|
امرأة ورجلان
رياض كاظم
الحوار المتمدن-العدد: 3403 - 2011 / 6 / 21 - 01:12
المحور:
الادب والفن
طفلان يتشاجران على كل شيء ، على الكرة او الحصان الخشبي او على قطعة خبز ، طفلان يقتتلان على أتفه الاشياء على ( الدعبل والجعاب والقبقات واسلاك الوايرات ) ... اتقاتل معه كل يوم ، احاول ان امطله وادس انفه بالتراب ، اضع اصبعي بانفه ، افقس عينيه اعض اذنه ، اضربه بقسوة بين فخذيه الكمه على اسنانه لارى الدم يتدفق من بينها ، لكنه ينهض وينفض التراب من على دشداشته وكأن شيئا لم يكن ويعض على شفتيه ويهجم ، ينهال علي بالضرب بقساوة لا مثيل لها ، نتمرغ سوية على التراب ، نغرق بالعرق والشتائم والبصاق ، يستمر عراكنا من الظهيرة حتى تغرب الشمس ...
دائما يجد سببا للعراك والمماحكة ، ودائما اجد سببا للرد ... طفولة قاسية ، شريرة ، مليئة بالبصاق ، بصاق على الوجوه والجدران والنوافذ ، بصاق على السماء ، اسمع صوت امي ( كس أم الله ) ، صوت أبي الذي يصلي احيانا ( خره بيه اذا موجود ) ... الحرارة خانقة وهو يمسك بخناقي ويلكمني على انفي ، تورم انفي بشكل غريب ، اصبح يملأ كل وجهي ، وجهي اصبح عبارة عن انف متورم . ( اخ القحبة ) لكمته مرات ومرات على انفه من اجل ان اكسره ، لويت عنقه ووضعته في ساقية المجرى الخائس ، حاولت كل شيء من اجل ان اترك اثرا على وجهه ، لم افلح .. _ هل كسر خشمك ؟ قالت امي _ انا كسرت اسنانه .. _ اذهب واكسر خشمه ؟ عند الظهيرة خرجت عاريا الا من لباس يستر اعضائي ، وقفت وسط الدربونة وصرخت _ عبوسي ، اطلع ولك ... خرج عبوسي واهله يركضون وراءه كالمجانين ... كان عمري انذاك تسع سنوات وعبوسي اكبر مني بسنتين او ثلاثة ، كان اضخم جثة مني ، نحن صديقان ، بل هو صديقي الوحيد في ذلك العالم القاسي ، قساوة عالمنا وشحة الاشياء من حولنا جعلتنا نتعارك على بقايا العظام والدعابل والشرف ، ( الشرف ) نعم كانت لنا مسميات صغيرة للاشياء من حولنا ، الشرف ، كلمة غامضة ، تشبه طفولتنا الغامضة .. في احد الايام سمعت ابي وامي يتحدثان عن فتاة فقدت عذريتها على يد احدهم ، هذا ما ادركته فيما بعد ، في ذلك الحين لم افهم ما يقولان ... قالت امي وهي تعد الفطور وتهمس لابي .. _ محمد اخذ وجه بدرية ... تعجب والدي واخذ يستغفر الله ويسأل عن الستر والعافية .. _ أخذ وجهها ؟ الاطفال في مثل عمري يحبون الطعام ، كنت ابتلع الخبز والبيض وانظر الى الطاوة عسى ان احصل على المزيد من البيض .. اخذ وجهها ماذا تعني امي ، كيف له ان يأخذ وجهها ؟ هل وجهها قناع يلبسه حينما يريد الخروج الى السوق او الى المقهى ، كيف لاحدنا ان يأخذ وجه لا يخصه .. قلت وانا انظر الى الطاوة _ شنو يعني اخذ وجهها ؟ قال والدي _ اللهم نسألك حسن العاقبة .. وقفت وسط الدربونة وصرخت _ عبوسي .. عبوسي . خرج عبوسي عاريا وهو يحاول ان يبرز عضلاته ويصرف بطنه . هجم علي وامسك بخناقي واخذ يلكمني بقسوة .. قلت وانا الهث _ عبوسي ، عبوسي .. قال وهو يحاول ان يقطع اذني _ شكو .. شتريد .. ضربته على خصيتيه وقلت _ بدرية .. بدرية .. _ بدرية ؟ اطلق عبوسي سراحي واتكأ على الجدرار _ انا ايضا سمعت .. _ ماذا سمعت ؟ _ سمعت انها ... مو شريفة لوثت سمعة الدربونة .. اخرج من جيب دشداشته لفافة تبغ ، اشعلها واخذ ينفث الدخان .. سمعت انها تنام مع محمد... قلت _ محمد اخذ وجهها ! _ كيف ؟ _ لا ادري .. _ سنذهب الى بيتها لنرى .. كانت تلك مغامرة عظيمة بالنسبة لنا ، اذ ليس من السهل بالنسبة لي على الاقل ان ان اخرج من زقاقنا الى زقاق آخر اجهل تماما ما فيه ، وماذا ينتظرنا في ذلك العالم المجهول .. كانت الدربونة الاخرى لا تبعد عنا سوى عشرات الامتار لكنها بالنسبة لنا بدت رحلة طويلة ، محفوفة بالمخاطر ، عالم مليء بالاشقياء والباحثين عن المتاعب ، هناك اولاد اكبر منا سناً يحرسون منطقتهم وهناك رجال لا يسمحون لغريب ان يدخل عرينهم المحصن ... دخلنا الدربونة ، كان هناك اولاداً مفتولي العضل يدخنون ويتشاتمون فيما بينهم ، اولاد قساة واحدهم يستطيع ان يبطش بنا بضربة واحدة ، نظرت الى عبوسي الذي كنت اجده ضخما جدا كالغوريلا ، فاذا به يبدو لي بحجم الدجاجة ، او الفأر ... نظر لنا الاولاد بغير اهتمام وسمحوا لنا بالعبور .. قال عبوسي _ امشي .. امشي دون ان تنظر لاحد ؟ كان بيت بدرية اكبر من البيوت المحيطة به ، سياجه عال وابوابه موصدة على الدوام وهناك نافذة واحدة تطل على الدربونة ، النافذة ايضا موصدة ومغطاة بستائر ثقيلة .. قال عبوسي _ سننتظر هنا ... جلس قبالة النافذة واخرج لفافة تبغ واخذ يدخن .. قلت _ اعطني نفساً ؟ ناولني اللفافة بغير اهتمام .. اخذت منها نفسا عميقا وبدأت اسعل كالمجنون ، دارت بي الدنيا ، دارت بي الدربونة والاولاد الاشقياء دار من حولي عبوسي ، دخت ، لكنها كانت واحدة من الذ الدوخات بحياتي ، دوخة احببتها والتصقت بها حتى لحظة كتابة هذه السطور ... جلسنا هناك طيلة الظهيرة تحت انظار الاولاد التي تسلقنا ، انتظرنا عسى ان يفتح الباب او تطل منه بدرية ، عندما حل المساء ، خرجت فتاة في الرابعة عشر من عمرها او هكذا خمنت .. زمن الطفولة لا يعرف الاعمار ولا يأبه بها ، حينما تكون طفلا ، يصبح بنظرك ابن العشرين شيخاً ، خرجت بدرية لترمي الازبال .. يا الله .. انها انفجارات .. كل شيء صلب وحار ، خدود صلبة صدر صلب جسد ممشوق وصلب وقوي ، يتحمل العراك والضربات واللكمات ، خصم جديد يمكنني ان افرغ به غضبي .. نظرت بدرية ناحيتنا وابتسمت ، خمنت انها ابتسمت لي ، لي وحدي ، اسنانها جميلة وبيضاء شفتاها غليظتان كزنجية من افريقيا وخديها حمراوين كالرمان كالدم من بين اسنان عبوسي .. انها لي ... لي .. قال عبوسي وهو يلوي عنقه _ انها صاحبتي ابتعد عنها .. _ اخرس يا ابن القحبة انها لي .. _ كلا انها صاحبتي .. _ كلا انها لي .. نزع عبوسي دشداشته وفانيلته القذرة وهجم علي ، نزعت دشداشتي ايضا وبقيت بلباسي الداخلي، هجمنا على بعضنا ، ضوء الشمس الغاربة كانت تضرب على اجسادنا السمراء وتجعلها تلمع ببريق الشهوة والشباب .. توقفت بدرية تنظر لنا ونحن نتعارك .. من اجلها من اجلها فقط ... آلمني عبوسي جداً ، ضرباته اصبحت كوقع الحديد على جسدي ، ضربني حتى كاد ان يكسر عظامي ، تجمع حولنا الاولاد الاشقياء وهم يحاولون دفعنا للمزيد من الضرب .. شعرت بعظامي تتحطم ، وشعرت بمدى الالم الذي سببته لصديقي .. اقتربت منا بدرية ، بكل جرأة مرت من بين الاولاد الاشقياء ورمت عباءتها حول ظهرها وامسكت بذراعينا وفرقتنا عن بعض .. _ على هونكما ايها الطفلان ، لماذا تتقاتلان ؟ كان وجهي مغبرا والدم ينزف من بين اسناني ومن اذني . كانت رائحتها مزيج من فاكهة الرقي والشاي ، رائحة عذبة ، لا تشبه رائحة جسد عبوسي او دمه النازف تحت وقع لكماتي .. قال عبوسي بجرأة _ أنا احبك ؟ قالت _ ماذا ؟ قلت وانا احاول ان اتشبث بعبائتها كأنها امي _ انه كاذب .. انا من يحبك .. _ انت تحبني ايضاً .. بدت لي كأنها اكبر من عمرها ، اكبر من الحكايات الباطلة التي تدور من حولها ، لم ار بطنها منتفخة ، لم ار وجهها الجميل قد اخذه احدهم .. مسحت الدم عن وجهي وعن وجه صديقي ، اقتادتنا من ذراعينا الى منزلها ، الى الحمام ، رشت الماء على جسدينا وهي تقهقه ، قهقهة طفلة بريئة تلعب مع طفلين لم يعرفا جسد المرأة .. زمن الطفولة يشبه طفل يعبث بانفه ، يعبث مع امه على مائدة الفطور .. قلت لامي وانا التهم البيض المقلي والخبز _ عندما اكبر سأتزوج بدرية .. خمشت امي خديها _ بدرية ؟ ... لماذا بدرية ؟ كان ابي يحلق ذقنه ، ذقنه خشنه ، لا ينفع معها موس .. _ قلت لك من قبل ان هذا الولد لا يصلح لشيء . سأتزوج بدرية ... كس ام الله ... مرت ثلاث او اربع سنوات ... عبوسي ... عبوسي .. خرج عبوسي عاريا وهو يحمل بيده ( توثية ) ... مرت سنوات طويلة ، تضخم بها جسده حتى اصبحت لكماتي لاتجدي معه نفعا ، لكمات تصطدم بجدار صخري ، لكن قبضة يدة تقع علي كالمطرقة ، مطرقة تقع على مخدة من قطن ، حينها قررنا ان نعقد هدنة ، هدنة طويلة استمرت الى اليوم الذي سمعت فيه ان عبوسي سيتزوج من بدرية .. شعرت بالخيانة ، شعرت بأن بدرية خانتني مع أعز اصدقائي ، رغم اني لم اعد اتذكر منها سوى تلك الصورة الضبابية وهي ترش الماء على جسدينا واثدائها تتقافز كالقطط .. كنت في ذلك الحين اقترب من العشرين ، اشعر باليأس من الحياة والمستقبل ، اشعر بأن احدهم سرق مني شيئاً ثميناً ، ويجب ان استرده لكني لم اعرف كيف ؟ كما اني لم اعرف ما هو ذلك الشيء الثمين ؟ عبوسي ... عبوسي .. كان هناك العديد من الناس ، ناس من كل الاصناف يرقصون مع ( الكاوليات ) ناس يشربون ويغنون ويأكلون ، كانت هناك رائحة عرق وعطور وبخور ، كان هناك عبوسي يجلس الى جانب بدرية وهما في قمة السعادة ... انتبه عبوسي لصراخي المجنون ... توقفت الموسيقى عن العزف ، توقفت الكاوليات عن الرقص ... تبسم عبوسي وهو يتطلع بي بحب ، رأيت عينيه تمتلئان بالدموع ، نزع ثوبه فبانت عضلاته الصلبة الهائلة الحجم ، تقدم ناحيتي وهو يبتسم ... نزعت ثوبي وانا استعرض جسدي النحيل امام بدرية والحضور ، اشهرنا قبضتينا بوجه بعضنا البعض ، درنا حول بعضنا ، وجهت له بعض اللكمات لارى ردة فعله ، كان يصد قبضتي بغير اهتمام ، يبعدها عن وجهه وانفه ، شعرت انه لا يرغب بتلك المعركة ، شعرت به يبتسم لي بحب .. انها معركة خاسرة .. انت تخسر .. كانت بدرية تنظر للمشهد بقلق ، كنت اود لو انها تتدخل وتمنعننا من العراك ، كما فعلت ذات يوم ، لكنها تسمرت على كرسيها ترقب بحذر المعركة الخاسرة .. فجأة شعرت بقبضة هائلة الحجم تقع على انفي ، دارت بي الدنيا رأيت نجوما وسماءا بيضاء ، رأيت اشباحا من حولي ، اشباح الحضور والكاوليات وشممت رائحة ثقيلة ... _ هل هو ميت ؟ سمعت صوت عبوسي _ انه لا يموت ... كس ام الله ...
#رياض_كاظم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حول غرابة الاشياء من حولنا
-
قطة على الجدار
-
المسافرون الخالدون
-
صميدع
-
بيت الشجعان
-
وداعاً يا راعي البقر
-
الجلوس في مدينة الذكريات
-
ليلة غريبة قصة قصيرة
-
مرآة الغرفة والجليس الصامت
المزيد.....
-
فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ
...
-
انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا
...
-
صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة
...
-
الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف
...
-
حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال
...
-
الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
-
الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم
...
-
الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة
-
أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم
...
-
-جوابي متوقع-.. -المنتدى- يسأل جمال سليمان رأيه في اللهجة ال
...
المزيد.....
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
المزيد.....
|