علاء عوض في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: اصلاح اجتماعى أم ثورة - قراءة فى واقع وآفاق الثورة المصرية, دور اليسار والطبقة العاملة ونقاباتها


علاء عوض
الحوار المتمدن - العدد: 3408 - 2011 / 6 / 26 - 13:38
المحور: مقابلات و حوارات     

أجرى الحوار: حميد كشكولي

من اجل تنشيط الحوارات الفكرية والثقافية والسياسية بين الكتاب والكاتبات والشخصيات السياسية والاجتماعية والثقافية الأخرى من جهة, وبين قراء وقارئات موقع الحوار المتمدن على الانترنت من جهة أخرى, ومن أجل تعزيز التفاعل الايجابي والحوار اليساري والعلماني والديمقراطي الموضوعي والحضاري البناء, تقوم مؤسسة الحوار المتمدن بأجراء حوارات مفتوحة حول المواضيع الحساسة والمهمة المتعلقة بتطوير مجتمعاتنا وتحديثها وترسيخ ثقافة حقوق الإنسان وحقوق المرأة والعدالة الاجتماعية والتقدم والسلام.
حوارنا - 58 - سيكون مع الاستاذ د.علاء عوض حول:  اصلاح اجتماعى أم ثورة - قراءة فى واقع وآفاق الثورة المصرية, دور اليسار والطبقة العاملة ونقاباتها.


1- 1الانتصارات العظيمة التي حققتها الثورة المصرية بإطاحتها بالديكتاتور وأركان نظامه فتحت أمام المجتمع المصري آفاق غير محدودة للتخلص من الاستبداد والاستغلال والتبعية، كيف انعكس ذلك برأيكم على الأوضاع السياسية و الاقتصادية والاجتماعية للعمال والفلاحين والفقراء والمهمشين في مصر؟

بالرغم من تصدر شعارات العدالة الاجتماعية قائمة مطالب الثوار فى ميدان التحرير وسائر شوارع وميادين الوطن منذ الخامس والعشرين من يناير من العام الحالى، وبالرغم من اصطفاف الأعداد الغفيرة من الفقراء فى الأحياء الشعبية فى المدن المصرية فى صفوف الثوار ووقوفهم فى صدارة المشهد فى المعركة الدامية الشرسة مع أجهزة الأمن القمعية، وانتصار هذه الجماهير المطحونة على جهاز الشرطة الذى يمثل الذراع الأمنى القمعى للبرجوازية المصرية بعد أن تصدوا للرصاص الحى بصدور عارية وبشجاعة وبسالة نادرة، وبالرغم من دخول الطبقة العمالية داخل حركة الثورة باحتجاجاتهم واضراباتهم والتلويح بالعصيان المدنى مما كان له عظيم الأثر فى حسم مهمة الاطاحة بالدكتاتور مبارك وقسم من معاونيه وأركان نظامه، بالرغم من هذا كله فان العمال والفلاحين والطبقات الشعبية الفقيرة وجيش العاطلين مازالوا يعانون هموم الفقر المدقع ومازالت حقوقهم الأساسية فى الحياة الكريمة والخدمات الأساسية فى الصحة والتعليم والسكن الملائم مسلوبة. لقد استطاعت البرجوازية المصرية الحاكمة أن تحافظ على سيطرتها الاقتصادية والسياسية على مقدرات البلاد من خلال تمرير عملية تسليم السلطة الى المجلس الأعلى للقوات المسلحة عقب اضطرارها الى التضحية بمبارك الذى فقد صلاحيته السياسية أمام ثورة الجماهير الغاضبة فى الشوارع، وقد سهل من هذه العملية غياب البديل السياسى المتبلور والمعبر عن المصالح الطبقية لهذه الجماهير المطحونة. ورغم الدعايات المضللة التى يحاول المجلس العسكرى تمريرها للجماهير والتى يقدم فيها نفسه كحامى للثورة وشريك فيها، فقد عجز هو والحكومة الجديدة عن تقديم أية مؤشرات نحو تبنيهما سياسات اصلاحية أو برامج اقتصادية لصالح جماهير الفقراء فى الوقت الذى أعلنا فيه وبوضوح منذ الأيام الأولى انحيازهم الكامل لصفوف البرجوازيين وتبنيهم لسياسات الاقتصاد الحر. لقد عجزت الحكومة التى تدعى أنها حكومة الثورة أن تستجيب لمطلب جماهيرى أصيل وملح بتحديد حد أدنى للأجور يسمح للأجراء والفقراء بالعيش الآدمى، ذلك المطلب الذى تبنته الحركة العمالية واحتجاجات صغار الموظفين والعاملين المؤقتين بالجهاز الادارى للدولة عبر السنوات الأخيرة، وقد تمكنت هذه الحركة من انتزاع حكم قضائى بمشروعية هذا المطلب قبل الثورة، والآن تقدم لنا الحكومة قدرا هزيلا (700 جنيه مصرى) كحد أدنى للأجور فى الوقت الذى تتراجع فيه – وبعد ساعات قليلة – عن مقترح لفرض ضرائب على الأرباح الرأسمالية أمام غضب واحتجاج رجال الأعمال والمستثمرين والمضاربين. وأمام المطالبات المتكررة بنظام ضريبى تصاعدى فى اطار النضال من أجل التوزيع العادل للثروة، تتقدم الحكومة بمشروع لزيادة الضريبة بمقدار 5% فقط على الأرباح التى تتجاوز 10 ملايين جنيها مصريا!!، الحكومة والمجلس العسكرى يعلنان اذن تضامنهما الكامل مع رجال الأعمال البرجوازيين فى مواجهة مصالح الغالبية العظمى من الكادحين فى مصر. لم تقدم هذه الحكومة أى حلول حقيقية لمشكلة البطالة لاسيما بين أوساط الشباب ولا لمشكلات العمالة المؤقتة بالدولة والتى تعد شكلا من أشكال السخرة، ولم يقدم مشروع الموازنة الجديدة للدولة الذى أعدته الحكومة حلولا لانهيار الخدمات الرئيسية كالصحة والتعليم والسكن فى الوقت الذى يصر فيه على تقديم الدعم الكامل لرجال الأعمال (مثل دعم الطاقة وغيرها من أشكال الدعم) مؤكدا على أن يتحمل الفقراء والمهمشين دون غيرهم عبء الأزمات الاقتصادية ومتوافقا مع سياسة الافقار المنظم الذى تمارسه البرجوازية المصرية منذ عهد السادات ومبارك وحتى الآن.
وعلى صعيد الحقوق السياسية والنقابية فالأمر لا يختلف كثيرا، فمازال المجلس العسكرى والحكومة يهاجمان حقوق الاضراب والاعتصام والتظاهر ويصدران التشريعات التى تجرم هذه الحقوق وتعاقبها بالحبس والغرامات المالية الباهظة، وأخيرا أعلنت الحكومة أنها ستطبق موادا فى قانون العقوبات تتعلق بمكافحة الارهاب على المحرضين والمشاركين فى الاضرابات العمالية، وأمام اتساع الاحتجاجات والاضرابات العمالية بشكل غير مسبوق فى التاريخ المصرى المعاصر تواجه الشرطة العسكرية هذه الاعتصامات والتظاهرات وتفضها بالقوة وتعتقل الناشطين العماليين وتصدر أحكاما عسكرية على الفلاحين المحتجين، وفى الوقت نفسه مازال اتحاد العمال الأصفر الذى تسيطر عليه البرجوازية والذى نجح الدكتاتور المخلوع فى تحويله الى جهاز عميل للأمن السياسى ومعادى للعمال ونضالاتهم من أجل حقوقهم المشروعة، مازال هذا الاتحاد باقيا بتشكيله الأسود بالرغم من اتهام رئيسه بالمشاركة فى جريمة قتل المتظاهرين المصريين فى ميدان التحرير فى الثانى من فبراير. هذا الاتحاد العميل الذى تطالب جماهير العمال بحله ومحاسبة أعضائه عما اقترفوه من جرائم فى مواجهة جماهير العمال مازال يحظى بالرضا والحماية من جانب المجلس العسكرى والحكومة، وهو موقف يتسق مع سياسات البرجوازية المصرية الحاكمة فى تأميم الحركة النقابية العمالية وتوظيفها لصالحها. وعلى جانب آخر يصدر المجلس العسكرى قانون الأحزاب الذى يحظر انشاء الأحزاب على أساس طبقى بما يعنى ضمنيا مصادرة حق العمال فى تشكيل أحزابهم السياسية. ان عداء هذا المجلس وهذه الحكومة للعمال والفلاحين والفقراء فى مصر والوقوف فى مواجهة نضالاتهم وعجزهم عن تقديم حلول جذرية لأوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية المتردية هو دليل على أن هذا المجلس وهذه الحكومة هما التعبير السياسى للطبقة البرجوازية المهزومة أمام طوفان الغضب الشعبى، وان هذه الطبقة التى عجزت تاريخيا عن تقديم أى حلول لمعضلات التنمية والتحول الديمقراطى لا تملك سوى أدوات القمع والمراوغة لاستمرار حكمها، وأن هذه الأدوات قد كشفتها ثورة الجماهير وهزمتها ومازالت المعركة مستمرة.


2- أراد الجزء الاكبر من البرجوازية المصرية أن لا تتجاوز الثورة رحيل مبارك ، وهذه البرجوازية تحظى بدعم البرجوازية العالمية التي تعمل جاهدة على استمرار النظام الرأسمالي التابع في الحكم .. أين تقف الطبقة العاملة المصرية ونقاباتها والاحزاب اليسارية من هذه المعادلة، وهل يمكنها أخذ المبادرة و التحول إلى قوة تغييرية مؤثرة؟

منذ الحادى عشر من فبراير وبعد خلع الدكتاتور مبارك بدأت الثورة المضادة تتخذ محاورا مختلفة لعل أهمها على الاطلاق هو محاولة تفريغ الثورة من محتواها الاجتماعى وجوهرها الطبقى وتصويرها على أنها حركة احتجاجية شبابية تستهدف بعض الاصلاحات السياسية والتعديلات الدستورية والتشريعية مع عدم التطرق الى علاقات القوى الاجتماعية وصراعها على الأرض، وكان الخطاب السياسى والاعلامى الرسمى وغير الرسمى من خلال فضائيات وصحف رجال الأعمال يشن هجوما شرسا على الاحتجاجات الاجتماعية التى يقف فى القلب منها العمال والفلاحين وصغار الموظفين والعمالة المؤقتة فى جهاز الدولة، وظهر مصطلح "الاحتجاجات الفئوية" لتوصيف تلك النضالات والمطالب الاجتماعية فى محاولة لتفتيتها واتهامها بعدم المشروعية واخراجها من اطارها العام، ان هذه الاحتجاجات الموجهة بالأساس ضد هيكل أجور مختل وسياسات عمالة جائرة وتضخم لمعدلات البطالة وانهيار للخدمات وغيرها من الملفات الملتهبة على ساحة النضال الاجتماعى، يسعى المجلس العسكرى والحكومة الى التعامل معها كمطالبات متناثرة لمجموعات صغيرة فى المجتمع تستثمر مناخ الثورة لتحقيق مكاسب غير مشروعة، هذه هى رؤية البرجوازية وحكومتها ومجلسها العسكرى لنضالات العمال، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل تجاوزه الى درجة اصدار تشريعات تجرم هذه الاحتجاجات كما أشرت سابقا. وعلى جانب آخر وفى نفس السياق هناك درجة عالية من مقاومة المطالبات الشعبية بتطهير مؤسسات الدولة من الفاسدين واللصوص الذين ارتبطوا بنظام الدكتاتور المخلوع وكانوا عناصر فاعلة فى منظومة فساده، ويحاول المجلس العسكرى والحكومة الالتفاف على هذه المطالبات أو تعطيل اجراءاتها أو تجاهلها فى العديد من المواقف، وهناك أيضا مقاومة واضحة للمطالبات الجماهيرية باحداث تغييرات تشريعية جذرية فيما يتعلق بتنظيم وتسيير مؤسسات وهيئات الدولة الانتاجية والخدمية وبتكريس أسس ديمقراطية حقيقية قى ادارتها واختيار قياداتها. وفى تقديرى فان الوضع السياسى الراهن يتسم بحالة واضحة من ازدواجية السلطة، فهناك المجلس العسكرى والحكومة فى مواجهة العمال والفلاحين والجماهير الشعبية الفقيرة، وكل من هذين الطرفين يحاول ممارسة كل أشكال الضغط المتاحة لديه لتمرير سياساته.
لم تأت الاضرابات والاحتجاجات العمالية من فراغ ولكنها جاءت تعبيرا عن درجة تطور الصراع الطبقى وعجز البرجوازية عن تقديم أى منجزات اجتماعية على طريق التنمية والعدالة الاجتماعية والتحول الديمقراطى، وقد بدأت هذه الموجة من الاحتجاجات العمالية منذ عام 2006 لتشهد بعد انطلاق عملية الثورة المصرية حالة شديدة من الاتساع الأفقى لتشمل العديد من المواقع العمالية فى مختلف أنحاء البلاد، ويكفى أن نرصد حجم هذه الاحتجاجات خلال شهر واحد فقط (مايو2011) لنكتشف حدوث 26 اعتصام و 26 إضراب و22 تظاهره و 21 وقفة احتجاجيه و4 تجمهرات و3 مسيرات احتجاجية. وبالرغم من اصدار التشريعات القمعية لتجريم الاحتجاجات، فان الطبقة العمالية مازالت قادرة على الصمود والتحدى وليس أدل على ذلك من رد العمال على تهديدات الحكومة بتطبيق مواد مكافحة الارهاب على العمال المضربين باضرابين واسعين فى شركات قناة السويس وهيئة السكك الحديدية. ان وجود الحركة العمالية فى القلب من الاحتجاجات الاجتماعية بالاضافة الى الاحتجاجات الفلاحية (مثل احتجاجات الفلاحين فى البحيرة واعتصام فلاحى الأوقاف) واحتجاجات الشباب العاطلين والعاملين المؤقتين يؤكد أن الموجة الثانية من الثورة المصرية قد بدأت بالفعل وأن جوهرها يكمن فى الصراع الطبقى بين البرجوازية الحاكمة وبين العمال والفلاحين والمهمشين، وأن هذه الاحتجاجات قد أفرزت أشكالا عديدة من النقابات العمالية المستقلة، ولم تتوقف هذه النضالات عند حدود تطوير وعى نقابى عمالى بل بدأت فى تجاوز ذلك الى آفاق المطالبات العمالية باستعادة شركاتهم التى تم نهبها فى عمليات الخصخصة وادارتها ذاتيا والمطالبة باعادة تشغيل شركات القطاع العام التى سعى نظام مبارك الى تجريفها واشهار افلاسها لصالح حفنة من السماسرة والمستوردين. ومن الجدير بالذكر أن هذه النضالات وهذه الموجة من الاحتجاجات ستستمر وسيزداد اتساعها الأفقى وتصاعدها الرأسى طالما استمر حكم هذه الطبقة البرجوازية الرثة. ان تطوير هذه النضالات وتأطيرها داخل حركة ثورية جذرية تستهدف الاطاحة بالبرجوازية الطفيلية الحاكمة لصالح جماهير العمال والمنتجين، وتكريس مفاهيم وآليات الادارة الديمقراطية لأدوات الانتاج وانتزاع العمال لحقوقهم فى المشاركة الكاملة والفعالة فى هذه العملية، هى الآفاق الحقيقية للثورة المصرية، وان قدرة العمال والفلاحين وجماهير الفقراء فى المدن والقرى على بناء تنظيماتهم القاعدية فى المواقع الانتاجية والأحياء والمدن وتفعيل دورها فى المشاركة فى الادارة هو أهم الأدوات فى تطوير هذا الصراع، كما أن مهمة بناء الحزب الثورى الجماهيرى القادر على تبنى طرحا ثوريا جذريا فى مواجهة التيارات المحافظة وخوض مسيرة نضالية يقف فى طليعتها جماهير العمال والفقراء هى من المهام المركزية فى هذا السياق.

3- تتعدد التصورات بشأن سيناريو الحكم القادم فى مصر بعد مرحلة الانتقال، فهناك طرح يدعو للدولة الدينية الاسلامية وهناك من يطالب بالشكل الليبرالى فى الحكم، كيف ترون شكل الحكم فى المستقبل القريب فى مصر وما أثر ذلك على حركة الثورة ؟

منذ الاطاحة بالدكتاتورمبارك والمجلس العسكرى الأعلى يسعى لتمرير عملية انتقال السلطة وفق الآليات التى تكرس حكم البرجوازية وسيطرتها الاقتصادية، ولتحقيق هذا الهدف أصر المجلس على استئثاره بقيادة مرحلة الانتقال برغم وجود مطالبات عديدة بحكم انتقالى مدنى. وكانت معركة الدستور واحدة من أهم المعارك السياسية لأن الدستور سوف يضع الملامح الرئيسية للبنى السياسية الحاكمة فى المرحلة المقبلة، وقد استطاع هذا المجلس بالتحالف مع جماعة الاخوان المسلمين وتيارات الاسلام السياسى الأخرى أن يمرر تعديلات دستورية لا تخرج عن التعديلات التى اقترحها مبارك نفسه واقرارها فى الاستفتاء الشعبى الشهير. كان الهدف هو تأكيد استمرارية حكم البرجوازية من خلال هياكلها السياسية السابقة وان كان ذلك من خلال رموز ووجوه أخرى لم تفقد بعد صلاحيتها لدى الجماهير، وكان الاخوان يبحثون عن دور لهم فى الحكم وفى صياغة هياكله بعد فترة طويلة من التهميش السياسى عبر عقود ووجدوا فى هذا التحالف غايتهم، فتشكلت لجنة التعديلات الدستورية من رموزهم وحاملى أفكارهم، وتمكنوا عبر دعايات دينية وطائفية بالتعاون مع التيارات السلفية فى الحصول على أغلبية ملحوظة فى استفتاء التعديلات الدستورية. ولابد من التنويه فى هذا السياق أن الفترة المتاحة للدعاية السياسية ضد أو مع هذه التعديلات كانت شديدة القصر وكانت الحركة الجماهيرية وقتها منهكة فى مطالبات متواصلة لاقالة حكومة شفيق وحل جهاز أمن الدولة، أى أن المجلس اختار الوقت والحليف المناسبين لتمرير شكل الدستور الذى يريده. لم يكن السيناريو السياسى الذى يدفع اليه المجلس العسكرى متناقضا مع طرح الاخوان المسلمين أو غيرهم من تيارات الاسلام السياسى، فكلا منهما يعبر عن مصالح الطبقة البرجوازية حيث يسيطر المجلس العسكرى على مالا يقل عن 25% من جملة الاستثمارات الاقتصادية فى مصر، وتسيطر قيادات الاخوان على قدر ضخم من هذه الاستثمارات لاسيما فى القطاع التجارى والمصرفى والعقارى. وأيا كان السيناريو القادم للحكم والذى يستند بالأساس الى هذا الحلف، وأيا كانت تركيبة البرلمان المقبل وحجم تمثيل تيارات الاسلام السياسى فيه، فاننى لاأتصور أن هذا سيكون أمرا حاسما فى تطور الصراع الاجتماعى أو فى مسيرة الثورة، وسواء وضع الدستور الاسلاميون أو الليبراليون أو كلاهما بالتعاون مع المجلس العسكرى، فلن يكون هذا الدستور أكثر من وثيقة ضمن العديد من الوثائق التى لاتعنى الكثير لدى الجماهير. القضية بشكل حاسم هى عجز كل هذه الكيانات السياسية عن تحقيق المطالبات الاجتماعية المتزايدة، وعن التصدى لموجة الاحتجاجات المتصاعدة بحلول سياسية واجتماعية على أسس العدالة والديمقراطية. ان الديمقراطية لدى الاسلاميين والليبراليين تقوم على تهميش حركة الجماهير وتحويلها الى مجرد بطاقات فى صناديق الاقتراع، انها الديمقراطية التى تقوم على الانابة والتفويض الكامل من الجماهير لهم، وهى تنتهى لديهم بحصولهم على المقاعد البرلمانية والحكومية، أما الديمقراطية لدى جماهير العمال والفلاحين والفقراء فانها تعنى المشاركة الكاملة فى الادارة والرقابة والمتابعة وفق آليات تنظيمية تسمح بالقدر الأوسع من هذه المشاركة فى المواقع الانتاجية والخدمية والأحياء السكنية والمدن والمحافظات وعموم الوطن، انها الديمقراطية التى لاتفرط فى حقوقها الاجتماعية والسياسية والمدنية والتى تربط بين الحقوق الاقتصادية فى أجر عادل وظروف عمل انسانية وخدمات عامة لائقة وبين حقوق الادارة والملكية.
ان حالة الاستقطاب القائمة بين الليبراليين والاسلاميين حول شعارات مثل الدستور أولا أو الدولة المدنية فى مواجهة الدولة الدينية هى حالة تفتقد الى التحديد الاجتماعى لجوهر الديمقراطية ويعتريها قدر كبير من الحيرة ازاء الجمهور المستهدف بالحشد حول هذه المطالب، كما أنها تشهد قدرا شديدا من الارتباك، فخصوم الأمس يدخلون اليوم فى تحالفات من أجل قوائم انتخابية موحدة، وبرغم أن بعضا من هذه الشعارات يحمل محتوى ديمقراطيا (مثل رفض الدولة الدينية وحقوق المواطنة) الا أن تفريغ هذه الشعارات من محتواها الاجتماعى وطرحها كشعارات مجردة قد جعل هذا الصراع نخبويا يدور بالأساس فى ساحات الاعلام وحوله الى صراع سياسى بين تعبيرات مختلفة من البرجوازية المصرية حول حجم المكاسب السياسية التى يسعى كل طرف لتحقيقها وحول توسيع المساحة المتاحة له فى دوائر الحكم القادم. وهنا يجب الانتباه الى دور اليسار الثورى ازاء هذا الصراع، الذى يجب أن يكون متميزا من زاوية الطرح السياسى الذى ينطلق من تحليل دقيق لطبيعة الصراع الطبقى وجذريا فى فهمه للديمقراطية وألا يتخذ موقفا ذيليا من القوى الليبرالية. وفى مواجهة هذا الصراع هناك حالة أخرى من الاستقطاب أكثر وضوحا وأكثر حدة، وهو التناقض بين الحركة الجماهيرية (العمالية والفلاحية منها على وجه الخصوص) وبين البرجوازية المصرية بكل شرائحها وتعبيراتها المختلفة. الليبراليون والاسلاميون يختلفون فيما بينهم حول من يضع الدستور ومن يحقق أعلى نسبة مقاعد برلمانية ومن يشكل الحكومة، ولكنهم يتفقون فى عدائهم للاضرابات العمالية واتهام هذه النضالات باثارة الفوضى وتعميق الأزمات الاقتصادية، وهم يدعون تبنيهم للعدالة الاجتماعية فى الوقت الذى يؤكدون فيه على تمسكهم بسياسة الاقتصاد الحرالتى لم تجلب لجماهير الشعب الكادحة سوى المزيد من الافقار والقهر الاجتماعى. وبالرغم من وجود تيار ليبرالى يعبر عن الطبقة الوسطى وتوجهات قطاع من المهنيين والأكاديميين ويطرح شعارات اصلاحية ويقف ضد تجريم حق العمال فى الاضراب الا أنه يظل متمسكا بتبنى سياسات الليبرالية الاقتصادية التى لم تستطع عبر عقود طويلة أن تحقق التحول الديمقراطى أو العدل الاجتماعى، ان هذا التيار الذى يحاول تجميل وجه النظام الرأسمالى بمساحيق تدخل الدولة ببعض الآليات الضابطة للسوق يقع فى مأزق التناقض بين حقيقة البنية الرجعية للبرجوازية القائمة على التبعية والفساد وبين مهمات التنمية الاقتصادية التى تصب عوائدها فى القطاع الأكثر فقرا فى المجتمع. ان تطورهذا الصراع الاحتماعى الدائر فى أرض الواقع والذى يشهد اتساعا يوما بعد يوم لن يجعل أى من هذه الكيانات السياسية البرجوازية تنعم باستقرار لحكمها مهما كانت صورته، هذا الاستقرار الذى لايمكنه أن يتحقق الا على أنقاض حكم هذه الطبقة العميلة والرجعية. ولكن كلنا يعلم أن التاريخ لا يعرف مسارا واحدا أو حتميا، فبالرغم من نضج الشرط الموضوعى لتطور الصراع الطبقى فى مصر نحو مسارات جذرية تسمح للقوى المنتجة بالسيطرة السياسية والاقتصادية، فان هناك عنصر العامل الذاتى القادر على تنظيم نضالات المضطهدين وتأطيرها فى وعى ثورى متكامل ومتماسك، هذا الوعى الذى ينمو ويتجذر بالضرورة فى غمرة النضال يحتاج الى أطر وآليات تنظيمية على المستوى الحزبى والنقابى والجماهيرى لاستكمال المهام الثورية، وهذا هو التحدى الأكبر أمام الثورة المصرية، لقد باتت ضرورات بناء الحزب الثورى والتنظيمات العمالية والجماهيرية ملحة فى تلك المرحلة. ان الواقع السياسى والاجتماعى المصرى الراهن يعكس بوضوح حالة من ازدواجية السلطة بين المجلس العسكرى والحركة الجماهيرية والعمالية، وفى ظل عجز البرجوازية البنيوى عن تحقيق استقرار سياسى نابع من برنامج اصلاحى حقيقى، وفى حال ضعف الأدوات التنظيمية للعمال والفلاحين والمضطهدين، سيصبح ثمن الاستقرار السياسى فادحا، فالتاريخ يعلمنا أن مثل هذا الظرف هو المناخ المناسب لصعود حكم بونابرتى عسكرى فى أغلب الأحوال، يقدم بعض الاصلاحات ويطرح العديد من الشعارات الديماجوجية محاولا استقطاب قطاع واسع من المهمشين والفقراء تحت رايته ويسعى فى الوقت نفسه للقضاء على معارضيه والتنكيل بهم. ان هذا السيناريو لا يمكن تجاهله فى المستقبل السياسى المصرى القريب ولابد من التنبه له ومقاومته.


4- هناك انقسام واضح الان على الساحة السياسية في مصر بين القوى العلمانية من جانب، والقوى الإسلامية من جانب آخر، وكذلك الاحتقان الطائفي والديني والعنف المصاحب له، في ضوء ذلك كيف تقيم دور ومكانة الاسلام السياسي وآفاقه في مصر؟

تحتل جماعة الاخوان المسلمين الموقع الأهم فى جماعات الاسلام السياسى فى مصر وكانت التيار الوحيد الذى طرح لنفسه دورا سياسيا منذ بداية تشكيلها فى عشرينيات القرن الماضى، ورغم ادعاء قيادات الجماعة بأن دورها ينحصر فى اطار الدعوة الدينية فانها كانت دائما تمارس دورا سياسيا من خلال خطابها الدينى، وكان الاعلان الأول عن هذا الدور قد اتضح فى المؤتمر الثانى للجماعة عام 1935 الذى أعلن فيه حسن البنا بوضوح أن الاسلام دين ودولة، وكان هذا الدور فى أغلب مراحل التنظيم يتخذ موقفا معاديا للديمقراطية بدءا من تحالفهم مع الملك فاروق وحكومة صدقى فى مواجهة الوفد حيث كتب حسن البنا فى مجلة النذير عام 1938 مقالا يصف فيه أعضاء الجماعة بأنهم "أخلص جنود الملك"، ثم كان تحالفهم الشهير مع نظام السادات الذى قرر تبنى سياسات اقتصادية تتفق مع شروط البنك الدولى وانسحاب الدولة من أداء أى دور فى عملية التنمية والانتاج والخدمات، وكان عليه أن يواجه المعارضة اليسارية فى الأوساط الطلابية والعمالية ولم يجد أفضل من الاخوان المسلمين حليفا له فى هذه المهمة مستخدما فى ذلك خطابهم الدينى، وكان هذا التحالف بداية لمرحلة صعود سياسى لهذه الجماعة بعد فترة طويلة من الاعتقالات والعزل والتهميش السياسى عانتها الجماعة فى الفترة الناصرية، وقد دعم هذا الصعود موجة هجرة المصريين الى دول الخليج وتحديدا الى السعودية والذين عادوا محملين بالفتات من أموال النفط والكثير من الثقافات الأصولية الوهابية التى انتشرت بشكل واسع لاسيما بعد انحسار الأفكار القومية اثر هزيمة 1967. وفى عهد مبارك، وبعد اغتيال سلفه السادات على أيدى التنظيمات الاسلامية الجهادية والتى خرجت من عباءة الاخوان المسلمين كانت العلاقة بين نظام حكمه وبين الجماعة تشهد حالة شديدة التناقض، فقد سمح لهم نظام مبارك بالتواجد السياسى كممثل رئيسى للمعارضة، كما سمح لهم بالسيطرة على النقابات المهنية واختارأن يحتلوا مقاعد كتلة المعارضة فى انتخابات برلمان 2005، وفى الوقت نفسه لم يمنع هذا من تعرضهم لاجراءات قمعية والاعتقال المتكرر وتعرض قياداتهم للمحاكمات العسكرية. وعلى أى حال، فان الاخوان لم يقفوا موقفا عدائيا جذريا ضد مبارك قبل 28 يناير 2011، كما أنهم لم يتصدوا لسياسات الاقتصاد الحر والليبرالية الجديدة بل على العكس وقفوا فى صفها، وهم الذين وقفوا موقفا معاديا للفلاحين فى قانون الايجارات الزراعية لصالح ملاك الأراضى (وكان ذلك امتدادا لمعارضتهم الشديدة لقوانين الاصلاح الزراعى بعد حركة يوليو 1952)، ولم يتصدوا لأى قضايا ذات طابع اجتماعى فى النقابات المهنية مثل قضايا الأجور والبطالة. وقبل 25 يناير، اتخذت الجماعة موقفا رافضا للمشاركة فى الاحتجاجات، ولم تعلن مشاركتها الا فى جمعة الغضب (28 يناير)، وأثناء اعتصام التحرير قبلت الجماعة التفاوض مع نظام مبارك ممثلا فى نائبه عمر سليمان، أى أن موقف الجماعة من الثورة كان المشاركة بعد تصاعد درجة الاحتجاجات الشعبية وفى الوقت نفسه الحفاظ على درجة من العلاقة مع نظام مبارك على موائد الحوار. ان العلاقة المركبة بين الاخوان، أصحاب الدور الرئيسى فى المعارضة السياسية، وبين نظام حكم مبارك كانت متسقة مع دفاع هذه الجماعة عن الركائز الاقتصادية للبرجوازية المصرية، وفى تقديرى أن الاخوان هم أحد التعبيرات السياسية للبرجوازية المصرية وان قياداتهم يمتلكون قدرا ضخما من الاستثمارات الاقتصادية فى مصر، وأن تصوير هذه الجماعة على أنها تنظيم شعبوى يعبر عن مصالح البرجوازية الصغيرة هو تحليل قاصر يعتمد على التركيب الطبقى لعضوية الجماعة وعلى خطابها الأخلاقى بينما يتجاهل دورها السياسى فى تبنى المصالح الطبقية البرجوازية والدفاع عنها.
لم يكن اختيار المجلس العسكرى للاخوان كحليف سياسى، بمباركة الامبريالية الأمريكية، فى مرحلة الانتقال والتمهيد لاقامة حكم عسكرى متأسلم متناقضا مع هذه الرؤية، فالاخوان سيلعبون دورا داعما لسياسات الليبرالية الاقتصادية لصالح البرجوازية المصرية والامبريالية، ولكن التاريخ لا تصنعه ارادة طرف واحد من أطراف الصراع، فهناك العديد من التحديات أمام الاخوان المسلمين وتيارات الاسلام السياسى فى مصر، فعلى المستوى التنظيمى هناك تحدى الانشقاقات المتعددة والتى بدأت بالفعل، ان انحسار ضغوط السرية سوف يفتح الباب أمام مطالبات بآليات ديمقراطية فى التنظيم لاسيما من القطاعات الشبابية وهو ما يتناقض مع شيوخ القيادات التى تضمن سيطرتها على الجماعة من خلال آليات فاشية مثل البيعة والولاء الكامل. وهناك أيضا مشكلة العلاقة بين الحزب السياسى والجماعة، فقيادات الاخوان تنظر الى الحزب بوصفه الذراع السياسى للجماعة التى تملك المرجعية الأعلى، وقد قامت الجماعة باختيار الأعضاء المؤسسين للحزب وجميع قياداته بشكل فوقى، وفى تقديرى أن هذه العلاقة لا يمكنها أن تستمر بهذه التبعية المطلقة، وأن التناقضات بين الحزب والجماعة هى أمر حتمى. وعلى الصعيد السياسى، فان المطالبات الشعبية بالديمقراطية تشكل تهديدا دائما لطرح الاسلام السياسى الذى يفهم الديمقراطية فى حدود ضيقة لا تتجاوز مصالحه السياسية، ان مشكلات ملحة مثل التمييز ضد الأقباط وضد المرأة ستقف دائما فى مواجهة الاسلاميين على مستوى الوطن وعلى مستوى المجتمع الدولى أيضا. وفى هذا السياق ينبغى أن نؤكد على أن الواقع السياسى فى مصر قد بدأ يشهد تغيرات قوية أهمها ظهور تيارات سياسية أخرى على المسرح، لم يعد طرفا المباراة الاخوان ونظام مبارك، فهناك الليبراليون بطيفهم الواسع وهناك القوى اليسارية، هذه القوى التى بدأت تظهر على الساحة السياسية وتقدم طرحا سياسيا مغايرا مما يشكل أحد التحديات الهامة أمام الاسلاميين. الأمر الأكثر أهمية هو ابتعاد الاخوان تاريخيا عن الحركة العمالية، فلم يكن لهم دورا ملحوظا فى النضالات والاضرابات العمالية عبر تاريخهم، وبعد انطلاق العملية الثورية فى مصر اتخذوا موقفا معاديا للاضرابات والاحتجاجات العمالية وفشلوا فى التواجد داخل النقابات المستقلة، وبرغم محاولاتهم للسيطرة على اتحاد العمال الرسمى ودعوتهم لانشاء اتحاد عمال "اخوانى" فمازال خطابهم معاديا للعمال. ان تطور النضالات العمالية فى اطار عملية الثورة وفى مواجهة سياسات البرجوازية الاقتصادية سيشكل التحدى الأكبر أمام تيارات الاسلام السياسى ويضعها بوضوح شديد فى صفوف الثورة المضادة.
ربما ينجح الاخوان فى الحصول على أغلبية فى الانتخابات البرلمانية القادمة، وربما ينجحون فى تنصيب رئيسا للجمهورية يتوافقون عليه مع المجلس العسكرى، ولكن يبقى السؤال الأهم، هل يستطيع هذا البرلمان وهذا الرئيس أن يوقف عملية الثورة؟ وهل تستطيع الآلة القمعية المهزومة من الجماهير أن تسيطر على غضب الفقراء؟ ان الظروف الموضوعية لتطور الصراع الطبقى فى مصر تجيب بالنفى على هذه التساؤلات.


5- بعد الثورة تشكلت أحزاب يسارية جديدة في مصر ومنها حزب العمال الديمقراطي، كيف تقيم نشاط ودور الحزب في المرحلة الراهنة بشكل خاص ودور القوى الماركسية واليسارية المصرية بشكل عام؟، و ما هي آفاق التنسيق والعمل المشترك بين القوى الماركسية واليسارية وخاصة بعد تشكيل "ائتلاف- جبهة القوى الاشتراكية"؟

شهد اليسار المصرى قبل الخامس والعشرين من يناير الجارى ولمدة تجاوزت العقدين حالة من الانحسار على المستويين السياسى والتنظيمى، فمنذ النصف الأخير من ثمانينيات القرن الماضى تعرضت أغلب المنظمات اليسارية المصرية (التى كانت تعمل فى اطار السرية أمام مواجهات وقمع الدولة البوليسية) الى حالة من الانكماش والتفكك التنظيمى واتجهت أغلب الكوادر السياسية اليسارية الى العمل من خلال منظمات المجتمع المدنى أو النقابات العمالية والمهنية أو الكتابة السياسية والصحفية كأفراد وغيرها من الأنشطة، ومنذ بداية التسعينيات كان التعبير التنظيمى المتاح عن اليسار المصرى هو حزب التجمع الوطنى التقدمى الوحدوى وهو حزب علنى اتخذ منذ بداياته مواقفا محافظة وقدم العديد من التنازلات أمام النظام الحاكم لاسيما فى عهد مبارك ومارس أشكالا مساومة فى تحالفاته الى الدرجة التى جعلت قياداته تتخذ موقفا معاديا من الثورة فى أيامها الأولى، وبالاضافة الى هذا الحزب كانت هناك بعض المنظمات السرية الصغيرة ربما كان أهمها تنظيم الاشتراكيين الثوريين الذى لعب دورا ملحوظا رغم محدوديته فى التعبير عن التوجهات السياسية لليسار رغم التحفظات الشديدة على تبنيه لمنهح التحالف مع جماعة الاخوان المسلمين فى فترات طويلة من تاريخه، وبعد انطلاق الثورة بدأ اليسار عملية استعادة تواجده التنظيمى بعد عقود من التفكك والانفراط، وبالقطع لم تكن هذه العملية يسيرة ولم تكن مساراتها بالوضوح الكافى. بدأت الدعوة لتشكيل حزب للاشتراكيين المصريين منذ الأيام الأولى فى فبراير 2011 وقبل الاطاحة بمبارك وطرح البيان الأول لهذه الدعوة خيارين: تأسيس حزب جديد فى مواجهة الانضمام لحزب التجمع وتثويره من الداخل بعد الاطاحة بقياداته الرجعية، ولم يستغرق الأمر أكثر من أيام قليلة لحسم الخيار لصالح تأسيس حزب جديد هو حزب التحالف الشعبى الذى ضم فى صفوفه العديد من الكوادر اليسارية القديمة والذى سرعان ما انضم اليه تيار التغيير المنشق على حزب التجمع الوطنى التقدمى ليتحول اسم الحزب الى حزب التحالف الشعبى الاشتراكى. كانت هذه هى بداية عملية تنظيم اليسار المصرى بعد الثورة وتلاه الاعلان عن تأسيس حزب العمال الديمقراطى والحزب الاشتراكى المصرى ثم اعلان الحزب الشيوعى المصرى خروجه من دائرة العمل السرى الى العمل العلنى.
وواقع الأمر فانه لا يمكن قراءة تمايز سياسى واضح فى فهم واقع العملية الثورية فى مصر وفى قراءة آفاقها الاجتماعية والمهمات المطروحة على القوى اليسارية فى هذه اللحظة بين كل هذه التشكيلات التنظيمية الناشئة، بل على العكس تماما، فان كل من هذه التشكيلات تضم فى صفوفها أكثر من رؤية تحليلية بهذا الخصوص تتفاوت بين الاتجاهات المحافظة التى تتبنى سياسات الاصلاح الاجتماعى من داخل المجتمع الرأسمالى وفى ظل سيطرة علاقات انتاجه مرورا بالرؤية الستالينىة الكلاسيكية لضرورات انجاز الثورة الديمقراطية البرجوازية أولا وخنق العملية الثورية فى هذه الدائرة ووصولا الى الرؤية الثورية التى تتبنى ديمومة العملية الثورية والارتباط العضوى التاريخى بين مهام التحول الديمقراطى والانتقال نحو توجه اشتراكى. ان معضلة بلورة رؤية سياسية واضحة وتحليل دقيق لطبيعة اللحظة الثورية تاريخيا وترجمة ذلك برنامجيا وصياغة تصور للمهمات السياسية هى من أهم التحديات التى تواجه اليسار المصرى فى حالته الراهنة. ان هذا التحدى لا يكتسب قيمته التاريخية من مجرد ضرورات التحليل على المستوى النظرى ولكنه بالأساس يحدد القضايا المركزية فى عملية الثورة ويحدد أيضا التوجهات السياسية أمام العديد من القضايا الملحة فى الواقع السياسى مثل الانتخابات البرلمانية والتحالفات المطروحة مع الليبراليين أو الاسلاميين والموقف من النضالات العمالية ودور هذه النضالات فى المسيرة الثورية، فى أى موقع يجب علينا الاصطفاف وأى استقطاب نثق فى قدرته على احداث التغيير الثورى الجذرى. كل هذه التساؤلات مازالت بحاجة الى الحسم من اليسار المصرى.
وهناك تحد آخر يواجه عملية تنظيم اليسار المصرى وهو التحدى التنظيمى، فبعد انقطاع التراث التنظيمى لليسار لعقود وبعد الخروج من دائرة السرية الى العلنية يجد اليسار نفسه مرتبكا أمام صياغة رؤية تنظيمية تتبنى اطارا ديمقراطيا وتمتلك أدوات الاتصال الجماهيرى مع تحقيق درجة عالية من الوحدة فى التوجه السياسى والشعارات المطروحة فى الواقع. ان أغلب الكوادر اليسارية العاملة فى مصر ليس لديها سوى خبرات التنظيمات السرية التى قامت على أسس الفهم المتحجر للمركزية الديمقراطية والتى افتقدت تحت ضغوط السرية الآليات الديمقراطية الحقيقية والقادرة على تطوير بناء هذه التنظيمات سياسيا وجماهيريا وتنظيميا، كما أن فترة الانقطاع التنظيمى الطويلة قد ساهمت فى تعظيم الممارسة السياسية بشكل فردى أو فى اطار منظمات مدنية ونقابية، مما يطرح ضرورة خلق آليات الانصهار فى العمل الحزبى الثورى كأحد أهم التحديات أمام عملية تنظيم اليسار فى مصر.
ان حزب العمال الديمقراطى يتبنى سياسة دعم النضالات العمالية والاتصال الجماهيرى بالعمال والفلاحين والطبقات الشعبية وتتكون عضويته فى قوامها الأعظم من هذه الطبقات بالاضافة الى بعض المثقفين اليساريين، وهو يرفض التحالفات السياسية مع الاسلاميين ويرفض الاندماج السياسى فى تحالفات مع الليبراليين والقوى السياسية البرجوازية ويرى أن التحالف مع هذه القوى يجب أن يكون فى اطار الاتفاق على مهمات بعينها مع الاحتفاظ بالتمايز السياسى الكامل. والحزب يرى ان الديمقراطية فى جوهرها لا يمكن أن تتحقق فى ظل الحكم الرأسمالى وأن النضال من أجل الخبز والحرية لا ينفصلا، كما يرى أن العمال والفلاحين والفقراء هم أصحاب المصلحة الحقيقية فى الثورة وهم القوى الاجتماعية التى تستطيع مواصلة النضال لاستكمال مهماتها. وقد وقف الحزب مواقفا داعمة للنضالات العمالية فى العديد من المواقع وتبنى الدعم السياسى والقانونى والاعلامى لتشكيل العديد من النقابات المستقلة، كما تصدى لقانون تجريم الاضرابات والاعتصامات. والواقع أنه برغم تلك المواقف فمازالت أمام الحزب تحديات بناء الرؤية السياسية والتنظيمية الواضحة والاسهام فى تطوير الوعى الثورى لدى الطبقة العمالية ودفعه نحو الانطلاق خارج دائرة الوعى النقابى.
لقد جاء انطلاق عملية الثورة فى مصر فى ظل غياب الحزب الثورى الجماهيرى ليؤكد أن الثورة لا تصنعها الأحزاب ولكن يصنعها الظرف الموضوعى للصراع الطبقى على المستوى المحلى والاقليمى والدولى، كما أكد أيضا على ضرورات وجود هذا الحزب لحماية الثورة من قوى الثورة المضادة التى تسعى لالتهامها وسرقتها. ان عملية تنظيم اليسار المصرى قد بدأت ولا يمكن قراءة مستقبلها بشكل كامل ودقيق ولكن الشئ المؤكد أن هذه العملية ستمر بمراحل متعددة فى تطورها، وبرغم حالة الارتباك التى تشهدها مقدماتها، أستطيع أن أتصور أن هذه التشكيلات الأولى لن تستمر على حالها بالضرورة، ومن الممكن حدوث اندماجات بينها فى سياق تطورها السياسى. ان مهمة وحدة اليسار المصرى هى ضرورة تاريخية وتحتل موقعا متقدما على أجندته، وربما كان اعلان حبهة القوى الاشتراكية خطوة على هذا الطريق رغم محدوديتها، وفى تقديرى أن المشكلة الرئيسية فى هذه الجبهة أنها افترضت وجود كيانات سياسية حزبية واضحة ومكتملة وهو الأمر الذى لا يتفق مع الواقع، حيث أن كل هذه الأحزاب مازالت فى طور التشكيل ولم تتضح معالمها السياسية والتنظيمية بالشكل الكافى، ومن ثم فالأمر الأكثر أهمية هو خلق آلية تسمح بهذا التطور السياسى والتنظيمى بشكل مشترك والانخراط النضالى الجماهيرى بشكل مشترك أيضا مما يدفع الأمور الى الوحدة على أرضية صلبة وأصيلة وليس مجرد صياغة بعض البيانات والأوراق التى تعلن عن هذه الوحدة بشكل فوقى.