصرية او تونسيّة عن نسيج تكوينها وتواشجها ببقيّة القيطان!
ولكن عليها ان تلتف بشكل ما!
نعم واخشى ان تلتفّ على نفسها.. مثل افعى تقبض على عنقها.. لان المطبلين لها يريدون لها ذلك!
غامض وجاهل!
ولكني لست عاجزا.. اننا كثيرا ما ننسف العالم ونعيد بناءه مستخدمين توترنا الحسّي! وكأننا ما زلنا في مرحلة اليوم خمر وغدا أمر!
وليش ما تقول التوتر الجنسي؟
الحسي اوسع.. يتضمن مثلا كتابة قصيدة.. أو معانقة امرأة، ومو شرط اختراقها،او التمتع بالنظر الى شجرة او حشرة تعجز عن اختراقها بعضوك.. ولكنها تجعلك ترتجف مثل ورقة لا معنى لها!
مجنون!
مفصوم مع ADD
اي بس تتقمص وضع جوزفين احيانا اكثر مما تتمثل ببونابرت؟
جوزفين كانت هي السلطة الوحيدة التي لم ينلها بونابرت.. يفتح البلدان باسم الثورة الفرنسية بينما يعجز عن فتح جوزفين بالشكل الذي يتمناه! مطي! ألم تشاهد كاليغولا؟
الفلم؟ شاهدته والحسن؟
ولكن لم يستوقفك المشهد الاول، عندما يقف ومعشوقته، التي هي اخته، وهما في الغابة يحدّقان في اللاشيء؟
انما يحدّقان في القمر!
كان هو اللا شيء الذي حلم بامتلاكه كاليغولا.. وبرّر كل قسوته بعدما قتل ابيه القيصر وجلس مكانه، حاله كحال أمير قطر، من انه عجز عن امتلاك القمر!
وما علاقة كاليغولا.. ب "ابو موزة" او شيخ قطر؟
لك بابا.. التاريخ مثل الواقع اليومي، ويتشكل منه، مبني على مجموعة من المستحيلات التي يمكن ان تتحقق من خلال فرد، اي فرد، شرط ان يملأ فراغه المفترض! وأبو موزة أداة وكان عليه ان يتبنى خلق "أداة الجزيرة" ويحول بلاده الى أداة ايضاً ويقنع بأن العالم بات مصنعا للأدوات من اللبسان الى الأوطان!
الجزيرة.. والبلدان غايات ووسائل.. في نفس الوقت، حالهن كحال النساء؟
ايها المنتعض! لطالما خشيت على نفسي منك وما قد يترسب فيك او منك.. وها انت تثبت لي بأنك لست اقل انحطاطا من منضدة!
لست لا وعيك؟
وعيي اكثر ترتيبا وأقل سفالة منك!
انتقيت المهمة السهلة طبعا. وهل هنالك اهون من ترتيب الوعي؟ حزمة مقولات، اخلاق وقوانين، وقواعد وما عليك الا ان تتقيّد بها! بينما لا وعيك يتورط بكل ما هو غير عاقل.. وغير خاضعة للمعرفة المباشرة.. ورغم ذلك يقع على عاتقها تحديد السلوك في اللحظات الحرجة!
الوعي تحضّر واللاوعي همجيّة.. خاصّة في جينات حديثة العهد بالتحضر مثل جيناتي! ها انت تستغل خلاصاتي بانتهازيّة مفجعة!
فلنقل أستثمرها. وهذه هي مهمتي. ولن انتظر ترخيصا منك لاستخدامها.. رغم اني أشهد بسلامة ردود فعلك المباشرة.. ومصادرتها من حيّز سلطاتي!
ههههههههه شيطان! ولكني اعرف كيف اغلبك: بالجدل الدائم!
الحوار؟
تعني الاهانات المتواصلة!
طبعا.. مشكلة عالمنا هو بالاستسلام لأمثالك!
د.. اشتغل اشتغل!

يستدير بسيارته ليقف بها خلف المبنى. أنزلها هنا قبل يومين.
ستأتي بعد لحظات. لا تفضحنا؟
مممممممممممممم
لم يعد يتذكر ملامحا لها، ولكنها ما ان اطلت ساحبة حقيبة سفرها حتى ميّز شيئا فيها: تبدو أكثر آدمية!
بس تحكي عالعالم؟
اقصد أقل آلية.. يا حيوان!
- هاي جي!
- هاي.. آسف لأني لم أجد الوقت لأرتدي يونيفورم العمل!
- أنا الآسفة.. أنهيت مهمتي بسرعة.. وشعرت بالملل من البقاء في المبنى بانتظار موعد طائرتي.. فقلت أذهب للمطار وانتظر هناك!
كان قد وضع حقيبتها في صندوق السيارة وفتح لها الباب وتلصّص على مرتفعات نهديها حتى سمعها تعتذر له:
- شكرا لإنقاذي من جو العمل الخانق!
أجابها ضاحكا:
- هي رسالتي في الحياة.. بانقاذ مسكينات جميلات من اقفاص الغرف المغلقة!
ابتسمت بحيرة. بينما اغلق باب سيارته الخلفي دونها. لاحظ بأنه يتصرّف بأكثر جرأة، وصلافة احيانا، مع الزبائن الذين يعرف بأنه سيلتقيهم لمرّة واحدة والى الأبد! انطلق مرة أخرى بعد ان نصب "النافيغايتر" باتجاه المطار، وبحث عن اغنية مناسبة لزبونته بعدة نقرات على "آي فونه".. فانطلقت منه”Hotel California” !
- أووه.. واحدة من أغنياتي المفضلة!
- هذه الأغنية؟ أسميها داحضة الكتب السماويّة؟!
أطلق تعليقه والتفت ليها ليلمح ردّة فعلها. لعبة كثيرا ما يمارسها بحكم الخبرة!
- وما دخلها بالرب؟
- ههههههههه إشاعات أنترنيتيّة تدّعي بأن الشيطان هو كاتبها!
أجابت من دون ان تبادلني الضحكة:
- ربما لأن أغلب أعضاء ال" The Eagle!"، الفريق الذي كتبها وغناها وعرف بها كانوا من عبدة الشيطان؟
- قد.. ولكني قرأت اعمال الرب الكاملة ولم أجد فيها ما يعادل مقطعا واحدا يضاهيها.. أليست مفارقة ان يكتب الشيطان بجودة تتجاوز بكثير ما يكتبه الإله؟
لم يضحك هذه المرة، ولكنه لمح أشباح ابتسامة في صوتها القادم من المقعد الخلفي!
- سواء أكان الرب او الشيطان او الفريق كان كاتبها.. فان فيها غموضا يدعو لمطاردة كلماتها اكثر!
- تعرفين بأن هنالك من يقول بان "فندق كاليفورنيا"، الذي تحكي عنه الأغنية، على بعد أميال من هنا؟ وهو عبارة عن بناية مهجورة كانت مصحّة للأمراض العقلية والنفسيّة؟
- ظننت انه فندق ما في صحراء المكسيك؟
همهم لها:
- أساطير أمريكية!
- ماذا تعني؟
- أغلب شعوب العالم مسكونة بأساطيرها القديمة.. لذا فهي عاجزة الى حد ما عن توليد اساطير جديدة.. وحتى أساطيرها الجديدة، ان وجدت، تكون محاكاة للقديمة.. على العكس من أمريكا.. ربما لانها بلا ماض.. لذا فأن قدرتها على تحويل الحاضر والمستقبل الى اسطورة لم تنضب بعد! وهي لا تمتلك فقط الموهبة والضرورة لتوليد الاسطورة.. وانما هي صاحبة أكبر قدرة على نشرها وترسيخها ايضا!
- واااووو هذه زيارتي الأولى لها.. ولم ار فيها شيئا غير المكاتب والاجتماعات والأرقام!
- اسمعي نهاية الأغنية/الاسطورة!
رفع صوت السي دي في دعوة صريحة لمراجعة آخر مقطع فيها:
You can check out
In anytime
But you’ll never leave!
بامكانك ترك الفندق
في اي وقت
ولكنك لن تغادره أبدا!
خفض صوت الموسيقى وضرب بسبابته على هاتفه المعلّق امامه:
- وهذه واحدة من لعناتي!
- هههههههههه فقط واحدة منها!
- نعم. فمنذ ان جئت الى لوس أنجلس، من عشرةأعوام، وأنا لا أقوى على مغادرتها!
- لست وحدك! يبدو انه عشق المدن يجري في دمنا جميعا! أنا من ام ايطاليّة وأب بريطاني.. وأحلم بمغادرة باريس منذ خمسة عشر عاما.. ولا استطيع!
- غربة ثم ألفة ثم عشق!
- ربما هو الخوف من استعادة الغربة مرة أخرى.. والبدء من الصفر!
- أو ربما لأننا قطفنا من جزء ما غير جذورنا؟
- مرات أشعر بأني، او الانسان الغربي المعاصر، لا جذور له.. ويلتصق بالارض التي يحيا فيها بمغناطيس ترابي.. لذا فهو لا ينبت بقدر ما يبني عالما لا أسس بنائيّة له!
- ربما بسبب تيسّر الأدوات: اللغة.. الأسواق والبشر؟
- وماذا عن الآخرين؟
- الآخرون نتعامل معهم بنفس حدود المسافة التي نرسمها لعلاقتهم بنا!
- على السطح؟
- ربما.. والأصح على القانون العرفي الماشي.. عابرون نلتقي في مقهى او مولل او حتى فراش!
لاذت بالصمت عندما لمّح لها بالفراش.. وهو ديدن المرأة/الفريسة، وهي تتقن تجنّب أسهم الرجل/ الصيّاد، وتستلذّ به!
ومثل أي صياد محترف عليه ان يستدرك ليقطع صفنتها فواصل:
- أعتقد ان العولمة قد حولت البلدان الى ماركت.. والمواطن الى مجرّد زبون لا يشبع يلهث وراء بضاعة رخيصة.. هكذا تعاملنا حكومتنا الأمريكيّة على الأقل: Just like any shitty costumers!
ضحكت بانفجار صغير لا يخلو من نعومة. حاولت أن تغادر كركرتها لتقول شيئا ولكنها غرقت في نوبة ضحك أكثر إختناقا وإغراء! التقط نظرة لوجهها الذي أحمرّ.. فبدت له أكثر أنوثة بكثير مما رآها أول مرة وهي تحكي بطريقة وظيفيّة قبل يومين من ذلك! وقبل ان تهدأ عاجلها بسهم آخر:
- خذيها مني! بشهادة مواطن نصف أمريكي على الأقل!
- اي.. بس.. (ضحك) فوجئت بوصفك!
- أتعرفين بالوصف الايطالي، من طرف أهل أمّك يعني، للسياسي المعاصر؟
- لا!
- السياسي المعاصر يا سيدتي: له رأس بوش الفارغ الا من عنصريته!
وأخلاق برلسكوني المنحلّة!
وقلب بوتين الذي لا يعرف الرحمة!
أضاءت عيناها بضحكة أخرى وأضافت:
- وابتسامة ساركوزي الصفراء!
- نعم.. ومؤخرة ميركل! وصفاقة المالكي!
بالغت بالضحك قليلا وقد استنفدت طاقتها وسألت:
- ومن هذا الأخير؟
- حشرة عراقيّة.. ولكن بامتياز ايراني أمريكي براغماتي خالص!
- أنت من هناك اذن؟
- نعم.. رغم أني أشعر بأني بت من كل مكان!
- لماذا؟
- ربما لكثرة أشباهي! اولست مثلي تماما؟ اشمّ ذلك من إرتعاشة روحك مع كل ضحكة وأنفي لا يخطيء؟
أجابت محاولة تهدئة نفسها وهي تمسح عينيها:
- وكيف عرفت؟
- سأروي لك حكاية: كان ياما كان.. كان هنالك شعب، يطلقون عليه اسم الشعب الأمريكي، في طفولته ارتبط هذا الشعب باسطورة او حكاية دكتور فرانكشتاين.. الذي حاول الوحش الذي خلقه ان يقضي عليه!.. ربما لانه في دخيلة نفسه يشعر بأن أوروبا، وبريطانيا ومن ضمنها ايرلندا طبعا، هي دكتور فرانكشتاينه الذي افترسه فيما بعد! ولكن بعد ان تهذّب قليلا، من الداخل اعني، وكشعب.. بدأ يشعر بطريقة مختلفة ظلت غامضة عليه حتى جاء الى عالمه طفل من أصل يهودي، لا تنسي وصف اليهودي التائه قبل انشاء دولة اسرائيل، فخلق هذا الطفل معادل موضوعي اليه، حتى انه لم يغادر طفولته حتى في تصوراته عنه، وكان هذا الشعب او من عبرّ عنه.. هو أي تي.. بينما كان الطفل هو ستيفن سبيلبرغ!
- لم افهم!
- يبدو اي تي طفلا أكثر منه كائنا فضائيّا! صح!
- صح!
- منفصل بشكل ما عن ماضيه! حاله كحال المهاجرين البيض في البدء ثم حاله كحال العبيد الذين استقدموهم بعد ان فصلوهم قسرا عن عوائلهم وقبائلهم؟ صح؟
- طبعا.. ؟
- ومن تعامله بعد حمايته من قبل الطفل الأمريكي اصبح اي تي أكثر انسانية من مطارديه وهم: البوليس والاعلام والاف بي آي.. اي السلطة بكل أشكالها! لذا فرغم انه استمتع كثيرا بالسكر وتعلم اللغة وركوب البايسكل ومشاهدة الأفلام الى انه حاله كحالنا ظل يحن الى أهله.. وبلاده او مركبته الفضائية: دلالة المستقبل.. صح؟
- الى حد كبير!
- وكأنه في كل ذلك يعيد علينا مقولة المسيح: مملكتي ليست في هذا العالم.. ولعله كان يعني الأرض! لأن مملكته في الفضاء.. وبيته الحقيقي في المستقبل! أما في الحاضر فعليه ان يطمر ذاته الاولى.. صفته الحقيقية التي لا تصادرها الاجهزة الأمنية والاعلامية وحدها.. وانما كل تشكيلات المجتمع المغّرب عن ذاته وكينونته! لذا فان الشعب الامريكي يهرب للحلم.. السينما مثلا، كصانع وكمتلقي! يهرب من ضياعه وانفصاله الحقيقي عن كينونته بالمتع واعادة انتاجها وتوليدها.. ويسحل العالم وراءه.. ليس لأنه كائن سلبي بطبيعته.. وانما لأنه يولد حاجات جديدة، بعضها لا ضرورة لها بالنسبة لغيره، او قياسا لغيره من الشعوب، كما فعل مع الهنود الحمر بإدعاء ربطهم بالعالم المتحضر، وهو بذلك انما يخلق خلطة تاريخيّة جديدة ستوصم جينات الكون كله بها من حوله!
صمت هو بعد ان تنبه الى نفسه. رآها مستغرقة وكأنها تفكر بشيء آخر. ساد الصمت للحظات. ثم غير الموضوع:
- كم الساعة ستطيرين؟
- التاسعة والنصف مساء!
- اوووووووووه لديك اربع ساعات؟
- افضل الذهاب مبكرا.. يقولون ان الوصول الى المطار اكثر مشقة وخطورة من صعود الطائرة!
- طبعا.. خاصة اذا وقعت في براثن سائق متفلسف مثلي!
أجابت دعابته بشحنة غريبة ما:
- أخشى ممن أعرفهم حق المعرفة أكثرممن التقيهم مصادفة!
- ربما لأنهم يلتزمون بالمسافة الكافية لنحتمي منهم وفيهم في الوقت نفسه!
حلّق صمت مرتبك للحظات أخرى. فكر بمشروع ما. انتظر أكثر وهو يوحي بانشغاله بالبحث عن شيء ما في "آي فونه!". ثم:
- أنه يوم اجازتي، كما كان يفترض قبل مكالمتك، لذا يمكنني ان ادعوك للتنزه قليلا على سواحل الباسيفيك؟
نظرت في ساعتها. وأومأت براسها موافقة:
- سمعت بأنه لا يبعد كثيرا عن المطار؟
- طبعا!
أجابها بفرح وانعطف بسيارته في شارع ضيق. لتطلّ سيارته على صفحة البحر تماما!
مرحبا أيها الباسفيك!

* * *
دُهش من لا رغبة له بالنيل من شيء منها سوى اعجابها. ربما لانه يعرف جيدا بأنها راحلة وبعد ساعات ستكون واحدة من مليارات من البشر: رائعين وسعداء او العكس، ولكنهم يبقون بعيدين اذا لم نسمع منهم مباشرة او لم نسمع عنهم في عالم لا تعرف كيف ينتقي أخباره في زحمة البشر والهموم والاهتمامات! ولعلّ ثورة الاتصالات قد حلّت لإدارة هذه الكتل من البشر بوصفهم كتلا وتكتّلات وليس بوصفهم أفراداً تعج رؤوسهم بالاهتمامات!
لاحظ اكثر من مرة بأن انتماءه يكبر للافراد ويتحد معهم، كل على حدة، كلما تخندق معهم، او وضع في سرداب حشري يرعد فوق سطحه هدير الطائرات! ثم.. ينفرط العقد ويفقد اهتمامه عمليا، او بالاحرى تتشعب السبل وتتسع الهوّات ما بين الأنا والهذا والذاك الى درجة تفقد ضرورة وجود ال ذاك بعد ان خرج من الحيّز الفيزيائي للأنا! هي أنانية مركبة؟ أم مجرّد وضع طبيعي يتعمّق مع اتساع العالم الذي نتوهم مايكرويّات حجمه!
لا يهم، هي الى جانبه الآن وقد منحها فرصة استنشاق هواء الباسيفيك واستيعاب الوجوه المبهجة من حولهما وهي نصف عارية او نصف مرتدية لثياب ترمز لما خفي تحتها اكثر مما تخفيه!
قبل ان يركن سيارته أخبرها بنظرية مقاومة الكآبة العابرة بالتطلع في وجوه الفرحين وإدارة السؤال: لم كل هؤلاء البشر فرحين بينما تطاردني كآبة حتى لو كانت عابرة؟ ويأتي الجواب، عمليّا ايضا، وبالدرجة الأساس بأن التوحد مع الآخر، القريب، الما حولك، يجب ان يضفي جوّا سعيدا على تذوقك للاشياء معهم! ومن هنا تأتي بهجة مشاهدة الفيلم في قاعة السينما/الحلم.. اذ تشعر بمشاركة العيون كلها وهي تسقط على نفس مربعات الضوء التي تتجه عيناك للنظر اليها! اليست معجزة!
نعم ولكن التلقي مختلف!
ها يا ملعون.. رجعت!
طبعا أنا هنا دائما.. ولكني امنحك هدنة عندما تكون في موقف أكثر إثارة مما يمكن ان أقوله لك.. او موقف فيه هذا الحد من الحساسية: مع إمرأة استلطفت قضاء بعض الوقت معها في يوم اجازتك! ولكن ضع في حسابك.. بأن هذا لا يلغيني بقدر ما يجعلني أتماهى معك الى درجة يصعب عليك فيها التفريق ما بين تخلفي ووحشيتك!
نعم.. نعم.. أعرف.. كلانا واحد.. ولكنك تلتفت الى الماضي الذي شكلك بغفلة وعي مني.. بينما أحاول التركيز على الحاضر باعتباره التكتيك الذي سيقود لستراتيجية ما يسمونها: مستقبل بينما هي ماضي يعيد انتاج نفسه باستمتاع أزلي!
اي تعيقل عليةّ!
لك بابا.. انما انا استبطن ذاتي، او عقلي، واحاول استكناه شيء من آليات عمله!
ميخالف.. ميخالف.. ركز معاها هسة.. واريدك تبيّض وجه!
ايا ملعون!
التفتت له وفرحة بحريّة تتألق في عينيها:
- تعرف.. سكنت لشهرين قرب البحر.. في الاسبوع الاول كنت فرحة به جدا.. ولكن بعدها لم أعد أراه وهو أمامي.. وصوت أمواجه تصلّ في أذني... الآن أراه بعين أخرى!
- طبعا.. قاتل الله الاعتياد!.. لذلك كنت اخشى الإرتباط بإمرأة باذخة الجمال!
تساءلت وكأنها تختبر إجابته:
- لماذا؟
- لأني بعد فترة سأفقد الإحساس بجمالها.. اذا ما كانت روحها عكس ذلك.. بينما لن تكف هي عن النظر الى الجمال الظاهر منها.. وليس الكامن فيها!
- معادلة خطرة!
- ليس دائما.. هههههههههه هذا يتوقف على من اية زاوية تشعرين بالجمال الذي تتحلين به؟
- لا.. أدري.. ولكني اعرف بأنه متعة لآخر.. ويمكن لاية إمرأة ان تستخدمه كنوع من المساومة مع الآخر للوصول الى أفضل عرض يمكن تقديمه من غابة من الرجال!
- غابة!!! هناك نستخدم التعبير نفسه.. رغم ندرة الغابات بعيدا عن افلام طرزان وشيتا!
- ههههههههههه وتلك قصة أخرى! هههههههههههه
استرسلت بالضحك بينما بقي مزبهلا في مكانه! لاحظ بأنها اما تنحني قليلا للسيطرة على ضحكتها، او تطرح رأسها الى الوراء وكأنها تحاول ان تستنشق مزيدا من الهواء مع كل ضحكة:
- تعرف.. كنت، كما اغلب البنات، اتمنى لو ارتبط برجل يعاملني مثل شيتا!
- تحبين الطرزانيين اذن؟
لم تضحك. وأجابت بصرامة من يذكّر نفسه بخطيئة لا يرغب بتكرارها:
- وتزوجت واحدا منهم.. انتهيت معه بعد ان نبتت لي بنتين!
سألها متخابثا:
- عثرعلى شيتا أخرى؟
أجابت بأسى:
- طبعا.. وغابة أخرى.. أكثر رخاء!
ثم بنوع من السخرية وهي تنفخ عضلات زندها:
- أقول لك طررررزززززاااااان!
منحها لحظات صمت أخرى مخيرا أياها ما بين البوح أكثر أو الكتمان. أرخت مؤخرتها على الرمل وعقدت رجليها وهي تمص "السموذي" الذي بدأ يسيح في كوبها البلاستيكي:
- مشكلة كبيرة.. عندما تمنح الطرف الآخر فرصة دون ان تدري بأنك انما تمنح نفسك هذه الفرصة لاكتشاف اذا ما كان بامكانك العيش في وضع هو أقرب للمأزق الذي لا حل له!
- هو ذاك!
- قلت لي بانك مطلّق منذ عام؟
- نعم. ومعي ولدي الضغير نقضي معظم الوقت نحلّ الغاز الدنيا معا!
- لذلك تستنبط علاقات جديدة للأشياء؟
- لا أملك بديلا! هههههههه إكتشفت ان وعينا هو أضعف أداة من الأدوات التي يمكننا استخدامها للعيش في هذا العالم! أما الباقي فوظيفة السيستم والذبذبات الاشارية التي تصوغ أسس دفاعاتنا اللا واعية!
شعر بأنها حزرت عدم رغبته بالحديث عنها، نظرت له وكأنها تحثّه، او تستفهم منه، ولكنه واصل وذهنه معلّق في سماء أخرى:
- نوع من فرويدوية جديدة!
ضغطت على كفّه بتعاطف:
- وهي؟
إرتعش صوته:
- كان رهانها بأن تحبني وتكره العالم.. فانتهت بعدم قدرتها على حب اي منا نحن الثلاثة!
- وعاطفة الأم؟
- قد تكون قويّة.. ولكنها ليست جارفة بالنسبة لكل النساء!
- الإستثناءات قليلة مهما تعدّدت!
- كانت واحدة من تلك الاستثناءات! هههههههههه لا أشعر بالأسى عليها.. ولكن تصوراتي تنصب دائما على عمق هذا الجرح على هذا الطفل!
إحتضنته بقوّة ضاعفت حجم الصمت الجنائزي في أعماقه بشكل لم يتصوره مسبقا!
كم ألف بوح زبائن لقاء المرّة الواحدة واستقبل اعترافاتهم وهم جالسين في المقعد الخلفي من سيارته. ولكنه هذه المرة كان هو البطل.. أو بالأصح: الضحيّة في عالم لا يكفّ عن تبادل أدواره!
* * *
لطالما ظنّ، وكثيرا ما صدق ظنّه كما يظنّ، بأن العيش في هذه البلاد يقارب المسافات ما بين الحزن والفرح معا كالماء في تشكيلة الاواني المستطرقة، فلا حزن عميق يأخذ الروح، ولا فرح طاغ يدمع القلب، ولكن ذراعها الملتفّة حوله اوصلت له "مسج" مختلفة، شفّافة وعميقة أعادت له المشهد الذي يمثله مع ابنه الضغير وهما يقلّدان اصبع أي تي وحشرجة صوته وهو يشير لسماء هذه الارض:
E T phone home!
لم يشر الى السماء التي عانقت المحيط أمامه، ولكنه التفت اليها وطبع قبلة إمتنان على رقبتها معلنا نهاية المشهد!
* * *
- للآلهة سماوات عدة، وحده الانسان لا يرتجي غير سماء واحدة، يودّ لو يحلّق بها مثل عصفور!
قال لها ذلك وهو يعلّق ذراعه على كتفها. بينما تحيط خصره بذراعها مثل صديقين حميمين!
- الآلهة أكثر طمعا دائما لأنها تدعي إمتلاك الارض والسماوات.. الدنيا والآخرة.. بينما كل ما يطمح اليه الانسان أن يمتلك ذاته، نفسه، روحه وجسده وأشياءه العذبة الصغيرة الأخرى!
- أورنداتي روي.. كاتبة هندية تكتب بالانجليزية.. لديها رواية بعنوان: "آلهة الاشياء الصغيرة!" “God of the small things!” لم ولن أقرأها.. ربما لأني أخشى من ان العنوان يوحي لي بما هو أوسع مما قد تعنيه الرواية!
- عندي مشروع رواية.. كتبت منها فصلين فقط!
- كل إمرأة حبلى بروايتها! هكذا يقول النقاد!
- هو ذاك! بالفعل.. هي عن تجربتي مع..
- طرزان؟... لا بدّ ان يكون عنوانها: طرزان آخر!
ضحكت كما لم يرها تضحك من قبل:
- يالهي! كيف عرفت؟
- هههههههههههههه ناقد!
- هي عن إمراة تحب ثلاثة رجال. تلتقيهم في اوقات متباعدة. دون ان تدري بأن لهم سيمياء واحدة! أحدهم يشبه الآخر.. وحتى أسمائهم تبدأ بنفس الحرف: جيم، جيف وجاك!
- لا تضيفي لهم جي رجاء..
ضحكت هي بينما واصل:
- ألإنسان هو الحيوان الوحيد الذي "يلطخ" رأسه بنفس الصخرة.. لأكثر من مرة واحدة! هذا ما يقوله المثل الاسباني!
- فك يو.. وكأنك تسرق مني الفكرة!
- الإسبان سرقوها! ههههههه بالحقيقة هي تجربتنا كلنا! او ربما أغلبنا! نعيد نفس التجربة أوفر اند أوفر.. وكأن العالم أنتهى ولم يخلق أحدا غيرنا نحن وأشباهنا!
- ولكن الحقيقة هي أننا نحن من ينتقي أشباهه فقط!
- مثل عمل نتركه لنبحث عن آخر بنفس الإختصاص!
- تخصص عاطفي؟
- ولكن بتعّدية جنسيّة!
- ربما.. إننا نفضل ان نحكي باللغة التي نعرفها.. الا اذا أجبرنا على تعلم أخرى!
- مَن تعرفه.. أفضل ممن لا تعرفه! وهذا اسوأ مثل عراقي عمليّا! لأنه يجعلنا نحيا في بيت بلا شرفات او نوافذ! ورغم ذلك فقد يسلم من الريح ولكنه لن يسلم من الزلزال او الصاعقة!
- وياما صعقنا!
وضحكا معا. حتى توقفت عن المشي ورفعت ساعدها الايسر لتنظر الى ساعتها! بادرها قائلا:
- لا تقلقي.. نحن في طريقنا الى السيارة!
- أخشى..
وقبل ان تكمل رفع سبابته الى فمها ليحتمي من إعلانها بنفاد الوقت!
سارا صامتين، بينما ينصت كل منهما الى قرقعة تنطلق من ذات الآخر. حتى التفت لها بطريقة مسرحية وأمسك بها من زندها:
- قهوة أخيرة؟
رفعت لها وجها وكأنها توقعت دعوة من نوع آخر!
- نعم ولكن نأخذها معنا عليّ ان أكون في المطار بعد أقل من نصف ساعة!
- أوكي!
* * *
كم بدا لهما بأنهما يواجهان سلطة بدائيّة رعناء: الزمن! الوعاء الوحيد الذي لم يتغيّر عبر التاريخ، لم يتقلّص ولكنه لم يتسع أيضا، رغم تغيّر محتوياته وامتلاءه حتى أذنيه باشياء مختلفة! الا ان الدقيقة ما زالت دقيقة! والساعة لم تضف اليها ثانية واحدة! اما السنة فما زالت تُعدّ باشراقة الشمس وغروبها!
ردّد في أعماقه: غروب. غرب. إغتراب! يا إلهي!

همس لنفسه بينما تقطع سيارته المسافة المتبقيّة للمطار:
- الغربة تولد عندما تفارق شخصا..
تطلعت نحوه بنفاذ صبر وهي تنتظر الوصف الذي سيطلقه عليها، او على علاقتهما، ولكنه لم يكمل، وكأن المفردة علقت في قاع فمه رغم انها بدأت ترفرف في سماء السيارة منذ زمن!
غاصت في مقعدها الى جانبه وكأنها تقاوم نوبة غثيان حادّة. التفتت باتجاه النافذة، ثم عادت والتفتت يسارا.. نحوه. خلّصت أصابعه من على كوب القهوة وانحنت لتقبلها الا انه رفع أصابعه قريبا من وجهه وإنحنى بلمحة ليقبل خدها ثم شفتيها.. ركن السيارة جانبا.. وقبلها بقوّة. بحرقة. بينما قبلته بلوعة وهي تشعر، عميقا، بأن شيئا ما يخترق روحها.. وينافس بحجمه ابراج المطار التي تشعربها وهي تقترب. كتبت في مصيرها ثلاث كلمات: إمرأة ورجل ومطار! وغابت معه في قبلة عميقة أخرى!


6/27/2011







#جلال_نعيم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رواية -إعجام- و-أريج- بغداد أخرى!
- Meanwhile.. In Baghdad?
- Little Saddam!
- [email protected] الى
- الماموث
- بوكوفسكي .. في قصيدتين !!
- بوكوفسكي .. وثلاث قصائدعن الأسى ..
- بوكوفسكي وثلاث قصائد عن المرأة ..
- تيليسكوب .. قصيدة للشاعرة الاميركية -لويز غلوك- ..
- عندما تطير الأفيال .. ! فك آ هات عراقيّة !
- فئران قارضة للحياة !
- خطوة اولى في الرد عن سؤال الغربة!
- نجم والي في -صورة يوسف- سؤال بحجم كابوس .. وكابوس بروعة حكاي ...
- فحل ! قصة قصيرة للشاعر الأمريكي تشارلز بوكوفسكي
- إنتصارات مزدوجة !!!
- ترقّب صاخب
- قطارات
- خطيئة ..!- قصة قصيرة جدا
- -انتحالات عائلة - لعبدالهادي سعدون واسطورة الكائن العراقي ال ...
- قراءة أمريكية لرواية عراقيّة


المزيد.....




- تحويل مسلسل -الحشاشين- إلى فيلم سينمائي عالمي
- تردد القنوات الناقلة لمسلسل قيامة عثمان الحلقة 156 Kurulus O ...
- ناجٍ من الهجوم على حفل نوفا في 7 أكتوبر يكشف أمام الكنيست: 5 ...
- افتتاح أسبوع السينما الروسية في بكين
- -لحظة التجلي-.. مخرج -تاج- يتحدث عن أسرار المشهد الأخير المؤ ...
- تونس تحتضن فعاليات منتدى Terra Rusistica لمعلمي اللغة والآدا ...
- فنانون يتدربون لحفل إيقاد شعلة أولمبياد باريس 2024
- الحبس 18 شهرا للمشرفة على الأسلحة في فيلم أليك بالدوين -راست ...
- من هي إيتيل عدنان التي يحتفل بها محرك البحث غوغل؟
- شاهد: فنانون أميركيون يرسمون لوحة في بوتشا الأوكرانية تخليدً ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جلال نعيم - Glocal أو عالمو-محلي