جعفر المظفر
الحوار المتمدن-العدد: 3403 - 2011 / 6 / 21 - 22:35
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
أحزاب الدين السياسي والنفاق الوطني
جعفر المظفر
هذه المقالة هي جزء من ستة أجزاء كنت نشرتها سابقا, وهي تعالج نفس الموضوعة الرئيسة وإن تحت عناوين مختلفة, وتدور حول فقه الدين السياسي وفقه الدولة الوطنية المدنية والإشكالات التي تخلقها النظريات والأيديولوجيات الأخرى ذات الطابع الأممي والقومي التي لا تراعي الخصوصيات الوطنية, ولا تعبر إلى القومي أو الأممي من خلال الوطني بل تسلك الطريق المعاكس تماما. وأرى أن الخلل الأكبر يكمن هنا بالذات.
ومن الطبيعي أن ذلك لا ينفي وجود نواقص وعثرات في تلك الأفكار ذاتها, كل على حدة, غير إنني هنا أتحدث عن موضوعة بعينها, فالعراق كان قد مر منذ تأسيسه كدولة وطنية بعدة إشكالات خلقها المرور العكسي لهذه العقائد التي ألغت الوطني لصالحها أو عومته بالشكل الذي ألغي الحاجة إلى تكييف الأفكار وتحويرها بما يحترم الموروث والموضوعي وينقلهما تدريجيا بإتجاه الذاتي العروبي القومي أو الماركسي الأممي, ولهذا كان الخطأ قد نشأ عند نقطة البداية.
الحزبان الشيوعي والإيطالي, في ستينات القرن الماضي كانا صححا طريق المرور. لقد أدركا من ناحيتهما أن الخلل لا يكمن في العقيدة الماركسية نفسها وإنما في طريقة تناولها لمشكلات المجتمعات الأوروبية بعيدا عن الموروث الخاص والحالة الموضوعية التي تملكهما كافة المجتمعات, والذي لا بد وأن يؤثر على عملية تلقي العقيدة والتفاعل معها. كان هناك النظام الديمقراطي الذي أثبت كفاءته في المجتمعات الأوربية الغربية في حين أن المجتمعات الأوروبية الشرقية التي كانت تقودها روسيا مارست إلى أقصى حد نظريات مركزية مغرقة في تهميشها للعلاقات الفردية الإنسانية بكل تفرعاتها الاجتماعية والسياسية والثقافية, الأمر ذاك أدى إلى أن يعلن الحزبان إيمانهما بالديمقراطية اللبرالية وتخليهما عن تبعيتها للمركزية سواء على صعيد تنظيمي داخلي أو على صعيد العلاقة بالمجتمع أو على صعيد التبعية إلى مركز قرار أممي واحد كان وقتها تمثل في موسكو. أي بشكل أوضح, تخليا عن النظرية اللينينة الستالينية التنظيمية وليس عن الماركسية ذاتها. وكان ذلك قد عنى إنهما صححا طريق المرور إلى الماركسية بتأثير الخاص الموضوعي, وبهذا هم عبرا من الوطني إلى الأممي ولم يذهبا على الطريق المعاكسة.
هذه الطريق الوطنية صار من شأنها أن ترتب الأمور بطريقة لا تتقاطع ولا تتناقض مع الهموم والحاجات وحتى الذات الخاصة بالمجتمعات المختلفة من حيث الموروث المتراكم الذي قد يحتاج, وصولا إلى العقائدي العام, إلى تعديل وتحوير الموضوعي وليس إلى تبديله. هنا نضع أيدينا على نقطة الإشكال الرئيسة, أي طريق العبور من الخاص إلى العام أو العكس, فالأول قد يتحقق من خلال مسيرة حوارية تفاعلية تنتقل بالمجتمع إلى الفكرة دون أن تدوس بأقدامها الذاتية على المشكلات الموضوعية الخاصة, في حين أن الثانية تبدأ من خلال طريق الغائية استبدالية "ثورية" لا تتقبلها تلك المجتمعات, وقد لا تحتاجها أصلا, أو هي قد تصلها بكلفة أقل, مراعية أن يكون هناك تفاعل حقيقي لا يلغي الزمان أو المكان ولا يتجاوزه بل يفلح في عين الوقت بتحويل المواجهة إلى حالة تفاعل وليس تضارب, وإلى حالة حوار وليس خصومة.
إنها مشكلة الأيديولوجية مع نفسها أولا ومع المجتمعات التي تتصدى لتغييرها ثانيا. فماذا كانت ردة الفعل الماركسية السياسية ؟. لقد أتُهم الحزبان بالخروج والانحراف عن العقيدة الماركسية اللينينية التي كانت تعالج المشكلة بمنظار طبقي لا غير بما أدى إلى إلغاء الخاص لصالح العام, وهذان الحزبان لم ينجوا أيضا من تهمة الخيانة, وهي سيف كان تسلط أيضا على عنق الرئيس اليوغسلافي تيتو الذي طبق الماركسية بما يراعي وضع يوغسلافيا, فأتهم بالولاء للغرب. هنا دخلت السياسة بعنف على خط العقيدة وجعلتها في خدمتها, بما نقل الصراع الاجتماعي إلى صراع سياسي بالدرجة الأولى, وحال دون نشوء خطاب عقائدي ذا منحى موضوعي ووطني. وهنا أيضا تبرز إشكالية وضع الأممي في مواجهة الوطني بدلا من اختيار الطريق الخاصة التي توفق بين الحالتين مبتدئة من التأكد من خط البداية على طريق المرور الصحيحة والسليمة.
صحيح أن الحزبين الشيوعيين, الإيطالي والفرنسي, لم يلجآ إلى طريق " الثورة " مما ألحق بهما تهمة اللجوء إلى العقلية الإصلاحية بدلا من الثورية, لكن من قال أنهما كانا في ذلك قد أخطآ.. لماذا لا يكون العكس هو الصحيح, بمعنى أنهما جربا صلاحية أفكارهما على مجتمعاتهما من خلال عملية اقتراب موضوعية ومن خلال صيغ حوارية تكفل امتحان الأفكار والعقائد بعيدا عن مبدأ الإسقاط والتسقيط والإرغام والإلغاء. ثم لماذا لا يكون (فشلهما) هذا هو نجاحا حقيقيا لهما إذا ما كان مقياس النجاح يقوم على معادلة الحزب من أجل الإنسان والفكرة من أجل المجتمع وليس العكس.. ألم تكفل لهما الديمقراطية فرصة عادلة للتنافس مع الأحزاب الأخرى بشأن من هو الأصلح وتركت لهما بالتالي فرص تعديل الأفكار والسياسات بالاتجاه الذي يكفل كفاءة التنافس وضمانة الحوار, ثم ألم يصل الحزب الشيوعي الروسي نفسه إلى ذات الطريق الذي كان وصل إليه الإيطالي والفرنسي, وهي طريق كان أدانها وحمّل أصحابها تهمة الانحراف والخروج على مركز العقيدة الأممي.
الآن نحن نعيش إلى حد كبير نفس الإشكالية العقائدية.. إنها تنشأ من طريق المرور إلى العقيدة قبل أن تنشأ من العقيدة ذاتها. إن الاقتراب من أحزاب الدين السياسي وعلاقتها بهذه الموضوعة سوف يجعلنا ندرك أن هذه الأحزاب تعيش نفس المفارقة التي عايشتها الأحزاب القومية والماركسية بما يخص العلاقة بين الخاص والعام, بين الموضوعي والذاتي, بين الوطني والقومي أو الأممي. فإن وجدت هذه الأحزاب على تناقض مع الحالة الوطنية فلأن الخلل الرئيسي يكمن في كون عقائد تلك الأحزاب تعبر فوق الحقيقة الوطنية, بل أنها تتناقض مع هذه الحقيقة من حيث الجوهر وعلى خط البداية تماما. إن الحزب السياسي الإسلامي سوف يخرج من ثوبه فيما لو بدل طريق المرور, فجوهر الدين أن يكون أمميا وليس قوميا أو وطنيا, كما أن طبيعته الفقهية توجب عليه أن يكون مذهبيا, لذا ليس من المستغرب أن يرتب الدين السياسي الناس حسب أديانهم وحسب مذاهبهم, وأن يرتب علاقاته الخارجية أيضا وفق القربى المذهبية وتكون بالتالي إمكانات التناقض مع المشروع الوطني مسألة طبيعية وليست إستنثناء.
من هذا, سواء على الصعيد العقائدي المبدئي العام, ومن غيره على الصعيد السياسي, يتوجب لحل هذه الإشكالية المربكة إلغاء أحد الطرفين, أما دولة المشروع الوطني وأما الحزب الديني السياسي.
غير ذلك, فإن وجودهما معا, هو تعبير عن حالة كذب ونفاق ليس بإمكان الدين أن يتحملها وكذلك السياسة.
#جعفر_المظفر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟