أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - نهرو عبد الصبور طنطاوي - النظام المديني وزوال الديمقراطية – الجزء الأول















المزيد.....



النظام المديني وزوال الديمقراطية – الجزء الأول


نهرو عبد الصبور طنطاوي

الحوار المتمدن-العدد: 3399 - 2011 / 6 / 17 - 21:38
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    



(النظام المديني وزوال الديمقراطية _ الفصل الأول)
"نحو نظام سياسي إسلامي مديني لأمة مصرية واحدة"
إعداد : نهرو طنطاوي
الطبعة الأولى : 2011
رقم الإيداع في دار الكتب : 15352/2011
الناشر: دار نفرتاري للعلوم بأسيوط
محتويات الفصل الأول
1. (الفصل الأول:) النظام المديني وزوال الديمقراطية
2. عالمية النظام السياسي الإسلامي المديني
3. هل سقط حسني مبارك حقا؟
4. شعوب تتسول أنظمتها السياسية من الغرب
5. ترجمة الأفكار الغربية إلى أفكار عربية
6. لماذا نجحت الديمقراطية واستمرت في الغرب؟
7. القوادة السياسية باسم الديمقراطية
8. نتائج الاستفتاء بين الليبرالية والدين
9. لماذا يخشى الليبراليون من التيارات الدينية؟
10. "الديمقراطية" التاريخ والنشأة
11. الديمقراطية وغموض واضطراب المفهوم
12. الديمقراطية واستحالة التطبيق في دنيا الناس
13. المفاهيم غير الديمقراطية للديمقراطية
14. ضرورة تقنين وتحديد المصطلحات
15. الديمقراطية وخدعة حكم الأغلبية
16. الليبرالية وترقيع فتق الديمقراطية
17. نقد الديمقراطية الليبرالية
18. انتقادات شائعة ضد الديمقراطية
19. هل العلمانية ضد الدين؟
20. المقدس والمطلق بين الإسلام والعلمانية
21. مآزق التيارات الإسلامية السياسية
22. الحرية كذبة كبرى
23. الإعلام شيطان العصر
24. الإعلام والترويج لوهم اسمه (مصر)
25. جرائم الإعلام وجنايته على الشعب المصري
26. جرائم الفن وجنايته على الشعب المصري
27. الطائفية الدينية خنجر في خاصرة مصر
28. الإعلام ودوره المشبوه في الفتنة الطائفية

(الفصل الأول)
النظام المديني وزوال الديمقراطية الليبرالية
• عالمية النظام السياسي الإسلامي المديني:
إن النظام السياسي الذي أقامه النبي محمد عليه الصلاة والسلام في "المدينة المنورة" على مبادئ القرآن الكريم، لم يكن مجرد نظام سياسي لإدارة وتنظيم الجماعة المسلمة فحسب كما يظن ويحسب أكثر الناس، بل كان نظاما سياسيا أخذ شكل ومضمون أمة واحدة جمعت تحت لوائها أناس من أديان شتى وقبائل شتى وطوائف شتى، والجماعة المسلمة لم تكن سوى جزء من تكوينات هذه الأمة الواحدة، ولقد قام النبي محمد عليه الصلاة والسلام بوضع قواعد هذه الأمة وأسس نظامها السياسي على ثلاثة مبادئ رئيسة هي: (الحق، العدل، القسط)، ثم بنا عليه الصلاة والسلام دعائم دستور هذه الأمة على القيم القرآنية الإنسانية العامة، التي لا يختلف عليها اثنان من البشر مهما اختلفت أديانهم أو قبائلهم أو طوائفهم، ثم توج عليه الصلاة والسلام بناء هذه الأمة الواحدة بكتاب كتبه بينه وبين سائر القبائل والطوائف غير المسلمة في المدينة، وجاء هذا الكتاب فيما يشبه دستور كامل به (47) مادة دستورية لتنظيم وترسيخ ضوابط التعايش المشترك بين الجماعة المسلمة وبين من كانوا يقطنون المدينة المنورة من اليهود والنصارى والقبائل الأخرى، ورسم عليه الصلاة والسلام في هذه الصحيفة الهيكل السياسي لهذه الأمة الواحدة، وقام بتحديد المهام والحقوق والواجبات لكل طرف من أطراف هذه الأمة الواحدة، حتى خرج هذا النظام السياسي لدولة المدينة في أروع وأنبل وأرقى ما تكون عليه الأنظمة السياسية في تاريخ البشرية، إلا أن هذا النظام لم يستمر العمل في ظلاله أكثر من عشر سنوات، وهي السنوات التي قضاها عليه الصلاة والسلام في المدينة المنور بعد هجرته وحتى وفاته، ولما لم تكن البشرية يومها قد اعتادت على العمل السياسي في شكل مؤسسات كما هو الحال الآن سرعان ما تم الانقلاب على هذا النظام العظيم وتم استبداله بنظام الخلافة التي تحول فيما بعد إلى ملك وراثي على يد معاوية بن أبي سفيان، ومن يومها ظل نظام دولة المدينة حبيس آيات المصحف الشريف وكتب السير والمراجع التاريخية لم ينتبه ولم يأبه أحد له حتى يومنا هذا.
أما وقد تطورت البشرية في الفكر السياسي والعمل السياسي الآن وتوصلت إلى العمل المؤسسي وإنشاء المؤسسات السياسية فنرى أنه من الأجدر الآن أن نقوم باستدعاء النظام السياسي العظيم لدولة المدينة ومأسسته، أي صب مبادئ وأسس هذا النظام العظيم في مؤسسات، بالضبط كما حدث في الغرب، حين ظهرت الديمقراطية كفكرة في أثينا في القرن الرابع قبل الميلاد وتم العمل بها فترة من الوقت ثم تم الانقلاب عليها وطواها النسيان حتى استدعاها الغرب مرة أخرى في القرن الثامن عشر في أعقاب الثورة الفرنسية، وبعد إجراء بعض العمليات الجراحية والتجميلية والتلفيقية والترقيعية والالتفافية على حقيقة الديمقراطية تم صبها في مؤسسات إلى أن أصبحت بالشكل الذي نراها عليه اليوم في الغرب، ومن هنا أقول إن استدعاء النظام السياسي لدولة المدينة الآن وتحويله إلى مؤسسات والعمل به واقعا على الأرض سوف يجعل منه النظام السياسي الأرقى في تاريخ البشرية، وسوف يكون هو النظام السياسي العالمي الجديد الذي سوف تستعيره وتتطلع إليه في المستقبل جميع شعوب العالم بلا استثناء، وسوف يكون هو النظام الإنساني الحضاري الأرقى في تاريخ البشرية، وسوف يكون بقيمة وأخلاقه وأسسه ومبادئه الإنسانية العامة هو النظام البديل للديمقراطية القائمة على الليبرالية والعلمانية والرأسمالية، لأن النظام الديمقراطي المنتشر الآن في كثير من دول العالم بقيمة ومبادئه اللاإنسانية واللاأخلاقية القائمة على الليبرالية والعلمانية والرأسمالية لن يستمر طويلا وسوف ينهار حتما عند بزوغ فجر النظام السياسي الإسلامي المديني العظيم، ولن يبزغ هذا الفجر إلا على أيدي رجال ونساء من المسلمين ومن غير المسلمين يعملون جاهدين على نشر مبادئ هذا النظام العظيم بين جموع المصريين وغير المصريين ويبذلون في سبيل تحقيق ذلك أقصى طاقاتهم وما في وسعهم، فكل إنسان يعلم بهذا النظام فقد حمل على عاتقه أمام الله وأمام التاريخ وأمام البشرية أمانة إرساء قواعد هذا النظام وتطبيقه فعليا على الأرض لإنقاذ البشرية جمعاء من تخبطها وتيهها وآلامها.
(قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُو يُحْيِي وَيُمِيتُ) (158_ الأعراف)

• هل سقط حسني مبارك حقا؟:
الشعب المصري يخدع نفسه ويوهمها بأن الفساد قد سقط وأن الظلم قد سقط وأن الاستبداد قد سقط بسقوط الطاغية الأثيم "حسني مبارك" في 11 فبراير 2011م، والحقيقة المرة التي يتوارى منها المصريون وتلاحقهم أينما وجدوا أن "حسني مبارك" لم يسقط، إن "حسني مبارك" ليس مجرد حاكم عابر سبيل مر على دولة وهي خاوية على أصولها فحكمها حيناً من الدهر ثم تركها وانصرف، إن حسني مبارك هو منظومة فكرية وسياسية وعقدية وثقافية وأخلاقية فاسدة متأصلة ومتجذرة في نفوس المصريين وبادية في سلوكياتهم وفي تعاطيهم مع الواقع ومع الأشياء، حسني مبارك ليس هو ذلك الشخص المواطن المصري الذي ننظر إليه على أنه كان مجرد حاكم مستبد عابر حكم مصر لمدة ثلاثين عاما من عام 1981م إلى عام 2011م ثم سقط وراح وراح زمانه بلا رجعة، كلا، حسني مبارك ما هو إلا أحد ذراريكم، جزء منكم، قصاصة من ثوبكم، بعض دمكم، أقصوصة لكم، وإحدى أحجياتكم، حسني مبارك هو آية عليكم، وسلف لكم، حسني مبارك هو أنتم، وأنتم هو حسني مبارك.
إن ثورة 25 يناير قد أسقطت الصنم الأكبر حسني مبارك المتمثل في شخص رئيس المصريين، لكن الثورة لم ولن تسقط حسني مبارك داخل نفوس المصريين، ففي داخل كل مصري حسني مبارك، إن مثل حسني مبارك في فكره وفي تعاليمه وقيمه وسلوكياته وأخلاقياته كمثل فرعون موسى، وفرعون موسى لم يكن ذلك المواطن المصري الذي كان يحكم مصر في عهد موسى عليه السلام إنما هو أمثولة فكرية ونموذج لعقيدة سياسية ودليل على تعاليم موبوءة وثقافة منحطة ونشأة مزرية وتربة غير طيبة أنبتت نبتة غير صالحة، يخطئ من ظن أن حسني مبارك قد سقط، ويخطئ من ظن أن حسني مبارك هو ذلك الشخص المواطن المصري الذي حكم مصر حيناً من الدهر، حسني مبارك هو أنا وأنت وأنتما وأنتن وأنتم، حسني مبارك هو هذا وهذه وهاتان وهذان وهؤلاء وأولئك، حسني مبارك مازال متربعا على عرشه داخل رأس وقلب وفكر وثقافة وسلوك وأقوال وأفعال كل مواطن مصري.
• شعوب تتسول أنظمتها السياسية من الغرب:
نخدع أنفسنا بحق إن ظننا أن إصلاح الأوضاع السياسية في مصر سيتم عبر استبدال أنظمة سياسية متخلفة مستبدة بأنظمة سياسية مُتَسَوَلَة من الغرب، لكنها "مُتَرْجَمَة" ومفرغة من مضمونها الذي تعارف عليه أهلها من الصناع الحقيقيين لها، كـ "النظام الديمقراطي" و"الليبرالي" و"العلماني" و"الانتخابي" و"البرلماني" و"الرئاسي"، هذه الأنظمة وغيرها هي أنظمة غربية تم تسولها واستيرادها وجلبها من الدول الأوروبية إلى العالم العربي وتم ترجمتها وتم تطبيقها، لكنها ترجمت وطبقت بصورة كاذبة خاطئة، فلا أفلحنا في إقامتها كما هي ولا أفلحنا في تطبيقها كما طبقها أهلها الأصليين، فحين جلبناها وترجمناها تحولت إلى أنظمة عبثية مسخ لا معنى لها ولا قيمة ولا دلالة وأضحى إثمها أكبر من نفعها، كذلك نخدع أنفسنا بحق إن ظننا أن الإصلاح السياسي سيحدث في مصر بتغيير وجوه بوجوه ونظام بنظام وسلطة بسلطة عبر انتخابات حرة ونزيهة، كذلك نخدع أنفسنا بحق إن ظننا أن الأوضاع السياسية في مصر ستسير إلى الأفضل بعد إسقاط نظام الطاغية الأثيم "حسني مبارك"، أو بعد تعديل الدستور أو تغييره.
المفكرون والساسة في الغرب حين بدءوا في رص صفوفهم السياسية والاجتماعية بعد زوال سلطة الكنيسة في أوروبا، وحين أعملوا فكرهم في قضاياهم الكبيرة والهامة، وحين بدءوا في معالجتها، بدءوا من الأسس، من الأصل، من الكليات العامة، من موروثهم الفكري والثقافي والاجتماعي والتاريخي، ولم يخرجوا في أطروحاتهم السياسية عن تاريخهم وتراثهم الفكري وثقافتهم المتوارثة، ومثلا على ذلك فكرة (الديمقراطية)، وجميعنا يعلم أن (الديمقراطية) كنظام سياسي هي من صميم الموروث الفكري والتاريخي الغربي، فكان استدعاء الغربيين لفكرة الديمقراطية وبلورتها في أنظمة سياسية تحكم المجتمعات الغربية له أسبابه المشروعة، منها: أنهم لم يقوموا باستيراد أو بتسول فكرا سياسيا غريبا عنهم أو عن موروثهم الفكري والثقافي والتاريخي فلم يتسولوا أنظمة من أمم أخرى. ومنها: أن التربة الثقافية للشعوب الغربية كانت تربة مهيأة دينيا للسماح بقيام مثل هذا النظام واستمراره كما سنرى بعد قليل، لذلك نجح الغربيون في بلورة الفكر (الديمقراطي) ونجحوا في وضع الآليات المناسبة لتحويله إلى واقع حقيقي يحيى الناس في ظلاله.
أما في المجتمعات الشرقية العربية والإسلامية فمعظم أبنائها إن لم يكن جميعهم على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم واتجاهاتهم الفكرية والدينية سواء الذين منهم من لا يزالوا يعيشوا بين ظهرانينا في الشرق، أو الذين رحلوا منه إلى الغرب، حين بدءوا في رص صفوفهم السياسية والاجتماعية بعد زوال الاحتلال الأجنبي عن بلدانهم، وحين بدءوا يفكرون في قضاياهم الكبيرة والهامة، وحين بدءوا في معالجتها، لم يبدءوا من الأسس، ولا من الأصل، ولا من الكليات العامة، ولا من الموروث الفكري والثقافي والاجتماعي والتاريخي لبلدانهم العربية والإسلامية، إنما قاموا باستيراد وتسول الأنظمة السياسية الغربية التي تقوم على فكرة (الديمقراطية)، فخرجوا بأطروحاتهم السياسية عن تاريخهم وتراثهم الفكري وثقافتهم المتوارثة، وفي نفس الوقت عجزوا مجتمعين عن إقامة الديمقراطية التي تسولوها بمدلولها الحقيقي في الشرق كما هي قائمة في الغرب، وأضحوا كالمُنْبَت لا أرضا قطع ولا ظهرا وصل.
ولا يعود سبب ذلك العجز في محيط الشعوب العربية والإسلامية عن إيجاد نظام سياسي نابع من فكر ذاتي ذو خصوصية عربية إسلامية إلى أننا شرقيون وعرب ومسلمون، أو أن ثقافتنا العربية وفكرنا الإسلامي عقيم عن إيجاد ذلك النظام، كلا، إنما يعود السبب الحقيقي إلى أن الشخصية الشرقية العربية مسلمة أو غير مسلمة قد تحولت إلى شخصية غربية (مُتَرْجَمة)، هذه الشخصية الغربية المترجمة (الشرقية العربية سابقا) أصفها بأنها (مُتَرْجَمة) لأنها عارية من الخصوصية الفكرية والذاتية الفكرية والتميز الفكري. وبعبارة أخرى إن النخب الشرقية العربية (المُتَرْجَمة) ليس لديها فكرا جديدا تقدمه للناس في أي من المجالات السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية أو الفكرية، بل كل ما لديها من فكر في أي مجال هو في أصله صناعة غربية بامتياز، سواء كان (ليبراليا، أو علمانيا، أو يساريا، أو شيوعيا، أو ديمقراطيا، أو رأسماليا، أو اشتراكيا) قاموا بترجمته فشوهوه، فلا تركوه غربي القلب والقالب، ولا أصبح شرقيا عربي القلب والقالب. فحين قاموا بترجمة الديمقراطية الغربية لتصبح ديمقراطية شرقية عربية أضحى لدينا برلمانات، والبرلمانات بها كراسي، والكراسي من فوقها أعضاء، والأعضاء جاءوا عبر انتخاب، والانتخاب جاء عبر تصويت الشعب، لكن هل الديمقراطية العربية (المُتَرْجَمة) أفرزت لنا نفس الديمقراطية الغربية؟؟ أترك الجواب للقارئ.
وليت الأمر قد اقتصر على عجز النخب العربية عن ترجمة الديمقراطية الغربية لتكون ديمقراطية شرقية عربية حقيقية فحسب، بل قاموا بإفساد الديمقراطية الغربية وتسطيحها وتشويهها أيما تشويه، بل لم يقتصر الأمر على إفساد الديمقراطية الغربية فحسب، بل كذلك فعلوا بالفكر الاقتصادي الغربي والفكر الاجتماعي الغربي بل حتى أفسدوا الثقافة والمظاهر الغربية في الملبس والمأكل والعلاقات الإنسانية، وليس أدل على ذلك من أنك ترى "فتاة عربية محجبة" تغطي شعرها _لأنها تعتقد أن كشفه حرام_ وفي نفس الوقت ترتدي تحت غطاء الرأس "بنطلون استرتج"!!، في محاولة منها للجمع بين ثقافة "الاسترتج" الغربي والحجاب الإسلامي، أو كما قال المثل الشعبي الريفي "تغطي رأسها وتعري "...". وتغطية شيء وتعرية شيء آخر هذه ثقافة وخصوصية مصرية بامتياز تجدها منتشرة في كل سلوكيات وتعاملات المصريين السياسية والفكرية والإعلامية والدينية وحتى الأخلاقية والقيمية. وكذلك فعلوا بالفكر الفلسفي الغربي، وما أدراك ما الفكر، فمعظم الأفكار والتوجهات الفكرية التي تتبناها النُخَب العربية (المُتَرْجَمة) هي في الأصل أفكار ونظريات فكرية غربية خالصة، ليس لنخبة عربية واحدة من نخب الشرق العربي فضل يذكر أو جهد يذكر في إنتاجها أو إبداعها، بل لم يكن لهم من دور يذكر سوى الترجمة المشوهة أو الإفساد لها. هذا العجز النخبوي العربي يدل صراحة على أن الفكر الغربي له خصوصياته النابعة من موروثه الثقافي والفكري الغربي الخاص بالبيئة الغربية والذي يختلف تماما عن الموروث الثقافي والفكري العربي الخاص بالبيئة العربية. بل إن العجيب والملفت في الأمر أن المثقفين العرب قد ملئوا رؤوسهم وأفكارهم وكتاباتهم بفكر غربي مترجم قد نبت في تربة غير التربة ومناخ غير المناخ ثم أغلقوا عليه رؤوسهم ولا يزالوا عليه عاكفين ولا يريدوا أن يقتنعوا أن ذلك الفكر لن ينبت في أرض غير الأرض وبيئة غير البيئة ومناخ غير المناخ.
لذلك كثيرا ما يصطدم هؤلاء مع واقعهم العربي الشرقي حين يحاولون يائسين زرع بعض الأفكار الغربية في البيئة العربية الشرقية أو إلباسها للواقع العربي رغما عنه، في الوقت الذي عجزوا فيه عن ابتكار أي فكر مستنير خاص بهم وبثقافتهم وبموروثهم الفكري والبيئي، أو ابتكار أي فكر جديد فريد يميزهم عن الآخرين وينطلق بهم نحو التقدم والحضارة دون ترجمة أو نسخ أو تسول لإبداعات ومنتجات الآخرين، فكر يضعون هم لبناته الأولى، كلماته الأولى.
بل لقد حاول بعض المترجَمِين العرب إسقاط النظريات الفكرية الغربية على الدين الإسلامي والتي برر فيها الغرب من خلال نظرياته تلك انقلابه على الديانة المسيحية الغربية من دون أن يأخذ في حسبانه الاختلافات العقائدية والتشريعية الجذرية والجوهرية بين الديانتين، فمثلا في الديانة المسيحية الغربية في نسختها (الكاثوليكية) كانت هناك عقائد لا يمكن قبولها أو تصورها، ككون البابا هو المتحدث الأوحد باسم الله وهو ممثل الله ووكيله على الأرض، حتى إن البابا (نقولا الأول) قد أصدر بيانا في العصور الوسطى قال فيه: (إن البابا ممثل الله على ظهر الأرض يجب أن تكون له السيادة العليا والسلطان الأعظم على جميع المسيحيين حكاما كانوا أو محكومين) انتهى. (المصدر: قصة الحضارة، ول ديورانت، ج14، ص352). ناهيك عن عقيدة "عصمة البابا" في تقريره للعقائد الدينية التي سيعتنقها الناس، وفي الوقت نفسه لا يمكن لأحد أن يفكر مجرد تفكير في نقد قرارات البابا الدينية العقيدية وإلا اتهم بالزندقة والهرطقة والكفر ويكون مصيره إما الحرق بالنار أو الجلوس على الخازوق، مرورا بمهزلة "صكوك الغفران"، والإقطاع الكنسي الذي كان يمارس على الفلاحين وعامة الشعب باسم الله، فما كان أمام الشعوب الغربية من سبيل للهروب من هذا الجحيم المستعر إلا الثورة والانقلاب، ليس على البابا ورجال الدين فحسب، بل على الدين ذاته، ولا ننسى كذلك أن الثورة حين قامت في الغرب على الكنيسة كانت لها أرضية شاسعة من الشعب الذي كان هو المضطهد الأول من قبل رجال الدين، ولا يفوتنا كذلك أن الكنيسة كانت هي من تتبنى السلطة السياسية بمعنى أن الإمبراطور كان لا يعين إلا بموافقة ومباركة البابا.
أما في العالم العربي والإسلامي فالأمر يختلف تماما عما كان عليه الأمر في الغرب قبل عصر النهضة، ومهما يكن من تشابهه بين الواقعين الإسلامي الشرقي والمسيحي الغربي، ومهما يكن من أمر فلا سبيل إلى التشبيه بين واقع العالم العربي اليوم وبين ذلك الواقع المظلم والمزري الذي كان عليه واقع العالم الغربي قبل الثورة الفرنسية، والبراهين على ذلك كثيرة يكفي أن الغالبية العظمى من الشعوب العربية والإسلامية الآن هي في صف الدين وليست ضده، من دون إكراه أو وصاية سلطوية من رجال دين أو غيرهم، بل إن الواقع العربي في غالبيته ضد العلمانية وضد الإلحاد وضد الثقافة الغربية عموما، بل إن الجميع يوقن أنه لولا جيوش الأنظمة العربية الحاكمة المستبدة وقمعها للشعوب العربية لأقامت كل الشعوب العربية والإسلامية أنظمة دينية إسلامية بمحض إرادتها، وهنا تكمن المفارقة، ومن هنا ينبغي على الباحث إدراك هذه الحقائق وهذه المفارقات بين الشعوب الإسلامية في الوقت الحاضر وبين الشعوب الغربية في عصور الظلام الكنسي، وهذه المفارقة لها من الأسباب ما يبررها ونذكر منها:
السبب الأول: الدين الإسلامي ليس في عقيدته الأم تلك العقائد المؤلهة والعاصمة لرجال الدين كما هو الحال في الديانة المسيحية في نسختها الكاثوليكية الغربية.
السبب الثاني: السلطة الدينية في العالم الإسلامي خاضعة بشكل كامل للسلطة السياسية على عكس ما كان في العصر الكنسي الغربي.
السبب الثالث: لا يوجد في العالم الإسلامي ما يسمى بصكوك الغفران، ولا يوجد عداء للدين الإسلامي ولا لرجاله من القاعدة العريضة من الشعب بل العكس هو الصحيح.
ورغم كل ذلك مازالت النخب العربية (المُتَرْجَمة) تصر على إسقاط واقع العصور الوسطى في الغرب على الواقع الحالي في العالم العربي والإسلامي لإثارة المخاوف ضد الدين من دون مبرر موضوعي حقيقي يذكر سوى الارتزاق من خلال محاولة تسويق الفكر الغربي بتحريض وبتمويل من بعض المغرضين ومن بعض قيادات الأقليات الدينية في مصر والعالم العربي، فالتخوف والتخويف والتفزيع من نظم الحكم الإسلامية في الوقت الذي لم تصل فيه على الإطلاق أي سلطة دينية إسلامية إلى سدة الحكم في العالم العربي في القرن المنصرم أمر يجب أن يوضع أمامه عشرات من علامات الاستفهام، أليست أنظمة الحكم كلها في العالم العربي التي طغت وأفسدت في الأرض ونهبت الشعوب وتآمرت مع أعدائها على شعوبها ألم تكن جميعها إما أنظمة غربية ديمقراطية ورأسمالية واشتراكية وليبرالية وعلمانية مترجمة، وإما أنظمة قبلية بدوية متخلفة؟.
• ترجمة الأفكار الفلسفية الغربية إلى أفكار عربية:
إن الأفكار الفلسفية لمن يسمون بالملحدين العرب أو الليبراليين العرب أو العلمانيين العرب أو الاشتراكيين العرب أو الديمقراطيين العرب أو الرأسماليين العرب، ما هي إلا نسخ مترجمة مشوهة من الفكر الغربي، لا هي أفلحت أن تبقى غربية غربية ولا أفلحت أن تكون عربية عربية، وأضرب مثلا بالملحدين العرب (المُتَرْجَمِين) الذين لا يعلمون شيئا عن دراسة الأديان ولا الفكر الديني سوى القص واللصق من الكتب والمصادر التاريخية والتراثية والغربية، فهؤلاء غير جادين وغير صادقين في الإلحاد واللادينية، بل هم ملحدون تجاه دين بعينه هو (الإسلام) فحسب، أما بقية الأديان إذا ما أراد أحدهم أن يوجه نقده إليها يأتي ذلك النقد في فقرة صغيرة في معرض كتابه أو مقاله، أو جملة وحيدة يتيمة في ختام مقاله أو كتابه لا تتعدى الخمسة أسطر أقل أو أكثر قليلا حفظا لماء الوجه، وربما يعقب هذا الانتقاد بعض التبرير والتفسير والتماس الأعذار، مراعاة لشعور أهل تلك الأديان.
فمن خلال قراءاتي في الفكر الإلحادي الغربي وجدت أن الإلحاد بكل صوره وأشكاله هو نبذ لكل الأديان والعقائد سواء كانت سماوية أو أرضية أو بدائية أو أية صورة أو شكل من صور وأشكال العقائد والدين، ولم أر في أدبيات الإلحاد الغربية نظرية تقول: هناك دين طيب وهناك دين شرير، سوى النظرية الجديدة التي وضعها الملحدون العرب، والتي تقول بأن الملحد من الممكن أن يلحد ويرفض دين بعينه ويتقبل ويناصر دينا آخر حتى ولو لم يعتنقه وفي الوقت نفسه يكون ملحدا جادا في إلحاده، فلقد تبين لي من خلال كتابات الملحدين العرب (المترجمين) أنه كما أن هناك مؤمنون جادون صادقون في إيمانهم، كذلك هناك ملحدون جادون صادقون في إلحادهم، وكما أن هناك مؤمن منافق، فكذلك هناك ملحد منافق، وهذا ما نراه واضحا في نفاق بعض الملحدين العرب (المترجمين) حين يكيلوا المديح والثناء في كل كتاباتهم لبعض الديانات دون الأخرى، مما يشعر المرء بأن هناك شيء ما غير متوازن في جدية إلحادهم، أو أن هؤلاء يكتبون لقارئ أمي أعمى أطرش لا يعرف شيئا عن الأديان ولا تاريخها ولا ماهيتها، وهذا ما يدعو المرء إلى التساؤل: هل الملحدون العرب (المترجمون) لا يجيدون حتى ممارسة الإلحاد؟.
إن ما لا يعرفه الملحدون العرب أن مبررات ونظريات الغرب الفكرية لإقصاء الديانة المسيحية (الكاثوليكية) من واقع الحياة الغربية كان لها واقعها الإنساني المزري في العصور الوسطى، وكان لها واقعها المتصادم تماما مع حقوق الإنسان وكرامته، وكان لها جمهورها الحاشد من جماهير الشعب المضطهد على أيد رجال الكنيسة المتطرفين، هذا على عكس ما هو عليه الحال الآن في العالم الإسلامي، وكذلك ما لا يعرفه الملحدون العرب أن الملحد الغربي يقف على مسافة واحدة من جميع الأديان، على خلاف الملحد العربي الذي يلحد فقط في الدين الإسلامي، وكذلك من الأخطاء الجسيمة التي وقع فيها الملحدون العرب، فبدلا من مواجهة التطرف الديني لدى التيارات الدينية المنتسبة للإسلام بفكر نابع من الإسلام ذاته، أو بمحاولة إعادة قراءة النصوص الدينية قراءة جديدة تتماشى مع الواقع المعاصر، قاموا باستيراد النظريات العلمانية والإلحادية الغربية وإسقاطها على الواقع الإسلامي، وأنا هنا لا أبرر للحال المزري الذي يعيشه العالم الإسلامي والعربي في وقتنا الحاضر في كافة المجالات بما فيها الفكر الديني المتطرف، بل ما أريد قوله: إن إصلاح الفكر الديني المتطرف لابد وأن ينبع من داخل الدين الإسلامي نفسه وبأسس ونظريات إسلامية محضة، أما محاولات إسقاط الفكر الغربي بكل نظرياته الغربية الخالصة لفهم الدين والتي وضعت لدين غير الدين وواقع غير الواقع، فلن تلقى إلا النبذ والصد والمناوئة من الجميع، فلا يعقل أن نزرع نبتة غريبة في أرض غير أرضها ومناخ غير مناخها ثم ننتظر منها أن تثمر لنا شيء يذكر؟.
إن الفكر الإلحادي أو الفكر العلماني هو ابتكار غربي أحدثه الغرب للهروب من جحيم الكنيسة في العصور الوسطى، فلولا الغرب ما عرف الملحدون العرب ولا العلمانيون العرب (المترجَمون) شيئا عن الإلحاد أو العلمانية على الإطلاق ولو عاش أحدهم في الدنيا ألف سنة، فالإلحاد أو العلمانية لكل منهما صانعيه وفلاسفته وعلمائه الغربيين الذين هم وحدهم من يملك براءة اختراعه، وبالتالي لم ولن يستطع أحد من الملحدين العرب أو العلمانيين العرب إضافة شيء جديد على ما كتبه علماء وفلاسفة الغرب العلمانيين والملحدين، بل الجديد الذي حاولوا ويحاولون فعله هو إسقاط الفلسفة الغربية العلمانية والإلحادية التي جاءت ردا على ممارسات الكنيسة وعلى الواقع الديني المسيحي الغربي قبل عصر النهضة على الدين الإسلامي، ومن ثم ترجمة هذه الفلسفة إلى الواقع العربي الإسلامي ضاربين عرض الحائط بالفوارق بين دين ودين وواقع وواقع، ومن ثم قاموا بتشويه الغرب وتشويه الإلحاد كفكر وتشويه العلمانية كفكر في عيون العرب من حيث لم يعلموا، لأن الناس في العالم العربي وخاصة الذين لم يتعاملوا مع الغربيين الأصليين، ينظرون إلى صورة الغربي من خلال النسخ العربية المترجمة المشوهة، فظنوا أن الشخصية الغربية كذلك، مع العلم أن الشخصية الغربية وخصوصا المثقفة منها هي شخصية محترمة بامتياز.
ومهما كانت الترجمة دقيقة إلا أن نسختهم العربية الشرقية المترجمة هي نسخة مشوه لا هي إلحادية غربية أصيلة ولا هي عربية شرقية أصيلة، وليس كذلك فقط بل حتى انتقاداتهم للفكر الإسلامي هي في الأصل انتقادات غربية أصيلة وضعها المستشرقون الغربيون منذ عشرات السنين، وما على المرء إن أراد التأكد من ذلك سوى مطالعة كتب المستشرقين الغربيين التي تنتقد التراث الإسلامي، فسيفاجأ وكأن ما يكتبه هؤلاء من انتقادات عبارة عن نقل حرفي قد تم منتجته حسب ما يقتضيه عنوان الموضوع الذي يكتب فيه. فأين تميزهم؟؟ وأين إبداعهم؟ وأين فلسفتهم؟ وأين نظرياتهم؟ وأين ذاتيتهم الفكرية في هذا المجال أو في غيره؟. لا شيء جديد على الإطلاق، سوى الانتقاء والتسول وعدم الأمانة العلمية والسرقة من الفكر الغربي، فالإصلاح الحقيقي لأفكار الأمم والشعوب يبدأ بالفكر الذاتي النابع من ذات الثقافة ومن التعاليم المورثة، ومن دون ذلك فلن يتم إصلاح شيء حتى ولو أصبح العرب بِيض البشرة شٌقْر الشعر زُرْق العيون.
• لماذا نجحت الديمقراطية في الغرب واستمرت دون منافس؟:
يعتقد كثير من المثقفين والمفكرين العرب الديمقراطيين منهم والليبراليين والعلمانيين والإسلاميين على السواء أن نجاح الديمقراطية الليبرالية في المجتمعات الغربية جاء نتيجة لإقصاء الدين المسيحي عن واقع الحياة وعزل رجاله داخل جدران الكنائس وإبعادهم تماما عن السلطة السياسية، هذا الاعتقاد هو اعتقاد خاطئ ومجانب للصواب تماما، بل ينم عن عدم وعي بماهية الديانة المسيحية، وعدم وعي بطبيعة وخلفية الممارسات الوحشية التي كان يمارسها رجال الدين المسيحي (الكاثوليك) على الشعوب الغربية، وكذلك عدم وعي بمصدر ومرجعية هذه الممارسات.
إن الرسالة المسيحية في شكلها الحالي ليست كرسالة موسى عليه السلام، وليست كرسالة محمد عليه الصلاة والسلام، فرسالة المسيح بن مريم عليه السلام لم تأت بشريعة مفصلة عامة شاملة كاملة متكاملة تنظم وتسير شئون حياة الناس، كما هي شرائع وأحكام التوراة وكما هي شرائع وأحكام القرآن الكريم، فالمسيح بن مريم عليه السلام لم يأت لينقض شريعة موسى عليه السلام الموجودة في التوراة بل وأكد المسيح عليه السلام ذلك بقوله: (ما جئت لأنقض بل لأكمل)، ما يعني أن المسيح عليه السلام جاء مقرا وداعيا ومقيما لشريعة موسى عليه السلام ومكملا لها، وليحل بعض ما حرمه الله على بني إسرائيل، وإجراء بعض التغييرات الطفيفة على شريعة وأحكام التوراة كما نص القرآن على ذلك، إلا أنه بعد وفاة المسيح بن مريم تم تجاوز الشريعة التوراتية وتم وقف العمل بأحكامها من قبل أتباعه، كيف؟ ولماذا؟ هذا بحث له مجال آخر ليس هنا مجال نقاشه.
فالذي يعنينا في الأمر أن رسالة المسيح عليه السلام أصبحت بعد وفاة المسيح بن مريم عليه السلام ديانة منزوعة الشريعة التنظيمية لشئون حياة الناس، ومنزوعة الأحكام المفصلة الشاملة كما هو الحال في شرائع وأحكام التوراة والقرآن الكريم، وظلت المسيحية هكذا حتى يومنا هذا، ورغم أن الكتاب المقدس للمسيحيين يجمع بين دفتيه توراة موسى عليه السلام وإنجيل المسيح عليه السلام، إلا أن أتباع المسيح بن مريم على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم لا يطبقون شرائع وأحكام التوراة الموجودة بين أيديهم في شئون حياتهم، بل ويرون أنهم غير مطالبين دينيا بتطبيق أحكامها والالتزام بشرائعها، إنما هم ملتزمون فحسب بوصايا السيد المسيح بن مريم الواردة في الإنجيل برواياته الأربعة: (مرقص، متى، يوحنا، لوقا)، وهي في جلها وصايا أخلاقية وإنسانية تركز على العفو والصفح والتسامح والزهد في الدنيا والإقبال على الله بقلب صاف خال من التمسك بالحياة ومباهجها وغرورها.
وهذا يكشف لنا عن خطأ منهجي وفكري وقع فيه كثير من المثقفين الديمقراطيين والليبراليين العرب وكذلك الإسلاميين العرب وهم يروجون لفكرة الديمقراطية ويطالبون بها، بل ويكشف لنا كذلك عن حقيقة هامة غابت عن الجميع ألا وهي إن الرسالة المسيحية بصورتها التي بدت عليها بعد وفاة المسيح بن مريم واستمرارها بهذه الصورة إلى يومنا هذا يجعل منها رسالة لا تصلح للتصدي للحكم ولا لتسيير شئون الناس، ولا لتولي السلطة عليهم، ولا للعمل السياسي، لخلوها من التشريعات والأحكام التفصيلية الشاملة التي تنظم شئون الناس وتوجه حركتهم في الحياة، وهنا قد يتساءل البعض ويقول: إذا كان ذلك كذلك فكيف كانت الكنيسة في القرون الوسطى تحكم المجتمعات الأوروبية؟ وكيف كانت تقيم دولة دينية أو نظام سياسي على أساس ديني؟.
للجواب على هذا التساؤل الهام أقول: إن الكنيسة الكاثوليكية في أوروبا لم تكن قط تحكم المجتمعات الأوروبية حكما دينيا حقيقيا، بل من الإجحاف وتزوير الحقائق والالتفاف على التاريخ وصف سلطة الكنيسة في العصور الوسطى بأنها كانت سلطة دينية، بل هي في واقع الحال لم تكن سلطة دينية على الإطلاق، لأنها لو كانت سلطة دينية حقيقية لكانت التزمت بتطبيق الأحكام الدينية والتشريعات الدينية التي وردت في الإنجيل إن وجدت، إنما كانت السلطة الحقيقية هي سلطة رجال دين قائمة على عقيدة الاتصال المباشر بين الله وبين رجال الدين كما كانوا يدعون ذلك، ويؤكد هذا ما ذكره البابا (نقولا الأول) في العصور الوسطى بقوله: (إن البابا ممثل الله على ظهر الأرض يجب أن تكون له السيادة العليا والسلطان الأعظم على جميع المسيحيين حكاما كانوا أو محكومين) انتهى. (المصدر: قصة الحضارة، ول ديورانت، ج14، ص352).
ومن هنا يتضح لنا أن الأمر برمته لم يكن له أية علاقة بأحكام دينية أو تشريعات دينية حقيقية على الإطلاق، وأقصد هنا أنه لم يكن هناك نص ديني مكتوب كالتوراة أو القرآن به نصوص واضحة محددة لحكم الناس وتسيير شئون حياتهم والفصل في منازعاتهم، بل كان البابا وفق (الكاثوليكية) يستمد سلطته على المسيحيين حكاما ومحكومين من الله مباشرة، من دون وجود نص ديني مكتوب ومتفق عليه أوحى الله به إلى البابا فمن خلاله دعا البابا الناس إليه وصدقوه وآمنوا به ابتداء ومن ثم يجب عليهم الانصياع لسلطته، بل كانت أحكامه وسلطته مستمدة من الله مباشرة من دون وجود نص ديني محدد، له أول وله آخر، يقبله الناس أو يرفضوه، يؤمنوا به أو لا يؤمنوا، ولم يكن يومها للناس من آلية تمكنهم من التحقق من مصداقية البابا في حقيقة استمداد سلطانه من الله أم لا، بل ليت السلطة المستمدة من الله تتوقف على بابا واحد بعينه، بل كانت سلطة خاصة بكل شخص يشغل منصب البابوبة. مما يعني أن كل بابا يأتي يقوم بإصدار أحكامه التي يستمدها _على حد زعمهم_ من الله مباشرة وبطريقة فورية ومن دون أخذ رأي الناس فيها مسبقا هل يؤمنوا بها أم لا، هل يقبلوها أم لا.
ونتيجة لفراغ الرسالة المسيحية من الأحكام والتشريعات عاثت الكنيسة الغربية في الأرض فسادا وأهلكت الحرث والنسل، واستبدت بالشعوب الغربية وأذاقتها الويلات تحت شعار أن البابا يستمد سلطانه على الناس من الله، مما حدا بالشعوب الغربية إلى أن يثوروا على الكنيسة وعلى رجالها، وقاموا بإخراجهم من ساحة السلطة والحكم والسياسة وقاموا باحتجازهم خلف جدران الكنائس إلى الأبد، ومن هنا يمكن القول إن انقلاب الشعوب الغربية أو ثورتهم على الكنيسة لم يكن انقلابا أو ثورة على أحكام دينية أو تشريعات دينية حقيقية موجودة في الإنجيل، بل لم يكن ثمة تشريعات دينية أو أحكام دينية حقيقية واضحة محددة يتلوها الناس في الإنجيل ويعلمون تفصيلاتها ومصادرها ويؤمنون بها أنها من عند الله، إنما كان هناك سلطة رجال دين يتحكمون في رقاب ومصائر الشعوب بدعوى أنهم يستمدون سلطانهم على الناس من الله، من دون وجود نصوص تشريعية إنجيلية أو أحكام إنجيلية واضحة محددة ومتفق عليها من الجميع.
¬ومن هنا لم يكن أمام الشعوب الغربية من بد في ظل فراغ الرسالة المسيحية من الأحكام والتشريعات التفصيلية التي تسير شئون الحياة كما في اليهودية والإسلام إلا استدعاء فكرة الديمقراطية من تراثهم اليوناني القديم، ومن خلالها أقاموا أنظمة حكم ديمقراطية استطاعوا من خلالها وضع التشريعات والأحكام المناسبة لهم، إذن فكرة الديمقراطية استدعاها الغرب لفراغ الديانة المسيحية من الأحكام والتشريعات التي يمكن من خلالها إقامة نظام كامل شامل يسوس الناس ويفصل في منازعاتهم، لذلك وجدت فكرة الديمقراطية الملعب السياسي والتشريعي الغربي أمامها فارغا فنجحت في أن تصبح نظاما سياسيا لا منافس له حتى الآن، ليس لأفضلية الديمقراطية وروعتها بل لسد الفراغ التشريعي والحكمي في الرسالة المسيحية.
• القوادة السياسية باسم الديمقراطية:
لم يعد خافيا على أحد في مصر من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها الدور الذي يلعبه دعاة وأدعياء العلمانية والليبرالية ودعاة الديمقراطية خاصة الذين يتصدرون الإعلام المرئي والمسموع والمقروء منذ عشرات السنين من قوادة ونخاسة سياسية للأنظمة المستبدة في العالم العربي، بل إن دور هؤلاء لم يقل في حجمه واستمراريته عن حجم واستمرار دور القوادة والنخاسة السياسية لصالح الأنظمة الحاكمة من قبل المؤسسات الدينية الرسمية وعلى رأسها مؤسستي الأزهر والكنيسة.
ففي أثناء ثورة 25 يناير لم يخف على أحد مدى حالة التذبذب وحالة التردد اللتان كانتا تنتابان كثيرا من السياسيين والمفكرين والكتاب والصحفيين والإعلاميين والفنانين المصريين، وغيرهم من فئات الشعب المصري، مما جعل بعض هؤلاء يمسك بالعصا من المنتصف، فكان بعضهم أثناء الثورة يقول كلاما في المساء ثم يقول نقيضه في الصباح، ويقول تصريحا في هذا البرنامج ويقول نقيضه في برنامج آخر، وكانوا يفعلون ذلك حتى إن رجحت الكفة لصالح الرئيس مبارك ونظامه يكونوا هم في السليم، وإن رجحت الكفة لصالح الثورة يكونوا هم في السليم كذلك، كي يتمكن أحدهم بعد أن يقضى الأمر أن يقسم بالله جهد أيمانه أنه كان يؤيد الطرف الفائز والتصريحات تشهد بذلك.
ففي أثناء الثورة وفي ظل ذلك التردد وتلك الذبذبة وجدت على أحد المواقع الإلكترونية رسما كاريكاتيريا يعبر عن هذه الحالة حول مفكر سياسي مصري بارز وهو يدلي بتصريح يقول فيه: (إشاعة المليارات السبعين دي كذب.. وأنا عضو قيادي في الحزب الوطني المعادي للشعب، وقد قدمت استقالتي من الحزب للسيد الرئيس الشرعي مبارك، إللي لازم يمشي ويسمع كلام الشعب ويستقيل، وأنا أتهم الإخوان لأنهم همه إللي طلعوا شباب الفيسبوك الغوغائيين في المظاهرات المليونية المشرفة لنا، وأنا زي ما قلت أنا مع ثورة الشباب في ميدان التحرير اللي مليان شباب مندسين علشان ياكلوا كنتاكي). وقد وضع صاحب الكاريكاتير تعليقا تحته يقول: (فهمتوا حاجة يا جماعة؟ الراجل ده مع مين بالظبط؟).
وفي المسرحية الشهيرة (شاهد مشافش حاجة) حين كان ممثل الإدعاء في المحكمة يسأل الشاهد (سرحان عبد البصير) ويقول: يا ابني: عبد البصير ولا عبد النصير؟ بالباء ولا بالنون؟ فرد عليه (سرحان) قائلا: (بالبون). هذا الرد هو تعبير حقيقي ووصف واقعي دقيق عن حالة التذبذب والتردد والجمع بين النقيضين والجمع بين المتنافرين التي يعيشها الآن دعاة (الدولة المدنية) من المثقفين والإعلاميين والكتاب والمسيحيين والإسلاميين المصريين عقب انتهاء الثورة وخاصة في الأسبوعين السابقين على الاستفتاء على تعديل الدستور.
أنا آخر فرد في الدنيا يفكر في أن يقبل بأن الإخوان المسلمين أو أي تيار إسلامي آخر أو أي تيار علماني أو ليبرالي يصل إلى سدة الحكم في مصر بطريقة ديمقراطية، أقول ذلك لأنني ضد فكرة الديمقراطية على طول الخط، وسوف أبرر حيثيات رفضي لفكرة الديمقراطية في الفصول القادمة من هذا الكتاب، وأقول ذلك أيضا ردا على حالة النفاق الديمقراطي والعهر الديمقراطي والدعارة الديمقراطية التي تعيشها مصر هذه الأيام، فمثلا من يتابع برامج فضائية رجل الدين المتطرف (البطريرك) نجيب ساويرس (ontv) يجد أن جل برامج هذه الفضائية تعمل لضرب الإخوان المسلمين والتيارات الإسلامية على طريقة سرحان عبد البصير (بالبون)، ويمكن لأي مشاهد ملاحظة هذا في كل برامج القناة وأغلب نشرات أخبارها، حيث تعمل هذه البرامج بطريقة ليبرالية ديمقراطية ولكن (موجهة)، وتتبنى (الرأي والرأي الآخر) ولكن من حيث الشكل فحسب، إلا أن مقدمو هذه البرامج يعملون جاهدين على تشويه الرأي الآخر وحصره في الزاوية والإيقاع به ومن ثم تخويف الناس منه وتحريضهم عليه، وغالبا ما يكون الرأي الآخر هو رأي الإخوان المسلمون، ثم في نهاية البرنامج يقومون بتلاوة الموشحات المعتادة من قبيل: (إحنا بنعرض وجهتي النظر، والخيار في الآخر للمشاهد)، وموشح (إحنا لا مع ده ولا مع ده وهي دي الديمقراطية)، بعد أن يكونوا قد قاموا بسلخ جلد الرأي الآخر ومصمصوا عظامه، بالضبط كما هي طريقة المفكر السياسي صاحب الكاريكاتير، وأتمنى ألا يكون القائمين على قناة (ontv) قد نسوا البرنامج الوثائقي الشهير الذي حمل عنوان (المحظورة)، هذا الوثائقي الذي أعدته القناة خصيصا وعلى نفقتها الخاصة كهدية لجهاز (مباحث أمن الدولة) وقادة (الحزب الوطني) للتحريض على جماعة الإخوان وتشويهها قبيل انتخابات مجلس الشعب الأخيرة قبل ثورة 25 يناير بشهرين.
وكذلك من يتابع الصحف القومية والخاصة ومن يتابع المواخير والحظائر التي تسمى برامج حوارية أو برامج (توك شو) في القنوات الحكومية والخاصة في هذه الفترة فسيفاجأ بمدى انتشار وتعمق وسيطرة ثقافة: (بالبون) على مقدمي ومقدمات البرامج وعلى أغلب ضيوفهم، وسيفاجأ بنفس الدور القوادي النخاسي السياسي يلعبونه ضد التيارات الإسلامية بنفس الطريقة التي كانوا يمارسونها تحت إملاءات وتوجيهات جهاز مباحث أمن الدولة البائد، فلقد وجدت هؤلاء جميعا وغيرهم يرددون كل يوم في برامجهم: (يا جماعة إحنا بنطالب بالديمقراطية، وبنحب الديمقراطية، ولا نصادر على رأي أحد ولا فكر أحد بس إوعوا الإخوان المسلمين)، (يا جماعة الديمقراطية بتحترم إرادة الناخبين بس خلي بالكم من السلفيين)، (يا جماعة الديمقراطية هي حرية الرأي والتعبير وقبول الآخر مهما اختلف معنا بس بنحذركم من فكر الجماعات الإسلامية).
هذه الدعارة الديمقراطية هي ديمقراطية سرحان عبد البصير (بالبون)، هذه هي الديمقراطية وهذه هي الليبرالية التي تجمع بين النقيض ونقيضه، هذه هي الديمقراطية التي تجمع بين الدعوة إلى قبول الآخرين وإقصائهم في نفس الوقت، هذه هي الديمقراطية التي تجمع بين الدعوة إلى قبول كل الآراء والتحذير من بعض الآراء في نفس الوقت، هذه هي الديمقراطية التي يسير أتباعها على خطى فرعون موسى في قوله: (ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد)، هذه هي ديمقراطية نظام الرئيس (مبارك) وديمقراطية (أحمد عز) وديمقراطية (حبيب العادلي) التي شاءت الأقدار السيئة للشعب المصري أن يتصدر دعاتها _مخبري أمن الدولة سابقا_ توجيه الرأي العام في الإعلام منذ سنوات قبل الثورة ويظلون في مواقعهم كما هم بعد الثورة رغم أنوف المصريين جميعا.
وهنا يحق للسائل أن يسأل السادة المثقفين والكتاب والإعلاميين والصحفيين من دعاة (الديمقراطية) و(الدولة المدنية) الذين لا يرون من الشعب المصري سوى ساكني مدينة القاهرة ويقول: ما هو الحجم الحقيقي للراغبين في قيام الدولة المدنية التي تريدونها في الشارع المصري؟، وهل لديكم علم بكم عدد الأفراد من الشعب المصري البالغ تعداده 85 مليون نسمة الذين يعرفون شيئا عن معنى ومفهوم (الدولة المدنية) التي تنادون بها؟، أنا أناشد هؤلاء السادة الذين يتحدثون إلى المصريين من فوق أبراجهم العاجية العالية من دعاة الديمقراطية والدولة المدنية أن يتركوا مكاتبهم وقنواتهم وصحفهم وينزلوا ولو مرة واحدة إلى الأكثرية الساحقة من الشعب المصري إلى عشرات الملايين من المصريين في الحارات والمناطق الشعبية وأرياف المحافظات وأهل الصعيد ثم يسألونهم ما رأيكم في الدولة المدنية؟، وما رأيكم في حذف المادة الثانية من الدستور؟، ثم لينظر دعاة الدولة المدنية كيف سيكون رد أكثرية هذه الجموع عليهم.
لقد دعيت إلى حضور ندوة في مدينة أسيوط حضرها عشرات من شباب الجامعات ومن الأساتذة والمثقفين من مختلف التيارات، وبعد أن بدأت حديثي بقليل عرجت إلى موضوع المادة الثانية من الدستور، فقلت لهم إن وجود المادة الثانية في الدستور أمر يسيء إلى الدين الإسلامي، وما أن انتهيت من قول هذه العبارة إلا ووجدت المجلس قد انفض، وانصرف الحاضرون ولم يتبق أمامي من هذه الجموع سوى خمسة أفراد، فحمدت الله كثيرا أن الأمر قد انتهى بالانصراف فقط ولم يسبقه أشياء من قبيل اللكمات والرفسات والركلات وقذف الأحذية وأشياء أخرى.
إن دعاة الديمقراطية والدولة المدنية هؤلاء يبدو أنهم يريدون دولة مدنية داخل مدينة القاهرة، وبالتحديد داخل استديوهات مدينة الإنتاج الإعلامي، وداخل مبنى ماسبيرو، وداخل مقرات الصحف والمجلات، وفي الأوساط الراقية في أحياء القاهرة، ويبدو أنهم يريدون ديمقراطية منزوعة الإرادة الشعبية لا تعرف الاختلاف الحقيقي في الرأي والفكر، هؤلاء والإسلاميون والمسيحيون سواء بسواء، خرجوا جميعا من بوتقة واحدة، ومن تربة واحدة، هي تربة الاستبداد والإقصاء وازدراء الآخر، فلا فرق بينهم على الإطلاق سوى في المسميات فحسب: (ديمقراطي، علماني، ليبرالي، إخواني، سلفي، جهادي، مسيحي، قبطي).
ان دعاة الديمقراطية والدولة المدنية (مخبري أمن الدولة سابقا) من المذيعين والمذيعات والصحفيين والصحفيات وبعض الكتاب وبعض المثقفين لا وجود لهم يذكر في الشارع المصري سوى في الشارع المسيحي فحسب، ولننظر كيف يتحصنون بالمسيحيين ويتكثرون بهم وكيف يعتصمون خلف مطالبهم الدينية، ثم لننظر بأي لغة يتحدثون عن الإسلاميين في برامجهم وكتاباتهم، كأنهم يتحدثون عن عدو على مشارف مصر يوشك أن يغزوها، ولننظر إلى التيارات الإسلامية بأي لغة في أحاديثهم الخاصة والعامة كيف يتحدثون عن دعاة الديمقراطية والدولة المدنية، كأنهم يتحدثون عن مجموعة من الكفار والمارقين والماجنين والشواذ جنسيا، وكيف ينظرون إلى المسيحيين كأنهم جماعة من الضيوف اللاجئين على مصر قد وقعوا في عرضهم وحماهم، وانظر إلى المسيحيين الذين 99% من مطالبهم هي مطالب دينية محض كيف يدعون تأييد الدولة المدنية، ليس حبا في الدولة المدنية ولا إيمانا بها بل خوفا من التيارات الإسلامية ونكاية فيها ورفضا لها.
إن الديمقراطية الحقيقية والدولة المدنية الحقيقية اللتان يطالب بهما دعاتهما، لن يصلحا للتطبيق في مجتمعاتنا العربية والإسلامية وخاصة في مصر، لماذا لم ولن تصلح الديمقراطية الحقيقية في مجتمعاتنا العربية والإسلامية؟ لأنه بحسبة بسيطة نجد أن دعاة الديمقراطية يتحدثون عنها وعن الدولة المدنية وكأنهم يعيشون في مجتمع كالمجتمع السويسري أو المجتمع النمساوي أو أي مجتمع أوروبي آخر، وآفتهم أنهم دائما ما ينسون أو يتناسون أنهم يعيشون في مجتمعات 98% من أفرادها مسكونون بالأفكار والمعتقدات الدينية الصحيحة منها والخطأ، المعتدلة منها والمتطرفة، وآفتهم أنهم دائما ما ينسون أو يتناسون أن هذه المجتمعات بها تيارات دينية منظمة لها قواعد عريضة في الشارع المصري من الأتباع والأنصار، بل لهم قواعد من المؤيدين غير الأعضاء الذين يؤيدونهم فقط لمجرد أن هذه التيارات تحمل شعار الدين.
ودائما ما ينسى أو يتناسى دعاة الديمقراطية ودعاة الدولة المدنية أن الإسلاميين يرون في دينهم وتراثهم رصيد ضخم من الأحكام والتشريعات التي من خلالها يمكنهم إقامة نظام يقوم على أحكام وشرائع الإسلام، ولديهم من الأحكام الفقهية ما يساهم في تنظيم وتسيير شئون الناس وفض منازعاتهم، ويرون أن الحاكم ليست له تلك السلطة المقدسة ولا ذلك السلطان الإلهي على الشعب كما كان الحال في الكنيسة الكاثوليكية في العصور الوسطى، ويرون أن الحاكم ليست له سلطة إلهية ولا ذات مقدسة معصومة ولا سلطان إلهي، بل يرونه بشرا عاديا يمكن عزله بل وخلعه والخروج عليه. ورغم كل هذا لا يزال البعض يصر على وضع زمام الوصاية على الشعب المصري وتسيير شئونه وتوجيه آرائه في يد العلمانيين والليبراليين والديمقراطيين، وما بين هؤلاء وأولئك يكمن مقتل الديمقراطية ومقتل الدولة المدنية في مصر. وأخيرا أقول: يا أيها الداعون إلى الديمقراطية والدولة المدنية، إن الديمقراطية التي تريدونها لن تصلح في مصر، لأن رياحها لن تأتي أبدا بما تشتهي سفنكم.
• نتائج الاستفتاء بين الليبرالية والدين:
لقد رأى بعض الناس أن نتائج الاستفتاء على التعديلات الدستورية كانت بمثابة صفعة يد قاسية على وجوه دعاة الدولة المدنية، والبعض رأى أنها لم تكن صفعة، بل كانت لكمة موجعة، والبعض الآخر رآها (قذفة بحذاء قديم) في وجوه وعلى رؤوس دعاة العلمانية والديمقراطية والدولة المدنية، وأيا يكن توصيف نتائج الاستفتاء ووقعها على هؤلاء علينا أن نعرف ابتداء من هم دعاة الدولة المدنية في مصر؟، ولماذا استحقوا هذه الصفعة أو اللكمة أو القذفة عن جدارة واستحقاق؟، إن دعاة الدولة المدنية في مصر هم أكثرية الإعلاميين والمثقفين والكتاب الذين يحتلون ويغتصبون ويسطون على أدوات ووسائل مخاطبة وعي الشعب المصري من خلال البرامج التلفزيونية في القنوات الحكومية والخاصة، سواء من القائمين على إعداد وتقديم هذه البرامج أو من ضيوفها الزبائن الدائمين من المحللين والسياسيين والقانونيين والمختصين الذين لا يتغيرون، وكذلك هم أكثرية الذين يحتلون ويغتصبون ويسطون على مساحات أغلب المقالات في الصحف الحكومية والخاصة، ويُنَصِّب جميع هؤلاء من أنفسهم أوصياء على جموع الشعب المصري القاصر عن الفهم وعن الاختيار بمسلميه ومسيحييه، وهم وحدهم الذين يرون أين تكمن منفعة الشعب وأين تكمن مضاره.
أكاد أجزم وأقطع بأن هؤلاء لا يعلمون شيئا عن طبيعة التركيبة الفكرية والثقافية والدينية للشعب المصري، بل وأكاد أجزم أن هؤلاء الناس لا يعلمون شيئا عن المفاهيم الفكرية والعلمية الحقيقية لمعنى الدولة المدنية، وكذلك الدولة الدينية، وأكاد أجزم وأقطع أن هؤلاء ومن خلال (ردحهم) عبر عشرات السنين للإخوان المسلمين والتيارات الدينية الأخرى في برامجهم وصحفهم هم من استفزوا التطرف الديني لهذه التيارات وهم من أوقدوا جذوة انحياز التيارات الإسلامية المطلق لأفكارهم المتطرفة، وهم من ألهبوا الحماسة الدينية لجموع الشعب المصري في أن ينحازوا لهم ويتعاطفوا معهم، حتى أصبحت التيارات الإسلامية المتشددة بهذه القوة وهذا الانتشار الواسع الذي نراه الآن في الشارع المصري، لقد ظل دعاة العلمانية ودعاة الدولة المدنية ومن يسمون بـ (دعاة التنوير) على مدار العصور المختلفة للأنظمة السياسية المتعاقبة يعملون كدروع إعلامية للدفاع عن الأنظمة الإجرامية المستبدة ضد عدو الأنظمة الوحيد (التيارات الإسلامية)، وليت دفاعهم كان عن طريق الحوار الفعلي الحقيقي القائم على العلم والوعي الحقيقيين بأفكار هذه التيارات ومنابعها وجذورها، وليتهم قدموا خلال هذه السنوات الطويلة فكرا دينيا وسطيا حقيقيا كبديل عن الأفكار المتطرفة لهذه التيارات يجتذب إليهم جموع الشعب المصري ويأخذ بألبابهم. إنما كان دفاعهم عبارة عن نفخ في نار ظنوا أن نفخهم فيها سيطفؤها، بل لم يزدها نفخهم فيها إلا اشتعالا واتقادا.
لقد عمل دعاة العلمانية والديمقراطية والدولة المدنية لعشرات السنين على مواجهة (التيارات الإسلامية) المتطرفة بتفزيع الناس وتخويفهم منهم، وعملوا على تشويههم وازدرائهم وتحقيرهم والسخرية منهم وتخوينهم وشيطنتهم، وفي المقابل كانت (التيارات الإسلامية) أكثر ذكاءً ودهاءً منهم، فقاموا يستخدمون من حالة (الردح الإعلامي) و(الشرشحة الصحفية) التي يقودها ويقوم عليها دعاة العلمانية والليبرالية والدولة المدنية، وسيلة وفرصة ذهبية لتجييش الشعب المصري وتحريضه دينيا ضدهم، وألقت التيارات الإسلامية في روع الشعب المصري أن دعاة العلمانية والليبرالية والديمقراطية والدولة المدنية عبارة عن مجموعة من الملحدين والمارقين من الدين الذين يعادون الإسلام ويحاربونه ويتهجمون على شريعته في برامجهم وصحفهم، فصدقهم الناس ووثقوا بهم وشايعوهم وتعاطفوا معهم سواء بوعي أو بغير وعي.
وما زاد طين دعاة الدولة المدنية بلة، أنهم اتخذوا من قضايا المسيحيين ومطالبهم ومظالمهم وسيلة وذريعة لضرب التيارات الإسلامية وتحريض الشعب المصري ضدهم، وقاموا بالانحياز إلى هذه المطالب بصورة حمقاء بلهاء، بها الكثير من الإثارة والاستفزاز، مما مهد الطريق أمام التيارات الإسلامية للعب على هذا الوتر الحساس، فاتخذت التيارات الإسلامية من هذا الانحياز دليلا جديدا يقدمونه لجموع الشعب المصري (المسلم) على أن دعاة العلمانية والديمقراطية والدولة المدنية يناصرون المسيحيين وينحازون لهم ضدكم وكي تتأكدوا أن هؤلاء ليسوا بمسلمين ويكرهون الإسلام ويتواطئون ضده وضد المسلمين، فصدقهم الناس وشايعوهم وناصروهم على ذلك، إن دعاة الدولة المدنية فعلوا بالمثل ما فعلته الدبة الساذجة التي قتلت صاحبها من فرط حرصها الأحمق والأبله عليه، وكذلك فعلوا بالمثل ما كان يفعله الرئيس السابق (محمد حسني مبارك) في معالجته الحمقاء لقضايا ومطالب ومظالم المسيحيين.
لقد أثبتت نتائج الاستفتاء بما لا يدع مجالا للشك حتى هذه اللحظة وبعد ثورة 25 يناير وبعد انهيار الاستبداد والطغيان واندحار مليشيات تزوير الانتخابات أن كلمة التيارات الدينية (الإسلامية والمسيحية) في مصر هي العليا وكلمة الذين تعلمنوا وتمقرطوا وتمدنوا وتلبرروا وتنوروا هي السفلى، وليس من برهان جلي واضح على هذا إلا القراءة المتأنية في نتائج الاستفتاء، فالملايين الأربعة عشر الذين صوتوا على التعديلات الدستورية بـ (نعم) هم في أغلبهم من المسلمين الذين لم يصوتوا بـ (نعم) عن قناعة سياسية بجدوى (نعم)، إنما هم هبوا لتلبية نداء التيارات الإسلامية التي أوحت إليهم بأن التصويت بـ(لا) سوف يقضي على هوية مصر الإسلامية، وسوف يهدد بإلغاء المادة الثانية من الدستور، وسوف تتحول مصر إلى ماخور كبير للكفر والضلال. وكذلك الملايين الأربعة الذين صوتوا بـ (لا) هم في أغلبهم وبنسبة 95% منهم مسيحيون، وتصويت المسيحيين بـ (لا) لم يكن عن قناعة شخصية أو وعي معرفي بمدلول (لا) سياسيا، إنما كان تصويتا تلبية لنداء القيادات الدينية الكنسية العليا، التي أوحت إليهم بأن القول بلا هو معارضة مقدسة لخيار التيارات الإسلامية التي صوتت بـ (نعم)، كي لا تتحول مصر إلى دولة يحكمها الإسلاميون.
وبعملية حسابية بسيطة نستطيع من خلالها أن نفرز جميع الأصوات فنخرج من قالوا (نعم) تلبية لنداءات التيارات الإسلامية جانبا، وكذلك نخرج الذين قالوا (لا) جانبا من المسيحيين الذين كان تصويتهم بـ (لا) تلبية لتوجيه قادة الكنيسة، فكم يا ترى سيكون عدد الذين قالوا (لا) عن قناعة شخصية ووعي سياسي حقيقي؟ وكم يا ترى سيكون عدد الذين قالوا (لا) من الذين تعلمنوا وتمقرطوا وتمدنوا وتلبرروا وتنوروا؟، الجواب: لن نجد منهم نسبة تذكر رغم ذلك الحشد والتجييش الإعلامي الذي كان يقف وراءه دعاة الليبرالية والديمقراطية والعلمانية والدولة المدنية، وهذا يؤكد بكل وضوح وجلاء أن نتائج الاستفتاء كانت صفعة قوية على وجوههم لضحالة أفكارهم وتجاهلهم للشارع المصري وانعزالهم عنه وتجاهل الشارع المصري لهم وانعزاله عنهم، صفعة قوية لهم على أنهم كانوا يخاطبون الشعب المصري من برج عاجي وبنفس الطريقة التي كان يخاطب بها الرئيس السابق حسني مبارك الذي كان ينظر إلى المصريين من عل، صفعة قوية لهم على عدم نزولهم إلى الشارع المصري واختلاطهم بملايين البسطاء وهم أكثرية الشارع المصري من الذين يقطنون الأحياء الفقيرة والأرياف والصعيد، صفعة قوية لهم على اكتفائهم بمخاطبتهم الشعب المصري من أمام كاميرات البرامج ومن خلال مقالات الصحف ومن داخل مكاتبهم المكيفة، فيا ترى هل سيفيقون بعد تلك الصفعة الموجعة؟ وهل سيعون الدرس على بساطته؟.
إن من المفارقات العجيبة والمدهشة ومن سخرية القدر في الوقت نفسه أن دعاة الديمقراطية والليبرالية والعلمانية والدولة المدنية رغم ما يمتلكون وما تحت أيديهم من آلة إعلامية جهنمية ضخمة ليس لديهم أي تأثير يذكر في جموع المصريين مقارنة بالتيارات الإسلامية التي لا تمتلك صحيفة واحدة ولا برنامجا واحدا في أية فضائية من فضائياتهم، بل إنني أجزم وأقطع بأن خطبة جمعة واحدة من شيخ سلفي أو إخواني أو أزهري أو من أي تيار إسلامي لها من التأثير والقدرة على الإطاحة بكل ما كتبه وقاله وألفه وفكر به دعاة العلمانية والليبرالية والديمقراطية والدولة المدنية عبر عشرات السنين، وهذه حقيقة لا ينكرها إلا غائب عن الوعي أو مغيب عن الحياة.
وينبغي علينا أن نفرق بين الفكرة في ذاتها أية فكرة تدعو إليها أي جماعة بشرية، وبين دعاة الفكرة وحملتها، فدعاة الفكرة وأصحابها قد يسيئون إلى الفكرة ذاتها على أهميتها وضرورتها، ومن ثم يعافها الناس ويلفظونها، بسبب سوء عرضها من قبل دعاتها، وهذا بالضبط ما فعله ويفعله دعاة الليبرالية والديمقراطية والدولة المدنية في مصر، فهم كانوا وما زالوا عامل رئيسي وفاعل في تقسيم مصر على أساس ديني وليس التيارات الإسلامية كما يعتقد معظم الناس، إن دعاة العلمانية والليبرالية والديمقراطية والدولة المدنية هم في مأزق حقيقي لا يحسدون عليه، بل إنهم يمثلون عقبة كأداء أمام وعي عموم الشعب المصري بمدلول وحقيقية وأهمية الدولة المدنية، ومن هنا أقول ينبغي على دعاة الدولة المدنية إن أرادوا أن يرفعوا من وعي الشعب المصري تجاه الدولة المدنية وأهميتها أن يعيدوا النظر في أفكارهم بشكل جدي وعملي، وكذلك في آليات تواصلهم مع جموع الشعب المصري كله، وكذلك في لغة خطابهم، وعليهم أن يعيروا اهتماما كبيرا للحساسية الدينية للشعب المصري، وأن يحترموا مشاعره الدينية، فالشعب المصري لدية قابلية مفرطة للاستثارة الدينية، وإن لم يتنبهوا لهذا فسوف ينقرضوا من المشهد السياسي والثقافي والفكري والإعلامي المصري كما انقرضت اللغات الميتة ويمسون مجرد نقش على حجر عتيق.
• لماذا يخشى الليبراليون من التيارات الدينية؟:
بداية لا يوجد في العالم العربي عامة ولا في مصر خاصة تيار علماني حقيقي، ولا تيار ليبرالي حقيقي، إنما هناك أدعياء ودعيات للعلمانية وأدعياء ودعيات لليبرالية، وجل هؤلاء لا يعرف من الليبرالية إلا اسمها ولا يعرف من العلمانية إلا رسمها، ولا وجود لهم يذكر في الشارع العربي ولا في الشارع المصري، ويقتصر وجودهم فحسب في كافة وسائل الإعلام المرئي والمسموع والمقروء، حيث أطلقت الأنظمة العربية المستبدة أيديهم في وسائل الإعلام لاستخدامهم في ضرب "التيارات الإسلامية" السياسية العدو الوحيد للأنظمة العربية المستبدة منذ عشرات السنين.
إن ما يخيف أدعياء العلمانية وأدعياء الليبرالية في مصر والعالم العربي من التيارات الإسلامية السياسية أو من أي تيار ديني آخر هو أن أدعياء العلمانية والليبرالية والحرية دينهم وديدنهم وقوتهم وزادهم هو الكذب والخداع والغش، ويرتزقون على بيع أنفسهم لمن يدفع لهم لترويج ما يريد ترويجه في وسائل الإعلام أو توجيه الرأي العام نحو الجهة التي يريدها، بل إن كل ما يشغل بال الرجال منهم أن يظلوا ينعموا بالقرب من الفتيات الجميلات الناعمات الفاتنات وصحبتهن والتمتع بالحديث إليهن وزمالتهن في العمل ومزاولة العلاقات معهن، أما ما يشغل بال السيدات منهم وما يخيفهن هو أن تقوم التيارات الدينية بفرض الحجاب عليهن ومن ثم مصادرة أسلحتهن الفتاكة حيث لا أثداء تتهادى بعد اليوم، ولا سيقان عارية، ولا أرداف ملتهبة، ولا أفخاذ، فماذا يتبقى لهن؟ علم؟ لا سمح الله، معرفة؟ معاذ الله، فكر؟ حاشا لله، المطبخ، لتجلس فيه وتسح دموعها من حُرْقَة البصل. أو تقوم التيارات الدينية بمنعهن من وضع مساحيق التجميل أو منعهن من ارتداء كل ما شف ورق وضاق وأثار من الثياب التي يرتدونها لإثارة أصحاب المال والأعمال والسياسيين وذوي النفوذ والإيقاع بهم ولي شواربهم للاستفادة منهم ومن الصداقات معهم أو حرمانهن من العلاقات الدافئة والساخنة والفاترة، أو خوفا أن يحرمن من الأجور المرتفعة والمرتبات الباهظة والهدايا الثمينة والسمينة، كل ذلك تحت مظلة إدعاء العلمانية والحرية والدولة المدنية.
لقد لفت انتباهي مقال للدكتور "عبد الرحمن جمجوم" على أحد المواقع الإلكترونية يصف فيه الرسالة المقدسة والقضية المصيرية الكبرى التي يقاتل من أجلها أدعياء ودعيات العلمانية والليبرالية العرب على النحو التالي:
يقول الدكتور جمجوم: (قبل اختراع الشبكة العنكبوتية كنت أظن أن العلمانية أو الليبرالية وجهة نظر جديرة بالاحترام .. ولما قرأت للعلمانيين ورأيتهم عن قرب .. وجدت العلمانية أكذوبة والليبرالية هراء .. الضحالة والتفاهة والغباء والسفاهة ديدنهم .. هو الكفر القديم القبيح بلباس جديد ليس إلا.. أحدهم مثقف مصري سافر إلى تونس في أيام الرئيس أسوء الكافرين "زين العابدين" .. وسعد أيما سعادة ألا يرى متحجبات .. لم ير صاحبنا مظاهر الفقر والقهر والحديد والنار .. كل ما رآه وأسعده اختفاء النساء المتحجبات!! هل رأيتم كيف يقيم المثقف الليبرالي الأمور!؟؟ ولهذا أشفق كثيراً على من يتصدى للعلماني بالتنظير المنطقي والتاريخي والتحليلي .. الموضوع أبسط من البساطة: يرى العلماني أن حكم التيار الإسلامي يعني نساءً متحجبات يخفين مفاتنهن .. أما العلمانية والليبرالية فتعني نساءً فاتنات دلوعات يلبسن المايوهات .. والفاتنات الدلوعات أجمل وأكثر جاذبية من المتحجبات بطبيعة الحال .. إذن الليبرالية والعلمانية "أجدع" .. هكذا يقيم العلماني العربي الأمور .. ولهذا يتحيز ضد التيار الإسلامي!! أقسم بالله غير حانث أن ذلك هو مبلغ علم العلماني العربي. فيا من تأتون بالمراجع وتدبجون المقالات والحجج والنظريات والفلسفات لإقناع العلماني العربي بوجهة نظركم أو لدفعه إلى التفكير بطريقة مختلفة .. إنما تحرثون ماءً). "انتهى كلام الدكتور جمجوم"
• الديمقراطية" التاريخ والنشأة:
هل بالفعل النظام الديمقراطي نظام له العديد من المحاسن التي تجعل منه أفضل نظام سياسي أنتجه عقل الإنسان؟، وهل بالفعل محاسن النظام الديمقراطي جعلت الشعوب تحلم به وتطلع إليه وتعلق عليه آمالها في حياة كريمة؟، وهل هو النظام السياسي الوحيد ذو الحسنات المطلقة الخالي من السلبيات؟، وهل بالفعل النظام الديمقراطي هو نظام سياسي إنساني عالمي يصلح تطبيقه في أي جماعة بشرية في أي بقعة من بقاع العالم؟. هذه أسئلة مشروعة نطرحها على فكرة الديمقراطية التي تتغنى بها الشعوب دون وعي بالمدلول الحقيقي لمصطلح الديمقراطية، ولكن قبل الجواب على هذه الأسئلة وغيرها كثير نود ابتداء أن نقف على نشأة الديمقراطية في موطنها الحقيقي وبين أهلها الحقيقيين الذين هم أول من قام بتخليق هذا المصطلح وأول من أطلقوه وأول من قاموا بتطبيقه كنظام سياسي على أرض الواقع.
إن مصطلح الديمقراطية بشكله الإغريقي القديم- تم نحته في أثينا القديمة في القرن الخامس قبل الميلاد والديمقراطية الأثينية عموماً يُنظر إليها على أنها من أولى الأمثلة التي تنطبق عليها المفاهيم المعاصرة للحكم الديمقراطي. كان نصف أو ربع سكان أثينا الذكور فقط لهم حق التصويت، ولكن هذا الحاجز لم يكن حاجزاً قومياً ولا علاقة له بالمكانة الاقتصادية فبغض النظر عن درجة فقرهم كان كل مواطني أثنيا أحرار في التصويت والتحدث في الجمعية العمومية. وكان مواطنو أثينا القديمة يتخذون قراراتهم مباشرة بدلاً من التصويت على اختيار نواب ينوبون عنهم في إتخاذها. وهذا الشكل من الحكم الديمقراطي الذي كان معمولاً به في أثينا القديمة يسمى بالديمقراطية المباشرة أو الديمقراطية النقية. وبمرور الزمن تغير معنى "الديمقراطية" وإرتقى تعريفها الحديث كثيراً منذ القرن الثامن عشر مع ظهور الأنظمة "الديمقراطية" المتعاقبة في العديد من دول العالم.
أولى أشكال الديمقراطية ظهرت في جمهوريات الهند القديمة والتي تواجدت في فترة القرن السادس قبل الميلاد وقبل ميلاد بوذا. وكانت تلك الجمهوريات تعرف بالـ "ماها جاناباداس"، ومن بين هذه الجمهوريات "فايشالي" التي كانت تحكم فيما يعرف اليوم ببيهار في الهند والتي تعتبر أول حكومة جمهورية في تاريخ البشرية. وبعد ذلك في عهد الإسكندر الكبير في القرن الرابع قبل الميلاد كتب الإغريق عن دولتي "ساباركايي" و"سامباستايي"، اللتين كانتا تحكمان فيما يعرف اليوم بـ "باكستان" و"أفغانستان"، وفقاً للمؤرخين اليونانيين الذين كتبوا عنهما في حينه فإن شكل الحكومة فيهما كان ديمقراطياً ولم يكن ملكياً.
معظم الديمقراطيّات القديمة نمت في مُدنٍ صغيرة ذات ديانات محليّة أو ما يسمَّى بـ المدينة-الدولة. وهكذا فإِنّ قيام الإِمبراطوريات والدول الكبرى مثل الإِمبراطورية الفارسيّة والإِمبراطورية الهلّينية-الرومانيّة والإِمبراطورية الصينية والإِمبراطورية العربيّة-الإِسلامية والإِمبراطورية المغولية في العصور الوسطى وفي معظم البلاد التي كانت تضمُّ الديمقراطيات الأولى قد قضى علَى هذه الدويلات الديمقراطية بل علَى فُرص قيامها أيضاً. لكنَّ هذا لا يعني أنَّ تطَوّراً بٱتجاهِ الديمقراطية لم يحصل في العصور الوسطى. ولكنّ معظم هذا التطوّر حصل علَى مُستوَى القِيَم وحقوق الأفراد الذي نتج عن قِيَم الليبرالية التي نشأت مع فلاسفة التنوير "توماس هوبز" و"جون لوك" و"إيمانويل كانط" قبل تحقيق تقدم ملموس في الديمقراطية وهو الذي أدى إلى ازدهار نموذج الديمقراطية الليبرالية دون غيرها من الديمقراطيات في الغرب. وقد ساهمت الدياناتُ الكبرَى كالمسيحية والبوذية والإسلام في تَوطيد قِيَمٍ وثقافاتٍ ساعدت علَى ازدهار الديمقراطية فيما بعد. ابتداءا من الثورة الفرنسية سنة 1789 وإعلانها الصريح لحقوق الإنسان.
• الديمقراطية وغموض واضطراب المفهوم:
تتغنى الشعوب بالديمقراطية دون وعي بالمدلول الحقيقي لمصطلح الديمقراطية، وتنظر إليها كنظرتها للمخلص أو كنظرتها للخلاص، وقبل أن نناقش فكرة الديمقراطية وقبل أن نضعها على طاولة التشريح نود ابتداء أن نقف على الدلالة الحقيقية لمصطلح الديمقراطية كما دل عليه لسان قومه اليونان إذ هم أول من قام بتخليق هذا المصطلح وأول من أطلقوه وهم أول من قاموا بتطبيقه كنظام سياسي على أرض الواقع، أمّا لغويّاً، فالديمقراطيّة كلمةٌ مركبة مِن كلمتين: الأولى مشتقة من الكلمة اليونانية Δήμος أو Demos وتعني عامة الناس، والثانية Κρατία أو kratia وتعني حكم أو سلطة، وبهذا تكون الديمقراطية Demoacratia تَعني لغةً "حكم الشعب لنفسه" أو "سلطة الشعب على نفسه".
¬لا يخفى على أحد في هذه الدنيا مدى شيوع مصطلح الديمقراطية على ألسنة الناس في كل مكان من أرض الله، لكن ما قد يخفى على كثير من الناس غير المتخصصين أن مصطلح الديمقراطية الذي يعني في مدلوله اللغوي (حكم الشعب أو سلطة الشعب)، هو مصطلح يحاط بكثافة كبيرة من الغموض والاضطراب والميوعة لدرجة يكاد معها أن يفقد معناه اللغوي البسيط الذي هو (حكم الشعب أو سلطة الشعب)، وهذا ليس رأيا شخصيا لي، بل هو رأي كثير من المفكرين وعلماء السياسة الغربيين والعرب أورد عددا منها (باسل عبد المحسن القاضي) في كتابه (الديمقراطية من اليونان الى ديمقراطية الانترنت)، ومن هذه الآراء ما أورده عالم السياسة الغربي (بيرنارد كريك): (إن كلمة الديمقراطية هي أكثر الكلمات اضطرابا وغموضا فهي مصطلح قد يعني شيئا بالنسبة لكل شخص بحيث تكون هناك خطورة بأن تصبح الديمقراطية كلمة بدون معنى).
وقال الدكتور (سمير أمين) عن الديمقراطية: (ليس مفهوم الديمقراطية مفهوما علميا يمكن بالتالي تعريفه تعريفا وحيدا دقيقا لا يقبل المناقشة والشك، بل كلمة الديمقراطية هي مجرد تعبير لغوي مائع يتغير بتغير المتحدث والظروف ورغم ذلك فالإنسان –أي إنسان- يحس تماما إذا كان المجتمع المعين الذي يعيش فيه (ديمقراطيا) حسب رأيه أم غير ديمقراطي، وينطبق ذلك على الفلاح الأمي كما ينطبق على المثقف المتغرب ولكن مفهوم الفلاح لماهية الديمقراطية أو عدمها قد يختلف عن مفهوم المثقف) المصدر: (أزمة المجتمع العربي، ص135).
بل إن المفكرين الأوروبيين قد اختلفوا اختلافا كبيرا حول كلمة (الديمقراطية) حتى أن الكاتب (روبرت هـ ثاولس) في كتابه (التفكير السليم والتفكير الأعوج) قد ضم كلمة الديمقراطية إلى باب (التفكير الأعوج) في هذا الكتاب حيث قال: (إن النزاع اللفظي قد يكون حول كلمة الديمقراطية في حين أن النزاع الحقيقي يكون حول الديمقراطية، أي حول نظم الحكم التي هي مدلول كلمة الديمقراطية، وإذا كنا نظن أننا نتناقش عن الديمقراطية في حين أن موضع الخلاف في الحقيقة هو على كلمة الديمقراطية فإننا نكون في ذلك قد خلطنا في الأمر وحسبنا خطئا النزاع اللفظي بأنه نزاع واقعي) (ص90)، ويقول علي المؤمن عن الديمقراطية في بحث له: (الديمقراطية مفهوم فضفاض ساهم في إثرائه عبر عقود طويلة من الزمن كثير من المفكرين السياسيين كل حسب نظرته لهذا المفهوم فجاء إطارا كبيرا يجمع في داخله العديد من التيارات الفكرية التي تتفق على بعض الخطوط العامة وتختلف في معظم التفاصيل بيد أن الديمقراطية تبلورت بمرور الزمن في الديمقراطيات الحديثة المطبقة –بشكل أو بآخر- في الغرب وعرفت بالديمقراطية التقليدية الغربية).
ولقد كان الفيلسوف الكبير (جان جاك روسو) قد تحدث عن أن الديمقراطية مستحيل تطبيقها بدقة وقال إنها لم توجد ولن توجد أبدا بعد أن وصفها بالمثالية وانه لو كان هناك شعب من الآلهة لحكم نفسه بطريقة ديمقراطية لان هذا النوع من الحكم _كما يقول_ بلغ حد الكمال لا يصلح للبشر ويقول: ( إذا أخذنا عبارة الديمقراطية بكل معناها الدقيق نجد أن الديمقراطية لم توجد أبدا ولن توجد أبدا فمما يخالف النظام الطبيعي أن يحكم العدد الأكبر وان يكون العدد الأصغر هو المحكوم ولا يمكن أن نتصور بقاء الشعب مجتمعا على الدوام للنظر في الشؤون العامة ونستطيع أن نرى بسهولة انه لا يمكن إقامة لجان من اجل ذلك دون تغيير في شكل الإدارة).
• الديمقراطية واستحالة التطبيق في دنيا الناس:
لقد سبق وأن ذكرنا آراء بعض المفكرين الغربيين حول غموض وضبابية واضطراب مصطلح الديمقراطية، وكان من بين هذه الآراء ما أورده عالم السياسة الغربي (بيرنارد كريك) بقوله: (إن كلمة الديمقراطية هي أكثر الكلمات اضطرابا وغموضا فهي مصطلح قد يعني شيئا بالنسبة لكل شخص بحيث تكون هناك خطورة بأن تصبح الديمقراطية كلمة بدون معنى) انتهى. والحق أن المصطلح كما أراه وكما هو واضح من مدلوله اللغوي ليس به أي غموض أو ضبابية أو اضطراب على الإطلاق، بل وأختلف اختلافا كبيرا مع كل الذين اتهموا مصطلح الديمقراطية بالغموض والضبابية والاضطراب، فالمصطلح من خلال مدلوله اللغوي هو عبارة عن كلمةٌ مركبة مِن كلمتين: الأولى مشتقة من الكلمة اليونانية Δήμος أو Demos وتعني عامة الناس، والثانية Κρατία أو kratia وتعني حكم أو سلطة، وبهذا تكون الديمقراطية Demoacratia تَعني لغةً "حكم الشعب لنفسه" أو "سلطة الشعب على نفسه". فأين الغموض في هذا المدلول البسيط البين الواضح؟ وأين الضبابية؟ وأين الاضطراب؟.
أعتقد أن قول بعض المفكرين أن الديمقراطية مصطلح غامض وضبابي ومضطرب جاء نتيجة لاستحالة تطبيق هذا المفهوم البسيط الواضح في دنيا الناس، فحين يكون مدلول مصطلح الديمقراطية هو حكم الشعب لنفسه يصبح من المحال تصور تطبيق هذا المدلول على أرض الواقع، فممارسة الديمقراطية المباشرة بمدلولها الحقيقي لا يمكن تصوره على الإطلاق، إذ أين هو الشعب من بين شعوب العالم أجمع الذي خرج عن بكرة أبيه وشارك في اختيار من يحكمه؟، وأين هو الشعب الذي خرج عن بكرة أبيه وبتوافقية تامة وقام بوضع منظومة قانونية أو رؤية سياسية أو تنظيما إداريا لأي دولة في العالم؟ وأين هو الشعب الذي قام بتوافقية تامة بوضع مادة قانونية واحدة أو نص تشريعي واحد بتوافق تام بين جموع المواطنين؟ الجواب: لم ولن يوجد على أرض الواقع الحقيقي شعب قام أو سيقوم بهذا على الإطلاق، بل لا يمكن أن يوجد حتى في أكثر دول العالم ممارسة للديمقراطية، وحين نقول باستحالة ذلك نستمد هذه الاستحالة من استحالة تطبيق مدلول كلمة الديمقراطية بمفهومها الحقيقي، وهو أن شعبا بأكمله وبتوافق تام وبرؤية واحدة يشارك في حكم نفسه بنفسه، وبالتالي تعذر حدوث ذلك، بل من المستحيل حدوث ذلك، لأن تطبيق الديمقراطية بمفهومها الحقيقي ومدلولها الواضح البسيط ما هو إلا ضرب من الوهم وبريق من السراب.
ومن هنا تسرب إلى نفوس كثير من المفكرين الغربيين والعرب أن مصطلح الديمقراطية مصطلح غامض ومضطرب وضبابي، وردا على هؤلاء أقول: إن استحالة التطبيق الفعلي الواقعي للمدلول الحقيقي للديمقراطية جعل من تبنوا هذا المصطلح يحتالون عليه ويلتفون، فقاموا بوضع مدلول آخر غير مدلولها الحقيقي البسيط الواضح، لإيهام الشعوب واستغفالهم بهذا المصطلح البراق الرنان الذي من المستحيل تطبيقه في الحقيقة ولا في الواقع العملي، بل إن اليونانيين القدامى الذين هم أول من ابتكر هذا المصطلح وأول من أبدعه عجزوا عن تطبيقه حقيقية وواقعا، بل كانوا هم أول من احتال والتف وخرج على حقيقة الديمقراطية حيث كان نصف أو ربع سكان أثينا الذكور هم فقط من لهم حق التصويت من دون اليونانيين جميعا.
ولما لم يفلح شعب واحد في تاريخ البشرية أن يمارس الديمقراطية بمدلولها الحقيقي منذ أن تم ابتكار فكرة الديمقراطية في عصور ما قبل الميلاد وإلى يومنا هذا، أخذ دعاة الديمقراطية من الديمقراطية اسمها فحسب، ومن ثم أخذوا يتسترون خلف هذا الاسم البراق الخادع للناس ويضعون له مدلولات ترقيعية وتلفيقية منها مثلا (الديمقراطية النيابية) و(الديمقراطية الليبرالية) و(الديمقراطية غير المباشرة) وغيرها من الترقيعات والتلفيقات لإيهام الشعوب أنها تحكم نفسها بنفسها وأن سلطتها بيدها لا بيد أحد سواها. فتحولت الديمقراطية التي لا مدلول لها سوى مدلولها اللغوي البسيط الذي يعني حكم الشعب نفسه بنفسه تحولت إلى وهم كبير وسراب براق يتم خداع الشعوب به ليس في مجتمعاتنا العربية فحسب، بل حتى في عقر دار سدنة الديمقراطية الغربية وكهنتها، بل لم تنتهك كلمة في الدنيا وتبتذل مثلما انتهكت كلمة الديمقراطية وابتذلت، ولم تجرد كلمة في الدنيا من مدلولها الحقيقي ويوضع لها مئات المدلولات الأخرى المزورة كما جردت الديمقراطية وزور مدلولها، وذلك منذ ظهورها في العصر اليوناني لوصف نظام سياسي واستمرارها لأكثر من قرنين من الزمان ثم اختفاؤها ثم عودتها للظهور مرة أخرى مع الثورة الفرنسية عام 1789ميلادية وإدخال كثير من المفاهيم والمدلولات المزورة عليها عبر هذه السنوات، بل ودخلت عليها إضافات تتناسب والمجتمعات التي تطبقها مما ادخل الميوعة واللامعنى على معناها.
• المفاهيم غير الديمقراطية للديمقراطية:
المفاهيم غير الديمقراطية لا أقصد بها هنا المفاهيم التي تتعارض مع الديمقراطية بمفاهيمها غير الحقيقية السائدة، إنما أقصد بها المفاهيم المزورة التي تم الزج بها إلى مدلول الديمقراطية وتم تدليسها على الناس حتى ظنوا أنها هي المفاهيم الحقيقية للديمقراطية، فقد سبق وأن ذكرنا مفهوم الديمقراطية من خلال مدلولها اللغوي البسيط الذي هو عبارة عن كلمةٌ مركبة مِن كلمتين: الأولى مشتقة من الكلمة اليونانية Δήμος أو Demos وتعني عامة الناس، والثانية Κρατία أو kratia وتعني حكم أو سلطة، وبهذا تكون الديمقراطية Demoacratia تَعني لغةً "حكم الشعب لنفسه" أو "سلطة الشعب على نفسه". هذا هو المفهوم الحقيقي للديمقراطية، بل المفهوم الوحيد الذي لا مفهوم آخر غيره.
وعلى الرغم من أن جميع القوى السياسية والحزبية والإعلامية والدينية والليبرالية والعلمانية واليسارية في مصر والعالم العربي تتغنى بالديمقراطية وتنادي بها ليل نهار وما من مقال ولا تحقيق ولا تقرير ولا خطاب ولا تصريح إلا وأتى على ذكر كلمة (الديمقراطية) ورفعها كشعار إلا أنه في مقابل هذه الكلمة وتحت هذا الشعار لا يجد الناظر شيئا يدل على الديمقراطية بمعناها الحقيقي ولا حتى بمعناها غير الحقيقي، وهذا ما زاد في تشويه الديمقراطية واتساع مفهومها وزئبقية مدلولها حتى أصبحت كالثوب الفضفاض الذي لو لبسه شخص واحد لضحك الناس منه وفي الوقت نفسه لا يصلح لأن يلبسه أكثر من شخص.
ونظرا للخروج السافر على حقيقة الديمقراطية وتشويه مدلولها الأم ونظرا لعدم وعي الجماهير بماهية الديمقراطية والخلط الكبير بينها وبين أشياء أخرى بعيدة كل البعد عن المفهوم الحقيقي لها أصبح كل ما يروق من شيء لشخص ما أن يلحقه ويلصقه بالديمقراطية، لدرجة أنه تم إلصاق الحرية بمفهوم الديمقراطية، والحرية شيء والديمقراطية شيء آخر، وتم إلصاق حرية إنشاء الأحزاب وتعددها بالديمقراطية، و إنشاء الأحزاب شيء والديمقراطية شيء آخر، وتم إلصاق نظام التمثيل النيابي ونظام الانتخابات بالديمقراطية، والتمثيل النيابي والانتخابات شيء والديمقراطية شيء آخر، وتم إلصاق مفهوم الليبرالية وحقوق الأقليات بالديمقراطية، والليبرالية وحقوق الأقليات شيء والديمقراطية شيء آخر، وتم إلصاق حرية الصحافة والرأي والفكر والتعبير بالديمقراطية، وحرية الصحافة والرأي والفكر والتعبير شيء والديمقراطية شيء آخر، وتم إلصاق السماح للمعارضين السياسيين بالعمل بحرية كاملة بالديمقراطية، والسماح للمعارضين السياسيين بالعمل بحرية كاملة شيء والديمقراطية شيء آخر، وتم إلصاق القيود التي توضع على ممارسات الدولة التعسفية كأعمال القبض والتعذيب والاحتجاز وغيرها بالديمقراطية، ووضع القيود على ممارسات الدولة التعسفية شيء والديمقراطية شيء آخر، وتم إلصاق استقلال القضاء بالديمقراطية، واستقلال القضاء شيء والديمقراطية شيء آخر، وتم إلصاق قبول الرأي والرأي الآخر بالديمقراطية، وقبول الآراء على اختلافها شيء والديمقراطية شيء آخر، بل لقد قابلني أحد الأشخاص منذ بضعة أيام وقال لي: (مش بيقولوا إنه بعد الثورة بقى فيه ديمقراطية) قلت له المفروض، فسألته لماذا؟ قال: (ذهبت لأشتري ثلاثين رغيفا من المخبز فلم يعطوني سوى عشرين رغيفا فقط، فين هي الديمقراطية ولا بيضحكوا علينا؟). هذا هو مفهوم آخر لدى شريحة من الناس للديمقراطية، وهلم جرا.
وحين شعر سدنة الديمقراطية المزيفة وكهنتها في الغرب بأن مفهوم الديمقراطية اتسع وأصبح مفهوما فضفاضا غير محدد بحد، وأصبح هناك كثيرا من المستبدين والديكتاتوريين يدعون الديمقراطية ويمارسونها بطرق مزورة مخادعة خاصة في دول العالم الثالث سارع البيت الأبيض في عام 1993 لتركيز مفهوم الديمقراطية على خصائص معينة لتحديده، دون أخذ رأي بقية شعوب العالم في هذا التحديد وهذا التركيز، فقام البيت الأبيض بتحديد مفهوم الديمقراطية الزئبقي غير الحقيقي في خمس مبادئ أساسية يمكن من خلالها الحكم على الديمقراطية في أي مجتمع، هذه الخصائص هي: (حرية الانتخابات ونزاهتها، حقوق المعارضين السياسيين في العمل بحرية كاملة، وضع قيود على السلطات التعسفية للدولة وبخاصة أعمال القبض والاحتجاز والتعذيب ضمن أشياء أخرى، وحقوق المواطنين في التنظيم في أقليات في العمل او حول اهتمامات اخرى وقضاء مستقل للرقابة على سلطة الدولة). إلا أن جميع هذه المبادئ لا تمت إلى المفهوم الحقيقي للديمقراطية بصلة.
• ضرورة تقنين وتحديد المصطلحات:
تم استضافتي في أحد برامج (التوك شو) المسائية على قناة فضائية خاصة قبل ثورة 25 يناير بأسبوعين وكان موضوع البرنامج حول المواطنة والتعليم، وحين توجهت لي مقدمة البرنامج بسؤال عن المواطنة والتعليم، بادرتها قبل أن أجيب على سؤالها بسؤال فقلت لها: كم مرة قمت بترديد مصطلح (المواطنة) في برنامجك هذا أو في غيره؟ قالت: مرات عديدة، فقلت لها هل تستطيعي أن تخبريني وتخبري جمهور المشاهدين بالمفهوم العلمي الحقيقي لمصطلح (المواطنة) الذي ترددينه كل يوم عدة مرات وتدعي الناس إليه وإلى تطبيقه والالتزام به؟ فلم تعرني جوابا مفيدا ولاذت بالمراوغة والتهرب، بل تفاجئت أنها لا تعرف شيئا عن الحقيقة العلمية لمصطلح (المواطنة) ولا من أين جاء ولا من ابتكره، والمصيبة الأكبر أنها تردده كل يوم على مشاهديها وتدعوهم إلى تطبيقه والالتزام به وهي شخصيا لا تعرف شيئا عن مدلوله العلمي الحقيقي، وأثناء الفاصل الإعلاني للبرنامج قلت لها إذا كنت أنت أحد دعاة المواطنة لا تعرفي شيئا عما تدعي إليه الناس من فكر وثقافة فقولي لي بربك كيف سيلتزم ويقتنع المشاهد العادي البسيط الذي يشاهد البرنامج بثقافة المواطنة وكيف سيلتزم بها في الوقت الذي من يقدم له هذه الثقافة لا يعي شيئا عن مفهومها العلمي الحقيقي ولا يعي شيئا عن مصدره؟.
هذه الحالة بل هذه الحقيقة لا تنطبق فقط على مقدمة البرنامج هذه بل هي بالفعل حالة عامة منتشرة في كل مقدمي ومقدمات البرامج الذين يتحدثون عن المدنية والديمقراطية والعلمانية والليبرالية والمواطنة وغيرها من المصطلحات المستوردة وهم لا يعرفون شيئا عن المدلولات العلمية الحقيقية لما يرددون من مصطلحات، وهذا كله نتاج إهمال قيمة وأهمية ضبط وتحديد وتقنين وتعلم وتعليم حقيقة المصطلحات التي نستخدمها وندعيها وندعو الناس إليها سواء في المجال السياسي أو العلمي أو الفكري أو الديني أو الإعلامي أو الاقتصادي أو غيرها من المجالات.
فنجد أنفسنا مثلا نتحدث عن الديمقراطية ولا نعي مدلولها ولا معناها الحقيقي، فإذا سألت أحد دعاة الديمقراطية عن مدلول هذا المصطلح سيسارع بالجواب أن الديمقراطية هي تداول السلطة أو حكم الأغلبية أو الحرية أو قبول الرأي والرأي الآخر أو الانتخابات الحرة والنزيهة أو قبول الآخر، وغيرها من التعريفات التي لا تمت بصلة للمفهوم الحقيقي للديمقراطية الذي يعني حكم الشعب نفسه بنفسه، وهو التعريف الذي يعني أن الشعب جميعه من دون استثناء يشارك فعليا في ممارسة الحكم وليس فقط الأغلبية هي التي تحكم.
وهذا يؤكد أننا شعوب لا تعرف للكلمة حقها وقيمتها، فالكلمة كلما كانت دقيقة ومحددة وصحيحة في مدلولها ومفهومها كلما نقلت لنا صورة حقيقية صحيحة عن أفعالنا ومقاصدنا ومبادئنا وعلومنا ومفاهيمنا وعن حقيقة الأشياء من حولنا، فاللغة التي يروج البعض لموتها هي الوعاء الوحيد الذي يصنع حضارتنا وتقدمنا وقيمنا وعلومنا إذا عرفنا قيمة الكلمة وقيمة الحرف في اللغة أي لغة وليس العربية فحسب، فالحرف أو اللفظ الواحد أو الكلمة الواحدة في أية لغة من لغات العالم له قيمة وله دلالة وله حقيقة يعبر عنها ويقصدها ولا يقصد شيئا سواها، لكننا حين استهنا بأهمية صيانة لغتنا وكلماتنا أصبح الوهم والخيال والعبث والبعثرة هو ما يسيطر على حياتنا وسياستنا وتديننا وفكرنا وعلومنا وقيمنا وثقافتنا وأخلاقنا وإعلامنا بسبب أننا استهنا وأهملنا أهم وعاء للتواصل البشري في كل شيء. فوصلنا إلى ما نحن فيه الآن من عبثية وتشتت.
ولو تأملنا قليلا في قرارات الأمم المتحدة أو في تصريحات وكلمات السياسيين والمسئولين والإعلاميين والعلماء والمفكرين والمختصين الغربيين وكيف أن حرفا واحدا في كلمة واحدة يولونه أكبر الاهتمام في تلك القرارات والتصريحات لعلمنا كيف أن هؤلاء يعرفون جيدا قيمة وأهمية الدلائل الحقيقية للكلمات والمصطلحات، لأن الاهتمام بتحديد مدلول الكلمات وتحديد مفاهيمها الحقيقية هو الوسيلة الوحيدة المتاحة للتعبير الحق عما نقصد وعما نؤمن وعما نعتقد وعما نبتغي وعما ندعو الناس إليه وليس شيئا آخر غيره، وكذلك الاهتمام بالمدلولات والمفاهيم الحقيقية بكلماتنا وما نستخدم من مصطلحات يحول بيننا وبين تضليل الناس وتشويه حقائق ومفاهيم الأشياء في نفوسهم بغير علم، ويجعلنا واضحين أمناء صادقين غير عابثين ولا مراوغين فيما نقول وفيما نعمل وفيما ندعو ويجعلنا نفكر مليا قبل أن نتكلم أو نتلفظ بشيء حتى لا تحسب كلماتنا علينا أو ضدنا، ولا نوقع أنفسنا فيما لا نقصد ولا تكلفنا كلماتنا ما لا نطيق ولا ننقل إلى أفئدة الناس من المدلولات والمفاهيم ما ليس بحق، فيحدث الخلاف والشقاق ومن ثم نسقط وتسقط معنا قيمنا ومعارفنا ومبادئنا وأهدافنا الخيرة التي قد أسأنا التعبير عنها وعن مدلولها الحق بشكل غير علمي وغير صحيح.
ومن هنا أرى أنه لابد من تقنين المصطلحات العلمية والسياسية والدينية والإعلامية والقانونية وكافة مصطلحات العلوم والأشياء، ثم تعميمها على الناس في التعليم والإعلام ومن ثم توعية الناس وتثقيفهم بها وإلزامهم بالتواصل عبرها ليكونوا على بينة من أمرهم وعلى بينة بحقائق الأشياء من حولهم، وعندها سيتم قطع الطريق على أي وسيلة أو شخص أو جهة تقوم بتضليل الناس والعبث بأفكارهم ومعارفهم ومعتقداتهم وقيمهم وتصوراتهم بغير علم.
• الديمقراطية وخدعة حكم الأغلبية:
الديمقراطية الغربية كلمة تم إفراغها تماما من مدلولها الحق الذي يعني حكم الشعب لنفسه _الشعب بأكمله_، لاستحالة تطبيق هذا المفهوم في الواقع، وحين وجد المفكرون والساسة الغربيون أن الديمقراطية بمفهومها الحق عصية على التطبيق الفعلي على الأرض قاموا بترقيع الديمقراطية والالتفاف عليها بخدعة جديدة، لكنها بعيدة كل البعد عن مفهوم الديمقراطية الحق، وكانت هذه الخدعة الترقيعية هي خدعة (حكم الأغلبية)، ولا يخفى على أحد أن (حكم الأغلبية) لا علاقة له بمفهوم الديمقراطية الحق من قريب أو من بعيد، بل إن (الأغلبية) هذه ليست بأغلبية حقيقية كما انخدع الناس وتخادعوا بها.
لقد عرَّفت المعاجم السياسية مصطلح الأغلبية بأنه مصطلح يستخدم لوصف ذلك القسم من مجموعة تكون أكثر من النصف من الذين يحق لهم التصويت في الانتخابات. وقد يستعمل المصطلح أيضا لوصف (أكثرية نسبية) أو أغلبية(Plurality) أي أكبر عدد من الأصوات أو من الناخبين عندما يكون هناك اختيار بين بديلين أو أكثر من المرشحين في الانتخابات غير أن العدد يقل عن 50% من مجموع الأصوات. وتتطلب بعض الإجراءات (أغلبية مطلقة) أي أكثر من 50% ممن يحق لهم التصويت بشأن قضية ما في الانتخابات سواء يدلون جميعا بأصواتهم أو لا يفعلون ذلك.
ومن المعلوم للقاصي والداني أن حق التصويت ليس متاحا لجميع أفراد الشعب وإنما هو متاح فحسب لأفراد الشعب الذين بلغوا من العمر 18 عاما فما فوق. وهو ما يسمى عادة بسن الانتخاب. ووفق المقاييس العالمية يمنح كافة المواطنين الذين بلغوا سن الانتخاب حق التصويت بغض النظر عن العرق، أو الجنس، أو الثروة، وكانت أولى النصوص الدولية التي تناولت هذا الحق كان الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أكد في المادة 21 منه على حق الناس في المشاركة في سياسة شؤون بلدهم مباشرة أو عبر ممثلين يتم اختيارهم بحرية، معتبراً أن الانتخاب يعبر عن الإرادة الشعبية. وفي الفقرة الثالثة نص الإعلان على الصفات أو الخصائص التي يجب أن يتمتع بها حق الانتخاب وهي "الدورية، النزاهة، العمومية، المساواة، السرية".
إن ما يسمى بالأغلبية ما هي إلا خدعة كبرى تتنافي تماما مع مضمون الديمقراطية الحق، فالديمقراطية بمفهومها الحق هي حكم الشعب أو سلطة الشعب _كل الشعب بلا استثناء_، إلا أن مشاركة كل الشعب في الحكم أو في السلطة أو في اتخاذ القرارات ووضع السياسات العامة للدولة أمر لا يمكن تحقيقه على الإطلاق، نتيجة للتباين الكبير والاختلافات المتعددة بين جميع فئات الشعب الواحد حول الرؤى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وما يسمى بالأغلبية ليست في حقيقتها أغلبية، إنما هي مجموعة من الناخبين الذين يحق لهم التصويت وليس كل الذين يحق لهم التصويت، ونسبة هذه المجموعة من المصوتين التي يطلق عليها أغلبية ما هي إلا أقلية ضئيلة جدا نسبة لجميع الشعب كل الشعب، سواء من الذين يحق لهم التصويت أو من الذين لا يحق لهم التصويت، هذه الأقلية الضئيلة التي يطلق عليها كذبا وزورا (أغلبية) هي التي تقوم بصنع القرارات والقوانين والسياسات العامة للدولة في تجاهل تام لبقية جموع الشعب الذين يطلق عليهم كذبا وزورا (أقلية). هذه المجموعة المسماة كذبا (أغلبية) ما هي إلا دكتاتورية أقلية حقيقية تم تلفيقها في ثوب ديمقراطي كاذب ومخادع، هذه الأقلية الديكتاتورية الديمقراطية هي التي تستبد بصياغة القرارات الهامة وتستبد برسم السياسات العامة للدولة وهي التي تستبد بالتحكم في المقدرات العامة للدولة على حساب سحق وتجاهل واستغفال الأكثرية الحقيقية للشعوب والمسماة كذبا وزورا بالأقلية لا لسبب سوى أنهم لم يشاركوا في التصويت.
وبنظرة سريعة على أي الانتخابات في أي دولة ديمقراطية أو غير ديمقراطية في انتخابات نزيهة أو غير نزيهة يتأكد لنا حقيقة هذه الخدعة التي تسمى (أغلبية)، فمثلا في الاستفتاء الذي أجري على التعديلات الدستورية في مصر عقب ثورة 25 يناير تبين أن 77.2% ممن شاركوا في الاستفتاء صوتوا بـ "نعم" على التعديلات الدستورية من أكثر من 18.5 مليون ناخب شاركوا في التصويت. وبلغت نسبة الإقبال على التصويت 41.2% من بين 45 مليون شخص يحق لهم المشاركة في التصويت، فيما بلغ عدد الأصوات الباطلة 171.190 ألف، مما يعني أن 26,5 مليون شخص ممن يحق لهم التصويت لم يشاركوا في التصويت، ومما يعني كذلك أن من يسمون كذبا بالأغلبية وهم من يزيدوا على 14 مليون شخص بقليل هم وحدهم من قرروا مصير الشعب المصري الذي يزيد تعداده على 80 مليون مواطن. فهل من العدل والحق أن يطلق وصف الأغلبية على الـ 14 مليون مواطن؟ وهل من العدل والحق أن يطلق وصف الأقلية على الـ 66 مليون مواطن الذين منهم من صوتوا بـ "لا" ومنهم من لم يشارك أصلا في التصويت؟.
وفي الانتخابات الأمريكية التي فاز فيها بوش الابن في المرة الأولى شارك حوالي 25 في المائة من الذين يحق لهم التصويت من الشعب. وبعد حذف الأصوات الخاطئة يكون نسبة الذين انتخبوا بوش من المتبقين الذين شاركوا فعليا في الانتخابات هم 50 في المائة من الـ 25 في المائة المشاركين فعلياً من مجموع الذين لهم حق الانتخاب. والنتيجة تكون كالتالي:
عدد الذين لم يصوتوا لبوش يساوي عدد الذين لا يحق لهم التصويت وهم مثلا 40 في المائة من الشعب الأمريكي، يضاف إليهم عدد الذين لم يشاركوا ممن لهم حق التصويت وهم 75 في المائة من الذين يحق لهم التصويت، يضاف إليهم عدد الذين شاركوا ولكنهم أخطئوا في التصويت أو تركوا الورقة بيضاء، يضاف إليهم عدد الذين انتخبوا غير بوش وقد يساوون 49 في المائة ممن شاركوا فعلاً في الانتخابات، فلو كان عدد سكان أمريكا (300) مليون نسمة، فيكون عدد الذين صوتوا لبوش 20 مليون مواطن أمريكي، بينما الذين لم يصوتوا لبوش كانوا حوالي (280) مليون مواطن، 120 مليون (ليس لهم حق الانتخاب) + 135 مليون (لم يشاركوا في الانتخابات ولهم حق الانتخاب) + نصف مليون (تركوا أوراقاً بيضاء) + 23 مليون وهم الـ 49 في المائة الذين صوتوا لخصم بوش، فأين هي الأغلبية؟؟
ومن الجدير بالذكر أن الولايات المتحدة تعاني في العقود الأخيرة من مشكلة تقاعس الناخبين عن الإدلاء بأصواتهم في الانتخابات الرئاسية. ولقد شهدت الخمسون عاماً الماضية تراجعاً واضحاً في نسبة من يذهبون إلى صناديق الاقتراع في يوم الانتخابات؛ فقد كانت نسبة من يشاركون في الإدلاء بأصواتهم في عام 1960م أكثر من 63% من إجمالي عدد الناخبين، وانخفضت تلك النسبة إلى 49% في انتخابات عام 1996م. وفي الانتخابات الرئاسية عام 2000، صوتت نسبة تقل عن 50 بالمائة من مجموع الناخبين المؤهلين. هذا التراجع قد توقف في العقد الماضي بسبب المنافسة بين المرشحين، ولكن المراقبين يجمعون على أن الناخبين قد فقدوا الثقة في جدوى التصويت بسبب الخداع الإعلامي، وتدخُّل قوى الضغط السياسي في العملية الانتخابية، وغير ذلك من الحيل التي أفقدت الانتخابات الأمريكية بريقها الديمقراطي.
ويعلل بعض المؤرخين هبوط هذه النسبة بالهبوط المقابل في أهمية الأحزاب السياسية في الحياة اليومية لدى الناس، ويعتقد آخرون أن نمو مجموعات أصحاب المصالح المتمولين دفع الناس إلى فقدان الاهتمام بالانتخابات التي تجري معاركها بصورة أولية عبر التلفزيون وإعلانات الصحف. ولدى سؤال الذين امتنعوا عن التصويت عن سبب امتناعهم تراوحت أجوبتهم بشكل واسع. كان منهم من لم يعتقد أن صوته بمفرده يمكن أن يُحدث أي فرق، ومنهم لم يعتقد أن القضايا المطروحة تؤثر عليه، ومنهم من لم يهتم بكل بساطة بالأمر، ومنهم من يمتنع عن التصويت بسبب تلاعب السياسيين الغوغائيين عن طريق وسائل الإعلام بالناس الذين لا يملكون معرفة ذات شأن بهذه القضايا.
ومما يجعل هذا الأمر ملفتاً للنظر عاملان آخران يتزايدان خلال الأعوام الأخيرة أيضاً. الأول أن ما يقارب من نصف الناخبين لا يذهبون إلى صناديق الاقتراع، ومن ثَمَّ فإن نصف الناخبين لا يشاركون في الانتخابات. ويتزايد في الآونة الأخيرة إحجام أبناء الشعب الأمريكي عن الحصول على بطاقات انتخابية أيضاً، مما يعني عدم المشاركة في أي انتخابات. كل ذلك يلقي بالكثير من ظلال الشك حول حقيقة تمثيل رغبة الشعب الأمريكي في انتخابات الرئاسة أو غيرها.
ولقد تم توجيه العديد من الانتقادات الحادة لما يسمى "حكم الأغلبية"، وكان من أكثر الانتقادات شيوعاً والتي توجه إلى الديمقراطية هو خطر "طغيان الأغلبية". وأول من نحَت هذا المصطلح هو "ألكسيس دو تاكفيل" في كتابه (الديمقراطية في أمريكا)، الذي ألفه عام 1831، ولكن العبارة مع ذلك تُنسب إلى (جون ستيوارت ميل) إذ وردت في كتابه (حول الحرية) الذي ألفه عام 1859 وكانت حينها تشير إلى الانسجام الاجتماعي وليس إلى الحكم الديمقراطي. إن "طغيان الأغلبية" يتضمن القول بأن حكومة تعكس وجهة نظر الأغلبية بإمكانها إتخاذ إجراءات لقمع أقلية معينة. وهذه الأغلبية في بعض الأحيان هي أغلبية نسبية من الناخبين وهي تعد لذلك أقلية. وهنا تمارس إحدى الأقليات طغيانها على أقلية أخرى باسم الأغلبية. إن الأغلبية المهيمنة سياسياً (وهي إما أغلبية حقيقية أو نسبية) قد تقرر بأن أقلية معينة -سواء كانت دينية أو سياسة أو عقائدية أو من يحملون فكر الأقلية-، يجب تجريمها إما بصورة مباشرة أو غير مباشرة. وهذا يقوض الفكرة القائلة بأن الديمقراطية تخويل للناخبين ككل. وهناك كثير من الأمثلة على طغيان الأغلبية تتضمن: عدد من الدول الأوروبية أصدر قرارات تحظر استخدام رموز دينية شخصية معينة. وهذا الحظر ينظر إليه البعض على أنه موجه إلى الأمور التي تعد رموزاً إسلامية -الحجاب والبرقع والنقاب-. وقد تم حظر استخدام الرموز المشار إليها آنفاً في المدارس العامة في فرنسا حسب قانون العلمانية والرموز الدينية الواضحة. يرى معارضو الحظر فيه انتهاكاً لحق الحرية الدينية. كذلك القانون الخاص بالإجهاض إنما تحدده المواقف الدينية للأغلبية. فبالنسبة لمؤيدي "الحياة" من مناوئي الإجهاض تعد الأجنة غير المولودة أقلية مظلومة وعاجزة ومحرومة من حقوقها لذا فإن فرض حظر على الإجهاض يعتبر استخداماً صحيحاً لسلطة الدولة.
وكذلك الأغلبية هي غالباً من تفرض الضرائب على الأقلية الغنية بنسب عالية متزايدة، وذلك بنية تحميل الأغنياء عبئاً أكبر لأغراض تحسين الأوضاع الاجتماعية. وهو ما تتم معادلته من قبل الأغنياء بلجوئهم إلى خبرات المختصين (مستشاري الضرائب والمحامين). وكذلك في الديمقراطيات الغربية المزدهرة يشكل الفقراء أقلية بين السكان، وقد تحرمهم الأغلبية من الذين يرفضون التحويل الضريبي. وينطبق ذلك على وجه الخصوص في الحالات التي يشكل فيها الفقراء طبقة سفلى متميزة حينها قد تلجأ الأغلبية إلى استخدام العملية الديمقراطية بالنتيجة لحرمانهم من حماية الدولة. وكذلك الديمقراطية الأثينية القديمة هي التي أعدمت سقراط بتهمة عدم التقوى، أو بمعنى آخر لكونه يحمل رأياً مخالفاً رغم أن مدى ارتباط هذا المثال بالديمقراطية المعاصرة لا زال موضع جدل.
كذلك من الأمثلة التي غالباً ما يَشار إليها في الحديث عن طغيان الأغلبية هو مجيء "هتلر" إلى السلطة عن طريق إجراءات ديمقراطية مشروعة. فقد حصل الحزب النازي على الحصة الأكبر من أصوات الناخبين في جمهورية (فايمار) في عام 1933. وقد يعد البعض هذا مثالاً على "طغيان الأغلبية" بما أن هتلر لم يحصل قط على غالبية الأصوات، ولكن حصل على نسبة الأغلبية منها، وانتهاكات نظامه الواسعة في مجال حقوق الإنسان إنما حدثت عقب إلغاء الحكم الديمقراطي. كما أن دستور جمهورية (فايمار) في حالة "الطوارئ" سمح للقوى الدكتاتورية بالظهور وبإيقاف العمل بأساسيات الدستور نفسه من دون الرجوع إلى تصويت أو انتخابات.
وكذلك من أسوأ مظاهر (الديمقراطية الغربية الكاذبة) أن جميع الدول الغربية يستبد بالسلطة فيها حزبان رئيسيان يتم تبادل السلطة بينهما تحت زعم وكذبة وخدعة (الأغلبية) من دون بقية الأحزاب ومن دون الشعب جميعا، ففي الولايات المتحدة يستبد بالحكم والسلطة فيها الحزبان الرئيسيان (الحزب الديمقراطي) و(الحزب الجمهوري)، وكذلك في بريطانيا يستبد بالسلطة الحزبان الرئيسان (حزب العمال) و(حزب المحافظين)، وكذلك في إسرائيل يستبد بالسلطة فيها الحزبان الرئيسان (حزب العمل) و(حزب الليكود)، هذا وناهيك عن أن خدعة الديمقراطية تعمل طوال الوقت على إسالة لعاب المتطلعين إلى السلطة وعلى إثارة شهوة المواطنين المسمون بالأقلية نحو وهم وسراب السلطة الذي لن يتحقق لهم أبدا. وقد يرد مؤيدو الديمقراطية على الانتقادات الموجهة إلى (طغيان الأغلبية) بأن وجود الدستور في العديد من الدول الديمقراطية يعمل كوقاية ضد طغيان الأغلبية. إلا أن هذا الرد يمكن دحضه بأن الدستور من السهل تغيير مواده أو تعديلها بموافقة الأغلبية الكاذبة من النواب المنتخبين من الأغلبية الكاذبة من المصوتين، وهذا يعني أنه لا زال بإمكان أغلبية غير حقيقية ما أن تضطهد أقلية غير حقيقية ما بخدعة الشرعية الديمقراطية.
وقد تم الالتفاف على حقيقة طغيان "الأغلبية الكاذبة" من قبل مؤيدو الديمقراطية بأن حكم الأغلبية برغم مخاطره أفضل من أشكال الحكم الأخرى وان طغيان الأغلبية في كل الأحوال هو نسخة معدلة ومحسنة من طغيان الأقلية. بل إن مؤيدو الديمقراطية قد التفوا على حقيقة طغيان "الأغلبية الكاذبة" برشوة ديمقراطية غير أخلاقية لمن يسمون بالأقليات تتمثل هذه الرشوة الديمقراطية غير الأخلاقية في أن من يسمون بالأغلبية يسمحون لمن يسمون بالأقلية بقدر ما من الحريات، منها: حرّية الكلام والتعبير والتظاهر والاعتصام والحرّية الدينية وحرية المعتقد؛ والإجراءات القضائية المتبعة والحماية المتساوية بموجب القانون؛ وحرية التنظيم، والتصريح بالرأي، والمعارضة والمشاركة في الحياة العامّة للمجتمع، وهذه رشوة ديمقراطية غير أخلاقية لأنها تمثل ملهاة للأقليات وتنفيس لهم ومقايضة عن حرمانهم من حق المشاركة الحقيقية أو التأثير الحقيقي في صنع القرارات المصيرية ورسم السياسات العامة للدولة والتحكم في مقدراتها، بل أقل ما يمكن أن توصف به هذه الرشوة الديمقراطية غير الأخلاقية أنها تتماشى مع القول المأثور: "القافلة تسير والكلاب تعوي".
إن من أسوأ ما أنتجه الفكر السياسي الغربي عبر خدعة الديمقراطية الكاذبة هو رهن مصائر الشعوب لرؤى شخصية وأهواء ورغبات أفراد بعينهم أو فئات بعينها من أصحاب المصالح ومالكي الثروات ممن يعملون في السياسة أو ممن يساندون الساسة البارزين، وكذلك من أسوأ ما أنتجه الفكر السياسي الغربي عبر خدعة الديمقراطية الكاذبة إخضاع الوعي القيمي والمعرفي للجماهير وتوجهاتهم الحياتية لما يسمى "كاريزما" الأشخاص ورؤى وقناعات الأفراد الشخصية التي أنتجها أشخاص بعينهم من دون مرجعية قيمية عليا أسمى تكون هي المرجعية الأم لتشكيل الوعي الجماهيري ويكون الأشخاص من أي لون كانوا هم حماة تلك المرجعية ومنفذي مبادئها وقيمها، بحيث لا يكون للفرد أي فضل شخصي له على الجماهير.
وكذلك تقوم "خدعة الديمقراطية الغربية الكاذبة" على أن فئات قليلة أو مجموعات قليلة جدا متخصصة سياسيا في عدد من الأحزاب السياسية هي من تقوم بوضع خارطة طريق أو فكرة أو حزمة سلوكيات أو مجموعات قوانين لتسيير شئون بلد ما من البلدان سياسيا واقتصاديا واجتماعيا ثم تقوم جميع هذه الأحزاب بطرح هذه الأفكار في برامج على الجمهور الأقل علما والأقل وعيا لاستدراجه بالوعود البراقة والشعارات المخادعة للتصويت عليها واختيار أحدها ليقوم الحزب الذي تم اختياره عن طريق ما يسمى (أغلبية تصويتية) بفرض رؤيته وتوجهه على سائر الأحزاب والتيارات والأقليات الأخرى التي لم تحظ بالاختيار من الناخبين، ومن ثم يمكن القول إن خدعة الديمقراطية الغربية بآلياتها الحزبية والتصويتية أصبحت من أسوأ ما أنتج العقل البشري السياسي، وذلك لعدة أسباب: منها أن جموع الشعب لم تشارك بشكل فعلي حقيقي في وضع واختيار تلك الرؤى التي وضعها أشخاص من المنتمين لتلك الأحزاب، ويقتصر دور الجموع فقط في هذه الخدعة الديمقراطية على اختيار رؤية تسوسه لم يشارك فعليا في صنعها أو إيجادها، بل فرض عليها اختيار إحداها فرضا.
وقد يقول البعض إنه من غير الممكن أن يشارك الشعب بأكمله فردا فردا في صنع رؤى الأحزاب وبرامجها. وللرد على هؤلاء أقول: ومن ذا الذي خول هذه الأحزاب ومن ذا الذي أعطاها تفويضا بالقيام على رسم الرؤى التي تسير أمور المجتمعات، وهذه الأحزاب والحركات السياسية لم تنشأ من ساحات الشعوب إنما هي صنيعة النخب السياسية المرتبطة برجال المال والمصالح والأعمال والأيديولوجيات الذين يمدونهم بالمال والدعاية والإعلام والتبرعات في مقابل أن يكونوا هم المستفيدون الحقيقيون بشكل أو بآخر منهم حال وصولهم للسلطة، ما يعني أن جماعات المال والمصالح تعد هي المشكل والموجه الحقيقي في النظم الديمقراطية لهذه الرؤى وليست الشعوب، مما يعني كذلك أن خدعة الديمقراطية يتم من خلالها تجاوز حقيقي للشعوب لصالح النخب السياسية وأصحاب المصالح ومالكي الأموال والثروات هم من يقفوا من وراء هؤلاء جميعا، حتى أصبحت الديمقراطية أداة شريرة وفكرة شيطانية للعبث بإرادة الشعوب ومصائر الأمم.
• الليبرالية وترقيع فتق الديمقراطية:
إن الديمقراطية الغربية المعاصرة بشكلها الكاذب المخادع بعد تحولها إلى ديكتاتورية أقلية محسنة ومغلفة بما يسمى (حكم الأغلبية) هي عبارة عن ثوب به فتق، هذا الفتق يكمن في استحالة تطبيق الديمقراطية بمعناها الحق في الواقع العملي، ولرتق هذا الفتق تم ترقيع الديمقراطية برقعة تسمى "الليبرالية" للتغطية على هذا الفتق المتسع والمشوه لثوب الديمقراطية، وكذلك لاستعباد ليس الأقليات فحسب بل لاستعباد أكثرية الشعوب ممن لا يأبهون أصلا بالعملية السياسية برمتها، فحين بدأ العمل بالديمقراطية في المجتمعات الغربية كنظام سياسي يعتمد في مضمونه على ما يسمى "حكم الأغلبية" أصبحت الديمقراطية الغربية نظاما سياسيا لا يحمل في مضمونه أي معنى قيمي أو أخلاقي أو حقوقي لمن يسمون زورا بـ "الأقليات"، من هنا رأى المفكرون والساسة الغربيون أنه لابد من البحث عن فكرة أخرى ليتم إلصاقها بالديمقراطية لاسترضاء الأقليات الذين هم في الحقيقة أكثرية الشعوب التي لا تشارك في التصويت واستحمارهم واستغفالهم وتعويضهم عن استحالة مشاركتهم في الحكم أو مشاركتهم في صنع السياسات العامة أو القرارات المصيرية للدولة أو التحكم في مقدراتها، فلم يجد الساسة والمفكرون الغربيون أفضل من فكرة "الليبرالية" ليرقعوا بها الديمقراطية بشكلها الكاذب المخادع، لتصبح الديمقراطية الغربية فيما بعد الترقيع إلى ما يسمى الآن بـ "الديمقراطية الليبرالية".
ومن هنا نشأ الخلط والالتباس بين مفهوم الديمقراطية ومفهوم الليبرالية، مع أن الأصل هو أن الديمقراطية شيء والليبرالية شيء آخر، الديمقراطية تعني في الأصل حكم الشعب لنفسه، لكن كثيرا ما يطلق اللفظ علَى "الديمقراطية الليبرالية" لأنها النظام السائد للديمقراطية في دول الغرب، وبهذا يكون استخدام لفظ "الديمقراطية" لوصف الديمقراطية الليبرالية خلطا شائعا في استخدام المصطلح سواء في الغرب أو في الشرق، فالديمقراطية في ذاتها هي شكل من أشكال الحكم السياسي قائمٌ بالإجمال علَى التداول السلمي للسلطة وحكم ما يسمى كذبا وزرا "الأغلبية"، بينما الليبرالية تؤكد على حماية حقوق الأقليّات والأفراد وهذا نوع من تقييد الأغلبية في التعامل مع الأقليات والأفراد بخلاف الأنظمة الديمقراطية التي لا تشتمل على دستور يلزم مثل هذه الحماية والتي تدعى بالديمقراطيات غير الليبرالية، فهنالك تقارب بينهما في أمور وتباعد في أخرى يظهر في العلاقة بين الديمقراطية والليبرالية. وتحت نظام الديمقراطية الليبرالية أو درجةٍ من درجاتهِ يعيش في بداية القرن الواحد والعشرين ما يزيد عن نصف سكّان الأرض في أوروبا والأمريكتين والهند وأنحاء أخرَى. بينما يعيش معظم الباقي تحت أنظمةٍ تدّعي نَوعاً آخر من الديمقراطيّة كالصين التي تدعى الديمقراطية الشعبية.
إذن نتبين مما سبق أنه يتم في الاستخدام الشائع الخلط خطأً بين الديمقراطية في ذاتها وبين "الديمقراطية الليبرالية الحرة"، فالديمقراطية الليبرالية هي بالتحديد شكل من أشكال الديمقراطية النيابية حيث السلطة السياسية للحكومة مقيدة بدستور يحمى بدوره حقوق وحريات الأفراد والأقليات وتسمى كذلك "الديمقراطية الليبرالية الدستورية". ولهذا يضع الدستور قيوداً على ممارسة إرادة الأغلبية. أما الديمقراطية غير الليبرالية فهي التي لا يتم فيها احترام هذه الحقوق والحريات الفردية. ويجب أن نلاحظ بأن بعض الديمقراطيات الليبرالية لديها صلاحيات لأوقات الطوارئ والتي تجعل هذه الأنظمة الليبرالية أقل ليبراليةً مؤقتاً إذا ما طُبقت تلك الصلاحيات أثناء الاضطرابات العامة أو أثناء الحروب أو أثناء حالات الطوارئ سواء كان من قبل الحكومة أو البرلمان أو عبر الاستفتاء.
ومن هنا يلوح في الأفق سؤال هام وكبير ألا وهو: هل بعد إضافة فكرة الليبرالية إلى الديمقراطية أصبحت الديمقراطية الليبرالية الغربية بالفعل نظاما سياسيا له مبادئ قيمية وأخلاقية إنسانية عالمية حقيقية؟، أم أن إلصاق الليبرالية بالديمقراطية كان بمثابة إضفاء بعض مساحيق التجميل الأخلاقية على وجهة الديمقراطية غير الأخلاقي القبيح للالتفاف على حقوق الأقليات في تولي السلطة، ولإخضاعهم لحكم ما يسمى بالأغلبية الكاذبة، ولتفتيت قواهم وتجمعاتهم الأيديولوجية حتى لا تقف في مواجهة ما يسمى بالأغلبية، ولتعويض حرمانهم المطلق من تولي السلطة أو اتخاذ القرارات المصيرية والهامة أو التحكم في مقدرات الدولة؟، وقبل الجواب على هذا السؤال الهام لابد من إلقاء نظرة علمية حول مصطلح الليبرالية، كما جاء في بعض الموسوعة العلمية الغربية على النحو التالي:
الليبرالية مصطلح معرب مأخوذ من (Liberalism) في الإنجليزية، و(Liberalisme) في الفرنسية، وهي تعني "التحرر"، ويعود اشتقاقها إلى (Liberaty) في الإنجليزية أو (Liberate) في الفرنسية، ومعناها الحرية. وهي مذهب فكري يركز على الحرية الفردية، ويرى وجوب احترام استقلال الأفراد، ويعتقد أن الوظيفة الأساسية للدولة هي حماية حريات المواطنين مثل حرية التفكير، والتعبير، والملكية الخاصة، والحرية الشخصية وغيرها. والليبرالية حاليا مذهب أو حركة وعي اجتماعي سياسي داخل المجتمع، تهدف لتحرير الإنسان كفرد وكجماعة من القيود السلطوية الثلاثة: (السياسية والاقتصادية والثقافية)، وقد تتحرك وفق أخلاق وقيم المجتمع الذي يتبناها، وتتكيف الليبرالية حسب ظروف كل مجتمع، إذ تختلف من مجتمع إلى مجتمع. الليبرالية أيضا مذهب سياسي واقتصادي معاً ففي السياسة تعني تلك الفلسفة التي تقوم على استقلال الفرد والتزام الحريات الشخصية وحماية الحريات السياسية والمدنية.
• نقد الديمقراطية الليبرالية:
الليبرالية بهذا المدلول السابق عرضه قد يراه كثير من الناس لا غبار عليه، بل قد يثير لعاب الشعوب والجماعات والأفراد وخاصة الذين يتبنون الأفكار السياسية والنظريات الفكرية الفلسفية الغربية دون وعي. علينا أن نعي ابتداء أن الفكرة أو الفلسفة الليبرالية بمفهومها الغربي ظهرت كردة فعل على ظلم الكنيسة ورجال دينها وعلى الإقطاع في العصور الوسطى، فكما سبق وأن ذكرنا في هذا الكتاب أن الديانة المسيحية لا تحمل في طياتها شريعة تفصيلية جامعة شاملة لتنظيم حياة المؤمنين بها وفض منازعاتهم كما هو الحال في الشريعة اليهودية والشريعة الإسلامية، مما دعا رجال الدين المسيحي الكاثوليك في العصور الوسطى أن يزعموا أن لهم وحدهم السلطان من قبل الله على جميع المسيحيين حكاما ومحكومين، وفي ظل فراغ المسيحية من شريعة إلهية تنظيمية لعبادات الناس ومعاملاتهم وفض منازعاتهم لجأ الباباوات إلى إصدار أحكام مزعومة زعموا أنها تأتيهم من الله مباشرة بحلول روح القدس عليهم، وهنا لا يخفى على أحد مدى المزاجية والجهالة والظلم والاضطهاد والطغيان حين يخضع شعب من الناس لسلطة أو حكم هذه صفته دون حسيب أو رقيب من أحد من البشر، وهذا ما قد حدث بالفعل للشعوب الغربية على أيدي رجال الدين الكاثوليك الذين أذاقوا الشعوب الغربية إبان العصور الوسطى شتى صنوف العذاب والاضطهاد والتضييق والكبت والحرمان والإقطاع والقتل والتنكيل لمن فكر في الخروج على سلطان الكنيسة أو حتى فكر في مخالفتها، ولم تظهر الليبرالية نتيجة لطغيان رجال الدين المسيحي فحسب، بل كذلك ظهرت نتيجة للحروب الدينية الطاحنة في أوروبا بين الكاثوليك والبروتستانت والتي راح ضحيتها مئات الآلاف من الجانبين، فجاءت الليبرالية لوقف تلك الصراعات باعتبار أن رضا المحكوم بالحاكم هو مصدر شرعية الحكم وأن حرية الفرد هي الأصل.
أما في العالم العربي فيحاول البعض دون وعي أن يلصق هذا الواقع الديني المزري في أوروبا في العصور الوسطى على الواقع الإسلامي وعلى الدين الإسلامي، ويتناسى البعض أو يتغافل سواء عن قصد أو عن غير قصد أن النزاع الديني في الغرب المسيحي إبان القرون الوسطى كان نتيجة لفراغ الديانة المسيحية من نصوص تشريعية تنظيمية تفصل بين الناس في منازعاتهم اليومية وشئون حياتهم العامة والخاصة، هذا هو ما دعا المذاهب الدينية المسيحية إلى التناحر والتذابح والاقتتال فيما بينها لعدم وجود نص ديني تشريعي يحتكمون إليه أو حتى يختلفون حول فهمه أو تطبيقه في ظل التعايش المشترك كما هو الحال في الدين الإسلامي وبين أتباعه. فقياس وفرض الواقع الديني المسيحي الغربي بكل خصوصياته وملابساته ومفارقاته على الدين الإسلامي وعلى أتباعه لهو ظلم عظيم ولا يقول به سوى من ليس لديه علم أو وعي بحقيقية وطبيعة شرعة ومنهاج الإسلام وحقيقة شرعة ومنهاج المسيحية.
فما كان من ساسة ومفكري الغرب أمام هذا التطاحن الديني والمذهبي الدموي بين الشعوب الغربية سوى دمج الديمقراطية غير الحقيقية التي تم تزويرها تحت خدعة ما يسمى "حكم الأغلبية"، ثم تم دمج فكرة "الليبرالية" بهذه الديمقراطية المزعومة للتخلص من هذا التطاحن الديني الدموي، وكذلك لتحقيق العديد من الأهداف العنصرية والاستعمارية والتسلطية في يد قلة من ساسة الغرب الذين تحللوا تماما من أي وازع ديني أو خلقي أو قيمي أو إنساني في التعامل مع الشعوب الأخرى غير الغربية.
هذه الفئة التي قامت برسم مبادئ النظم السياسية الغربية وتأسيسها منذ البدء لم تستشر شعوبها في إرساء تلك المبادئ ولم تخيرها في تأسيس تلك النظم، وإنما قامت بخداع الشعوب الغربية وإطلاق العنان لشهواتها وغرائزها تحت مسمى القيم الليبرالية حتى لا تتطلع هذه الشعوب يوما نحو السلطة على أساس عقيدي ديني أو عرقي أو جغرافي أو أي أساس أخر سوى الأساس الديمقراطي المخادع الذي تم تحويله وتزويره وإخراجه في صورة خدعة ما يسمى "حكم الأغلبية"، وبعد أن قامت الأنظمة الغربية بتأمين جبهتها الداخلية وبعد أن قامت بتدجين شعوبها وإبعادها تماما عن السلطة والسياسة قامت الأنظمة الغربية مجتمعة بالسطو على شعوب العالم أجمع واحتلالها لعشرات السنين وقامت بنهب خيراتها وسرقة ثرواتها ومواردها لعشرات السنين وقامت بجلبها إلى البلدان الغربية لبناء اقتصادياتها الضخمة وتقدمها العلمي والتقني المذهل الذي نشاهده اليوم.
فعقب انتهاء الحرب العالمية الثانية وبعد زوال الحقبة الاستعمارية بدأ الغرب في بناء اقتصاده وتضخيم ثرواته وحضارته وتقدمه من خيرات الشعوب المنهوبة للتحول فيما بعد إلى قوى استعمارية جديدة، لكن هذه المرة ليس استعمارا بالجيوش والعتاد العسكري وإنما بالاستعمار الاقتصادي والاستعمار السياسي والاستعمار الثقافي، وخاصة الاستعمار الحقوقي والقانوني المتمثل في مهزلة ما يسمى "مجلس الأمن" و"الأمم المتحدة"، ومن ثم قامت الأنظمة الغربية تغدق على شعوبها كل ما لذ وطاب من ترف الحياة المادي والبذخ الاقتصادي والنفخ والإعلاء من النجومية الإعلامية والفنية والرياضية والتسابق نحو الموضة والأزياء ومساحيق التجميل والأطعمة المصنعة والوجبات الجاهزة كعامل إلهاء للشعوب الغربية لتسكين نوازعها نحو السلطة ونحو عدم الانفتاح على القيم الدينية الإنسانية الحقيقية العامة ونحو التفكير في نظم سياسية جديدة تقوم على العدل والحق والرخاء والشراكة والندية لا للشعوب الغربية والرجل الأبيض فحسب بل لشعوب العالم أجمع.
وليس أدل على ذلك من قراءة التاريخ الاستعماري الغربي القديم وقراءة التاريخ الاستعماري الغربي الحديث الذي مازال مسيطرا على العالم أجمع بقوته وأسلحته الجهنمية المدمرة التي يمتلكها ويرهب بها العالم أجمعه وفي الوقت ذاته يفرض حظرا عنصريا على بقية شعوب العالم الأخرى من امتلاكها، ناهيك عن زرعه لدولة إسرائيل في منطقة الشرق الأوسط للتخلص من وجود اليهود في المجتمعات الغربية بل واستخدامهم في إنهاك واستنزاف الدول العربية وإلهائهم في صراعات ومساومات سلمية لا نهائية، وناهيك عن موقف الغرب من إيران ومن القضية الفلسطينية ومن أفغانستان ومن العراق والصومال، ناهيك عن مساندة الغرب المنافق لأنظمة الحكم الديكتاتورية الاستبدادية الطاغية في دول ما يسمى بالعالم الثالث لعشرات السنين.
لقد صنع الغرب كل هذا لأن منظومته الفكرية والثقافية والسياسية لا تحمل أي معنى للقيم الدينية الإنسانية الحقيقية العالمية التي تشمل جميع البشر على اختلاف أجناسهم وألوانهم وثقافاتهم ودياناتهم، واقتصر فقط في ممارسته لهذه القيم على الشعوب الغربية والرجل الأبيض ومن سار على نهجهم، بل إن القيم الليبرالية التي تتخذ من حرية الفرد محورا لها من يراجع فلسفتها وممارستها الحقيقية الواقعية بين أبناء الشعوب الغربية يرى أنها قيم تقوم على تدجين الفرد الغربي وإغراقه في شهوانيته وغرائزه ومحورته داخل نفسه ومركزته حول ذاته وغرائزه لطمس أي معالم للبناء القيمي الإنساني الجماعي العالمي داخل تركيبة الفرد الغربي وعدم إشاعاتها بين شعوب العالم بلا استثناء، وكذلك عملت النظم السياسية الغربية على إلهاء الفرد الغربي عن التفكير في تغيير النظم السياسية الغربية التي تقوم على عنصرية القيم وعنصرية الحرية وعنصرية الرخاء الاقتصادي وعنصرية امتلاك القوة وعنصرية التقدم التقني والاقتصادي لتبقى مقاليدها في يد الأنظمة السياسية الغربية وحدها ولا تجني خيراتها سوى الشعوب الغربية فحسب، وكذلك لإلهاء الشعوب الغربية عن الاهتمام بسياسات حكوماتهم الخارجية التي تقوم على استعمار شعوب العالم الأخرى وحرمانها من أي تقدم إلا تحت مظلة ورعاية ومراقبة الأنظمة السياسية الغربية العنصرية.
وليس أدل على شيطانية غايات فكرة وفلسفة الليبرالية التي تمجد الفرد وتجعله هو محور ذاته بفعل الأنظمة السياسية الغربية من أن الليبرالية الغربية جعلت من الإنسان الغربي إنسانا مشوها فكريا وخلقيا وقيميا، ويظهر هذا جليا في بعض الغربيين الذين يقومون بتأسيس جمعيات للرفق بالحيوان والرأفة به بشكل مفرط، لدرجة أن منظمات غربية عديدة هاجمت كثيرا ذبح المسلمين للخراف والنعاج بأعداد كبيرة في عيد الأضحى واعتبرتها جرائم ومأساة في حق الحيوان، بينما هذا الإنسان الغربي هو نفسه يشاهد بأم عينه كل يوم ما تفعل جيوش بلاده بالعراقيين وبالأفغان وبالفلسطينيين وبغيرهم من شعوب العالم في كل مكان من أرض الله ولا يحرك له هذا ساكنا، كل هذا نتيجة للأفكار الشيطانية الإجرامية التي اختلقها الغرب الضال ليحرر الفرد الغربي من القيم الدينية الإنسانية العالمية ويمحوره حول فرديته وحول ذاته ومن ثم تجريده من آدميته المستقلة ليصبح عبدا وخروفا داخل قطيع ينساق خلف غرائزه وشهواته وأهوائه وخلف ساسته المجرمين السفاحين المستعمرين سافكي دماء الشعوب، ويسهل السيطرة عليه من قبل وسائل الإعلام التي تعمل وفق إمكانيات جهنمية لتوجيهه إلى الوجهة التي يريدها تجار الحروب وأصحاب المصالح ومالكي الثروات ونخاسيي الإعلام وأهل السلطة من الرأسماليين المتوحشين.
إن تبني الأنظمة الغربية لفكرة الليبرالية وللمنهج الليبرالي في النظام السياسي الغربي لم يكن عن إيمان حقيقي بقيمة الإنسان -عموم الإنسان أي إنسان- ولم يكن تقديرا لكرامته ولا اعترافا بحريته كما يظن السذج دعاة الليبرالية العرب وكما ينبهرون بها، إذ لو كان الأمر كذلك فإن القيم الإنسانية لا تتجزأ ولا يمكن أن تكون قيما عنصرية تتمتع بها شعوب دون أخرى، أو تمنح لشعوب وتحرم منها أخرى، إنما هي حق إنساني عالمي عام لجميع شعوب العالم وليس للرجل الغربي الأبيض فحسب. بل لقد رأت الأنظمة السياسية الغربية وجوب احترام استقلال الفرد الغربي، وأن الوظيفة الأساسية للدولة هي حماية حريات المواطنين مثل حرية التفكير، والتعبير، والملكية الخاصة، والحرية الشخصية وغيرها. كعامل للتنفيس والاحتواء وتعويضا لقطاعات عريضة من الشعوب الغربية التي لا تمارس السلطة الفعلية ولن تتمكن من ذلك، لأن هذه القطاعات العريضة من الشعوب الغربية لا تنتمي لتلك الأحزاب الرئيسية التي تستبد بالحكم وفق النظام السياسي المحدد الذي لا يسمح للشعوب الغربية بتغييره أو العمل من خارجه، بل إن الشعوب الغربية مجتمعة لا يمكنها إسقاط رئيس دولة غربية أو رئيس وزراء أو حتى وزير تم انتخابه بخدعة ما يسمى "الأغلبية التصويتية" إلا بعد انقضاء مدته أو استقالته هو من تلقاء نفسه، أو ترى جماعات المصالح ذلك فتحشد الجماهير ضده عبر الدعاية الانتخابية المضادة وعبر وسائل الإعلام المأجورة لتحريض جماهير المصوتين عليه فيتم إسقاطه في الانتخابات التجديدية المقبلة.
وكذلك بفعل الليبرالية الغربية التي تركز على تقديس فردية الإنسان ومحورته حول ذاته وشهواته وغرائزه وانكبابه على عمله أو تجارته أو وظيفته أو رحلاته أو سياحته داخل ذلك النظام الرأسمالي المتوحش يتحول الإنسان الغربي إلى مجرد ترس في ماكينة لا تتوقف عن العمل ولا يعلم شيئا عن شئون الحكم أو السياسة الداخلية أو الخارجية لبلاده إلا عبر وسائل الإعلام التي تشكل وعيه بشكل كامل وتوجهه نحو الوجهة التي تريده متجها إليها جماعات الضغط والمصالح وأساطين المال والأعمال والإعلام ضمن صفقات قذرة تتم بين هؤلاء جميعا، وبالتالي تحول المواطن الغربي بفرديته المفرطة إلى مجرد خروف في قطيع من الغنم لا يدري عن أمر دنياه شيئا سوى أنه يأكل ويشرب ويعمل ويمارس هواياته الشخصية والجنسية والعلمية بحرية كاملة وفق قوانين النظام السياسي لبلده الذي يوفر له كل هذا بل ويحميه، ولا مجال هناك للحديث عن الأخلاق العالمية أو القيم الدينية الإنسانية العالمية، فله أن يفعل ما يشاء وأن يعتقد ما يشاء وأن يقول ما يشاء ويعبر عن رأيه كما يشاء لكن دون الخروج عن الخط السياسي المرسوم له ودون الخروج عن النظام السياسي الذي تم رسمه له دون اختيار منه أو مشيئة.
لقد أصبحت الفردية الذاتية في الفلسفة الليبرالية الغربية هي المقدس الذي لا يمس ولا يقتحم ما لم يتجرأ ذلك الفرد على النظام السياسي أو على القانون الذي يحكم شئون البلاد، هذا الإفراط وهذا التطرف الليبرالي في تقديس حرية الفرد في التفكير والتعبير والاعتقاد والاختيار لم يتم السماح به هكذا عبثا في المجتمعات الغربية، ولم يتم ترويجه وإشاعته والحض عليه نتيجة الإيمان الحقيقي بحقوق الإنسان وكرامته وقيمته، كلا، إنما كان لشيء يراد، هذا الشيء يراد من ورائه إشاعة الفردية المتطرفة داخل نفوس الغربيين، لأن الفردية المتطرفة لا يمكنها أن تمثل أي خطر يذكر على النظم السياسية، وكلنا يعلم القول المأثور: (فرق تسد)، لذلك عملت النظم السياسية الغربية بكل قوتها على إشاعة الليبرالية التي تقوم على الفردية المتطرفة لتفتيت وتذويب التجمعات الإنسانية الطبيعية التي خلق الله الناس عليها، كالتجمع حول الأسرة، أو القبيلة، أو العرق، أو الثقافة، أو الدين، أو الجغرافية، أو التجمعات الطائفية من أي لون، أو التجمعات الانفصالية، فلقد عمل الغرب ونجح عن طريق نشر وإشاعة الفكر الليبرالي الفردي المتطرف بين الشعوب الغربية في القضاء على استقلالية وتماسك الأسرة والقبيلة والعرق وأي تجمع ثقافي، أو ديني، أو مذهبي، أو جغرافي، أو طائفي، أو تجمع انفصالي، لأن هذه التجمعات باستقلاليتها وقوتها وتماسكها تمثل خطرا كبيرا على تماسك عنصرية النظم السياسية الغربية وعلى الديمقراطية الغربية المزعومة، وبالفعل استطاعت النظم الغربية من خلال نشر وتجذير الفكر الليبرالي الفردي المتطرف أن تطيح بكل تلك التجمعات البشرية الطبيعية التي خلق الله الناس عليها حتى أصبح المواطن الغربي مجرد فرد محاصر داخل ذاته مسجونا بين جدران فرديته.
ولقد كان تبني النظم السياسية الغربية لفكرة الليبرالية التي تنزع إلى الإيمان المطلق بالفردية القائمة على حرية الفكر والتعبير والإبداع والابتكار واحترام كرامة الإنسان وضمان حقه في الحياة وحرية الاعتقاد والضمير والمساواة أمام القانون وغيرها من القيم في صورتها الموغلة في الفردية لتشجيع الفرد على الابتكار والإبداع ومن ثم تستحوذ النظم السياسية الغربية على توجيه ثمار ذلك الابتكار وذلك الإبداع الذي لا يمكن للفرد أن يستثمره أو ينقله خارج حدود الدول الغربية إلا بموافقة النظم السياسية الغربية التي من خلال قوانينها ومن خلال توجهات سياساتها الخارجية العنصرية ولتأمين مصالحها الداخلية والخارجية تعمل جاهدة على التحكم في أي منتج ابتكاري أو إبداعي وتقوم بالتوجيه بالمنح أو المنع لهذا المنتج أو ذاك خارج حدودها الجغرافية إلا من بعد أن تأذن النظم السياسية الغربية لمن تشاء وترضى، ولا يخفى على أحد أن الولايات المتحدة الأمريكية وكل الدول الغربية تفرض كثيرا من العقوبات الاقتصادية والعسكرية والفنية والصناعية والآلية وغيرها على كثير من الدول التي لا تخضع لإملاءاتها ولسياساتها، ويتم ذلك عن طريق الكونجرس الذي يقوم بفرض حظر على الشركات الأمريكية والغربية التي تقوم بتصدير تلك المنتجات إلى خارج الدول الغربية، لمنع تلك الشركات من تصدير منتجاتها إلى خارج البلدان الغربية إلا بموافقة الحكومات الغربية، لإجبار تلك الدول على قبول ما تمليه عليها النظم الغربية.
كذلك تستفيد النظم الغربية من إعلاء فكرة الليبرالية القائمة على الفردية المفرطة في أنها تقوم بقطع الفرد من أي آصرة أو رابطة قرابية أو دينية أو مذهبية أو عرقية أو انفصالية وتتركه فردا وحيدا أعزل ليسهل افتراس وعيه السياسي من قبل وسائل الإعلام التي تعد هي المشكل الوحيد لوعي المواطن الغربي، فالنظم السياسية الغربية تحظر حظرا تاما ممارسة أي نشاط سياسي جماعي معارض إلا داخل المؤسسات السياسية الرسمية حزبية كانت أو غير حزبية وبالآليات التي أقرتها النظم السياسية، فمما هو معلوم للقاصي والداني أن المؤسسات السياسية الرسمية الغربية الموجودة بالفعل سواء كانت معارضة أو غير معارضة هي جزء أساسي من النظام السياسي، هذه المؤسسات قامت على تأسيسها تيارات سياسية ومالية واقتصادية وإعلامية تملك إمكانات مالية ضخمة تستطيع تمويل هذه المؤسسات والإنفاق عليها ببذخ عن طريق التبرعات المادية الهائلة وغيرها من أساليب التمويل والإنفاق، وتستطيع كذلك صنع الحشد الجماهيري والشعبي لصالحها عن طريق أرباب الإمبراطوريات الإعلامية الكبرى، فيما إن الأفراد العاديين أو التجمعات الصغيرة من خارج هذه المؤسسات لا يمكنها إنشاء مؤسسات حزبية بهذه الضخامة والتأثير.
وبالتالي لم يكن أمام الشعوب الغربية كأفراد موغلين في الليبرالية الفردية إلا صناديق الاقتراع الرسمية للإدلاء بآرائهم بكل حرية لكن بالاختيار بين هذا أو ذاك مما لم يشاركوا في صنعه وإيجاده، أو أن يختاروا مقاطعة الانتخابات بالكلية والانكفاء على الذات وتلبية شهواتها والانشغال بشئونها الخاصة، وهذا هو حال الغالبية العظمى من الشعوب الغربية، وفي هذا قتل حقيقي لآدمية الإنسان وقطعه واستئصاله من محيطه الإنساني العام.
إن الدولة في النظم الغربية لا تتدخل إطلاقا في العلاقات الاجتماعية بين المواطنين وخاصة العلاقات الجنسية المشروعة منها وغير المشروعة والشاذة، وكذلك لا تتدخل الدولة في الأنشطة الاقتصادية إلا في حال الإخلال بمصالح الفرد، لأن العلاقات الاجتماعية وخاصة العلاقات الجنسية وكذلك الأنشطة الاقتصادية لا تمثل أي خطر على النظم السياسية الغربية، بل إن إطلاق العنان وإطلاق الحريات المفرطة للأفراد في إقامة مثل هذه العلاقات وفي ممارسة هذه الأنشطة يعد عامل إلهاء لهذه الشعوب وتغييب لها عن الممارسات السياسية الخارجية العنصرية لهذه الأنظمة، إذن الديمقراطية الليبرالية الغربية لا تقتصر فحسب على حرية الأغلبية في أن تفعل ما تشاء وتقرر ما تريد، بل في مقابل ذلك تمنح الليبرالية الغربية من يسمو بـ "الأقليات" وهم غالبية الشعوب الحرية السلمية التامة في أن تعارض كما تشاء وتعارض من تشاء حتى وإن لم تثمر معارضتها عن أي تأثير يذكر، تماشيا كما ذكرنا من قبل مع القول المأثور: (القافلة تسير والكلاب تعوي)، ولقد شاهدنا جميعا المظاهرات المليونية الحاشدة التي قامت بها بعض الشعوب الغربية المعارضة لغزو العراق في عام 2003م ولكن لم تشكل هذه المظاهرات أي رادع يذكر للأنظمة الغربية لإثنائها عن غزو العراق، ولقد تم غزو العراق بالفعل وأخرجت الأنظمة الغربية الاستعمارية المجرمة ألسنتها لشعوبها بكل صفاقة وفي وقاحة منقطعة النظير، هذه بكل بساطة هي "الديمقراطية الليبرالية" التي تبشرنا بها النخب السياسية والفكرية العربية فاقعة السذاجة.
كذلك من خصائص الليبرالية الغربية الموغلة في تقديس فردية الإنسان، وما تمثله تلك الخصائص من خطورة ووحشية على آدمية وإنسانية الإنسان واستئصاله من طبيعة تكوينه الجماعي والاجتماعي المستقل أنها عكس الأفكار "الراديكالية" أي تلك الأفكار التي تنغلق على فكرة بعينها أو مرجعية بعينها، سواء كانت تلك الفكرة أو المرجعية دينية أو سياسية أو اقتصادية أو أخلاقية أو قيمية أو من أي لون كانت، وإلا أصبحت الليبرالية مذهبا من المذاهب أو أيديولوجية من الأيديولوجيات، فالمذهب الوحيد والعقيدة الوحيدة والفكرة الوحيدة والأيديولوجية الوحيدة التي تقدسها الليبرالية هي حرية الفرد، فلا مرجعية ولا مذهب ولا أيديولوجية للفرد المعتنق لليبرالية في هذا الفضاء الواسع من التمركز والتمحور حول الإنسان الفرد، وحول حريته، وحول ذاتيته المفرطة سوى أن كل فرد ليبرالي هو مرجع لذاته ومرجع لحريته ومرجع لفردانيته. وحين يتم اختزال الليبرالية التي تقوم على الفردية في إطلاق العنان للإنسان لممارسة غرائزه وشهوانيته المالية والجنسية، وإطلاق العنان لحريته في أن يفعل ويعتقد ما يشاء داخل حدود ذاته وفرديته فحسب وبصورة مفرطة ومتطرفة هكذا، فهنا يجب أن نتوقف ونضع أمام الليبرالية عشرات من علامات الاستفهام والتعجب.
والخطورة الحقيقية الأخرى على الجنس البشري في هذا الفكر الليبرالي اللاإنساني تكمن في انعدام وجود المرجعية الدينية أو القيمية أو الأخلاقية سوى مرجعية ما يراه الفرد بذاته، وهذا يجعل ممن يمسك بزمام السلطة في هذا الغرب المنفلت من كل قيمة ومن كل خلق ومن كل قيد أن يفعل أي شيء يمكن لإنسان تصوره أو لا يمكن تصوره في الشعوب الأخرى دون رادع من ورع ودون وازع من دين أو أخلاق أو قيم، وهذا مشاهد في كل سلوكيات وممارسات النظم السياسية الغربية في البلدان العربية والإسلامية وغير العربية والإسلامية وفي مراوغتها مع حقوق الفلسطينيين المشروعة وكذلك في مساندة النظم الغربية الإجرامية للكيان الإسرائيلي الإجرامي العنصري، هذا مثال واحد من عشرات الأمثلة التي تدلل على هذا الفضاء المتسع من انعدام القيم والأخلاق الدينية والإنسانية في الفلسفة الليبرالية الغربية التي يريد أن يستوردها لنا دعاة الليبرالية العرب.
أما نحن أبناء العالم العربي وخاصة المنبهرين منا بالغرب اللاأخلاقي فدائما ما ننظر إلى الليبرالية الغربية من منظورين مختلفين المنظور الأول: من دعاة الليبرالية الذين يرونها تحض على حرية الفرد في أن يفعل ما يشاء ما لم يضر أو يعتدي على الآخرين، فله الحق حتى أن يكون منحلا جنسيا أو أخلاقيا لكن لا يقوم باغتصاب فتاة، وله أن يشرب الخمر كما شاء لكن لا يقوم بقيادة سيارة وهو مخمور. وأن يعتقد ما يشاء من فكر أو معتقد أو دين ولكن لا يفرضه على الآخرين. أما المنظور الآخر: فهم دعاة التيارات الدينية حيث يرون الليبرالية أنها دعوة للانحلال الخلقي وفساد للفرد ودعوة للتهتك لأنها لا تجرم أو تحرم مثلا الشذوذ الجنسي، ويرون أن الإباحية الجنسية ومنها الشذوذ ولو بشكل شخصي أو جماعي وشرب الخمور هو عين الانحلال والفساد الذي سيضر بالمجتمع عاجلا أو آجلا. بينما لم ينظر كلا الطرفين إلى هدف آخر من الليبرالية الفردية هذه، ألا وهي إشغال الأفراد بنزواتهم وغرائزهم الشخصية سواء كانت جنسية أو مالية أو ربحية أو اقتصادية أو فكرية أو أي شيء آخر مع الدفع الإعلامي للجماهير وبكل قوة لتبني هذا الاتجاه والتشجيع عليه لإلهاء الجماهير والأفراد عن الاهتمام بالحكم أو التطلع إلى السياسة وانكفاؤه على شأنه الشخصي الغريزي الشهواني، وهذا هو ما حدث ويحدث بالفعل في الغرب في ظل الخدعة الكبرى أو ما يسمى "الديمقراطية الليبرالية".
وكذلك لم ينتبه كلا الطرفين إلى أن الديمقراطية يتم من خلالها تسليم مصائر الشعوب والأمم لعبث فئة بعينها من المهتمين بالسلطة والحكم ومن ورائهم رجال المال والأعمال ومن وراء الجميع وسائل الإعلام المسيسة والمأجورة والتي توجه ميول الناس الذين لا وعي لديهم ولا علم وتوجه رغباتهم وتعمل بشكل جهنمي على ترجيح كفة عن أخرى ونظام على نظام وشخص على شخص ورؤية على رؤية وحزب على آخر. ومن أكبر البراهين على عبث الديمقراطية بمستقبل ومصائر الشعوب والأمم أنها أتت بـ "أدولف هتلر" إلى السلطة عبر انتخابات ديمقراطية حرة ونزيهة، والديمقراطية هي التي أتت بـ "جورج بوش" الابن الذي دمر العراق ودمر أفغانستان ونكل بالشعب الفلسطيني على يد المجرم "شارون" عبر النظام الديمقراطي الليبرالي وعبر انتخابات حرة ونزيهة.
وكذلك لم ينتبه كلا الطرفين إلى أن من أهم أسباب نجاح الديمقراطية الغربية أن الشعوب الغربية ليست لديها مرجعية تشريعية حقة صادرة من سلطان إلهي حق يخضع لها الإنسان عن رضى وتسليم حتى وإن لم توافق هواه وميوله، أما في الشعوب الغربية حين يصدر التشريع غير موافق لهواه وميوله فعلى أي أساس قيمي وأخلاقي وإنساني تسلم النفس وترضى بهذا القرار سوى خضوعه وتسليمه لقرارات الأغلبية الكاذبة التي كان كل من المال والإعلام الموجه والمسيس وأصحاب المنافع والمصالح وراء غلبتها. فلا يوجد وازع قيمي أخلاقي يقيني، وهذا نابع من الفراغ التشريعي الإلهي الحق الذي قد يقبل به المرء في رضا وتسليم.
وكذلك لم ينتبه كلا الطرفين إلى أن العامل الأول والأكبر والأهم لنجاح "الديمقراطية الليبرالية" في الغرب هو ذلك الرخاء والثراء والترف الذي ترفل فيه الشعوب الغربية والذي تجد فيه ما يغنيها عن التصدي لرأي الأغلبية ومناوئته، وكذلك من أهم أسباب نجاح الديمقراطية الليبرالية أن النظم الغربية استطاعت عن طريق التطور التقني والتكنولوجي إلى ميكنة أخلاق الناس، أي أن هذه الأخلاق التي ينبهر بها البعض في الشعوب الغربية هي أخلاق تعمل بصورة ميكانيكية، وليس عن قناعة شخصية أو عن إيمان بالله الحق أو تقوى للخالق سبحانه، بل إن الأخلاق التي يتغنى بها الناس في الشخصية الغربية هي أخلاق (مميكنة) وليست أخلاق نابعة من وازع ديني أو ضميري أو إنساني خالص، ولك أن تشاهد في المجتمعات الغربية مدى تحكم الآلة في كل تصرفات وتحركات الناس لتخضعهم رغم أنوفهم شاءوا أم أبوا للقوانين واللوائح والأخلاق، وساعدهم في ذلك حالة الثراء الفاحش الذي تمرح فيه الدول الغربية وترتع، ومن هنا ينشأ الإنسان الغربي منذ طفولته تحت سطوة الآلة سواء كانت كاميرات مراقبة أو أجهزة الكشف المذهلة أو أجهزة التقصي والبحث فائقة التطور، مما جعلت الإنسان الغربي مراقبا ومحاصرا بالآلة في كل مكان وتعد عليه أنفاسه، وفي المقابل هناك حالة الرخاء والترف المعيشي الذي قد يرى فيه المرء في الغرب ثمنا مقبولا ورشوة مناسبة مقابل خضوعه للأخلاق والقيم الآلية المميكنة التي تحاصره وتلاحقه في كل مكان يذهب إليه أو يتحرك فيه خارج بيته.
وفي المحصلة النهائية لقد وضعت الأنظمة السياسية الغربية حزمة مما أطلقوا عليها "مبادئ حكم الأغلبية" ظهرت في صورة خطة محكمة لحصر الشعوب الغربية في الزاوية واستغفالها واستحمارها في ظل ما يسمى "الديمقراطية الليبرالية"، هذه المبادئ تم تصميمها حتى تحافظ الفئة القليلة المسيطرة على مقدرات ومصائر الشعوب التي تسمى كذبا وتضليلا بـ (الأكثرية) على قدرتها على الحكم الفعال والاستقرار والسلم الأهلي والخارجي ولمنع الأقليّات من تعطيل الدولة وشلّها، هذه المبادئ هي: (مبدأ حكم الأكثرية، مبدأ فصل السلطات، ومفهوم تجزيء الصلاحيات، مبدأ التمثيل والانتخاب، مفهوم المعارضة الوفية، مفهوم سيادة القانون، مفهوم اللامركزية، مبدأ تداول السلطات سلميا)، وكما سبق وأن بينا أن هذه المبادئ قام بتصميمها من يسمون زورا بـ (الأغلبية)، وهم في الحقيقة والواقع ليسوا بأغلبية ولم يأتوا إلى السلطة بأغلبية حقيقية على الإطلاق، لأن جميع من يذهبوا للإدلاء بأصواتهم في أي دولة من دول العالم بما فيها دول أساطين الديمقراطية الغربية هم أقلية ضئيلة جدا ممن يحق لهم التصويت، وفي أحسن الأحوال لا تتعدى نسبتهم 10% من مجموع الشعب الكلي، وخروج هذه الأقلية للتصويت لا يكون عن قناعة هؤلاء الشخصية بجدية النظم السياسية الغربية وروعتها، بل يخرجون تحت ضغط الدعايات الانتخابية الطوفانية الجهنمية وتحت ضغط وشحن وتحريض وسائل الإعلام المأجورة. بل إن الإنسان في الديمقراطية الليبرالية الغربية محروم من اتخاذ أي قرار نابع من ذاته في وجود مؤثرات خارجية تحرمه من ذلك، فالإنسان الغربي مستعبد بشكل مفزع للإعلام، خاصة إذا كان ذلك الإنسان بعيدا عن التخصص والعلم، وبالتالي فرأيه لا يكون مبنيا على علم ووعي حقيقيين، بل مبنيا على مؤثرات خارجية مدفوعة الأجر أو مسيسة أو موجهة لكل ميوله واتجاهاته بلا استثناء.
والخلاصة، إن الليبرالية الغربية لا علاقة لها بالسلوك الديني أو غير الديني للفرد، ولا علاقة لها بالسلوك الأخلاقي أو غير الأخلاقي للفرد، بل إن الليبرالية لا تأبه لسلوك الفرد أيا كان ذلك السلوك طالما أنه لم يخرج عن دائرته الفردية الشخصية الضيقة الخاصة، كذلك لا علاقة لها بالمعتقد الديني أو المعتقد غير الديني طالما أنه لم يخرج عن دائرة الفرد الذاتية الشخصية الضيقة الخاصة، لكنها في قمة الصرامة والحسم إن خرج ذلك السلوك في إطار دعوي أو عمل جماعي. وحسبك هذا تفتيتا لمعاني الجماعات الإنسانية واستئصالا لقيم التنوع الجماعي الآدمي الطبيعي المستقل الذي خلق الله الناس عليه. (يا أيها الناس إن خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم).
• انتقادات شائعة ضد الديمقراطية:
أقدم للقارء في هذا الفصل بعض الانتقادات الشائعة ضد الديمقراطية جمعتها من بعض المصادر المختلفة ومن بعض الدراسات والمقالات المنشورة على مواقع الإنترنت، أوردها هنا كما جاءت نصا في مصادرها دون تعليق مني عليها على النحو التالي:
قال "بنيامين تكر" ( (1854-1939في القرن التاسع عشر: (الحكم شيء شرير ولا أسوأ من وجود حكم الأغلبية، ما هي ورقة الاقتراع؟ هي ليست أكثر ولا اقل من قطعة من الورق تمثل الحربة والهراوة والرصاصة إنها عمل إنقاذي للتأكد من الطرف الذي يحظى بالقوة والانحناء للمحتوم. إن صوت الأغلبية يحقن الدماء ولكنه لا يقل عشوائية عن القوة مثل مرسوم أكثر الطغاة قسوة والمدعوم بأقوى الجيوش). وقال (بيير جوزيف برودون) ( (1809-1865فيلسوف واقتصادي اشتراكي فرنسي: (الديمقراطية لا شيء ولكن طغيان الأغلبية يعتبر أسوأ أشكال الطغيان وذلك لأنه لا يستند إلى سلطة الدين ولا على نبل العِرق ولا على حسنات الذكاء والغنى. إنه يستند على أرقام مجردة ويتخفى خلف أصوات الناس). منتقدو الديمقراطية كشكل من أشكال الحكم يرون أنها تتميز بمساوئ متأصلة بطبيعتها وكذلك في تطبيقها. وبعض هذه المساوئ موجودة في بعض أو كل أشكال الحكم الأخرى بينما بعضها الآخر قد يكون خاصاً بالديمقراطية، من هذه المساوئ ما يلي:
الصراعات الدينية والعرقية:
الديمقراطية وخاصة الليبرالية تفترض بالضرورة وجود حس بالقيم المشتركة بين أفراد الشعب، لأنه بخلاف ذلك ستسقط الشرعية السياسية. أو بمعنى آخر أنها تفترض بان الشعب وحدة واحدة. ولأسباب تاريخية تفتقر العديد من الدول إلى الوحدة الثقافية والعرقية للدولة القومية. فقد تكون هناك فوارق قومية ولغوية ودينية وثقافية عميقة. وفي الحقيقة فقد تكون بعض الجماعات معادية للأخرى بشكل فاعل، فالديمقراطية والتي كما يظهر من تعريفها تتيح المشاركة الجماهيرية في صنع القرارات، من تعريفها أيضاً تتيح استخدام العملية السياسية ضد العدو. وهو ما يظهر جلياً خلال عملية الدمقرطة وخاصة إذا كان نظام الحكم غير الديمقراطي السابق قد كبت هذا التنافس الداخلي ومنعه من البروز إلى السطح، ولكن مع ذلك تظهر هذه الخلافات في الديمقراطيات العريقة وذلك على شكل جماعات معاداة المهاجرين، إن انهيار الإتحاد السوفيتي ودمقرطة دول الكتلة السوفيتية السابقة أديا إلى حدوث حروب وحروب أهلية في يوغسلافيا السابقة وفي القوقاز ومولدوفا كما حدثت هناك حروب في أفريقيا وأماكن أخرى من العالم الثالث. وهذا يوحي بأن الديمقراطية الليبرالية من المرجح أن تنجح في البلدان التي لديها شعور عام بالانتماء المشترك بدون تصدعات عرقية أو ثقافية قوية أو دينية يمكنها أن تحول بسهولة الصراع السياسي من تنافس شريف إلي نزاع مسلح دموي. الدول التي في وضع أفضل لتحقيق هذا هي التي يوجد بها "أناس متفقون علي خلفية مشتركة بشكل أساسي تمكنهم من تحمل التشاحن والشجار بأمان" كما قال اللورد بلفور، وهو سياسي بريطاني شهير من القرن التاسع عشر.
البيروقراطية:
إحدى الانتقادات الدائمة التي يوجهها المتحررون والملكيين إلى الديمقراطية هو أنها تشجع النواب المنتخبين على تغيير القوانين من دون ضرورة تدعو إلى ذلك والى الإتيان بسيل من القوانين الجديدة. وهو ما يُرى على أنه أمر ضار من عدة نواح. فالقوانين الجديدة تحد من مدى ما كان في السابق حريات خاصة. كما أن التغيير المتسارع للقوانين يجعل من الصعب على الراغبين من غير المختصين البقاء ملتزمين بالقوانين. وبالنتيجة قد تكون تلك دعوة إلى مؤسسات تطبيق القوانين كي تسيء استخدام سلطاتها. وهذا التعقيد المستمر المزعوم في القوانين قد يكون متناقضاً مع القانون الطبيعي البسيط رغم عدم وجود إجماع حول ماهية هذا القانون الطبيعي حتى بين مؤيديه.
التركيز قصير المدى:
إن الديمقراطيات الليبرالية المعاصرة من تعريفها تسمح بالتغييرات الدورية في الحكومات. وقد جعلها ذلك تتعرض إلى النقد المألوف بأنها أنظمة ذات تركيز قصير المدى. فبعد أربعة أو خمسة سنوات ستواجه الحكومة فيها انتخابات جيدة وعليها لذلك أن تفكر في كيفية الفوز في تلك الانتخابات، وهو ما سيشجع بدوره تفضيل السياسات التي ستعود بالفائدة على الناخبين (أو على السياسيين الانتهازيين) على المدى القصير قبل موعد الانتخابات المقبلة، بدلاً من تفضيل السياسات غير المحبوبة التي ستعود بالفائدة على المدى الطويل.
نظرية الاختيار الشعبي:
تعد نظرية الاختيار الشعبي جزأً فرعاً من علم الاقتصاد يختص بدراسة سلوك اتخاذ القرارات لدى الناخبين والساسة والمسئولين الحكوميين من منظور النظرية الاقتصادية. وأحد المشاكل موضع الدراسة هي أن كل ناخب لا يملك إلا القليل من التأثير فيظهر لديه نتيجة لذلك إهمال معقول للقضايا السياسية. وهذا قد يتيح لمجموعات المصالح الخاصة الحصول على إعانات مالية وأنظمة تكون مفيدة لهم ومضرة بالمجتمع.
حكومة الأثرياء:
إن كلفة الحملات السياسية في الديمقراطيات النيابية قد يعني بالنتيجة بأن هذا النظام السياسي يفضل الأثرياء، أو شكل من حكومة الأثرياء والتي قد تكون في صورة قلة قليلة من الناخبين، ففي الديمقراطية الأثينية كانت بعض المناصب الحكومية تخصص بشكل عشوائي للمواطنين وذلك بهدف الحد من تأثيرات حكومة الأثرياء، أما الديمقراطية المعاصرة فقد يعتبرها البعض مسرحية هزلية غير نزيهة تهدف إلى تهدئة الجماهير، أو يعتبرونها مؤامرة لإثارة الجماهير وفقاً لأجندة سياسية معينة. وقد يشجع النظام المرشحين على عقد الصفقات مع الأغنياء من مؤيديهم وأن يقدموا لهم قوانين يفضلونها في حال فوز المرشح في الانتخابات أو ما يعرف بسياسات الاستمرار في الحفاظ على المناطق الرئيسية.
فلسفة حكم الأغلبية:
من أكثر الانتقادات شيوعاً والتي توجه إلى الديمقراطية هو خطر "طغيان الأغلبية".
العامل الأمي الأفغاني "جامشيد" يهزم المفكر الأمريكي الكبير "فوكوياما" فلسفيا:
في كابول، يتحدث العامل اليدوي الأمي "جامشيد" (26 عاما) نيابة عن العديد من المواطنين عندما يسرد محاسن ومساوئ النظم الغربية الجديدة المفروضة بالقوة من قبل النظام الأفغاني الجديد الذي يدعمه الغرب. بالمقارنة مع الحياة في ظل حكم طالبان، "جامشيد" (يقدر الحرية من أجل الاستماع إلي الموسيقي، والخروج مع زوجته بسهولة وبدون مراقبة لتفعل ما تريده)، لكنه لا يمكن أن ينسي مطلقا أنه (في ظل حكم طالبان المستبد، كان يمكنه ترك المحل مفتوحا والذهاب لأداء الصلاة في المسجد ولن يتجرأ أحد مطلقا علي سرقة أي شيء... ولكن الآن -يقول جامشيد-: (الحكومة الديمقراطية الليبرالية نفسها "فاسدة"، وتسرق مال الناس بالباطل!!!).
بكل تأكيد "جامشيد" الأمي لم يقرأ مطلقا مؤلفات الفيلسوف البريطاني "جون ستيوارت ميل" مؤسس الفلسفة الليبرالية ولم يقرأ مطلقا مؤلفات المفكرة السياسية الأمريكية "آين راند". ولكن سواء كان يحكمه رجال دين ثيوقراطيين أو حكومة جاءت بعد فوز بانتخابات مدعومة من الغرب، فإنه -بالتأكيد- يعلم جيدا ما لا يعجبه!!!.
ووردت بعض الانتقادات في مقالا آخر نذكرها بشيء من الاختصار فيما يلي:
إنّ الديمقراطية لم يقبل بها الغرب المنافق في الشرق الإسلامي، لأنها لو جاءت بأناس إسلاميين وضدّ أمريكا فسوف لا يقبلها هذا الغرب المنافق والأمثلة أمامنا كثيرة: ففي فلسطين ماذا حدث حين انتخب الفلسطينيون حماس؟، لم يعترفوا بها ثمّ عاقبوا الشعب الذي انتخب بإرادته حكومة حماس، فحاصروه ومنعوا عنه الغذاء والدواء، ثم سحقوه بكل أساليب القتل والإبادة بقسوة ووحشية تخجل من وحشيتها حتى وحوش الغابات الضارية. وفي تركيا لما انتخب الناس حزب أربكان الإسلامي، قلبوا الدنيا ثم سجنوه ومنعوه من ممارسة السياسة لسنوات طويلة. وفي الجزائر حينما اختار الشعب جبهة الإنقاذ الإسلامي بقيادة عباس مدني قتلوهم وذبحوهم وسجنوا قيادات الجبهة لسنين طويلة.
وحينما تكون الأكثرية الشعبية المطلقة هي من طائفة معينة معروفة برفضها لسياسات أمريكا وإسرائيل في المنطقة، كالشيعة في لبنان والعراق والبحرين الذين يمثلون أكثرية الشعب، فلا يقبلون حينئذٍ لذلك البلد بقانون الديمقراطية، لأنهم يعلمون أنّ الانتخابات سوف تأتي بأعداء أمريكا وإسرائيل فيها، لذلك اخترعوا وابتدعوا شيئاً جديدا اسمه (الديمقراطية التوافقية)، وفيها لا يتمكن الأكثرية من تشكيل حكومة منهم حسب قواعد الديمقراطية، وإنما يقولون لابد من التوافق بين جميع الطوائف لكي يشارك الجميع في الحكم، حتى لو كانت طوائف قليلة العدد. وبذلك تخلصوا من مشكلة تطبيق الديمقراطية في مثل هذه الدول ذات الأكثرية الشيعية. فمن ناحية هم لم يعملوا بقانون الديمقراطية الغربية الذي يأتي بالأغلبية لحكم البلاد، ومن ناحية أخرى خدعوا عامة الناس حيث أبقوا اسم الديمقراطية فقط على هذه العملية غير الديمقراطية، وإن كان في واقعه العملي ليس من الديمقراطية في شيء، بل هو تفريغ لقانون الديمقراطية من محتواه ومضمونه الحقيقي الذي وضعت من أجله.
إنّ فلاسفة الغرب هم أول من انتقد الديمقراطية الغربية، ولا أريد أن أتطرق لكل ما ذكروه من سلبيات للديمقراطية، ولكنني سوف أذكر بعضها باختصار شديد يناسب المقام: فإذا كانت الديمقراطية كما يقولون هي عبارة عن توكيل الشعب لشخص كي يحكمهم، وكذلك إذا كانت الديمقراطية هي انتخاب (50 في المائة بإضافة واحد) من الشعب يكفي لحكم الحاكم عليهم باعتبارهم يمثلون الأكثرية، فهنا سوف يرد على الديمقراطية إشكالات مثل:
أولا: بأي قانون يُجبر باقي الشعب (الذي لم يصوت للمرشح الفائز والذي قد تصل نسبتهم إلى أكثر من 49 في المائة) على طاعة شخص لم يقوموا بانتخابه، بل لم يرتضوه وكيلاً عنهم؟.
ثانياً: ثمّ بأي قانون يُجبر نفس المنتخبين على الاستمرار لمدة أربعة سنوات على طاعة هذا الحاكم، خصوصاً إذا اكتشفوا بعد انتخابه أنه غير مؤهل للحكم؟، ألم يقولوا بأنه من نوع قانون توكيل الشعب للوكيل؟. فنقول: في كلّ القوانين الدولية يستطيع الموكِّل أنْ يعزل وكيله متى شاء، فلماذا يمنع هؤلاء الموكلين من عزل وكيلهم؟.
ثالثاً: إنّ ما يحصل عملياً وفي الواقع هو انتخاب أقل من 50 في المائة من الشعب، فإنّ القوانين عادة لا تسمح إلا لنسبة محدودة من الشعب هم الذين يحق لهم الانتخاب. ثم إنّ الذين يشاركون عملياً في الانتخابات هم نسبة ضئيلة جدا منهم –أي من أولئك الذين يحق لهم الانتخاب- قد تصل أحياناً لـ 15 في المائة. فهذه هي حقيقة الديمقراطية في الغرب مع غض الطرف عن كثير من السلبيات الأخرى مثل: (التزوير) فيها، أو(التوجيه الإعلامي) المسيِّر للناس هناك بحسب أهواء الحاكمين. أو عدم السماح للترشيح لرئاسة الحكومة إلا لحزبين فقط وغير ذلك.
كذلك ورد في أحد المقالات في نقد الديمقراطية ما يلي:
عيوب الديمقراطية والمخاطر التي يمكن أن تنزلق إليها، أشار إليها الديمقراطيون أنفسهم، أمثال: (جون ستوارت مل) و(توكفيل) و(مونتسكيو).
يعيب (جون ستوارت مل) على الديمقراطية إفلات الأمر من يدها أحيانا، فقيامها على حق حرية الرأي والتعبير، والمبالغة في ممارسته من طرف الأفراد، قد يجعل الدولة تفقد هيبتها، فتعم الفوضى وعدم الاستقرار. لذلك على الدولة التي تحد من الحرية الفردية في التعبير حتى لا تصبح ذريعة للتدخل في الحياة الخاصة للأفراد فتضر بهم أكثر مما تنفعهم، بقانون عادل يتفق عليه الجميع كما يجب على الدولة أن تحافظ على هيبتها، بصفتها أعلى مؤسسة، ويجب على الدستور أن يمكن الرئيس من الاحتفاظ بصلاحيات، تمكنه من التدخل لحسم النزاع، إذا ما غاب التفاهم بين الأفراد ليس خدمة لمصلحة خاصة، وإنما حماية للديمقراطية نفسها.
بالنسبة لـ(توكفيل) نجاح الديمقراطية أو فشلها متعلق بالمواطنين، إن الديمقراطية عنده لا تقاس بما تضمه من قيم، وما تشيده من قواعد، وإنما تقاس بالروح التي تطبق بها قواعدها، والإخلاص الذي تراعي به مبادئها، الأمر الذي لا نتفق معه. قيام الديمقراطية على مبدأ رجل واحد = صوت واحد، يجعلنا نتساءل: كيف يمكن أن نسوى بين الأمي، الذي يغيب عنه الكثير من الأمور، والمثقف ذي النظر البعيد؟ ألا تكون هذه المساواة في الأصوات الانتخابية، وحق ممارسة السلطة، يجعل من الديمقراطية النظام الذي يفسح المجال لأشخاص غير مؤهلين للوصول إلى الحكم؟.
التاريخ مازال يشهد أن هتلر قد وصل إلى الحكم عن طريق الانتخابات، كما وصل (أريال شارون) إلى الحكم عن طريق الانتخابات أيضا، وهو سفاح مجازر صبرا وشتيلا، أيعني هذا أن الديمقراطية جنون كما يقول نيتشه؟ كذلك تقوم الديمقراطية على رأي الأغلبية الذي قد يأخذ منعطفا خطيرا على الديمقراطية نفسها، بهضمها لحق الأقلية في التعبير عن الرأي، وممارسة حريتها. كيف يمكن التوفيق بين حكم الأغلبية و احترام الحريات الفردية؟ وكيف يمكن أن نتجنب تحول الديمقراطية إلى حكم تستبد فيه الأغلبية على حساب الأقلية؟ إذا كانت الديمقراطية تضحي بالأقلية من أجل الأغلبية، هل هذا يعني أنها تدوس حقوق الأفراد (الأقلية)؟ على رغم من كل المحاولات لإيجاد حلول تمكن الأقلية من ممارسة حقوقها، تبقى هذه الإشكالية أعوص مشكلة تواجهها الديمقراطية، تجعل منها الفكرة التي تحمل سلبيات، و تبعدها عن الكمال، الذي أراده لها أصحابها، المهم أن نشير إلى أن الديمقراطيين أنفسهم يشعرون بعيوب الديمقراطية، وأبحاث كثيرة في هذا الاتجاه، بدأت تظهر تركز على ضرورة تطور الديمقراطية.
¬وهكذا نستنتج أن الديمقراطية، ليست نظاما مثاليا خاليا من العيوب، بل هي نظام أبدعه عقل الإنسان الناقص، فيه من السلبيات والمخاطر، ما يجعل منه نظاما جنونيا إذا لم يسرع الإنسان إلى إيجاد الحلول المناسبة له.
وفي مقال آخر جاء فيه ما يلي:
مع تقدم هذه الدول إلا أنها تعاني فسادا، واستبدادا منظما مقننا، ودلائل هذا الفساد ظاهرة، فمنها:
1. مخالفة حكومات هذه الدول لشعوبها، في دخولها حروبا مدمرة، كحرب الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانية في العراق. فلم تسمع لصوت شعوبها، ورفض الأغلبية، ومضت كما يمضي الدكتاتور.
2. نسب البطالة المرتفعة، والتسريح المستمر لمئات آلاف العمال، من الشركات العالمية الكبرى، دون ضمانات، تحفظ حقوقهم مستقبلا. والأمر سيزداد سوءا، فكل ما يعيشه الغرب من رفاهية لم يكن سببه الديمقراطية وحدها، بل وجود المعسكر الشيوعي، وقد زال.
3. التضليل الإعلامي الكبير في اختيار المرشحين للبرلمان، وللرئاسة، فلا يشترط في الذي يصل إلى هذه المراكز الكفاءة والأمانة، بل الثروة والنفوذ. فهذا شرط الترشح، والحصول على الدعاية الإعلامية المجانية، فالمرشح إما أن يكون ذا مال، أو متكفلا برعاية مصالح أصحاب المال. وإذا كانت السلطة في الحكم الفردي محتكرة في: أسرة، أو حي، أو قبيلة. فإنها كذلك محتكرة في الديمقراطية، لكن في أقلية ثرية ذات نفوذ مالي. فإما أن تحكم بنفسها، أو بالوكالة عنها؛ ولذا فإن غالب الأحزاب الفائزة بالحكم، لا تمس مصالح هذه الفئة المحظوظة، ولا تطبق عليها القانون، بل يتم التحايل لأجلها.
* هل العلمانية ضد الدين:
سؤال إجابته حائرة متناقضة ملتبسة بين مؤيدي العلمانية ومعارضيها، فالبعض يرى أن هناك علاقة ما بين الإسلام والعلمانية، والبعض يرى أن هناك تعارض ما بين العلمانية والدين بشكل عام، وهناك من يرى أن العلمانية تعني الدنيوية أو الحياتية الخالية تماما من أي سلطان ديني على الناس في تعاملاتهم اليومية أو في شئونهم السياسية والحكمية مهما كان شأن هذا الدين، والبعض يرى أن العلمانية لا تتعارض مع الدين إذا لم يتعد حدود المشاعر الوجدانية والإيمان القلبي وما لم يتعد حدود الممارسة الشعائرية داخل دور العبادة فحسب، وهناك من يرى أن الأديان تقف في طريق الإنجاز السياسي والاقتصادي والرقي الحضاري والتقدم المادي، بينما في ظل العلمانية تستطيع المجتمعات أن تنجز وتتقدم في شتى المجالات، وهناك من يرى أن العلمانية إفساد للمجتمعات وسبيل للتفسخ الأخلاقي والقيمي والتفكك الأسري. هذه الحيرة وهذا التناقض وذلك التضارب القائم بين مؤيدي العلمانية ومعارضيها منشأه من أمرين لا ثالث لهما.
الأول: وجود تضارب كبير وخلاف واسع حول مفهوم العلمانية، ليس في مجتمعاتنا العربية والإسلامية فحسب، بل حتى في الغرب نفسه مسقط رأس ومنبت العلمانية، ويتلخص هذا التناقض وهذا الاختلاف حول مفهوم العلمانية وهل هي مذهب إلحادي نابذ للأديان؟ أم أنها مذهب إنساني يعمل على عزل الدين فقط عن السياسة وعن التعليم وعن الاقتصاد وعن الواقع اليومي لحياة الناس ومعاملاتهم، مع الاعتراف في الوقت ذاته بحرية الناس في اعتناق الأديان والإيمان بها وممارسة شعائرها ولكن دون الدخول بها في مجالات الحياة العامة الأخرى؟، وأيا يكن الأمر فإن العلمانية كواقع فكري وكممارسة فعلية في الغرب لا تعادي الأديان بشكل جذري، ولكنها تنأى بالأديان عن الدخول في دهاليز الحكم والسياسة ومضائق الحياة الاقتصادية والعلمية والثقافية لعموم الناس.
فالعلمانية بهذا الشكل وبهذا التصور أراها من أفضل ما توصل إليه الغرب المسيحي للخلاص من سلطان الكنيسة ومن فساد رجال الدين الكاثوليك الذين كانوا يحكمون ويتحكمون في رقاب وأقوات وعقائد وأفكار ومصائر الشعوب الغربية بصورة كهنوتية مزاجية استبدادية وحشية مفزعة، إذ قد ظهرت العلمانية في الغرب نتيجة لقرون طويلة من الجهل والظلم والظلام والتخلف عاشتها المجتمعات الغربية الأوروبية قبل ما يطلق عليه (عصر النهضة والتنوير)، حيث بدأت حركة الإصلاح الديني على يد (مارتن لوثر) ومن ثم استمرت من بعده لمواجهة احتكار الكنيسة الغربية الكاثوليكية لتفسير الكتاب المقدس، وأن رجال الدين الكنسي هم وحدهم من دون المسيحيين جميعا من يقرروا مقاصد وتفاسير الإنجيل، وهم وحدهم من يتحدثوا باسم الله، وهم وحدهم من يقرروا الحلال من الحرام، والحق من الباطل، والصواب من الخطأ، في كل كبيرة وصغيرة وفي كل شاردة وواردة تخص شئون الناس السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
بل بلغ الأمر برجال الكنيسة أنهم كانوا هم وحدهم من يقرروا من سيغفر الله له ومن لا يغفر له، وهم وحدهم من يقرروا العذاب أو النعيم يوم الدين لكل أفراد الشعب عن طريق مهزلة ما سمي بـ (صكوك الغفران)، وليت الأمر توقف عند هذا الحد وتركوا للناس أن يختاروا بين الإيمان أو الكفر، بين الحق أو الباطل، بين الحلال أو الحرام، بين الخير أو الشر، بين الصواب أو الخطأ، كلا، بل دسوا أنوفهم حتى في خيارات الناس وقاموا بمراقبتهم ومراقبة نفوسهم، وقاموا بالتفتيش في ضمائرهم وكشف سرائرهم، ومن ضبطوه متلبسا بمخالفة تعاليمهم وقراراتهم الدينية قاموا بإيقاع أشد وأبشع العقوبات عليه كـ(الجلوس على الخازوق الخشبي أو الحديدي فيدخل من دبره ويخرج من رأسه، أو يقوموا بإلقائه في (الأسيد) ليذوب جسده فيه، أو يلقونه في الزيت المغلي وهو حي، أو يطلقون عليه الأسود والنمور الجائعة لتفترسه وهو حي)، وغير ذلك من أشكال وألوان التعذيب والتنكيل الوحشي بالآدميين، والتهمة التي كانت جاهزة دوما لأن يلصقوها بأي أحد يريدون عقابه هي تهمة أو بالأحرى مهزلة ما سمي بـ (التجديف والهرطقة) وتعادل في المصطلح الإسلامي، (البدعة والزندقة).
الأمر الآخر: إن اللبس والخلط والتضارب حول مفهوم العلمانية أتى من زاوية أخرى لم ينتبه لها كثير من الناس، وقد سبق وأن أوضحتها في الفصول الأولى من هذا الكتاب ألا وهي: إن ما كان يجري في الغرب من حكم وسلطة على أيدي رجال الدين لم يكن صادرا من نصوص دينية حقيقية، ولا من شرائع دينية فعلية منصوص عليها في الإنجيل، إنما كان مصدره أهواء وأغراض وحماقات رجال الدين الشخصية المزاجية التي كانوا يدعون من خلالها أن الله فوضهم بالحكم بين الناس من تلقاء أنفسهم، وأنه أعطاهم السلطان على جميع المسيحيين حكاما ومحكومين، وأن البابا هو ممثل الله على الأرض، وأن ما يقره البابا في الأرض يقره الله في السماء.
وكذلك ما لم ينتبه له كثير من الناس أن الديانة المسيحية خالية تماما من التشريعات والأحكام الدينية الشاملة المفصلة التي تنظم حياة الناس ومعاملاتهم وتفصل في منازعاتهم، وليس كما هو الحال في شريعة الإسلام المتمثلة في أحكام وتشريعات القرآن الكريم وأحاديث النبي محمد عليه الصلاة والسلام، ومن هذا الخلو ومن هذا الفراغ الحكمي والتشريعي في الإنجيل، وجد رجال الكنيسة الباب أمامهم مفتوحا على مصراعيه للتشريع وإصدار الأحكام من تلقاء أنفسهم دون وجود أي نصوص دينية حقيقية تأصل لهذه الأحكام والتشريعات التي يقول بها هؤلاء ويطبقونها على الناس، بدعوى أن الله فوضهم بالسلطان والحكم على الناس بغير نصوص دينية أو تشريعات وأحكام دينية حقيقية موجدة في الإنجيل.
فمن هنا ظهر اللبس والخلط بين معظم أو كل المفكرين والشارحين للعلمانية سواء المؤيدين لها أو المعارضين، وحين ظهرت العلمانية في الغرب لم يكن هناك دين حقيقي ولم يكن هناك نصوص دينية أو تشريعات وأحكام دينية حقيقية موجودة في الإنجيل يحكم بها رجال الكنيسة، حتى يقال أن الناس قد ثاروا على الدين وعلى تشريعاته ونصوصه وأحكامه وعلى رجاله كما يتخيل معظم الناس، فالأمر في حقيقته وواقعه لم يكن كذلك على الإطلاق، إنما كانت الحقيقة والواقع أن رجال الدين الكاثوليك كانوا يحكمون الشعوب المسيحية الغربية بلا دين وبلا نصوص دينية حقيقية ولا أحكام أو تشريعات دينية حقيقية، إنما كانوا يحكمونهم بأمزجتهم وأهوائهم الشخصية المزاجية تحت دعوى أن الله فوضهم بهذا وأعطى لهم السلطان الإلهي على الناس. وبالتالي حين نقول إن العلمانية ظهرت في الغرب ضد الدين أو لتحييد الدين أو لعزل الدين، يتضح لنا أن القول بهذا هو قول غير حقيقي وغير واقعي على الإطلاق، إنما الواقع الحقيقي يقول إن العلمانية ظهرت في الغرب لإقصاء رجال الدين الذين كانوا يحكمون الناس لا بالدين بل بأهوائهم وأمزجتهم الشخصية مخادعين الناس بدعوى أنهم يمثلون الله على الأرض وأن الله فوضهم للحكم بين الناس من تلقاء أنفسهم، فمن هنا ظهرت العلمانية وانتشرت في الغرب في شتى مناحي الحياة، أما الإسلام فهو على خلاف المسيحية جملة وتفصيلا، فالإسلام به شريعة كاملة متكاملة مفصلة لتنظيم شتى مناحي الحياة والفصل في منازعات الناس وتقنين معاملاتهم.
وهنا قد يقول البعض: ولكن بسبب ظهور وانتشار العلمانية في الغرب رأينا المجتمعات الغربية مجتمعات متقدمة، وهناك فارق حضاري شاسع بيننا وبينهم في شتى مناحي الحياة، ومن ثم إذا أردنا أن نلحق بهم في تقدمهم وتطورهم الحضاري والمادي فليس أمامنا من سبيل إلا أن نتبع نفس الطريقة ونسير على نفس الدرب الذي سار عليه الأوروبيون، حيث تضمنت طريقتهم اعتناق العلمانية وممارستها في شتى مناحي الحياة وقاموا بعزل الدين عن الأمور الدنيوية، وللرد على هذه الكلام أقول: هنا يوجد خلط كبير إذا تصورنا للحظة أن الدين الإسلامي بنصوصه وتشريعاته هو ما يمثل عقبة في سبيل تطور مجتمعاتنا العربية والإسلامية، إذ لا مجال هنا للمقارنة بين ما كان عليه ما يسمى كذبا (الدولة الدينية المسيحية) في الغرب وبين حقيقة وواقع الدين الإسلامي في تصوره الحقيقي للحياة والبشر القائم على المنهجية العلمية السليمة الصحيحة والمتفق عليها للتعامل مع النصوص الدينية الإسلامية، كذلك لم يحدث أن حكم الإسلام أي من دول العالم العربي والإسلامي بشكله الشامل الكامل العلمي الصحيح، بل إن كل التيارات الإسلامية المتواجدة الآن على الساحة لا يوجد لديها أي تصور حقيقي صحيح كامل للإسلام، وما لديهم من أفكار وأطروحات هي مجرد تصورات شكلية وطائفية ضيقة قاصرة وغير علمية ولا تمثل شمولية وعلمية الإسلام الحق، كذلك لا يوجد في الدين الإسلامي كهنوت بالشكل الذي كان عليه في الكاثوليكية الغربية، وكذلك لا يوجد في الدين الإسلامي ما يسمى (صكوك الغفران)، هذا وناهيك عن أن الدين الإسلامي به رصيد كبير من النصوص التي يتفق على صدق مصدرها جميع المسلمين على اختلاف توجهاتهم وانتماءاتهم المذهبية والفكرية، سواء من أقصى اليمين أو من أقصى اليسار، فالكل مجمع أن هذه النصوص هي من عند الله، إلا أن الخلاف حول هذه النصوص بين جميع طوائف المسلمين ينشأ لا على مصدرية النص وهل هو من عند الله أم لا، إنما الخلاف ينشأ في مجمله على فهم النص وتطبيق النص،
ويمكن القول إن الإسلام بنقائه وصفائه وبصورته الحقيقية وواقعيته الإنسانية المرنة لم يتم تطبيقه سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا على الإطلاق إلا في عهد الرسول محمد عليه الصلاة والسلام حين هاجر إلى المدينة، واستمر هذا النموذج الفريد مطبقا لمدة عشر سنوات ثم انتهى بوفاته عليه الصلاة والسلام، ولم يتبق من هذا النظام الإسلامي الشامل المتكامل المفصل إلى اليوم سوى بعض التصورات المحدودة والضيقة وبعض التفصيلات الجزئية مع هذا التيار أو ذاك، أما النظام الإسلامي الشامل الكامل فتم الانقلاب عليه بعد وفاة الرسول مباشرة وتم تمزيق هذا النظام الفريد وتم تفتيته بين المسلمين، حيث أمسك كل فريق من المسلمين بقطعة منه وادعى أنه يمثل الإسلام الحق، وهذا لا يعيب الإسلام في شيء، ولا يجعل من النظام الإسلامي مجرد نظرية مثالية غير واقعية التطبيق، ولنا مثلا في فكرة (الديمقراطية) التي ظهرت في أوروبا وبالتحديد في أثينا قبل ميلاد المسيح بأربعة قرون، واستمر العمل بجزء بسيط من مضمونها فترة بسيطة من الزمن ثم تلاشت تماما من واقع الحياة الأوروبية، إلى أن تم استدعاؤها مرة أخرى في القرن الثامن عشر في أعقاب الثورة الفرنسية، أي بعد ظهور فكرة الديمقراطية باثنين وعشرين قرنا (2200) سنة، فعدم استمرار العمل بفكرة الديمقراطية هذا الدهر الطويل لم يعب الديمقراطية في شيء، لكنه مع التطور الإنساني والعلمي والحضاري ومع التراكم الفكري والثقافي للبشر يتم استدعاء تلك النظريات أو الأنظمة أو الأفكار لتطبيقها في الواقع العملي بعد أن يكون الناس قد وصولوا إلى مرحلة ما من النضج والتطور تمكنهم من استيعاب وتقنين ومأسسة تلك النظريات أو تلك الأنظمة أو تلك الأفكار بشكل سليم وصحيح ومتطور، وهكذا النظام الإسلامي الذي أرسى قواعده النبي محمد عليه الصلاة والسلام في المدينة، ثم تلاشى العمل به بعد وفاته، والآن نحن في حاجة ماسة لاستدعاء هذا النظام الإسلامي العظيم وتقنينه ومأسسته وجمع شتاته ومن ثم تطبيقه واستمراره إلى ما شاء الله كما فعل الغرب مع الديمقراطية، فما يحتاج إليه النظام الإسلامي العظيم الآن هو إعادة اكتشافه وتجميع شموليته ثم تقنينه ومأسسته (أي بنائه في شكل مؤسسات حديثة) وتحديد مبادئه ووضعها في دستور عام شامل يقف تحت لواء هذه المبادئ جميع المسلمين وغير المسلمين كما سنفصل هذا في الفصول القادمة.
• المقدس والمطلق بين الإسلام والعلمانية:
تثار دائما على ألسنة وفي كتابات أدعياء العلمانية وأدعياء الليبرالية المصريين والعرب أن الدين شيء مقدس ومطلق وثابت، أما الشئون السياسية والاجتماعية والاقتصادية هي أشياء نسبية دائمة التغير والتقلب وتخضع بشكل دائم للموائمات والصفقات والتنازلات، ومن ثم لا يستقيم أن نزج بالمقدس المطلق الثابت في معترك السياسة المليئة بالمؤامرات والصفقات المشبوهة والتحالفات المتناقضة كي نحفظ للدين قدسيته وطهارته وترفعه عن الخوض في مثل هذه المتاهات ويبقى مجاله فقط داخل المساجد ودور العبادة ويبقى مجرد مشاعر تختلج داخل القلوب.
كذلك يثير أدعياء العلمانية وأدعياء الليبرالية المصريين والعرب أن مجتمعاتنا العربية تتميز بتعدد الأديان والمذهبيات والقوميات، ولكي لا يكون هناك تمايز لدين أو مذهب أو قومية على بقية الأديان أو المذاهب أو القوميات في الدولة الواحدة، الذي قد يؤدي لحدوث اضطهاد لفئات بينما تتمتع فئة واحدة بالامتيازات في الدولة، ومن هنا فالعلمانية هي الحل بتوفيرها المساواة بين أفراد المجتمع، ولكي لا يكون هناك اختلافات داخل المجتمع تؤدي لعدم استقراره يلزم أن يكون هناك نظام واحد يخضع له جميع أفراد المجتمع بمختلف أديانهم ومذاهبهم وقومياتهم.
ويسوق أدعياء العلمانية والليبرالية العرب العديد من الأمثلة لتأييد مقولاتهم منها "المجال التعليمي:، حيث يرى العلمانيون أن تعليم الطلاب الدين في المدارس يعمل على تغذية الطلاب الحس الديني الضيق، من ثم يلزم أن يتم تعليم الطلاب تعليم وطني أي أن يبتعد عن إثارة المشاكل الدينية لأن هناك وطن واحد وأديان متعددة، يعزز ذلك وجود مشاكل تاريخية بين الأديان والطوائف والقوميات، فمثلاً عندما يكون هناك مسيحيين ومسلمين في مجتمع واحد هل يكون التعليم إسلامي أم مسيحي؟ فإذا كان التعليم مسيحياً سوف يشتكي المسلمون من ذلك والعكس صحيح، مما قد يثير عدد من المشاكل لدى كل طرف يرى أنه متضرر من هذا التعليم، أو عندما يكون هناك في نفس المجتمع مسلمون سنة وشيعة فهل يكون التعليم وفق المذهب السني إن كانت الأغلبية سنية أو يكون شيعياً إن كانت الأغلبية شيعية مع وجود الكثير من المشاكل الموروثة والمعاصرة بين السنة والشيعة بينهما في بعض المجتمعات التي تعاني من مشاكل طائفية، ومن ثم فحافظاً على عدم وجود انقسامات في داخل المجتمع الواحد يلزم أن تحضر العلمانية .
ومن الأمثلة التي ساقوها "المجال القضائي" حيث قالوا: ففي مجتمع يكون فيه عدد من الأديان إذا حدثت فيه مشكلة بين مسيحي ومسلم وتطلب ذلك اللجوء للقضاء فهل يتم التقاضي على أساس أن القضاء يلزم المسيحي أن يُحكم وفق القضاء الإسلامي وهو لا يريد ذلك، أو كمثال آخر بين الشيعة والسنة هل يرتضي الشيعي أن يتحاكم مع شيعي آخر في نزاعه وفق المذهب السني إذا كان قضاء الدولة التي ينتميان لها قضاء سني أو العكس، ومن هنا يلزم أن يكون القضاء وضعي لكي تحقق المساواة بين أفراد المجتمع. كذلك من الأمثلة التي ساقوها أنه من الممكن بل والأكيد أن تضطهد الأغلبية الأقلية من منطلق ديني كما يحدث في بعض المجتمعات التي لديها مشاكل طائفية أو التي كانت تعيش في فترة تاريخية منها مثل هذه المشاكل، وبالتالي لحل هذا الاضطهاد يلزم أن تكون العلمانية هي الحل. ويرى العلمانيون العرب أن الدولة العربية ليست دولة علمانية ومن ثم عليها أن تكون دولة علمانية فهي تخصص برامج دينية في إعلامها وتستضيف "رجال دين" يتحدثون عن الدين، وهذا ما ينبغي منعه. هذا باختصار ما يسوقه العلمانيون من حجج وقد تكون واقعية وحقيقية وملزمة لاستدعاء العلمانية للتخلص من كل هذه المشكلات.
وللرد على كل هذا أقول: إن ما لا يعلمه أدعياء العلمانية وأدعياء الليبرالية أن الإسلام ليس به مقدسات ولا مطلقات ولا ثوابت كتلك التي كانت في الكاثوليكية الأوروبية في القرون الوسطى، إذ كانت الكاثوليكية أو (المسيحية المختلقة) على أيدي رجال الكنيسة لم تكن دينا حقيقيا ولا تشريعات ولا أحكام ولا نصوص دينية حقيقية كما سبق وأن أوضحت من قبل، بل كانت محض أهواء شخصية وأحكام مزاجية زعموا كذبا أن الله فوضهم للحكم بين الناس، وأن ما يرونه هم في الأرض يراه الله في السماء، فكانوا يرون حسب زعمهم أن أقوالهم وآراءهم وأحكامهم وتشريعاتهم هي أقوال الله وأراء الله وأحكام الله وتشريعات الله، وكانوا يوهمون الناس ويخدعونهم بذلك والناس يصدقونهم ويتبعوهم عليه، وأكد القرآن الكريم هذه الحقيقة في قوله تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله).
كذلك هناك عشرات وعشرات من نصوص القرآن الكريم التي تقرر وتؤكد مرونة الإسلام العظيم في التعامل في شتى مجالات الحياة، وتقرر وتؤكد هذه النصوص أن حياة الإنسان أي إنسان وليس المسلم فحسب ومصلحته وحقوقه تعلو فوق حق الله وفوق أي حقوق أخرى، وليس أدل على ذلك من أن الله أباح أكل الميتة وأكل لحم الخنزير وغيرها من المأكولات التي نص القرآن على حرمتها في حال المخمصة أو المجاعة، كذلك أباح الله سبحانه للمؤمن قول الكفر وفعل الكفر في حال الإكراه على ذلك، كذلك أباح الله للمؤمن أن يفطر في نهار رمضان إن كان مريضا أو على سفر، بل إن الله سبحانه تجاوز كل ذلك إلى الحفاظ على تعهدات ومواثيق المؤمنين التي وقعوها مع غيرهم، وأمر ألا ينصر المؤمنون جماعة أخرى من المؤمنين لو وقع عليهم ظلم أو تم قتالهم على الدين من غير المؤمنين الذين أقمنا معهم عهدا وميثاقا احتراما لذلك العهد وذلك الميثاق، قال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (72_ الأنفال). وهناك عشرات النصوص لا مجال هنا لذكرها تؤكد أن مصلحة الإنسان وحياته وحقوقه أقدس عند الله وأثبت من الالتزام بنصوص الدين أو التنفيذ المطلق لأوامر الله. أما بقية القضايا التي يثيرها دعاة العلمانية ودعاة الليبرالية حول حقوق الأقليات الدينية والعرقية والمذهبية، وقضايا التعليم الديني وقضايا الأحكام والقوانين الإسلامية وتطبيقها على غير المسلمين وغيرها من القضايا سوف نأتي عليها بالتفصيل في الفصول القادمة ونرى كيف تعامل الإسلام منذ أربعة عشر قرنا وكيف قنن لكل هذه القضايا قبل ظهور العلمانية والليبرالية في أوروبا بقرون طويلة.
• مآزق التيارات الإسلامية السياسية:
تعيش التيارات الإسلامية جميعها اليوم في مآزق كبيرة وخطيرة، ولا تقتصر خطورة هذه المآزق عليهم وحدهم بل عليهم وعلى سائر التيارات والطوائف والأديان والمذاهب الأخرى الموجودة في المجتمع، ومن أكبر وأظهر هذه المآزق ادعاء هذه التيارات أنها تتبنى أفكار سياسية غربية هم في الأساس لا يؤمنون بها ولا بفلسفتها الغربية السائدة، من هذه الأفكار (الديمقراطية، الليبرالية، الدولة المدنية، الحرية)، هذه الأفكار بمنشأها وبمفاهيمها السائدة وبمضامينها الحقيقية هي في الأصل أفكار غربية وضعت لثقافة ولبيئة ولواقع يختلف تماما عن ثقافة وبيئة وواقع الشعوب العربية والإسلامية، فكيف يستقيم في فكر أحد أن هذه التيارات الآن آمنت هكذا بغتة بهذه الأفكار وبمضامينها الحقيقية وأنها ستلتزم بتطبيقها واقعا على الأرض؟.
ومن مآزق هذه التيارات اختزالها لحقيقية وقيمة وشمولية هذا الدين العظيم في العلاقات الجنسية بين الرجل والمرأة وفي الشكل والمظاهر الشكلية وفي الشعائر التعبدية، حتى كاد أن يتحول الإسلام على أيدي هؤلاء أو تحول بالفعل إلى رهبانية، وقد سبق وأن كتبت مقالا في شهر رمضان 2010م بعنوان: (محاولات رهبنة الإسلام على يد دعاة الفضائيات الدينية) وكان مضمونه كالتالي: (الرهبنة عمل يبدأ بشعور الإنسان المتدين بالخوف من الله، ما يجعله يأوي إلى الانعزال عن الحياة الدنيا ومفارقة شتى مظاهرها خوفا من اقتراف الخطايا والوقوع في معاصيه، ومتى انعزل الإنسان المتدين عن الدنيا يوهم نفسه بأن وجدانه قد امتلأ بالحب الإلهي وأنه في معية الله وقربه فلا حاجة له بشيء من الدنيا ولا يعوزه أحد فيها، فيترك كل شيء وراءه من شئونه وشئون ذويه، ويخدع نفسه بأنه قد وجد الراحة في قربه من الله وبغضه للحياة الدنيا.
ومن مظاهر هذه الرهبنة أن كثيرا من المتدينين يضعون لها طقوسا تعبدية ودينية معينة كالعكوف على تلاوة الكتب المقدسة وتحديد أجزاء كبيرة منها لتلاوتها كل يوم، وكذلك إلزام أنفسهم بقضاء ساعات النهار والليل في عدد من الصلوات والعبادات والنسك وكثرة الصيام والتبتل والانقطاع عن ملاذ الحياة الدنيا وشهواتها.
إن إلزام النفس بالعكوف على ملازمة الطقوس التعبدية والنسك والشعائر الدينية كل يوم وكل ليلة لقضاء أيام العمر وساعاته مع الشعور بالعزلة والنزوع نحو مجاورة الله كهدف يرى فيه المتدين سمو نفسه وتطهرها لهو الرهبنة بعينها سواء التزم بهذا المسلم أو غير المسلم وسواء اعترض البعض على التسمية أو حاول وضع مسميات أخرى كالزهد في الدنيا للتحايل على المضمون، والخطر الأكبر ليس في المسمى ولا في كثرة العبادة ولا في كمها ولا كيفها، إنما الخطر الأكبر والحقيقي يكمن في الدافع القابع خلف هذا الفكر الرهباني المميت للحياة في نفوس الناس، إنه فكر يقوم على كره الحياة والتحريض على اعتزالها وانعزالها شعوريا وفعليا، واعتبار الحياة بكل مظاهرها عبارة عن مجموعة من الشرور والآثام والفساد، ولا يخفى على أحد مدى انعكاس ذلك الفكر السام على سير حركة الحياة واستمرارها والقيام بمتطلباتها وواجباتها ومواجهة صعابها، فالرهبنة أو الزهد في الدنيا هو عملية هروب من الحياة ترتدي ثوب التدين والإيمان بالله كي يعفي المتدين نفسه من مسئولياته الحياتية مخادعا نفسه بأنه يبحث عن حياة أفضل مع الله، وهو لا يدرك أن ما قام به من عمل هو الجبن بعينه والأنانية بذاتها وهو العمل الذي لا يمكن أن يرضى الله عنه ولا عن فاعله.
هذا الفكر الانعزالي المزدري للحياة والكاره لها هو ما يقوم ببثه الإعلام الديني اليوم في أفكار الناس عبر شاشات القنوات الفضائية الدينية، هذا الفكر جاء نتيجة للفهم الخاطئ لكثير من النصوص الدينية التي تندد بإيثار بعض الناس حب الحياة وحب شهواتها والاغترار بمباهجها وزينتها وأموالها والاطمئنان بها، من هذه النصوص ما يلي:
(وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الغُرُورِ) (185_ آل عمران). ومنها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ) (94_ النساء). ومنها: (وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) (32_ الأنعام). ومنها: (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا) (70_ الأنعام). ومنها: (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا) (51_ الأعراف). ومنها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ) (38_ التوبة). ومنها: (إِنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ(7) أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (8_ يونس). ومنها: (مَن كَانَ يُرِيدُ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ(15) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (16_ هود).
فمن هذه النصوص وغيرها ظن كثير من فقهاء الدين ودعاته أن هذه النصوص تحرض على النفور من الدنيا وعلى اجتناب التعايش فيها وعلى التعالي على كل مظاهرها والنظر إلى كل ما فيها بعلو وازدراء واحتقار، لكن لم تكن أبدا تلك هي مقاصد الدين ولا أي من نصوصه، فالدين حينما نص على التعالي على الحياة وزينتها وحين حذر منها وحرض على اجتنابها والعزوف عنها كان يقصد من وراء ذلك التخلي عن كل المظاهر الدنيوية التي تجعل الإنسان يقصر أو يتراجع أو يتخاذل في أداء واجباته الحياتية التي كلفه الله بأدائها وتحقيقها، كقيامه بالحق والعدل والقسط بين الناس ونصرة المظلوم ومواجهة الظالم وردعه ومنعه من ظلم الناس، وكذلك إعمار الأرض ونشر الخير والمعروف بين بني جنسه، وكذلك البعد عن كل الصفات المذمومة التي تفسد العلاقة بين الفرد والمجتمع كالبخل والشح والأثرة والطمع وغيرها من الصفات التي نهى الله عنها وحذر منها وشنع على من اتصف بواحدة منها، دون أدنى قصد إلى انعزال الدنيا أو بغضها أو اجتنابها وتركها.
وكذلك ما قصدت إليه النصوص الدينية من تحذير من الدنيا وعدم الاغترار بها أو الإقبال عليها كان بسبب المقايضة الجائرة التي تجعل الإنسان ينحرف عن الحق إلى الباطل، وعن العدل إلى الظلم، وعن الحرية إلى الاستبداد والقهر، وعن العطاء إلى الشح والبخل، تحت ضغط مغريات الحياة واستدراجها للإنسان في مقابل تنازله عن مبادئه وقيمه ومثله العليا التي خلقه الله من أجل تحقيقها في الأرض ونشرها بين الناس والدعوة إليها، فمظاهر الحياة الدنيا ليست منبوذة لذاتها ولا مكروهة لذاتها، إنما المكروه لذاته هو ضعف الإنسان وتخاذله وتقاعسه عن مواجهة الشرور ومواجهة الفساد، والمكروه لذاته كذلك هو ضعف الإنسان وتخاذله وتراجعه حين تعرض عليه مغريات الحياة الدنيا فيستسلم ويبيع نفسه لها ويتنازل من أجلها عن مهامه السامية وقيمه العليا، هذا هو المقصود الفعلي والحقيقي للنصوص الدينية التي تحذر من الحياة الدنيا وزينتها وغرورها، وكذلك ليس مقصود النصوص الدينية أن يعتزل الإنسان المتدين الحياة وينعزل ويتقوقع داخل ذاته هربا وخوفا من الدنيا أن تجرجره إليها، بل عليه أن يواجه شرور الحياة ويقاوم مغرياتها وزينتها وبريقها ويتعالى على كل ذلك في قوة واقتدار ومواجهة وصمود، وليس أن يهرب ويتخفى ويؤثر السلامة، فهروب الإنسان من الحياة إلى الزهد أو الرهبنة هو هروب من الله وهروب من القيام بتكاليفه ومهامه التي أوكل الله إليه القيام بها وتحقيقها واقعا عمليا على الأرض.
فالخطير والمفزع فيما يبثه الإعلام الديني الآن من محاولات لرهبنة الإسلام هو تعبئة وعي الجماهير وتعبئة قناعاتهم بأفكار تدعو للرهبنة والزهد في الدنيا والانقطاع عنها للعبادة وتحقيق التقوى، وفي الوقت ذاته الجماهير غير قادرة على اعتزال الحياة والانقطاع عنها والهروب منها لظروف عيشهم القاسية التي تحول بينهم وبين تحقيق ذلك، فينعكس ذلك سلبا على سلوكياتهم أثناء انخراطهم في الحياة فيجعلهم يعاملون بعضهم بعضا ببؤس وازدراء وبغض وتنابز، وينظرون إلى كل شيء بعين الريبة والتوجس والاتهام، ويفقدون الثقة في كل شيء ويسخرون من كل شيء، وكل من حولهم متهمون لأنهم يرونهم منغمسون في الحياة الدنيا ومتطلباتها، ومن ثم تفتيت طاقاتهم وبعثرة اهتماماتهم وتحويلهم إلى وقود للمشاحنات والعداوة والبغضاء بين بعضهم البعض، وهذه هي النتيجة الحتمية والإفراز الطبيعي لما يبثه الإعلام الديني في وعي الناس من تحريض على بغض الحياة وانعزالها بدعوى الخوف من الله، أو بدعوى حب الله والقرب منه.) انتهى نص المقال.
وكذلك نشرت مقالا في نفس الفترة بعنوان: (شهوة التدين) حول المظاهر الشكلية للدين، وكان مضمون المقال كالتالي: (الشهوة هي قوة كامنة في النفس البشرية تجعل الإنسان يلهث نحو أشياء بعينها ويوجه جل اهتمامه في الهرولة خلف الحصول عليها وتملكها، وما يدفع الإنسان للهاث خلف تلك الأشياء هو مدى ما يجده اللاهث من متعة ولذة أثناء ظفره بتلك الشهوات، وقد أخبر القرآن الكريم بأن الناس قد زينت لهم نفوسهم حب الشهوات واتباعها وترك كل شئون الحياة الأخرى من أجل الظفر بما يشتهون، وقد ذكر القرآن الكريم كذلك عددا من الأشياء التي تم تزيين حب شهواتها في نفوس الناس ومنها: النساء والبنين والذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث وغيرها من الأشياء التي لها شهوة في نفوس الناس، قال تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ المُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ المُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ المَآبِ) (14_ آل عمران). وقد بين القرآن الكريم في موضع آخر أن الناس في سبيل اتباعهم لشهواتهم والظفر بها والتمتع والتلذذ بها يتركون كل شيء ويضيعون كل شيء حتى أن منهم من يضيع فرائض الله من أجل اتباعه لشهواته، قال تعالى: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَياًّ) (59_ مريم).
فالشهوة لا تعني محض الرغبة في الحصول على شيء بعينه من الدنيا، إنما الشهوة هي الرغبة التي يترك المرء من أجلها خلفه كل شيء ويبيع لها كل شيء ليتبع ما تشتهي نفسه وما تدفعه إليه بقوة للحصول عليه، فطلب السلطة مثلا أو المنصب أو المال أو أي شيء آخر ليس بعيب وليس بشيء خاطئ إنما يصبح عيبا وخطئا جسيما حين يتحول ذلك الطلب إلى شهوة تجعل الإنسان يترك خلفه كل شيء ويضحي بكل شيء ويضيع قيمه ومبادئه ودينه من أجل الحصول أو الظفر بتلك الشهوة.
أما الجديد واللافت في الأمر حين يتحول الدين أو بالأحرى التدين إلى شهوة، فتلك مصيبة كبرى، وهذا ما يقوم به الإعلام الديني اليوم ويحرض الناس عليه، حيث جعل الإعلام الديني من الدين أو الالتزام بالدين مجرد شهوة يترك الإنسان لها كل شيء ويتفرغ من كل شيء ويختزل الحياة بكاملها من أجل ما يسمى بالالتزام الديني، وما يسمى بالالتزام الديني اليوم هو عبارة عن مجموعة من المواصفات والالتزامات الشكلية المظهرية الخاصة التي لابد من توافرها في الشخص حتى يصبح في عرف القائمين على الإعلام الديني شخصا متدينا أو شخصا ملتزما بالدين، ومن هذه المواصفات ومن هذه الالتزامات الالتزام بمظهر بعينه كإطلاق اللحية وحف الشارب أو جزه وارتداء أنواع خاصة من الثياب محددة اللون والشكل وذات مواصفات محددة للنساء والرجال، وكذلك الالتزام بحفظ القرآن الكريم أو بعضه دون اشتراط فهمه أو استيعاب أحكامه وتشريعاته، وحفظ عدد من أحاديث النبي محمد على الصلاة والسلام، ودراسة بعض الكتب المحددة في العقيدة والفقه والعبادات، وكذلك الالتزام بأداة الصلاة في أوقاتها وصلاة النوافل وصيام الاثنين والخميس من كل أسبوع وتلاوة أذكار الصباح والمساء وغيرها من الالتزامات التي من التزم بها وسجنَ نفسه فيها يصبح متدينا في عرف دعاة الإعلام الديني اليوم.
إن ترك الحياة وما فيها والتفرغ لمثل هذه الالتزامات والاتصاف بمثل هذه المواصفات وإضاعة كل شئون الدنيا وتركها لأجل فعل هذا يصبح التدين بهذا الشكل مجرد (شهوة) كأي شهوة أخرى من الشهوات، وليس تدينا حقيقيا، شهوة يجد فيها المتدين قمة متعته ولذته في الظفر بها والاتصاف بمواصفاتها والعمل بالتزاماتها والتقوقع خلف مظاهرها والركون والسكون إليها، فكم يتمتع ويلتذ الرجل كان أو المرأة وهو يرتدي ما يسمى بالزي الإسلامي أو يلتزم بما يسمى بالمظاهر الإسلامية، في حين أن الدين الحقيقي ليست له تلك المواصفات الشكلية المظهرية الصارمة، إنما الالتزام الحقيقي بالدين ليس سوى بناء الإنسان بناء إنسانيا أخلاقيا قيميا حقيقيا ليقيم الحق والعدل والقسط في نفسه وبين الناس وينهى عن الفساد في الأرض ويتعارف ويتعايش مع بني جنسه في وئام وسلام ويشارك في عمارة الدنيا وإعمار الأرض، هذا هو التدين الحقيقي، أما ما يدعو إليه دعاة الدين في الإعلام الديني اليوم ليس دينا حقيقيا وليس تدينا حقيقيا إنما يدعون الناس بآرائهم وفتاويهم وأفكارهم إلى مجرد شهوة تتدثر بقشور الدين يترك من أجلها الشباب والرجال والنساء كل شئون دنياهم للظفر والتمتع والتلذذ بها، ولكنها في النهاية هي محض شهوة للتدين لا تقل شهوانية عن بقية الشهوات الأخرى). انتهى نص المقال.
ومن المآزق التي تعيشها التيارات الإسلامية كذلك حالة الغموض والتوتر والاضطراب والفوضى والعبثية الفكرية الدينية التي لم يسبق لها مثيل على الإطلاق، والجدير بالذكر أن هذه الفوضى وتلك العبثية ليست فكرية دينية فحسب بل فوضى وعبثية فكرية في كل شيء، والعامل المشترك الأكبر في هذه الفوضى والعبثية في كل شيء هو الجذور غير الدينية لكل أفكارها الدينية، وكذلك الابتعاد بشكل مباشر عن القيم الإنسانية العامة في القرآن الكريم، والتمركز حول أفكار الجماعة الضيقة المنغلقة المحدودة، وكذلك اعتقادهم الذي يرى أنهم بوصولهم إلى الحكم سوف يلزموا جموع الناس برؤيتهم هم للأحكام الدينية وكيفية تطبيقها وإلزام الناس بها دون مشاركة بقية المسلمين الآخرين الذين هم خارج الجماعة في ذلك، فهم يرون أن أفكارهم ورؤاهم حول الدين لم ولن يشاركوا فيها الجموع، وما قد تغفل عنه هذه التيارات أن الإسلام لا يلزم بأحكامه وشرائعه الداخلية (الخاصة بالمسلمين) إلا المؤمنين به والقابلين له والراضين بهذه الأحكام وليس أي أحد آخر غير ذلك، إلا أن الواقع يقول إن كل التيارات الإسلامية الموجودة في مصر الآن ترى في قناعاتها الفكرية أن بوصولهم إلى السلطة سيقومون بإلزام غير المسلمين وغير المؤمنين بأحكامهم رغم أنوفهم. وهنا يكمن مقتل التيارات الإسلامية جميعها.
وإن مما لا يخفى على أحد إننا شعوب تعتاش وتقتات على الدين في كل شئون حياتنا سواء كان فهمنا للدين فهما صحيحا أو سقيما، فمعتقداتنا وقناعاتنا الدينية الصواب منها والخطأ تنعكس بشكل واضح لا غموض فيه على جميع أفكارنا الأخرى سواء كانت أفكارنا الأخرى سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو فكرية أو عملية أو غيرها من الأفكار، وبما أن جذور أفكارنا الدينية الأم هي مجموعة من التناقضات والاضطرابات والخيالات والأهواء والاختلافات والاستقطابات الفكرية الدينية، فلابد وحتما أن تنعكس وتنضح في كافة أفكارنا وأفعالنا وسلوكياتنا الأخرى غير الدينية، ويرجع السبب الحقيقي في انتشار تلك الفوضى أو العبثية التي تتمثل بجلاء ووضوح في التيارات الإسلامية الآن بكل ألوانها وأطيافها إلى غياب تقنين أحكام وشريعة الإسلام وكذلك غياب المنهج العلمي في التفكير الديني وفهم النص الديني والوقوف على المقاصد الحقيقية له، والمنهج العلمي هو مجموعة من الخطوات والضوابط والقواعد المنظمة فكريا وموضوعيا ويكون متفقا على سلامتها وكفاءتها لتحصيل المعرفة العلمية الحقيقية أو بعض منها، لكن ما هو مشاهد الآن في التيارات الإسلامية بعيد كل البعد عن المنهجية العلمية في فهم وتناول النص الديني، وذلك يرجع لأننا تعودنا على قبول الموروث الفكري للدين دون تمحيص أو مراجعة أو مساءلة أو مناقشة أو تحليل، وكان المانع من كل ذلك هو صبغة القداسة والعصمة التي تم إضفاؤها على ذلك الموروث الفكري الديني وادعاء أن من سبقونا كانوا أكثر فهما ووعيا منا في معرفة مقاصد الدين والشريعة والأحكام وكانوا أكثر تقوى وإيمانا منا لقربهم من العهد النبوي، إلا أن شواهد التاريخ وحوادثه تكذب هذا الادعاء الباطل، لأن من سبقونا كانت لهم ظروفهم وكان لهم واقعهم الفكري والاجتماعي والسياسي والثقافي والمعرفي الذي يختلف تماما مع واقعنا الفكري والاجتماعي والثقافي والسياسي، وكان لهم حسنات وإنجازاتهم وكان لهم أخطاء وخطايا كذلك، ومن أراد أن يتثبت من الأمر فليعد إلى كتب التراث.
وكذلك من أهم أسباب غياب المنهج العلمي في فهم الدين ونصوصه، الانغلاق على تيارات فكرية بعينها يظل ممنوعا ومحظورا على أتباعها مجرد الاقتراب من التفكير العلمي أو استخدام المنهج العلمي لمناقشة تلك الأفكار ومراجعتها وطرح الأسئلة عليها، لأن في استخدام التفكير أو المنهج العلمي الصحيح سوف تنهار كل تلك الأفكار من قواعدها وكأن زلزالا عنيفا ضربها فسواها بالأرض، والغرض الحقيقي من هذا الانغلاق الفكري على تيار بعينه يعود بكل وضوح للطائفية الدينية والقبلية الدينية والعنصرية الدينية وكذلك للأهواء الشخصية والمصالح الفئوية والمكاسب المادية والتطلع للشهرة أو لنيل مكاسب سياسية سلطوية، لذلك فأن معظم ما يقدمه هؤلاء للناس من أفكار وأطروحات هو عبارة سيرك ديني أو تهريج ديني لا يمت لحقيقة الدين بصلة، أو عبارة عن مجموعة أفكار من هنا وهناك منتقاة من بعض الروايات والمأثورات الدينية ومقتطفات من آيات القرآن الكريم لإثارة عواطف البسطاء والعوام واستدرار مشاعرهم نحو الدين، وهذه الأفكار تفسد أكثر مما تصلح وتفرق أكثر مما تجمع، بل عملت على تمييع الدين وتسطيحه وتحويله إلى دروشة أو هو أشبه بالوجبات السامة التي سممت معتقدات الناس وأفكارهم وسلوكياتهم وأفسدت عليهم دينهم ودنياهم، والواقع خير شاهد.
• الحرية كذبة كبرى:
الحرية المطلقة وهم مطلق، لأن المعنى الحقيقي البسيط للحرية هو (اللاقيد)، لذلك لم تذكر كلمة (الحرية) في القرآن الكريم على الإطلاق، وإنما ذكر بعض من مشتقاتها كـ (نذرت لك ما في بطني محررا) و(الحر بالحر) و(تحرير رقبة) هذه الكلمات كانت تشير إلى نظام الرق والعبودية الذي كان سائدا في العصور القديمة، أما الحرية بمعناها الحقيقي (اللاقيد) هي وهم مطلق لا وجود له إلا في خيال وأوهام بعض المرضى من دعاة الحرية، أما المصطلحات التي وردت في القرآن الكريم ويمكن أن نقول أنها تقابل الحرية في جزء من مفهومها هي: (المشيئة، الاختيار، الإرادة)، وهذه المصطلحات القرآنية لا تعني (اللاقيد) الذي تعنيه الحرية، فالمشيئة والاختيار والإرادة لا تعني أن الإنسان يدير نفسه وحياته كما يريد وكما يشتهي، كلا، بل تعني أن لك الحق في الاختيار بين أو من أشياء لم تستشر في إيجادها أو صنعها ولم توجدها أو تصنعها من تلقاء نفسك، إنما أنت مجبر على الاختيار مما هو معروض عليك وليس لك إيجاد أو صنع غيره.
إن الحرية لا تعني تحرر الإنسان في إدارة نفسه كما يريد وكما يتصورها البعض، وكذلك الحرية لا تعني أن تكون تصرفات الإنسان وسلوكياته من وحي فكره الخاص بمعزل عن الآخرين والمحيطين به في الداخل والخارج، سواء كان ذلك الإنسان فردا أو جماعة، وكذلك الحرية لا تعني منح الناس كل ما يريدون أو تلبية ما تشتهيه أنفسهم وغرائزهم الشخصية الطبيعية، وكذلك الحرية لا تعني أنه يجب على جميع الناس أن يشاركوا في جميع الأمور السياسية أو الاقتصادية أو الإدارية أو العلمية أو أي شأن آخر، لأن بعض الناس أو كثير من الناس ربما ليس لديهم الخبرة ولا العلم الكافيين بهذه الشئون، بل وربما منهم من لا يريد أن تكون له خبرة أو علم بالشئون السياسية أو الاقتصادية أو الإدارية أو العلمية، وبالتالي لا يمكن إجبار هؤلاء الناس على ممارسة هذه الشئون وهم لا يريدون. وإلا ستتحول إلى حرية بالإكراه أو إجبار للناس على ممارسة الحرية.
إن الحرية بمفهومها البسيط الواضح الذي يعني اللاقيد أو اللاحدود أو اللاتوقف أو اللامنتهى لا يمكن ممارستها واقعيا وفعليا في أي مكان من أرض الله وإلا ستتحول موازين الأرض ومن عليها إلى تطبيق فعلي لقانون "الغابة" بحذافيره، ويصبح الناس أحرارا في أن يقتلوا ويُقتلوا، ويأكلوا ويُؤكلوا، ويسرقوا ويُسرقوا ويظلموا ويُظلموا ويصادروا ويُصادروا، وكذلك الحرية لا تعني أن أكثرية ما أو أقلية ما ترى أن الحياة الأمثل تتمثل في الالتزام بالشرائع الدينية وحدها وتتغافل عن أكثرية أو أقلية أخرى لا ترى ذلك ولا تريده، وكذلك الحرية لا تعني أن أكثرية ما أو أقلية ما ترى أن الحياة الأمثل تتمثل في الالتزام بقيم علمانية أو ليبرالية أو اشتراكية أو ديمقراطية أو شيوعية وتتغافل عن أكثرية أو أقلية أخرى لا ترى ذلك ولا تريده، وكذلك الحرية لا تعني أن يلبي الفرد حاجاته وما يراه هو ويتغافل عما تريده الجماعة وما تود تلبيته، وكذلك الحرية لا تعني أن تلبي الجماعة حاجاتها وما تراه هي وتتغافل عما يريده الفرد وما يود تلبيته، إذ لو حدث شيء من ذلك لانتفت صفة الحرية من الحياة على الفور.
فالحرية بهذا المفهوم ما هي إلا وهم كبير وخدعة نخدع أنفسنا بها وكذبة كبرى نحاول تصديقها، فلم ولن يوجد فرد أو توجد جماعة بشرية في أي مكان من أرض الله منذ أن خلق الله الإنسان وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها كانوا أحرارا في كل شيء يفعلونه وكانوا أحرارا في تلبية كل شيء يريدونه، فواقع الحياة وطبيعتها يؤكدان أن الحياة على كوكب الأرض ما هي إلا بيت فيه شركاء قد تتعارض فيه المطالب والمصالح والرغبات. ثم من ذا الذي يحدد للناس المفهوم الحق والتعريف الحق للحرية، ومن ذا الذي يضع للحرية حدودها، فلو سألت سجينا عن الحرية لقال خروجي من السجن، ولو سألت كاتبا أو مفكرا أو صحفيا أو إعلاميا عن الحرية لقال أن أدلي برأيي وأعبر عنه من دون مقص أو رقيب، ولو سألت شاذا جنسيا عن الحرية لقال أن أمارس الشذوذ الجنسي دون منع أو ازدراء، ولو سألت متدينا عن الحرية لقال أن أمارس عقيدتي دون قيود، ولو سألت ملحدا عن الحرية لقال أن أمارس حقي في الإلحاد دون تكفير أو اضطهاد، ولو سألت مدمنا عن الحرية لقال أن يتم السماح بتعاطي المخدرات من دون منع أو ملاحقة، ولو سألت فتاة عاشقة عن الحرية لقالت أن أتزوج بمن أحب من دون تدخل الأهل، ولو سألت تلميذا بليدا عن الحرية لقال أن تلغى المدارس.
ثم من ذا الذي يملك أن يحدد للناس الحرية الصواب من الحرية الخاطئة؟، ومن ذا الذي يملك أن يفاضل بين الحريات؟، ومن ذا الذي يملك أن يحدد أولويات الحرية وأيها أسبق على الأخرى؟، وأيها أولى من الأخرى؟، ومن ذا الذي يسمح بالاستقلالية في ممارسة الفكر والثقافة والأخلاق والقيم والعادات والتقاليد، الفرد أم الجماعة؟، وأي الحريتين يجب أن تقدم على الأخرى، حرية الفرد أم حرية الجماعة؟، ومن له الحق في الفصل إن تعارضت الحريتان؟.
• الحرية ووهم تجاوز القيود:
الحرية يبتغيها الناس في اتجاهين، الأول: اتجاه تحقيق اللذة. الثاني: اتجاه تحقيق القيم واختيار المعتقد. فأما تحقيق اللذة بكل أنواعها سواء كانت لذة المال أو لذة الظهور (الشهرة) أو لذة السلطة أو لذة الشعور بالأمن أو لذة الجنس أو لذة تحقيق الذات أو أي لذة أخرى هي الشيء الوحيد الذي يدفع الإنسان نحو ما يسمى بالحرية، إلا إن الإنسان يرى في الموانع والحواجز والمسافات التي تحول بينه وبين الحصول على اللذة سلسلة أو مجموعة من القيود والعقبات عليه أن يسعى جاهدا إلى كسرها وتخطيها، ومن هذه القيود التي تحول بين الإنسان وبين الحصول على اللذة وجود اللذة بأيد الآخرين أو وجودها بعيدا عنه، وكي يتم لفرد الحصول عليها لابد من دفع ثمن ما مقابل الحصول على هذه اللذة أو تلك، وعليه أن يبذل جهدا في توفير ثمن تلك اللذة، وعليه أن يدرك هل سينجح أم سيفشل في توفير ذلك الثمن، بل وعليه أن يدرك أن توفير ثمن اللذة ليس شرطا في الحصول على اللذة، فقد يمتنع من يملك اللذة عن إعطائها له رغم توفر الثمن المطلوب لمانع أو آخر، بل إن الحصول على اللذة ذاتها لا يعني الوصول إلى كامل الحرية في التمتع باللذة، بل سيواجه الإنسان بقيود أخرى، منها: إن المتعة بأي لذة لها توقيت محدود عنده تمل النفس من التمتع باللذة، ما يعني أن محدودية المتعة بأي لذة وانتهائها عند توقيت معين وعدم استمرارها إلى ما لا نهاية قيد آخر يضاف إلى مجموعة القيود، بل إن انتهاء صلاحية اللذة ذاتها وزوال عنصر التلذذ منها لسبب داخلي في اللذة أو لعارض خارجي عنها هو قيد كذلك يضاف إلى مجموعة القيود الأخرى، وبالتالي فعلى الإنسان أن يتهيأ للحصول على لذة أخرى بديلا لتلك التي تم استهلاكها وعليه أن يعود ليبدأ المحاولة مرة أخرى في تجاوز القيود من جديد، كل هذه وغيرها هي قيود تحول دون الإنسان ودون ممارسة الحرية بمفهومها الحقيقي (اللاقيد).
إن الحرية التي يبحث عنها الإنسان ما هي إلا حركة دائمة وانتقال مستمر بين حلقات سلسلة من القيود التي ما أن يتم كسر واحدة منها وتخطي الثانية حتى تبدأ سلسلة أخرى من القيود متصل بعضها ببعض. أما مطلب الحرية في اتجاه تحقيق القيم واختيار المعتقد فنجد أن الخيارات المطروحة أمام الإنسان في اختياره بين القيم والمعتقدات هي في حقيقتها قيود كذلك، حيث إن الإنسان لم يشارك في صنع وإيجاد القيم والمعتقدات ولم يستشره أحد في صنعها، وليس ثمة خيار آخر أمامه سوى ما هو موجود، فعليه أن يختار بين الإيمان أو الكفر، وليس من خيار ثالث أمامه، حتى من حاول أن يوجد خيار ثالث بقوله (لا أدري) لم يأت بجديد سوى أنه اختار عدم الإيمان لكن من دون مناوئة الإيمان، وعدم اختيار الإيمان من دون مناوئة لم يخرجه عن خيار عدم الإيمان، كذلك الاختيار بين الحياة أو الموت، بين الحق أو الباطل، بين الخير أو الشر، بين العدل أو الظلم، بين الصدق أو الكذب وغيرها من الخيارات، فالإنسان لم يكن مشاركا في جعل الإيمان إيمانا، ولا في جعل الكفر كفرا، ولا في جعل الحق حقا، ولا في جعل الباطل باطلا، ولا في جعل الخير خيرا، ولا في جعل الشر شرا. ولا في جعل العدل عدلا ولا في جعل الظلم ظلما، ولا في جعل الصدق صدقا ولا في جعل الكذب كذبا، فهو مقيد بالاختيار بين ما لم يشارك في صنعه وإيجاده وما لا يمكنه إيجاد وصنع غيره.
فالإنسان مخير في أن يكون مؤمنا أو أن يكون كافرا وليس أمامه من خيار ثالث، مخير في أن يكمل حياته أو أن ينهيها بالموت وليس أمامه من خيار ثالث، مخير في أن يكون في جانب الحق أو يكون في جانب الباطل وليس أمامه من خيار ثالث، مخير في أن يكون خيرا أو أن يكون شريرا وليس أمامه من خيار ثالث، مخير في أن يكون عادلا أو أن يكون ظالما وليس أمامه من خيار ثالث، مخير في أن يكون صادقا أو أن يكون كاذبا وليس أمامه من خيار ثالث.
• هل للحرية مفهوم غير الحرية؟:
يجدر بنا القول إن الحرية قد استعصت في ذاتها على أن يوثقها قيد المفهوم أو قيد التعريف، فرغم كل محاولات المفكرين والفلاسفة وأهل الرأي في الماضي والحاضر لوضع مفهوم محدد أو وضع تعريف محدد لماهية الحرية، إلا إن الحرية استعصت على الخضوع لمفهوم محدد أو تعريف محدد، فتكاد الحرية ألا يكون لها تعريفا أو مفهوما سوى أنها (الحرية) فحسب، وهذا يعني أن الحرية هي بالفعل (حرية) ولا تعني شيئا آخر سواها.
إن استعصاء الحرية على الخضوع لمعيار محدد أو مفهوم محدد أو تعريف محدد أو معنى واحد متفق عليه بين جميع الناس لا يعود لعنصر ذاتي داخلي في الحرية يجعلها عصية على الفهم أو التعريف، إنما ذلك الاستعصاء يعود إلى اختلاف رؤى كل منا نحن البشر وتنوع حاجاتنا للحرية سواء كنا فرادى أو جماعات، فرؤى كل منا كأفراد وجماعات للحرية هي رؤى مختلفة وفق حاجاتنا نحن المختلفة للحرية، ما يعني أن الشيء الذي قد ترغب في ممارسته أنت بحرية وتجد نفسك محتاجا إلى قدر ما منها فتنادي بها كحق لك قد تجد غيرك يرغب في ممارسة شيء آخر بحرية قد يختلف تماما في ماهيته وكمه وقدره وقيمته عن الشيء الذي ترغب في ممارسته أنت، والأمر لا يقف عند اختلاف الرغبات فحسب بل ربما تتصادم الرغبتان، ومن هنا جاء الاختلاف حول مفهوم وتعريف ومعنى الحرية.
فالاختلاف حول تحديد مفهوم وتعريف الحرية أتى من تنوع واختلاف رغبات البشر التي يحتاجون فيها إلى الحرية لممارستها، ومن ثم فقد فهم كل منا الحرية وفق الرغبة الشخصية أو الفئوية التي يحتاج فيها إلى الحرية لممارستها، بل وإضافة إلى اختلاف وتنوع رغبات البشر وتمايز بعضها عن بعض كأفراد وجماعات ومن ثم الحيلولة بينهم وبين الاجتماع حول مفهوم واحد للحرية، نجد أن هناك تصادم بين تلك الرغبات بعضها ببعض، فقد تصطدم رغبات فرد ما برغبات فرد آخر، وقد تصطدم رغبات جماعة ما برغبات جماعة أخرى، وقد تصطدم رغبات فرد ما برغبات جماعة ما، والعكس، وليت الأمر يقف عند ذلك الحد، بل إن تلك الاصطدامات لها عديد من الأوجه، فمنها ما هو زماني، ومنها ما هو مكاني، ومنها ما هو تفضيلي، ومنها ما هو معياري، ومنها ما هو قيمي وأخلاقي، مما يزيد في تعقيد وتعدد مفاهيم الحرية بإضافة مفاهيم أخرى، ويزيد في تعقيد تعدد تعاريفها بإضافة تعاريف أخرى، والشيء الوحيد الذي يمكن من خلاله لفرد ما أو لجماعة ما ممارسة رغباتهما بحرية كاملة دون اصطدام ودون قيد هو أن يكون لكل جماعة أو لكل فرد دنيا خاصة به أو حياة خاصة به لا يشاركه فيها أحد غيره، وهذا ما لا يمكن حدوثه أو تحقيقه على الإطلاق.
وعليه فإن أي مفهوم أو أي تعريف للحرية قام بوضعه شخص ما أو جماعة ما، ما هو بمفهوم حقيقي ولا بتعريف حقيقي للحرية، إنما هو محض تعبير عن أمنيات وتطلعات لممارسة وتلبية الرغبات الشخصية الفردية أو الفئوية بحرية كاملة دون اصطدام أو قيد، وهو ما لا يمكن تحقيقه أو تحققه بسهولة. فاللاهثون خلف الحرية والباحثون عنها والمنادون بها ليسوا براغبين حقيقيين في ذات الحرية، إنما هم في حقيقة الأمر من اللاهثين خلف تحقيق رغباتهم الشخصية والفئوية الخاصة، واتخذوا من الحرية مطلبا لتلبية وتحقيق تلك الرغبات فحسب، وهذا يأخذنا إلى القول بأن الحرية ليست مطلبا لذاتها بقدر ما هي مطلب لتلبية وممارسة الرغبات الفردية والفئوية، وعليه فالبحث عن مفهوم أو تعريف للحرية يتفق عليه عموم الناس هو ضرب من ملاحقة السراب، إذ لا يمكن الفصل بين الحرية في ذاتها وبين ما يرغبه الناس ويتمنونه، فالحرية كمفهوم أو كتعريف من حيث تنوع واختلاف رغباتنا واصطدام تلك الرغبات ومن حيث تعدد أوجه ذلك الاصطدام لن يكون لها تعريف واحد محدد أو مفهوم واحد محدد.
وأخيرا: قل لي في ماذا ترغب وماذا تحب وماذا تشتهي أقل لك ما هو مفهوم الحرية لديك، لذلك أنزل الله الكتب وأرسل الرسل للفصل بين الناس فيما كانوا فيه يختلفون، فلا يمكن لأي جماعة بشرية أن تحي من دون قانون أو من دون ضوابط أو من دون قيود، ولا يمكن لأي جماعة بشرية أن تعيش في كرامة وحق وعدالة إلا في ظل الحق والعلم والعدل والقسط، قال تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (25_ الحديد).
فلا ندعو للحرية ولا ننادي بالحرية، إنما ندعو للحق وننادي بالعدل وليس الحرية.
• الإعلام شيطان العصر:
لم يعد خافيا على أحد مدى الدور الشيطاني الإجرامي الذي يقوم به الإعلام وأكثر العاملين فيه في جميع أنحاء العالم وخاصة في مصر في تشويه وتشويش أفكار وعقائد وتوجهات وأخلاقيات وقيم الجماهير الدينية والفكرية والعلمية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية والقيمية، ولم يعد خافيا على أحد مدى تحول المؤسسات الإعلامية المرئية والمسموعة والمقروءة في شتى أنحاء العالم وخاصة في مصر إلى أسواق للنخاسة الفكرية والدينية والثقافية والسياسية والاقتصادية، ولم يعد خافيا على أحد مدى ما تمتاز به الأوساط الإعلامية والصحفية من انحطاط وانهيار وحضيض أخلاقي وإنساني يعز وجود مثيله في أية أوساط أخرى، ولم يعد خافيا على أحد إلى أي مدى سلعي وخدمي تحولت إليه الأوساط الإعلامية والصحفية وأكثر العاملين فيها إلى ما يشبه الرقيق والجواري الذين يبيعون أنفسهم بيع العبيد والخدم والغلمان لمن يدفع لهم ثمن ضمائرهم وثمن إنسانيتهم وثمن أخلاقهم وثمن مبادئهم، بل إن العبد والجارية والغلام في أسواق الرقيق لهو أكثر كرامة وشرفا وإنسانية وعزة من الذي يباع ويشترى في أسواق الرقيق الإعلامية والصحفية، إذ الجارية والعبد والغلام في أسواق الرقيق والعبيد يباع ويشترى رغما أنفه، ودون رضا منه أو اختيار، لأن وقوعه في ذل العبودية والرق تم حين وقع أسيرا في يد الأعداء في الحرب، أما العبيد والجواري والغلمان في أسواق النخاسة وفي أسواق العبيد وفي أسواق الرقيق الإعلامية والصحفية يقومون ببيع أنفسهم بأنفسهم بتسليم ورضا كاملين وبمحض إرادتهم ودون إرغام أو قهر أو سطوة من أحد عليهم، وهنا يبرز الفارق بين عبيد وعبيد وجواري وجواري وغلمان وغلمان.
كذلك لم يعد خافيا على أحد مدى ارتباط مصائر وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة ومدى ارتباط مصائر وأرزاق وأجور وأثمان من يعملون بها بتوجهات وتوجيهات ومصائر وغرائز وحماقات وشهوات مالكي هذه الوسائل، ولم يعد خافيا على أحد كم الصفقات المالية والعطايا والهدايا والأثمان القذرة، وكم العلاقات الحميمية والمشبوهة والمريبة التي تتم بين الصحفيين والصحفيات والإعلاميين والإعلاميات والمذيعين والمذيعات ومن يقومون على إعداد وإدارة وإخراج المواد والبرامج الحوارية التلفزيونية أو من يقومون بكتابة المقالات والتقارير والحوارات والتحقيقات الصحفية سواء بين بعضهم البعض في داخل الأوساط الإعلامية والصحفية أو بينهم وبين عناصر لها مطامع ومطامح وأجندات من خارج الوسط الإعلامي والصحفي، ولم يعد خافيا على أحد مدى تحكم وتسلط وتوجيه بعض رجال الأعمال المشبوهين للعاملين في الفضائيات والصحف التي يمتلكونها، وليس أدل على ذلك مما يقوم به في الخفاء والعلن رجل الدين النصراني المتطرف "نجيب ساويرس" هذا المتطرف الذي لا يقل تطرفا عن تطرف بعض شيوخ التيارات الدينية ثم يكذب على الناس ويدعي العلمانية والليبرالية من أجل الحفاظ على زبائن شركة الاتصالات التي يمتلكها، هذا الذي اشترى بأمواله أكثر العاملين في الفضائيات الخاصة وفي البرامج الحوارية وبرامج (التوك شو) وأكثر الكتاب والصحفيين الذين يعملون في الصحف الخاصة والحكومية والإلكترونية واستخدامهم لتشويه الحركات الإسلامية وتحريض الرأي العام المصري ضدهم بحق وبباطل.
• العشوائية المقصودة في اختيار الإعلاميين:
لا يمكن لأي شخص يتابع برامج الفضائيات المصرية المختلفة سواء كانت برامج (توك شو) أو برامج (منوعات) أو برامج (حوارية) أو أي لون آخر من البرامج وخاصة البرامج الرمضانية إلا ويلمس أنه لا وجود لأي أثر من تقييم علمي منهجي فكري تخصصي قيمي حقيقي لمقدمي البرامج قد تم على أساسه اختيار هذا الإعلامي أو ذاك، أو هذا المذيع أو ذاك، لتولي مهمة تقديم تلك البرامج، ما يعني أن عملية اختيار مقدمي البرامج تتم بشكل عشوائي، ولا أقصد هنا المعنى الحرفي للعشوائية، إنما أقصد "العشوائية المقصودة".
وأعني بمصطلح "العشوائية المقصودة" تجاهل ما يجب أن يكون عليه الإعلامي أو المذيع من تخصص وعلم وفكر ومنهج وثقافة وأخلاق وقيم هادفة عند اختياره لتقديم مثل تلك البرامج، ومن ثم تتحول هذه العشوائية إلى هدف مقصود من قبل بعض القائمين على المؤسسات الإعلامية ليتم اختيار الإعلامي وقياس مدى نجاحه ونجاح برنامجه واستمراره على قيم أخرى، من تلك القيم التي يتم في مصر الآن على أساسها اختيار الإعلامي أو المذيع هي مدى ارتفاع صوته ومدى تحرشه واستفزازه وتطاوله على الجمهور وعلى الضيوف، وكذلك مدى حماقته ورعونته وغوغائيته وانفعاله وهوجائيته، ومدى ما يثيره من فتن وزوابع وتوابع وفضائح وإثارة عقب انتهاء الحلقة، وكذلك مدى تركيزه وإلحاحه على الموضوعات والتلميحات ذات الطابع الجنسي، ومدى شذوذه وتطرفه في الطرح والعرض، ومدى شذوذه وتطرفه في اختيار ما يعبر به من ألفاظ، وكذلك مدى شذوذه وتطرفه فيما يقوم به من سلوكيات واستعراضات، فكلما ازداد الإعلامي المصري شذوذا وتطرفا وكلما كان جهولا شوارعيا فيما يقول وفيما يفعل وفيما يطرح كلما ازداد نجاحه وازدادت جماهيريته وذاع صيته وبالطبع زاد أجره. فهكذا يكون الإعلام المصري، وهكذا يكون الإعلاميين المصريين.
وما يبرهن على ذلك أن المتابع لهذه البرامج لا يمكن أن يلمس في إعلامي أو إعلامية أو مذيع أو مذيعة من هؤلاء وعيا ما أو علما ما بأي قضية يقوم بطرحها مع ضيوفه، فمثلا حين يكون الموضوع المطروح للنقاش موضوعا دينيا ويقوم أحد المتصلين أو الضيوف بتوجيه أي سؤال أو نقد حول رأي المذيع الذي يجهر به في الحلقة تجد المذيع أو المذيعة على الفور يقر ويعترف أنه غير متخصص في الجوانب الدينية رغم أنه يناقش موضوعا دينيا، وفي الوقت نفسه يجهر بتبنيه لرأي بعينه من الآراء المطروحة في الحلقة، فنراه يردد رأيه بطريقة ببغاوية من دون أي وعي بالحيثيات العلمية والفكرية لخطأ هذا الرأي أو صوابه، وهكذا في الموضوعات السياسية والتاريخية والاقتصادية والفلسفية والعلمية واللغوية وغيرها من الموضوعات، حتى يصل المشاهد إلى قناعة يقينية أن هذا الإعلامي أو ذاك ليس لديه أدنى مقومات الثقافة العلمية والفكرية والمعرفية في أي فرع من فروع العلم يؤهله للتصدي أن يكون إعلاميا أو مذيعا حقيقيا متخصصا، لدرجة تجعل سؤالا هاما وملحا يقفز إلى الذهن ألا وهو: على أي أساس وبأي مقومات ولأي هدف أو غاية يتم تلميع هؤلاء الإعلاميين وتقديمهم كنجوم وقدوة للمجتمع رغم عدم أهلية هؤلاء العلمية والفكرية والثقافية والأخلاقية والتخصصية؟؟، هل بقصد تجهيل الجماهير وتلويث قيمهم وأفكارهم وتشويه وعيهم وتجريدهم من قيمهم الإنسانية، أم من أجل الربح المادي الذي يطغى بريقه ورنينه ويعلو ويسمو على أهمية القيم والمبادئ والأفكار بل وعلى إنسانية الإنسان ذاته؟؟.
وهل الانحطاط العام الذي نلمسه في كافة جوانب حياتنا في مصر الآن هو إفراز طبيعي وحتمي لهذا اللون من الإعلاميين؟؟، على اعتبار أن الإعلام الآن هو المصدر الوحيد لتشكيل وعي الناس وقناعاتهم وانتماءاتهم وتوجهاتهم، إذ لو كان ما يقدمه هؤلاء الإعلاميون للناس فيه قيمة ما أو خير يذكر لكنا قد لمسنا ذلك الخير أو تلك القيمة في الناس وفي المجتمع من حولنا، أو كما قال المسيح عليه السلام: (من ثمارهم تعرفونهم). وكما قال الحق سبحانه: (والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا).
• ويل لمن تنكروا لفضل الرئيس مبارك عليهم:
لم يعد خافيا على أحد مدى الشماتة والتشفي والشعور بالانتقام وتسيد مشاعر الغل والحقد التي بدت بشكل فوار وغلياني مقزز على وجوه وألسنة وكتابات وبرامج كل الإعلاميين والصحفيين المسمون بالمستقلين والمعارضين فور سقوط نظام الرئيس مبارك، بل أقل ما يمكن أن يوصف به هذا المشهد أنه ثورة انتهازية انتقامية ضد كل الإعلاميين والصحفيين الذين كانوا يؤيدون نظام الرئيس مبارك في صراحة ووضوح. لا أستطيع أن أفهم هذه الحالة من الفرح والنشوى والزهو والانتصار التي يعيشها الآن الإعلاميون والصحفيون الذين يعملون في القنوات الفضائية والصحف الخاصة، ولا أستطيع أن أفهم مبعث هذه الحالة ولا أسبابها، هل لأن هؤلاء يحاولون أن يصدقوا ما تسوله لهم أنفسهم أنهم كانوا معارضون حقيقيون لنظام الرئيس مبارك؟، أم هي الانتهازية الإعلامية والصحفية للقفز على الثورة وادعاء النضال والبطولة والمعارضة في ظل نظام الرئيس مبارك؟، أم نسي هؤلاء أن عملهم في الصحف والقنوات الخاصة لم يكن سوى تبادل أدوار لإضفاء صفة الحرية الإعلامية والصحفية على نظام الرئيس مبارك؟، وأن دورهم لم يقل قط في أهميته عن دور الأحزاب الكرتونية الديكورية التي كانت تضفي على نظام الرئيس مبارك صفة الديمقراطية والتعددية الحزبية، فقد سبق وأن كتبت مقالا في عهد الرئيس مبارك لم تجرؤ صحيفة مصرية خاصة واحدة على نشره، وكان بعنوان: (الإعلام المصري والرئيس مبارك)، ونشرته على عدد من المواقع الإلكترونية بتاريخ: 15/3/2010م، وأورد هذا هنا وأدعو القارئ لقراءة هذا المقال حتى يكتشف حقيقة هؤلاء المحتفلين بالثورة من الإعلاميين والصحفيين العاملين في الإعلام والصحف الخاصة، وكذلك ليكتشف الناس مدى انتهازية هؤلاء ومدى كذبهم وخداعهم للشعب المصري، ومدى انقلابهم على الرئيس مبارك الذي لولاه لما وصلوا إلى ما وصلوا إليه من مجد وترف وأجور وشهرة،
• الإعلام المصري والرئيس مبارك:
عجيب أمر هذا البلد (مصر)، إذ بغتة ومن دون سبب ظاهر يبعث على التصديق والاطمئنان تفتقت وانفتحت شهية النظام المصري على حرية الرأي والتعبير والصحافة والإعلام، فاستبشر الناس خيرا، لكني لم أستبشر، وعدم استبشاري بالحرية الإعلامية التي انطلقت على حين غفلة من أهل مصر ومن دون مقدمات تذكر هو أن الشريط الجيني الوراثي للنظام المصري أو بالأحرى الحزب الوطني بدءا من الرئيس مبارك وانتهاء بعامل النظافة البسيط في أصغر مقر ريفي من مقرات الحزب الوطني الحاكم لا يمكن أن يصدق عاقل أن شخصا واحدا في منظومة الحزب الوطني يحمل في جيناته جينا واحدا وظيفته بعث الإيمان بالحريات العامة أو الديمقراطية أو الإيمان بقيمة الإنسان وحقوقه وكرامته وكينونته، ولا يمكن لعاقل أن يصدق بأن الإيمان بالحريات العامة والديمقراطية وحقوق الناس قد نزل هكذا بغتة على قلب الرئيس مبارك ومن ثم على قلوب أتباع حزبه، فلدينا مثل في الصعيد يقول: (الحداية لا تفقس كتاكيت)، وكذلك الثلاثون عاما الماضية من حكم مصر خير شاهد على ما أقول.
ولأننا نعيش في مصر بلد العجائب فقد آمن الشعب المصري وصدق أن (الحداية تفقس كتاكيت) وصدق أن النظام المصري هكذا بغتة وبين غفوة عين وانتباهتها ولوجه الله والناس والوطن وبعد ثلاثين عاما من الانفراد بالسلطة وحكم الفرد الواحد قد اقترف الإيمان بحرية الرأي والتعبير والصحافة والإعلام وتداول السلطة والديمقراطية وحقوق الناس في الحياة، وكان من أوائل المصدقين بهذا هم الإعلاميون المصريون الذين يَدَّعُون المعارضة والاستقلالية من الذين يعملون في الفضائيات والصحف الخاصة، باستثناء ثلاثة فقط، هم: (عبد الحليم قنديل، إبراهيم عيسى، وائل الإبراشي)، وانطلق الإعلاميون والصحفيون يتهللون فرحا ودعاء وثناء على الرئيس مبارك أن كان أول المؤمنين والداعين إلى الحرية في مصر، وأول من مَنَّ وتفضل وتكرم وتصدق على المصريين بهذه الحرية، فانطلق الإعلاميون والصحفيون الذين لا لون لهم ولا طعم ولا رائحة ولا مبدأ ببرامجهم وصحفهم يتعقبون الفساد ويتربصون بالمفسدين في كافة القطاعات، ففوجئوا بطوفان متراكم متتابع من الفساد الذي لا قبل لهم ولا لبرامجهم ولا لصحفهم به، وراحوا يتساءلون في ذهول ومكر وخبث ولؤم: من المسئول عن هذا الطوفان من الفساد؟؟، وكأنهم لا يعرفون حقا من المسئول!!!، ثم يقول أمثلهم طريقة: المسئول عن هذا الفساد هي الحكومة، الحكومة فحسب، وهنا يكون مشروعا لي ولغيري أن يسأل هؤلاء الإعلاميين والصحفيين الماكرين الخبثاء المخادعين، وأقول: أليس الرئيس مبارك هو وحده دون غيره من قام بتعيين تلك الحكومة وتعيين جميع وزرائها وزيرا وزيرا كما عين كل الحكومات السابقة خلال الثلاثين عاما الماضية، وهو وحده من يملك إقالتها ومحاسبتها ومعاقبتها إن هو أراد ذلك؟، أم أن الرئيس مبارك هو رئيس شرفي لمصر يملك ولا يحكم؟!!، أم أن هذه الحكومة قد جاءت إلى السلطة عبر انتخابات نزيهة ونظيفة ولا دخل للرئيس بها؟!!. وعلى أي أساس علمي عقلي منطقي واقعي يفصل الإعلاميون الكذابون الخبثاء بين ما وصلت إليه مصر من تردي وانهيار وبين الرئيس مبارك؟، أليس هو المسئول الأول عن كل شيء في مصر من واقع رئاسته للدولة منذ ثلاثين عاما؟.
وللإجابة على هذه التساؤلات المشروعة نقول: إن هؤلاء الإعلاميين الكذابين الخبثاء يتعامون ويتغافلون عمدا مع سبق الإصرار والترصد عن حقيقة ما جاء في الدستور المصري من صلاحيات لرئيس الجمهورية تجعل منه الحاكم الأوحد الذي بيده مقاليد كل شيء، وله الأمر وحده، ولا حاكم غيره، وليست الحكومة أو رئيس الحكومة ولا الوزراء كما يكذب الإعلاميون ويخدعون الناس، فرئيس الوزراء وجميع وزرائه لا يملكون من أمر الناس ولا من أمر أنفسهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الرئيس لمن يشاء ويرضى، وهذه الحقيقة يعرفها جميع الإعلاميين والصحفيين كما يعرفون أبناءهم، لكن زهو النجومية والشهرة وبريق المال الأخاذ يخرس ألسنتهم عن التفوه بتلك الحقيقة، فكل إعلامي أو صحفي لا ينطق بهذه الحقيقة ويعلنها للناس في صراحة وشجاعة وهي أن الرئيس مبارك هو وحده دون غيره المسئول عما وصلت إليه الأوضاع في مصر من تردي وانهيار فهو إعلامي جبان يكذب على الناس ويخادعهم ولا يملك بين جنبيه ذرة من الرجولة أو الكرامة أو الشرف وليس في وجهه قطرة ماء.
ومن أكثر البراهين التي تكشف زيف وخداع هؤلاء الإعلاميين والصحفيين الذين يعملون في الفضائيات والصحف الخاصة من دون استثناء سوى (عبد الحليم قنديل، وإبراهيم عيسى، ووائل الإبراشي) أنهم عندما تقع أيديهم على فساد ما هنا أو هناك يرددون في مكر وغباء فاقع قولتهم الشهيرة: (سيادة الرئيس لو يعرف حاجة زي كدة مش ممكن يوافق عليها)، وهم بقولتهم هذه ينسبون إلى الرئيس مبارك من حيث لا يشعرون الغفلة عما يحدث بالبلاد واللامبالاة بما تفعله الحكومة وأهل السلطة بالناس، مما يشعر المتابع للإعلام الخاص والصحافة الخاصة بأن الرئيس مبارك إما أنه يغط في نوم عميق طوال اليوم، بل طوال الأسبوع، بل طوال عمره، ولا يدري شيئا عن أحوال الناس إلا من الصحافة ووسائل الإعلام، أو أن الرئيس مبارك يحكم مصر من على ظهر كوكب آخر غير كوكب الأرض، وبالتالي فهو غير ملم بما يحدث في مصر. أو أن الرئيس يعلم بكل ما يحدث في البلد من فساد وانهيار ولكنه يصمت عنه ولا يتحرك إلا حين يثار الموضوع في وسائل الإعلام، وهذا يعد موافقة ضمنية منه عما يحدث ويدور في مصر وبالتالي فهو مشارك فيه.
فلو كان هؤلاء الإعلاميون الدين يدعون الاستقلالية والمعارضة يقيمون للأمانة والصدق والشرف وزنا لاغتنموا تلك الفرصة الممنوحة لهم حاليا من حرية الكلام ولأشاروا صراحة إلى المسئول الأول والأوحد عما يحدث في مصر منذ ما يقرب من ثلاثين عاما، ولكانوا قد تطهروا من النفاق والكذب على أنفسهم وعلى الناس وتركوا تلك المجاملات النتنة وذلك النفاق القبيح للرئيس مبارك، إذ هم يعلمون علم اليقين أن كل ما يحدث في مصر لم يحدث إلا بعلم الرئيس مبارك وفي ظل حكمه، ولكانوا قد تطهروا من أنانيتهم القميئة وخوفهم على مصالحهم ونفعيتهم ومكاسبهم الشخصية والتفتوا إلى جموع الناس يجلون لهم حقائق وأسباب ما حدث ويحدث في مصر ويخبرونهم عن المسئول الحقيقي عن كل هذا، فلو فعلوا ذلك لكان أشرف لهم وأكرم وأفضل من تلك الدعارة الإعلامية التي يمارسونها على الناس في برامجهم الفضائية وعلى صفحات جرائدهم، ولعلهم قد يخرج منهم ذات يوم شخص واحد يطالب الناس بمسائلة الرئيس مبارك وحده عما حدث ويحدث في مصر ولمصر على الصعيد الداخلي والخارجي طيلة فترة حكمه في الثلاثين عاما الماضية، أو يطالب أحدهم بمحاكمة الرئيس مبارك أمام محكمة مصرية عادلة لتنزل به العقاب العادل حين إدانته جزاء ما فعله بهذا البلد وأهله، لكني أشك في أن أحدا يفعلها في ظل تلك الدعارة الإعلامية التي تمارس على شاشات القنوات الخاصة وعلى صفحات الجرائد التي تدعي المعارضة والاستقلالية.
وعزائي الوحيد أن الرئيس مبارك وغيره من الحكام العرب لو أفلت أحدهم بالموت من محكمة الدنيا فلن يفلت من محكمة الحي الذي لا يموت يوم يقوم الناس لرب العالمين حين يقول الإنسان يومئذ أين المفر كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر، تلك المحكمة قدسية الأحكام والميزان حين يقول الله للظالم لا تتكلم ويقول للمظلوم تقدم وخذ مظلمتك ممن ظلمك، محكمة يقول الحق عنها: (وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) (47_ الأنبياء).
وأخيرا: يبدو لي أن النظام المصري قد حسبها صح وعرف أن الشعب المصري مهما فعل فآخره الكلام ثم الكلام ثم الكلام فقرر أن يفتح له أبواب حرية الكلام على مصراعيها تمشيا مع القول المأثور (الكلاب تنبح والقافلة تسير)، وأخيرا أقول: إن صَدَّقَ أهل الأرض كلهم جميعا أن (الحداية تفقس كتاكيت) أنا لا أصدق، لأن الحق سبحانه يقول: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً) (58_ الأعراف). والأيام والشهور القادمة وما ستسفر عنه نتائج الانتخابات الرئاسية وانتخابات مجلسي الشعب والشورى القادمة ستثبت صدق ذلك. فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد). انتهى المقال الذي نشرته على عدد من المواقع الإلكترونية بتاريخ: 15/3/2010م.
فبالفعل إني لأشعر بالشفقة على هؤلاء العاملين في الصحف الخاصة وفي الفضائيات الخاصة وأخص بالذكر نجوم "التوك شو المسائي والبرامج الحوارية، أشفق عليهم من حالة التقمص المخادعة التي يعيشونها بعد ثورة 25 يناير، هذه الحالة التي أوهمتهم أنهم كانوا مناضلين شرفاء أبطال، وأنهم قدموا أثمانا باهظة في ساحات الوغى والمعارضة والقتال من أجل الحرية ضد نظام الرئيس مبارك، فويل لآفة النسيان وآفة (الاستهبال) وآفة (الاستعباط)، ويل لهؤلاء إن نسوا أنهم كانوا أوتادا لنظام الرئيس مبارك، وويل لهم إن نسوا أنهم كانوا يعملون وفق السقف المسموح به لهم من جهاز مباحث أمن الدولة يأتمرون بما أمر وينتهون عما نهى، فويل لهم إذ يتنازعون الآن جثة مباحث أمن الدولة، فيما أنهم قبل 25 يناير لم يجترئوا على التفوه بكلمة (مباحث أمن الدولة) بخير أو بشر في أي من صحفهم أو برامجهم، وويل لهم إذ انقلبوا الآن على الرئيس مبارك ونسوا فضله عليهم، إذ هو وحده الذي منحهم ووهبهم ومَنَّ عليهم بذلك الهامش من الحرية في برامجهم وكتاباتهم، ولم يكن لهم أدنى فضل يذكر ولا أدنى ثمن يذكر قد سبق وأن دفعوه لقاء الحصول على ذلك الهامش من الحرية الذي كانوا يمرحون فيه ويرتعون، وويل لهم إذ تنكروا للرئيس مبارك الذي لولا تغاضيه عنهم وحمايته لهم وصبره عليهم وصفحه عنهم لما أصابهم ذلك القبس من الثراء والنعيم والأجور الباهظة التي جعلتهم نجوما وجعلتهم من المترفين.
لم تكن قط معارضة من يعملون في الصحف الخاصة والفضائيات الخاصة للرئيس مبارك أو استقلاليتهم عن نظام حكمه معارضة حقيقية أو استقلالية نظيفة صادقة، كما يحاولوا يائسين أن يوهمونا بذلك، بل كانت معارضة زائفة، واستقلالية كاذبة خاطئة، فلولا فضل وإنعام الرئيس مبارك عليهم بما كانوا فيه من هامش الحرية الذي لم يكونوا يحلموا به حتى وهم أجنة في بطون أمهاتهم، ولولا فضله ورحمته بهم أن أغدق عليهم بهذا الهامش من الحرية لكانوا جميعا في السجون أو منفيين خارج الوطن إلا قليلا ممن عادوا إلى رشدهم، ولكان مصيرهم مشابه لمصير كثير من الصحفيين والكتاب المعارضين في معظم الدول العربية الشقيقة والمجاورة، فمعارضة هؤلاء لم تكن سوى معارضة (السقف المتاح) معارضة (سوبر ستار)، معارضة (خمس نجوم)، معارضة الأجور الباهظة، والمكاتب المكيفة، والسيارات الفارهة، والبذات الفاخرة، والساعات الروليكس، والنجومية ذات الجماهيرية الواسعة، معارضة لا تجيد من أمرها شيئا سوى تدبيج المقالات (المقيفة) وتشكيل المسرحيات الهزلية في صورة برامج (توك شو) التي كانوا يتحفوننا بهما كل صباح وكل مساء لانتقاد حكومة الرئيس مبارك ومعارضتها بحق أو بباطل.
فويل لهؤلاء الذين قبلوا أن يكونوا ملك يمين الرئيس مبارك، وامتنعوا عمدا وبمحض إرادتهم عن انتقاد الرئيس مبارك أو توجيه اللوم له في أي شيء طيلة ثلاثين عاما، مما يبرهن أن هؤلاء لم يكن يعنيهم من قريب أو من بعيد من يحكم مصر _الرئيس مبارك أو غيره_ بقدر ما كان يعنيهم الصمت والصمم والعمى والخرس عمن من يُبْقِي لهم على ما هم فيه من بحبوحة الدنيا ورغد العيش وترف الحياة، حتى لو تولى عليهم الشيطان، فويل لهؤلاء الذين باعوا ضمائرهم وقبلوا أن يمثلوا دور الوجه المضيء لنظام الرئيس مبارك، وويل لهم إذ رضوا لأنفسهم هامشا من الحرية كهبة ومنحة وهدية ألقى بها الرئيس إليهم، ونسوا أو تناسوا أن الحرية والحقوق لا تُوْهَب ولا تُهْدَى ولا تمنح ولا تهبط من السماء ولا تأتي بها المقالات العنترية ولا البرامج المسرحية ولا تظل رهينة السقف المتاح، إنما تنزع انتزاعا.
إن هؤلاء الإعلاميين والصحفيين الذين كانوا ومازالوا يدعون الاستقلالية والمعارضة لم يكونوا يوما سوى معارضين شخصيين لأجل أنفسهم وذواتهم، ولأجل تنفيذ ما يريده رجال الأعمال أصحاب الصحف الخاصة والقنوات الخاصة، الذين استأجروهم واستخدموهم لحصد بعض المكاسب وبعض المزايا وبعض المزايدات وتصفية الحسابات هنا وهناك، كانوا معارضين أشبه بالجنود المرتزقة، فكانوا يرتزقون وينتفعون من معارضتهم الزائفة لحكومة الرئيس مبارك، ولم يكونوا معارضين من أجل الناس والوطن. إنهم عصابة من الخونة الذين خانوا أهل هذا البلد وخانوا قضاياه وتاجروا بآلامه واستثمروا جراحاته حين جلسوا خلف مكاتبهم المكيفة وأمام الكاميرات لا هم لهم سوى احتراف الكلام المكتوب والمسموع والمقروء، يتلقون الأوامر من مالكي الصحف ومالكي القنوات الفضائية التي هي في الأصل أوامر من مباحث أمن الدولة تحدد لهم ماذا يقولون وماذا لا يقولون، من يستضيفون ومن لا يستضيفون، من يهاجمون ومن يهادنون، من يفضحون ومن يسترون، دون أن يكون لهم موقف شخصي شريف نظيف محترم يرفض هذا ويحتج عليه.
• الإعلام والترويج لوهم اسمه (مصر):
من يتابع التاريخ المصري منذ آلاف السنين خاصة في جانب علاقة الشعب المصري بحكامه ومرؤوسيه وعلاقته بأهل الترف والجاه والسلطان منهم يجد أن الشعب المصري من أكثر شعوب الأرض إن لم يكن هو الشعب الوحيد في العالم الذي لديه قابلية مفرطة للاستخفاف بعقله واستغفاله واللعب بعواطفه ومشاعره، والثغرة الكبرى التي يمكن لأي شخص من خلالها أن ينفذ منها للاستخفاف بعقول المصريين واستغفالهم واستدرار عواطفهم ومشاعرهم نحوه ومن ثم توجيههم إلى الوجهة التي يريد هي ثغرة "وهم اسمه مصر" هذا الوهم هو الإيغال والتطرف والشذوذ في تمجيد التاريخ المصري والغلو في الحديث عن عظمة مصر وأمجاد مصر وطيبة الشعب المصري وعبقرية المصريين وذكاء المصريين وقوة وشجاعة المصريين وغيرها من الأشياء التي يتعاطاها المصريون بشكل مرضي مخيف، إلا إن وقائع التاريخ وحقائقه تقول عكس ذلك تماما، فمنذ آلاف السنين والمصريون خاضعون لسلطان وسطوة من يحتلهم ومن يستولي على بلادهم ويكفي أن الرئيس الراحل "محمد نجيب" هو الرئيس المصري الأول الذي يصل إلى سدة الحكم في مصر منذ عهد الفراعنة وحتى قيام ثورة 1952م، فوقائع التاريخ وحقائقه تقول أن الشعب المصري لم يعرف في تاريخه سوى الإهانة والذل والظلم والسحل والطغيان والاضطهاد والسجن والتعذيب والقهر من قبل حكامه سواء كانوا مصريين أو محتلين أجانب، ووقائع التاريخ وحقائقه تقول إن المصري لم يذق طعم الحرية والكرامة والعزة والآدمية على مدار تاريخه، ووقائع التاريخ وحقائقه تقول إن كل من يريد أن يستخف بالمصريين ويستغفلهم فما عليه سوى أن ينفخ في المشاعر الوطنية المصرية للمصريين وعلى الفور سيجد أن المصريين سيستسلمون له استسلاما كاملا ويصبحون بين يديه كالميت بين يدي غاسله يقلبه كيف شاء.
ومن هذه الوقائع والحقائق تلك الواقعة التي ذكرها القرآن الكريم وكيف أن فرعون موسى كان يستخف بالمصريين ويستغفلهم باللعب على وتر الوطنية المصرية، فحين أرسل الله موسى عليه السلام إلى فرعون ليدعوه إلى الإيمان بالله ورفع الظلم عن قومه والكف عن تعذيبهم قام فرعون في شعب مصر خطيبا (وأعتقد كانت تلك الخطبة في مقر الحزب الوطني الفرعوني) المهم قام فرعون في شعب مصر خطيبا ليشن هجوما إعلاميا عنيفا وحادا على موسى ومن معه ويصفه في تلك الخطبة بأبشع الأوصاف، فقال فرعون في خطبته التي ورد نصها في سورة الزخرف: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلاَ تُبْصِرُونَ(51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ(52) فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ المَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} (53_ الزخرف).
المفارقة العجيبة في هذه الواقعة أن الحق سبحانه وتعالى تجاهل تماما التعليق على فرعون وعلى ما جاء في خطبته، والتفت فقط إلى الشعب المصري الذي انفعل بخطبة فرعون وتحمس لها وهتف الحضور لحياة فرعون وبقائه في السلطة، فندد الحق سبحانه بالشعب المصري الذي قبل أن يستخف به ويستغفله جلاده فرعون، فقال سبحانه: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} (54_ الزخرف).
ومن هذه الوقائع والحقائق التاريخية نستطيع أن نوقن وبكل وضوح أن كل من يحاول الآن أن يستدر عاطفة الشعب المصري وكل من يحاول أن يستجيش مشاعره الوطنية مستخدما اسم "مصر" بصورة مغالية ومفرطة وشاذة فهو إما طاغية أو كذاب أو دجال أو لص أو خائن أو قواد يخدع هذا الشعب وينافقه، ولا أدل على ذلك من أن نعود بالذاكرة إلى الوراء لنتذكر أن كل الأنظمة التي حكمت مصر على مر العصور جميعها كانت تلهي الشعب المصري في الافتخار والاعتزاز بمصر ورموزها لسرقة حاضره وتغييبه عن مستقبله، وما يؤسف له أنه حتى بعد ثورة 25 يناير مازلنا نعزف على أوتار الوهم والسراب لنعود مرة أخرى إلى التغييب وفقدان الوعي ليتم سرقة أقواتنا ومقدراتنا وثرواتنا عبر إغراقنا في الوهم الذي اسمه مصر، فهل سننظر إلى الأمام ولا نلتفت إلى الوراء، وهل سيتعلم المصريون من الماضي أن الإفراط في وهم الوطنية لم يشبع جائعا ولم يكس عريانا ولم يغن فقيرا ولم يؤمن خائفا ولم ينصف مظلوما؟.
لقد نشرت مقالا في عدد من المواقع الإلكترونية بتاريخ: 16/2/2008م عقب فوز مصر بكأس الأمم الإفريقية 2008م، وكان بعنوان: (هل فازت مصر بكأس الأمم الإفريقية؟) جاء فيه ما يلي:
لست من هواة كرة القدم، ولا من المتابعين المولعين بها، فقط تستهويني الأدوار النهائية للبطولات الإفريقية والأوربية والمونديال، لقد كان أبى رحمة الله زملكاوياً حتى النخاع، وقد خيرني وأنا طفل في الثامنة من عمري، فقال لي تشجع الزمالك أم الأهلي؟ فاخترت الأخيرة على اعتبار أنها آخر ما طرق أبواب مسامعي، فنشأت أميل إلى الأهلي دون اختيار موضوعي مني لهذا الميل، وقد كان.
لم أتابع مباريات كأس الأمم الأفريقية 2008م إلا بدءا من مباراة (مصر، والسودان) وتخلفت عن مباراة (مصر، وزامبيا) ثم تابعت بقية المباريات باهتمام (مصر، وانجولا – مصر، وكوت ديفوار – والنهائية بين مصر، والكاميرون) وأثناء مشاهدتي للمبارتين الأوليين لم ألحظ من الإعلام ولا من الجمهور ما يدعو للإثارة، أو الوقوف عنده لتأمله، ومكثت على هذه الحال حتى انتهاء مباراة (مصر، كوت ديفور) والتي كانت نتيجتها (4-1) لصالح المنتخب المصري، وحدث ما يستحق وضعه على طاولة النقد والتحليل، بل ما يوجب الوقوف أمامه طويلا لتأمله وفحص أسبابه الحقيقة، فقد رأيت من الجماهير المصرية حالة من الهستيريا التي تعقب المواقف والأخبار السارة، سواء على شاشات التلفاز أو في الشوارع أو على المقاهي أو في المنازل، وليس ذلك فقط في مصر، بل في جميع دول العالم التي يقطنها المصريون، العربية منها وغير العربية.
وما أدهشني حقا هو صراخ المصريين وهياجهم المصحوبان بالدمع في بعض الأحيان، مما جعلني أغوص في دهشتي حتى أعماقي، وطفق يخصف من نفسي على نفسي الكثير والكثير من الأسئلة والتساؤلات التي تريد فهم أسباب ما يحدث، وما أفاقني من دهشتي هذه إلا صديق سوري كان ضيفي ليلة إذاعة المباراة النهائية بين (مصر، والكاميرون) فبينما كنا نسمع الصراخ عقب انتهاء المباراة لصالح الفريق المصري في جميع المقاهي المجاورة لسكني، وحينما اكتظت الشوارع عقب انتهاء المباراة بالسيارات والمارة من المشجعين المصرين الذين تعلوهم الهتافات لمصر، ففي خضم هذا الصراخ والهياج والهتافات إذا بصديقي السوري يباغتني بسؤاله قائلاً: (شو يا زلمة والله لو الجيش المصري قام بإلقاء إسرائيل في البحر ورفع العلم المصري فوق تل أبيب لما كانت فرحة المصريين بهذا الشكل، ماذا سيجني المواطن المصري العاطل عن العمل من فوز كهذا، وماذا سيحصد ساكني المقابر المصريين من فوز كهذا، وماذا سيربح المصرين الفقراء المساكين الذين لا يحصلون على قوت يومهم إلا بشق الأنفس من فوز كهذا؟؟ بل ماذا سيقدم المنتخب المصري ولاعبيه من فوزهم لغالبية الشعب المصري الجائع الفقير).
تلك الكلمات بالفعل جعلت دهشتي تتراجع وتهدأ كثيرا، بل أوقعتني في صمت مدوي بيني وبين نفسي، محاولا الرد علي صديقي السوري أو محاولا شرح وتشريح ما حدث بصورة قد تكون واقعية بعض الشيء فقلت له يا صديقي العزيز: ربما يكون لدي من الإلمام بطبيعة المصريين أكثر مما لديك فدعني أوضح لك، فبحكم مصريتي ونشأتي في مصر وصداقاتي المتعددة للعديد من المصريين من مختلف المحافظات الجنوبية والشمالية، دعني أحيطك علما بأن الشعب المصري في أغلبه لديه الكثير والكثير من الطاقات الإبداعية الخلاقة سواء على المستوي الفردي أو المستوى الجماعي في كافة المجالات، والشعب المصري كذلك لدية فائضاً غزيرا من الشعور بالانتماء للوطن والدين والأمة، والشعب المصري كذلك لدية رصيداً ضخماً من التراث الحضاري بكافة عناصره العلمية والفكرية والدينية والثقافية والاجتماعية والمعمارية، مما ولد لدى الشخصية المصرية الشعور بالعزة والفخر، بل وعزز لديه التطلع اللامحدود نحو التفوق والوقوف في الصفوف الأولى، إلا أن هذا الكم من الطاقات هي طاقات لا يجمعها هدف ذو قيمة، طاقات ضائعة مشوهة مبعثرة وغير منظمة. فما قد رأيته يا صديقي من المصريين أثناء تشجيعهم لفريق كرة القدم، يمكنني أن أقرأ لك من ثناياه العديد من الأمور التي قد تغيب عنك، وأوجزها لك في التالي:
1 - هذه الطاقات الجبارة التي يمتلكها الشعب المصري في غالبيته هي طاقات مكبوتة سجينه بفعل الأنظمة العسكرية الاستبدادية التي حكمت ومازالت تحكم الشعب المصري بالحديد والنار منذ سنين طويلة، وتمنعه من ممارسة أبسط حقوقه الآدمية والتي من المفترض أن يمارسها أي إنسان بشكل طبيعي دون حرمان أو مَن مِن أحد، فالشعب المصري هو شعب محاصر سياسيا واقتصاديا وعلميا وفكريا وثقافيا وصحياً.
2 - الشعب المصري بل والشعوب العربية لم تترك لها الأنظمة الحاكمة متنفسا يستطيعون من خلاله إبراز تلك الطاقات في أي مجال من مجالات الحياة سوى مجال الرياضة وبالتحديد (كرة القدم)، على اعتبار أنها اللعبة الوحيدة الأكثر شعبية في مصر والعالم، فرياضة كرة القدم هي المتنفس الوحيد لهذه الشعوب، فهم من خلالها يشعرون بأن الفوز بمباراة ما، أو ببطولة ما، هو تعبير حقيقي عن إنجاز شعبي خالص لم تمتد إليه يد رسمية، رغم محدودية الإمكانات المادية للانجازات الشعبية، وإلا فهل تستطيع إخباري: أين هي تلك المساحات السياسية أو الاقتصادية أو العلمية أو الفكرية أو الإبداعية المتروكة للشعوب أفرادا وجماعات لإخراج وتنفيس ما بداخلهم من طاقات؟؟ يا صديقي إن الأنظمة العربية الكالحة المعمرة، لم تترك لشعوبها أفرادا وجماعات أية مساحة من الحرية السياسية أو الاقتصادية أو العلمية أو الفكرية لإبراز ما بداخلها من طاقات وإمكانات في شتى المجالات، فالحرية ممنوحة فقط لأفراد الأنظمة ولمن دار في فلكهم ولف لفهم ورقص لهم فوق الحبال. إن الشعوب العربية في اغلبها تتوق إلى تحقيق أي انجاز ذاتي فعلي دون تدخل الحكومات في هذا الإنجاز أو ذاك، لذلك فلا عجب حين نرى هذه الهستيريا وهذا الصخب وتلك الضجة، وذلك الصراخ بفوز المنتخب المصري أو أي منتخب عربي، إن ما نراه وما نسمعه من هياج وبهجة وحفاوة وسفاهة وتفاهة مبالغ فيها، ما هو إلا حرمان وأحزان وآلام سجينة مقهورة داخل نفوس الناس، بل ما هو إلا ردة فعل طبيعية لذلك الجوع الذي تشعر به غالبية الشعوب العربية إلى إثبات الذات، بل هو الحرمان بعينه من تحقيق أي انتصار في أي مجال حتى وان كان تافها. فمتى سجنت طاقات شعب ما من الشعوب أو قيدت حرياته أو حبست وكبتت طاقاته، فلا عجب عندها أن تخرج وتبرز تلك الطاقات في كل ما هو سفيه وتافه وساخر وهستيري وجنوني.
3 – إن الشعب المصري على وجه الخصوص نشأت فيه أجيال وأجيال على الكثير من الأغاني الوطنية المدرة للعاطفة بل المثيرة بشكل مفزع للمشاعر الوطنية الوهمية، نعم الوهمية، فقد نجحت الأنظمة المصرية على اختلاف الأزمان الحديثة، ومن خلال عَرَّاِبي الأنظمة وماسحي أحذيتها، من أهل النخاسة الفنية والدجل الثقافي، ومن خلال العزف على وتر الوطنية الوهمية، وذلك السراب الكبير الغير واضح الملامح الذي أسموه (مصر) من تدجين وترويض مشاعر الشعب المصري وعواطفه بتلك الأغاني البلهاء المسمومة والمسماة بالأغاني الوطنية، وليس أدل على ذلك من الأغنية الشهيرة القديمة الجديدة التي تذاع في كل المناسبات بما فيها المناسبات الرياضية والتي تقول في بعض كلماتها: (منقولش إيه إدتنا مصر ونقول حندي إيه لمصر). مما يعني أننا كمصريين مفروض علينا أن نعطي ولا نأخذ، بل لا نقول أو نسأل ماذا أعطتنا مصر؟ والمصيبة الأكبر في كلمات هذه الأغنية أن المصري نفسه لا يعرف من سيعطي بالضبط، ولا من سيأخذ منه عطاءه، قد يقول قائل: بالطبع سيعطي مصر، نقول حسنا، ولكن من هي مصر بالتحديد؟،،،،، لا أحد يدري.
فحين تنشأ الأجيال وتتربى الأطفال محفورة في ذاكرتهم هذه المعاني الأنانية التأليهية التقديسية للوهم الكبير الذي يسمونه (مصر)، فماذا ننتظر من هذه الأجيال ومن هؤلاء الأطفال حين يشتد عودهم، وهم منقوشة نفوسهم منذ طفولتهم على أحقية العطاء ثم العطاء ثم العطاء للوهم الأكبر (مصر)، ودون انتظار أي مقابل، بل ودون التلفظ بطلب أي مقابل من مصر، فهل يستطيع كاتب كلمات هذه الأغنية (الجريمة) التي ما كتبها إلا شخص سكير أو مريض أو مختل عقليا أو ساذج لا يعي ما يقوله، هل يستطيع هذا المؤلف لتلك الأغنية البلهاء أن يخبرنا من هي مصر التي لا يحق لنا أن نذكر شيئا من عطاياها سواء أعطتنا شيئا أو لم تعطنا؟؟ ومن هي مصر التي من المفترض علينا كمصريين أن نقول فقط ونلتزم فقط بما سنعطيه لها مهما كلفنا هذا العطاء حتى لو بخلت وضنت علينا مصر بعطاياها؟؟، وكيف يسمح في بلد كمصر به الكثير من المثقفين والمتنورين أن تمر عليهم أغنية (وطنية) كهذه، لا تحوي سوى منطق مهترئ، وسذاجة بلهاء، يتقيأها البعض دجلا ونفاقا في ما يسمى بالأغاني الوطنية، ناهيك عن الوهم الكبير والسراب الواسع الذي تحمله كثير من كلمات ومصطلحات الأغاني الوطنية الفضفاضة، والتي تتسع لكل أحد ولكل حدث، فهل يستطيع أحد من مؤلفي الأغاني أو من المغنين والمغنيات أن يحيطنا علما بمن هي (مصر) بالضبط التي يغنوا لها ويتغنوا بها؟؟ هل هي النظام الحاكم؟؟، أم هي كبار المسئولين؟؟، أم هي الراقصون والراقصات، والمومسون والمومسات، والداعرون والداعرات؟؟ أم هي الفنانون والفنانات؟؟ أم هي لصوص البنوك؟؟ أم هي أجهزة الأمن المضطهدة للشعوب، أم هي الصحفيون والكتاب المرتزقة؟؟ أم هي رجال الأعمال الفاسدون الذين يقتاتون ويمتصون دماء المصريين؟؟ أم هي الأغنياء والأثرياء من حيث لم يحتسبوا؟؟ أم هي الذين يتاجرون بقضايا وآلام وعذابات هذا الشعب في الداخل والخارج؟ أم هي الفقراء والجوعى والمرضى والمنكسرون الذين لا يؤبه لهم، وهم الغالبية العظمى من الشعب المصري؟؟ وما أظن مصر حقا إلا هؤلاء.
فعدم تحديد من هي مصر بالضبط يجعل (مصر) ما هي إلا وهم كبير، بل إن عدم تحديد من هي مصر بالضبط، ومن الذي يمثلها حقا، سيجعل من سقط الناس وغثائهم يتصدرون لتمثيل مصر والتحدث باسمها وارتداء ثوبها، بحيث يصبح كل من ينتقد لصاً أو طاغية أو فاسداً أو عاهرة أو فنانا أو فنانة أو مرتزقا أو متاجرا بدماء الناس يصبح خائنا وعميلا يطعن في مصر وشرف مصر وسمعة مصر، فهل رأيت يا صديقي دجلا ولا معقولا أكثر من هذا؟؟، وهل علمت لماذا يصرخ الشعب المصري ويصاب بالهستيريا من أجل فوز منتخبه بمباراة أو ببطولة كروية؟.
4 - ورغم كل هذا يستكثر الملأ الذين استكبروا من أهل مصر ومن لف لفهم على الشعب المسكين أن يحقق انجازا ما، كالانجاز الكروي إلا ويقاسمونه فيه باسم مصر، فيسارعون بنسبة هذا الفوز لأنفسهم، بل ويدعون كذبا ودجلا رعايتهم للمنتخب وللرياضة والرياضيين، ثم ينسبون هذا الانجاز إلى مصر النظام، مصر العاهرون والعاهرات، مصر السارقون والسارقات، مصر الفاسدون والفاسدات، مصر اللصوص.
5 – يا صديقي إن الملأ الذين استكبروا وفسقوا وسرقوا وطغوا وافسدوا من أهل مصر ومن أهل الدول العربية يشجعون الرياضة والرياضيين لأنها لا تمثل لهم أي خطر شعبي على كراسيهم ولا على مناصبهم ولا على أموالهم، ولا على مصادر أرزاقهم، بل ستعود انجازاتها وبطولاتها عليهم هم، لأنهم هم وحدهم من لهم الحق في تمثيل الوطن، وهم وحدهم من لهم الحق في ارتداء ثوب الوطن والوطنية، وهم وحدهم من يملكون الكلمة المسموعة باسم الوطن، وهم وحدهم من يحافظون على سمعة الوطن، إن كانوا قد ابقوا للوطن سمعة أو شرفا أو ابقوا للوطن وطنا. بل إن مثل هذه البطولات والانتصارات يستحسنها الملأ الذين استكبروا كمخدرات ومسكنات للشعوب حتى تفقد الشعوب إحساسها بالزمن بالألم بالمرض بالفقر بالذل بالجوع، ويفقدون مع كل هذا الإحساس بالحياة ليقتاتوا على انتظار الموت.
فألف تحية لمنتخب مصر الفائز ببطولة كأس الأمم الأفريقية، وألف تحية للمثابرين الصابرين العزل من الشعب المصري العظيم. وحين أعلم من هي (مصر) بالضبط، وحين تفوز بأي بطولة سياسية أو اقتصادية أو ثقافية أو علمية أو رياضية حتى ولو في (الوَسَعَايَة) فسوف أرسل لها آلاف التحايا والتبريكات.
• جرائم الإعلام وجنايته على الشعب المصري:
إن الذين يسطون على جميع وسائل الإعلام المصري المرئي والمسموع والمقروء الآن وخاصة الذين يدعون المعارضة هم قلة من المترفين والمنتفعين الذين لم يقفوا في طوابير الخبز يصفعون على قفاهم كل إشراقة شمس كالبسطاء من غالبية الشعب المصري، ولم يفترشوا الأرض في مستشفيات الدرجة العاشرة الحكومية وهم مرضى لعدم وجود أسرة كافية، ولم تلفحهم حرارة الصيف الحارقة ولا زمهرير الشتاء السام كبقية الشعب المصري، لأنهم ينعمون مسترخين تحت أجهزة التكييف، ولا يشربون من مياه النيل الملوثة بمخلفات المصانع والصرف الصحي، لأنهم يشربون المياه المعدنية المعبأة والمصنعة آليا والمعالجة طبياً، ولم يذوقوا مرارة الانتظار في المصالح الحكومية لاستخراج أوراقهم وإنهاء معاملاتهم، ولم يذوقوا مرارة انتظار الفرج أو الوظيفة أو الزوجة أو السكن، ولم يسكنوا المقابر ولم يسكنوا في سكن من غرفة واحدة بها خمسة وستة وسبعة أفراد، لأنهم يعيشون في أرقى الشقق والفيلات والشاليهات في أرقى الأحياء والمنتجعات. ولم يقدموا للبسطاء سوى المقالات والعويل والتشكي والاستنكار والشجب والتنديد، كما يفعل الحكام العرب مع إسرائيل وهي تذبح الأطفال الفلسطينيين الرضع أمام أعينهم.
فبسبب هؤلاء الإعلاميون والصحفيون تم خداع الشعب المصري بالأوهام والأكاذيب والدجل والكذب لعشرات السنين، وبسبب هؤلاء انهار الشعب المصري وانهارت معه قيمه وأخلاقه ومبادئه وانهار معه كل شيء، ودعنا نضع أصبعنا على مكامن الخلل وما أكثرها لعل هذا يصلح ما أفسده الآثمون المنتفعون. إن الحديث عن الإعلام، وما أدراك ما الإعلام، ثم ما أدراك ما الإعلام، فلست أدري عن أي جرائمه أتحدث؟، فقد ارتكب هذا الإعلام جرائم كثيرة في حق الشعب المصري، جرائم يندى لها الجبين، الإعلام المصري على مدى سنين طويلة قام بتلويث فكر المواطن المصري وتلويث عقله ونظره ومبادئه وميوله واتجاهاته، وعمل القائمون عليه على إذابة المواطن المصري وإذابة فكره وشخصيته وكرامته وقيمه وأخلاقه ودينه وأمانته وشرفه وشهامته ورجولته، وأذاب ماضيه وحاضره ومستقبله وقاموا بصب كل ذلك في سبائك الشهرة وأرصدة البنوك وتحول إلى نعيم وترف يمرحون فيه ويرتعون.
إن الإعلام المصري جعل المواطن المصري يستقي أفكاره وقناعاته ومبادئه وميوله الدينية والفكرية والسياسية والقومية والوطنية والإنسانية من بغايا وصعاليك أهل الإعلام والفن والرقص والغناء؟؟، وليس من الكتب والأبحاث والدراسات العلمية، وبسبب الإعلام أصبح الشعب المصري أكثر علما ووعيا بالمشاكل والاضطرابات الجنسية لـ (...) السيدة "إيناس الدغيدي" من علمهم ووعيهم بالمشاكل الصحية والتعليمية والأخلاقية والإنسانية والسياسية والاقتصادية في مصر؟؟، بل إنه في فترة ما قبل ثورة يناير كادت أن تتحول المشكلات والعقد الجنسية للسيدة إيناس الدغيدي إلى مشكلة أمن قومي مصري، وأن تصريحا واحدا للسيدة "روبي" أو السيدة "يسرا" أو السيدة "سمية الخشاب" أو المخرجة "إيناس الدغيدي" أو تصريحا للفنان "عادل إمام" أو تصريحا للاعب الكرة "محمد أبو تريكة" أو تصريحا لأي شخص مهما انحط شأنه أو علا في وسائل الإعلام حول الممارسة الجنسية أو الرغبة الجنسية يحوز على اهتمام الشارع المصري نخبة وشعبا ويشغل باله عشرات المرات من اهتمامه بتصريح لوزير أو لرئيس الوزراء أو لشيخ الأزهر أو حتى لرئيس الجمهورية؟.
عن أي جريمة ارتكبها الإعلام في حق الشعب المصري أتحدث؟؟، أأتحدث عن الرموز المصرية التي كان يسلط الإعلام أضواءه عليها وبكل قوة، لقد جعل الإعلام من أهل الترف والمال والمرضى النفسيين وأدعياء الثقافة والفكر والعلمانية وتجار الدين والبغايا والعاهرات والصعاليك والشواذ واللصوص والفاسدين رموزا لمصر والمصريين، وكان لك أن ترى ذلك بأم عينك في أي حادثة كانت تحدث في مصر، فمن كان يستضيف الإعلام والإعلاميون لكبرى القضايا والحوادث سوى هؤلاء؟؟، وما كان علينا إلا أن ننظر إلى نوعية ضيوف البرامج الحوارية وبرامج (التوك شو) لنرى مدى سفاهة وتفاهة الضيوف والموضوعات التي كانت تعرض في تلك البرامج التي يمتد بثها لساعات ويُنْفَقُ عليها عشرات الآلاف من الجنيهات، ولترى أن تسعة وتسعون بالمائة من الضيوف إما هاربون من مستشفى الأمراض النفسية وإما ثلة من الذين يتاجرون بالثقافة والفكر والعلمانية وآلام وأوجاع الناس وإما تجار الدين وإما ممثلات أو راقصات أو مطربين ومطربات أو مهرجون ومهرجات، ويعمى القائمون على هذه البرامج وتتعامى بصائرهم عمدا عن استضافة المفكرين والفلاسفة والعلماء والأدباء والشرفاء الذين تعج بهم مصر ولا يسمع بهم ولا يراهم من أحد إلا حين ينعون بسطرين في زاوية من زوايا إحدى الجرائد حين يموتون، وإن تم استضافة أحدهم أو تم ذكره يكون على استحياء، وكأن مصر قد أصبحت عاقرا عن إنجاب العظماء والشرفاء والفلاسفة والمفكرين الذين أفنوا أعمارهم في البحث والدراسة لرفعة شأن هذا البلد وشأن ساكنيه. ولم يبق لشعبها من يحلل له قضاياه وهمومه وحوادثه سوى هؤلاء؟؟.
هل أتحدث عن جرائم الإعلام في اختزاله لمصر بتاريخها وحضارتها الضاربة في أعماق الزمان في تافه سفيه أو تافهة سفيهة أو فنان أو فنانة أو راقصة أو صعلوك أو لاعب كرة أو مباراة كرة قدم أو فيلم سينمائي أو مسلسل تليفزيوني؟؟. وهل نعلم كيف كان يتلاعب الإعلام ومازال بالأقباط وكيف يزايد على قضاياهم؟؟، وهل نعلم كيف كان القائمون على الإعلام المرئي والمسموع والمقروء يلاحقون ويضطهدون كل من يتجرأ ويتحدث عن القيم والأخلاق الدينية والإنسانية التي انمحت وسقطت من حساباتهم فيصفونه ويتهمونه بأنه (إخواني أو سلفي)، وكأن الأخوان والسلفيون هم المتحدثون الرسميون باسم القيم والأخلاق، وكأن الحديث عن القيم والأخلاق الدينية والإنسانية سُبَّة إخوانية سلفية ووصمة عار تلاحق كل من ينادي بها. وهل نعلم أنه كان من جرائم الإعلام تدجين فكر وعقل وثقافة الشعب المصري عامة وتدجين فكر وعقل وثقافة نُخَبِهِ المثقفة خاصة؟؟، حتى أنه استطاع بآلته الجهنمية ودهاء شياطينه أن يٌجْلِسَ النخبة المثقفة والصفوة في رحاب الباطل، ليدافعوا عن الحق، وأنى يفلح لهم دفاع.
أأتحدث عن الوطنية الزائفة التي كان وما زال يروج لها الإعلام والإعلاميون والأغنياء وأصحاب الجاه والسلطان والفنانون والمترفون والمنتفعون ليل نهار؟؟، إن الوطنية الزائفة المخادعة التي كانت منتشرة في مصر جعلت من مصر وطناً: (مُقَدَّس التراب مُهَان الإنسان)، الوطنية الزائفة هي التي يتغنى بها المترفون الفاسدون المفسدون ليل نهار عن الطقس والمناخ في مصر، عن الأحجار والجدران والتراب في مصر، عن البحار والأنهار في مصر، عن الماء والهواء (الملوثان) في مصر، عن الموقع الجغرافي والآثار في مصر، عن الأساطير والأوهام والأزمان الغابرة في مصر، ويتعامى المترفون الفاسدون عمدا ويتغافلون عن المواطن المصري الذي هو الإنسان، الإنسان الذي هو أهم وأقدس من كل تلك الأشياء مجتمعة، لقد أسقطوا الإنسان المصري من حساباتهم وأسقطوا معه أخلاقه وقيمه وقيمته وكرامته وقدسيته وحاجاته كآدمي يحق له أن يحيا حياة كريمة على أرض هذا الوطن (مقدس التراب مهان الإنسان). فهل يستطيع أحد أن يخبرني ماذا تكون مصر من دون الإنسان المصري؟؟، ماذا تكون مصر حتى ولو كانت جنات تجري من تحتها الأنهار وأهلها فقراء مرضى جوعى جاهلون خائفون مقهورون مظلومون مهانون لا قيمة لهم ولا كينونة ولا كرامة؟؟، هل يستطيع أحد أن يخبرني كيف تكون الوطنية؟، والمواطن كل إشراقة شمس يقف في طابور الخبز وطابور الغاز وطابور المؤسسات الحكومية لساعات طويلة يصفع على قفاه ويهان من أجل الحصول على بضع لقيمات أو جرة غاز أو تخليص أوراقه، ثم في المساء يجلس أمام التلفاز ليطالبه الإعلاميون المترفون بحب مصر والولاء لها والدفاع عنها.
لقد أفقد الإعلام الشعب المصري التمييز والذوق وأفقده الفرقان، فلم يعد يرى من فرقان يذكر بين الصدق والكذب، بين الحق والباطل، بين الصالح والطالح، بين الغث والثمين، بين الطيب والخبيث، فما الفرق بين صوت عبد الحليم حافظ وصوت عمرو دياب؟، لا فرق، وما الفرق بين صوت روبي وصوت أم كلثوم؟، لا فرق، وما الفرق بين صوت فريد الأطرش وصوت مصطفى قمر؟، لا فرق، وما الفرق بين عمرو خالد وشعبان عبد الرحيم؟، لا فرق، فكلاهما مطرب شعبي وكلٌ على طريقته يغني، وما الفرق بين شيخ الأزهر والبابا شنودة؟، لا فرق، فكلاهما يزايد على دين الآخر، وما الفرق بين الدكتور عبد الوهاب المسيري وسيد القمني؟، لا فرق، الأول فيلسوف عظيم مات مريضا لم تُلْقِ الدولة بالا لعلاجه، والثاني (مفكر عربجي) حاز على جائزة الدولة التقديرية، وما الفرق بين الفنان عبد العزيز مخيون وبين اللمبي؟، لا فرق، وما الفرق بين الدكتور مصطفى محمود الذي عاش وحيدا غريبا ومات وحيدا غريبا في وطنه لا أحد يأبه له ونجمة البرامج الفضائية المخرجة اللامعة إيناس الدغيدي؟، لا فرق، وما الفرق بين جماعة الإخوان المسلمون والطرق الصوفية؟؟، لا فرق، فكلاهما دراويش ولكن كلٌ على طريقته، وما الفرق بين الدكتور خالد الجندي والفنان عادل إمام؟؟، لا فرق، فكلاهما كومديانان ولكن كلٌ على طريقته، فقد اختلط كل شيء بكل شيء، وعميت في عيوننا الأشياء وأظلمت. فلا تمييز ولا ذوق ولا فرقان، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً) (29_ الأنفال).
لقد خدع المترفون والفاسدون الشعب المصري على مدى سنين طويلة بشعارات جوفاء وسمات كاذبة وسموا بها الشعب المصري، خدعوه ليخدروه ويستغفلوه بها ومن ثم ينقضون على لقمة عيشه وعلى حقوقه في هذا البلد، لينهبوه ويسرقوه وهو مخدوع قابع غافل غارق في غيابت سكره وغفلته، لقد خدعوه واستغفلوه وضحكوا عليه بقولهم: (الشعب المصري شعب متدين)، (الشعب المصري شعب عاطفي)، (الشعب المصري دمه خفيف وابن نكتة)، (الشعب المصري شعب طيب)، (الشعب المصري شعب فهلوي يسلك في الحديد).
أي تدين هذا الذي يخدعون به الشعب المصري وأنه شعب متدين؟؟، وأي دين شيطاني هذا الذي يدين به الشعب المصري، أي دين هذا الذي يجعل الراقصة والمومس تقرأ سورة الفاتحة وأدعية سعة الرزق قبل أن تتعرى أمام الناس لتبيع للناظرين مفاتن ثدييها وأفخاذها وأردافها وهي توقن في مكنون ذاتها أن ما تقوم به من عمل حرام حرام حرام؟؟، أي دين شيطاني يتدين به الشعب المصري وأنت تجد كل من تاجر المخدرات والزاني والسارق والقواد والقاتل والخائن والمحتال والكذاب والجلاد والظالم والطاغية من أحرص الناس على أداء الصلاة في أوقاتها، ومن أحرص الناس على أداء فريضة الحج وفريضة الصوم والإكثار من تلاوة القرآن وذكر الله في الليل والنهار، والمسبحة لا تفارق أيديهم، ونساؤهم حريصات كل الحرص على ارتداء الحجاب والنقاب،؟؟، أي دين شيطاني يدين به الشعب المصري ولكل طائفة من طوائف الشعب المصري دين مزاجي انتقائي يتفق وهواها، يحلون فيه ما يشاءون ويحرمون فيه ما يشاءون، فالنظام الحاكم له دينه، والأزهر له دينه، والسلفيون لهم دينهم، والصوفيون لهم دينهم، والإخوان لهم دينهم، والفنانون والفنانات لهم دينهم، ورجال الأعمال لهم دينهم، والتجار والباعة لهم دينهم، والحرفيون لهم دينهم، والصحفيون والعلمانيون والمثقفون لهم دينهم، والأميون والعامة لهم دينهم؟؟، والعامل المشترك الأوحد بين كل تلك الأديان المصرية بامتياز هو فقدان الأخلاق وانعدام الإنسانية واهتراء القيم.
وأي عاطفة تلك التي يصفون بها الشعب المصري ويخدعونه بأنه شعب عاطفي؟، إن العاطفة التي يصفون بها الشعب المصري ويخدعونه ويستغفلونه بها ما هي إلا الحمق والغباء والمزاجية والهوجائية والانفعالية والاندفاع الأعمى وراء الغرائز والمشاعر العمياء التي لا تنم إلا عن خواء الشعب المصري من أي ثقل أو عقل ومن أي علم أو فكر أو حكمة. وأي طيبة تلك التي يصفون بها الشعب المصري ويخدعونه بأنه شعب طيب؟؟، فما الطيبة المزعومة تلك سوى السلبية والانكسار والاستجداء والذل والضعف والهوان والاستكانة والمهانة والخنوع والخوف والجبن. وأي خفة دم وأي نكتة تلك التي يصفون بها الشعب المصري ويخدعونه بأنه دمه خفيف وابن نكتة؟؟، إنها الحياة بلا هدف والسخرية من كل شيء والاستهانة بكل شيء، السخرية التي لم تترك في قلوبهم قدسية لشيء ولم ترع حرمة لشيء ولم تر ثمنا لشيء. وأي فهلوة وأي سلكان في الحديد ذلك الذي يصفون به الشعب المصري وأنه شعب فهلوي يسلك في الحديد؟؟، إنه النصب والاحتيال والادعاء والكذب والنفاق والتسلق والتملق والفساد القيمي والأخلاقي والإنساني الذي استشرى في رأس وجسد الشعب المصري.
• جرائم الفن وجنايته على الشعب المصري:
لكل فئة مجتمعية في أي بقعة من بقاع الأرض داخل الجماعة (الأم) ثقافتها ومفرداتها وفكرها ومعتقداتها وأساليبها وقانونها الخاص، ففئة الصحفيين مثلا لها ثقافتها ومفرداتها وفكرها ومعتقداتها وأساليبها وقانونها، وكذلك فئة الأطباء، وكذلك فئة القضاة، وكذلك فئة السياسيين، وكذلك فئة رجال الدين، وغيرها من الفئات المجتمعية الأخرى، ولكل فئة مجتمعية لونها وطقوسها ومصطلحاتها الخاصة التي تميزها عن بقية الفئات المجتمعية الأخرى داخل الجماعة (الأم)، ورواد بيت الدعارة في مصر والعاملين فيه والقائمين عليه هم كذلك فئة مجتمعية من الفئات التي تتكون منها الجماعة (الأم).
لقد كشفت كثير من الأفلام السينمائية المصرية التي تم إنتاجها منذ الثلاثينات من القرن الماضي وحتى الآن عن سمات وثقافة هذه الفئة، وأوضحت بجلاء قاموس هذه الفئة ومفرداتها وبنيتها الفكرية والثقافية والقيمية والأخلاقية. بل وألقت الضوء على جانب هام وخطير تتميز به فئة أهل الدعارة في مصر، ألا وهو الخلط أو المزج الفكري والسلوكي الفج بين ما هو طاهر وما هو نجس، بين ما هو برئ وما هو مشبوه، بين ما هو حق وما هو باطل، بين ما هو خير وما هو شر، هذا الخلط أو المزج هو ما يميز أهل الدعارة في مصر عن أهل الدعارة في أي مكان آخر من أرض الله، فالدعارة في كثير من بلدان العالم هي مهنة مقننة مشروعة لها ضوابطها وقوانينها وتراخيصها وجديتها ووضوحها وصراحتها، وتمارس في وضح النهار والشمس ساطعة، أما في مصر وكل الدول العربية فالدعارة عمل فاضح ومحرم ومجرم وغير شرعي ولا قانوني، وفي الوقت ذاته تمارسه جميع فئات المجتمعات العربية وخاصة المجتمع المصري بشكل منافق ملتوٍ غائم وقح، في الخفاء والعلن، متسترة بلافتات وشعارات تبريرية عصية على العد أو الحصر.
من الملامح الفكرية والقيمية لرواد بيت الدعارة في مصر هي تلك الازدواجية وذلك التناقض الصارخ الفاضح في معتقدات وأفكار وسلوكيات ومفردات هذه الفئة، من تلك الملامح أن كثيرا من رواد بيت الدعارة والعاملين فيه والقائمين عليه يؤدون الصلوات الخمس بانتظام، ويصومون شهر رمضان، ويتلون القرآن الكريم، ويتلون بعض الأذكار النبوية، ويكثرون من الصدقة على الفقراء والمساكين، ويعينون المحتاج، ويتبرعون بأموال كثيرة للمستشفيات والجمعيات الخيرية وبناء المساجد، وفي الوقت نفسه يعتقدون بحرمة الدعارة ويلعنونها ويلعنون كل من يتعاطاها، ويتأففون ويتعففون عن ذكرها في العلن أو الحديث فيها جهرة، بل لقد حصر المصريون والعرب الدعارة في الفتيات والنساء اللائي يعملن كراقصات فيديو كليب، أو فيمن يعملن في الملاهي الليلية، أو فيمن يعملن في البغاء وممارسة الجنس مقابل المال فحسب، وتغافلوا تماما عن أن الدعارة والعهر الحقيقيان هما في الأصل ثقافة وفكر قبل أن يكونا سلوكا وأفعالا، فالدعارة أو العهر يظهران ابتداءً كفكرة تنبت في رأس الإنسان، رجلا كان أو امرأة، ثم تترجم تلك الفكرة إلى واقع حقيقي يمارس على الأرض. وقد تكون تلك الفكرة سياسية أو اقتصادية أو ثقافية أو فكرية أو إعلامية أو دينية أو جنسية، ويخطئ من ظن أن الدعارة والعهر لا يمارسان إلا بأجساد النساء فحسب،
وليس أدل على ذلك وأكثر برهانا من أحد رجال الأعمال المعروفين صاحب قناة فضائية خاصة، هذا الرجل الذي جمع ثروته الطائلة في ظل نظام الرئيس مبارك وبعلمه ومباركته، هذا الرجل منذ اليوم الأول لاندلاع ثورة 25 يناير وهو قابع في استديوهات القناة لمدة ثمانية أيام ولم يذهب إلى بيته ولو لساعة واحدة _كما صرح هو بنفسه في أحد برامج القناة مساء يوم الجمعة 4 فبراير 2011م، لحشد كل جنوده وشياطينه للتشويش على الثورة وتشويه أبطالها الأطهار، فقام باستدعاء أشر خلق الله وأدناهم نفسا وأحطهم خلقا وأخسهم كرامة، وظلت قناة المحور على مدار الساعة تقدم قصصا وهمية وحكايات زائفة يرويها من استؤجروا من الشباب والشابات للظهور في كل البرامج ليقسموا بالله جهد أيمانهم أنهم كانوا أعضاء في ثورة 25 يناير وتركوها بعدما تيقنوا أن هؤلاء الشباب الذين قاموا بالثورة والمتواجدين في ميدان التحرير هم عملاء لشبكات تجسس يهودية غربية دفعت بهم لقلب نظام الحكم في مصر وأعطتهم مبالغ مالية كبيرة مقابل فعلهم هذا، إلا أن المفارقة الغريبة والمدهشة على الأقل ليس لي، أن هذا الرجل من مريدي الشيخ (محمد متولي الشعراوي) وقد تتلمذ على يديه دينيا لسنوات طويلة وكان من أهم وأقرب أتباعه ومرافقيه كما هو معروف لجميع الناس وكما صرح هو في كثير من البرامج وفي كثير من المناسبات على سبيل الفخر والاعتزاز بهذه التبعية وهذه التلمذة على يد الشيخ الشعراوي.
ومن النماذج التي ألقت الأفلام المصرية عليها كثيرا من الضوء أن العاهرة تمارس الدعارة مع اعتقادها اليقيني بأن ما تفعله حرام، إلا أنها تبرر ذلك بالفقر والحاجة وأنها تنفق على إخوتها الصغار لفقدان عائل للأسرة، أو أنها تمتهن هذه المهنة لتتمكن من الإنفاق على علاج أحد أبويها، وغيرها من المبررات التي تحاول أن تمزج بين النقيضين والمتضادين والمتنافرين بصورة تدعو الجماهير الساذجة لتقبلها واستساغتها بل والتعاطف معها شعوريا، وهل أتاك حديث الراقصة التي صرحت ذات مرة أنها تقرأ سورة الفاتحة وآية الكرسي وأدعية سعة الرزق قبل أن تتعرى أمام الناس لتبيع للناظرين مفاتن ثدييها وأفخاذها وأردافها وهي توقن في مكنون ذاتها أن ما تقوم به من عمل حرام حرام حرام، هذا وناهيك عن أن الدخول إلى بيت الدعارة والاختلاط برواده والعاملين فيه والقائمين عليه يجعلك ترى فصول السنة الأربعة (الشتاء والصيف والخريف والربيع) في ساعة واحدة، فضلا عن أن بيت الدعارة له مفعول كمفعول أقوى أنواع المنظفات لتنظيف رواده والعاملين فيه والقائمين عليه من أي معنى لقيمة آدمية نقية أو خلق إنساني جاد.
هذه الثقافة الداعرة وهذا الفكر العاهر بخصوصيته ونكهته الفنية المصرية نجحت الأفلام المصرية على مدار عشرات السنين أن تطبع به قطاعات عريضة من الشعب المصري، حتى أثرت تأثيرا كبيرا في تشكيل وعيه وفكره وثقافته وسلوكياته، حتى وإن لم يمارسوا الدعارة بصورتها الفعلية التقليدية، وبالتالي يستطيع أي أحد أن يلحظ بكل وضوح وجلاء هذه الثقافة وهذا الفكر في سلوكيات الإعلاميين والمثقفين والمفكرين المصريين، وكذلك يستطيع أي أحد ملاحظتها بصورة جلية في كثير من السياسيين والمعارضين، وكذلك في كثير من الفنانين والفنانات المصريين، وكذلك في كثير من أعضاء البرلمان، وفي كثير من الموظفين الحكوميين، وفي قطاعات كبيرة من عوام الشعب المصري، بل وطالت حتى كثيرا من التيارات الدينية ذاتها، فما أن تشاهد أو تنصت لحديث أي إعلامي أو إعلامية، أو أي مذيع أو مذيعة، أو أي صحفي أو صحفية، أو أي سياسي أو سياسية، أو أي مفكر أو مفكرة، أو أي معارض أو معارضة وخاصة في هذه الأيام إلا وتشعر كأنك تشاهد وتنصت لحديث قواد أو عاهرة يعملان في ملهى ليلي، إلا من رحم ربك وقليل ما هم، فلقد عمل الرئيس مبارك ومعاونيه وأركان حزبه وتابعيه على مدى ثلاثين عاما بكل قوة وإصرار وترصد على ترسيخ وتجذير هذه الثقافة وهذا الفكر في نفوس قطاعات عريضة من الشعب المصري، حتى تحولت مصر في عهد الرئيس مبارك إلى بيت دعارة كبير في صورة وطن.
فالناس في مصر الآن ليسوا في حاجة إلى تداول السلطة ولا إلى الديمقراطية ولا إلى حرية الممارسة السياسة وليسوا في حاجة إلى المال ولا إلى الطعام ولا الدواء، بقدر ما الناس في مصر الآن يحتاجون أول ما يحتاجون إلى بناء الإنسان من جديد، الإنسان الذي تصدع وتمزق وتشقق وتساقط في داخلهم، فعمارة الأوطان تبدأ ببناء الإنسان قبل توفير الطعام، وعلينا أن نبدأ أول ما نبدأ بترميم الإنسان، علينا أن نتعلم أن الإنسان أهم الأشياء وأقدسها وأكرمها وأفضلها، علينا أن نتعلم أن نحترم القانون، ونرد له قدسيته المسلوبة، وهيبته الضائعة، ونقف جميعا في ساحته سواسية، علينا أن نتعلم أن نعترف بأخطائنا، وأن نعتذر إذا أخطئنا، وأن نعفو إذا قدرنا، وأن نعامل الإنسان من حيث هو إنسان لا من حيث دينه أو جنسه أو ثرائه أو حسبه ونسبه، وعلينا أن نتعلم ثقافة العقاب لمن أخطأ، وأن نسند الأمر إلى أهله، وأن نتقدم بالاستقالة إذا لم نكن أهلا لما نعمل، وعلينا أن نتعلم الصدق والأمانة والعدل والحق والقسط، وأن ننبت فينا بقايا بذور الإنسان، وأن نبني بداخلنا صرحا من أخلاق به نحتمي وإليه ننيب. فالناس في مصر ظمأى لرشفة من عدالة، وصاع من كرامة، وقبس من علم، وقسط من أمن، وحزم في لين، وإيمان بيقين.
ولن يحدث هذا إلا بالعلم والتعليم، وأن الجنيه الذي سننفقه على التعليم والبحث العلمي سيعود على البلاد والعباد بمئات وألوف الجنيهات، وقبل ذلك كله علينا أن نرفع من شأن العلم الذي تهاوى شأنه في قلوب الناس، فالعلم يحيي الموتى، ويتقدم بالشعوب، ويرقي بالأمم، فلو بنينا لكل مصري بيتا من ذهب أو جعلنا لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون، فلن يغنيهم ذلك عن الأخلاق والعلم والتعليم شيئا، ولنا في دول الخليج مثلا، فشعوب الخليج يعدون من أكثر دول العالم ثراء وترفا ورفاهية ولكن هل أغناهم ذلك عن العلم والتعليم شيئا؟؟، الشعب المصري شعب خلاق ومبدع لو وجد وعيا بحق وفكرا بحق وعلما بحق وإعلاما بحق يأخذ بيديه ويدفعه نحو صنع المعجزات.
• الطائفية الدينية خنجر في خاصرة مصر:
لقد سبق وأن نشرت في جريدة (روزاليوسف) ملفا مطولا حول الفتنة الطائفية عقب أحداث كنيسة القديسين بالإسكندرية قبل قيام ثورة 25 يناير، وجاء الملف في 16 مقال تناولت فيه رصدا كاملا لأسباب وطبيعة الشحن الطائفي بين المسلمين والمسيحيين، ورصدت يومها التناول الخاطئ من قبل الإعلام والمثقفين ورجال الدين والحكومة لهذا الملف الخطير، وقد حذرت وأنذرت بأن هذا الملف إن لم يعالج بطريقة علمية صحيحة تتناول البذور الحقيقية للمشكلة وعرضها على الجمهور في صراحة ووضوح سيظل هذا الملف خنجرا مغروسا في خاصرة مصر ليعوقها عن التقدم والازدهار في أي شيء. إن الفتنة الطائفية بين المسلمين والمسيحيين لو استمرت هكذا دون معالجة حقيقية سوف تظل سيفا مسلطا على رقاب المصريين جميعا، وسوف تتحول الفتنة الطائفية إلى (عصا موسى) وسيستخدمها أي نظام حكم قادم، أو أي رئيس قادم كذريعة للاستبداد بالحكم وقمع الحريات والعودة بنا مرة أخرى إلى ما يشبه حكم الرئيس مبارك، تحت شعار الحفاظ الوحدة الوطنية وأمن البلاد، وأقول وأكرر إن هذا الملف لو ظل هكذا جرحا مفتوحا ولم نسارع إلى علاجه علاجا حقيقيا فسيجد فيه أي رئيس قادم لمصر ما يغريه ليتحول إلى دكتاتور حتى لو جاء لمنصب الرئاسة المهاتما غاندي أو نيلسون مانديلا.
إنه لمن المستغرب أننا في هذه الأيام نكثر من الحديث عن تغيير القوانين وتغيير المواد الدستورية وفي الوقت ذاته نتناسى ونتغافل أن لدى قطاعات عريضة من الشعب المصري من المفاهيم الدينية الخاطئة والمغلوطة ما قد تتعارض مع القوانين ومواد الدستور الحالية والمزمع وضعها، ودائما ما ننسى ونتغافل أن قطاعات عريضة من الشعب المصري يقدسون من المفاهيم والأفكار التي يعتقدون أنها من الدين ويتبعونها حتى ولو كانوا غير ملتزمين بالدين ويقدمونها على كل القوانين وكل المبادئ الدستورية، لذلك يجب أن يكون اهتمامنا بإصلاح المفاهيم المغلوطة حول الدين بنفس القدر من الاهتمام بسن القوانين الجديدة والمبادئ الدستورية الجديدة؟ حتى لا يصطدم الناس بما لديهم من مفاهيم دينية وما يحكمهم من مبادئ ومواد قانونية ودستورية، فعدم الاهتمام بإصلاح المفاهيم الدينية الخاطئة سوف يؤدي إلى تجاهل الناس للقانون بل والتحايل عليه ومن ثم تجاوزه. وهناك كثير من المعتقدات الدينية والتشريعات الدينية التي تم فهمها بطريقة أو بأخرى لبعض النصوص القرآنية التي تتعلق باليهود والنصارى والتي كان لها الأثر الكبير في إشعال الطائفية الدينية بين المسلمين والمسيحيين، هذه النصوص في حقيقتها لا تحمل أية إساءة للمسحيين لو تم فهمها بشكل صحيح وإعادة قراءتها من جديد ومن ثم عرضها على الجمهور لتغيير تلك المعتقدات القديمة المعادية بشكل صريح لليهود والنصارى. من هنا يكون الإصلاح ومن هنا يأتي الاستقرار والتعايش وإلا فالديكتاتورية هي الحل.
• شهادة حق (1):
هذه هي شهادة لله والتاريخ على جذور الصراع الطائفي بين المسيحيين والمسلمين في مصر، وتتلخص جذور هذا الصراع في أن المسيحيين يرون المسلمين غزاة احتلوا مصر ونهبوا خيراتها وتسلطوا على أهلها الحقيقيين، وأعتقد أننا لم ننس التصريحات التي أدلى بها "الأنبا بيشوي" الرجل الثاني في الكنيسة بعد "البابا شنودة" التي ذكر فيها أن المسيحيين هم أصل مصر وهم أصحابها الأصليون، وأن المسلمين هم مجرد ضيوف عليها، ولمن لا يعرف أن هذا الموضوع هو عقيدة أشبه بالعقيدة الدينية لدى المسيحيين المصريين جميعا تتساوى في ثباتها ورسوخها مع عقيدة التثليث والتجسد، ولا ينكرها إلا كذاب دجال منافق، وأقدم للقارئ دليلا صغيرا آخر من آلاف الأدلة على هذا، كتب المهندس "أسعد أسعد" المقيم في الولايات المتحدة الأمريكية وهو أحد أقباط المهجر مقالا بعنوان: "نهرو طنطاوي يصيب قلب الحقيقة الإسلامية المفجعة" ونشره على عدد من المواقع الإلكترونية، ويستطيع القارئ العثور عليه عن طريق محركات البحث على الإنترنت من خلال عنوان المقال، وقد جاء فيه ما يلي:
(أغلب المسلمين - إن لم يكن كلهم - يدّعون إن المصريين ما أن رأوا عمرو إبن العاص وما أن قال لهم إدخلوا في الإسلام (هل ترجم عمرو آيات القرآن إلي القبطية) حتي دخلوا في دين الله أفواجا مهللين مكبرين ... ولتسقط و لتهلك كتب التاريخ التي تصف معارك عمرو إبن العاص في مصر وحروبه مع المصريين وما فعل بهم وما نهب من أموالهم ليرسل إلي الخليفة عمر إبن الخطاب في المدينة بجزيرة العرب قافلة أولها بالمدينة وآخرها مازال يشحن بمصر وذلك إخرابا لمصر في عمار المدينة... لقد فتح أخي نهرو بابا شيقا للبحث في ميكانيكية نقل الدين والعلاقة بين التعريب والإسلام ... وهل الإسلام الإنجليزي أو الفرنسي مساو للإسلام العربي... بل والأهم هل الإسلام المصري هو إسلام قرآني عربي أم هو إسلام عروبي مبني علي الخضوع والخنوع لعرب الجزيرة العربية لدرجة رفض الأصول المصرية الفرعونية والتمسك والتشبه بأسيادنا وأولياء نعمتنا المحسنين إلينا بالبترودولار ... هل الإسلام في مصر دين أم هو خضوع وذل أنفسنا لسيدنا عمر إبن الخطاب وولي نعمتنا عمرو إبن العاص رضي الله عنه ...مهما كانت النصوص القرآنية ... فلا أحد يعي ولا أحد يفهم... المهم أن يسلم ويستسلم ويسير مع القطيع في ركاب العروبة ... رفض الحضارة و التاريخ ... رفض التقدم والمدنية والتمسك بالحجاب والجلباب ودخول المرحاض ورفض الأكل بأدوات المائدة بل اليد اليمني والأصابع الثلاث ... ودخول الحمام والثلاث حجرات ... السلام علي الكافر حرام ... وكل من لا يكفر الكافر فهو كافر ... هذا هو الفقه وهذا هو الدين الممكن أن ينتشر بأي لغة ... مع ما ملكت أيمانكم ... والجهاد لضمان الحوريات و أنهار الخمر واللبن والعسل والولدان المخلدين ... وهذا لا يحتاج إلي العربية ولا أي لغة أخري ... من أفغانستان إلي المغرب .... يا أخي نهرو ... من قال لك إن الإسلام الذي جاء به إلينا عمرو إبن العاص هو بحث وإجتهاد في معرفة الله وممارسة علاقة حية مباشرة معه ... من قال لك إن الإسلام الذي فرضه خالد إبن الوليد سيف الله المسلول هو تأمل في الله وحبه وعشقه وحب خليقته .... من هم رموز الإسلام ... خالد إبن الوليد ... طلحة والزبير وعقبة وغيرهم من السفاحين ومجرمي الحرب ... والإسلام هو أن تقبل هؤلاء وتتشبه بهم في الجهاد لتنال الشهادة وتدخل الجنة ... وأن تترك وترفض بطرس ويعقوب ويوحنا ومرقس وبولس الذين ماتوا من أجل المسيح ... لأن كلهم مزورين وكذابين ونصابين ومخادعين ... لأن كلهم رفعوا الكتب ولم يرفعوا الأصدق أنباء من الكتب... ولم يأخذوا إمرة الأرض إغتصابا ... بل روت دماءهم الأرض حبا و تضحية و خضابا) انتهى بعض ما جاء في مقال المهندس أسعد أسعد.
وبدوري قمت بالرد عليه في مقال بعنوان: "اقتراحات جادة وعملية للأستاذ أسعد أسعد" وجاء في ردي عليه ما يلي:
أنا أرى يا أستاذ أسعد من وجهة نظري وقد أكون مخطئا والله أعلم، أن كل هذا البغض غير المبرر الذي تكنه للغة العربية سببه ليس صعوبة اللغة العربية أو اللغة العربية ذاتها كلغة كما تدعي، إنما سببه هو أن اللغة العربية هي اللغة الوحيدة التي حمل قرآنها الكريم نقدا ونقضا لعقيدة التجسد والتثليث والصلب، لكن لا تنسى كذلك يا أستاذ أسعد أن القرآن العربي الذي تصب عليه جام غضبك هو الوثيقة الوحيدة المحايدة التي تثبت براءة ابنة عمران (ام إلهك) مما اتهمها به اليهود ولا يزالوا.
أما عن اقتراحاتي لك في حل مشكلتك ومعاناتك من إخوانك المصريين الذين اعتنقوا الإسلام بالسيف والقهر على يد العرب الغزاة الذين اضطهدوا الأقباط وأجبروهم على اعتناق الإسلام كما تقول، مع أن أخأك القمص (ذكريا بطرس) له رأي آخر أورده في كتابه: (تاريخ انشقاق الكنائس) قال فيه: (كان نتيجة لهذا الانشقاق أن اضطهد قياصرة القسطنطينية الكنيسة المصرية وذلك لأن أولئك الأباطرة كان من مصلحتهم أن لا يكون هناك انشقاق في إمبراطوريتهم ولذلك حاولوا بشتى الطرق أن يثنوا الكنيسة المصرية عن إيمانها ولكن باءت محاولتها بالفشل وأخيرا أرسل أولئك الأباطرة بطاركة من قبلهم إلى الإسكندرية ليحلوا محل البطاركة الأقباط وعرف أولئك البطاركة المعينين من قبل الملك بالبطاركة "الملكيين" وطبيعي كانوا من أنصار مجمع خلقيدونية). ثم يتابع القمص ذكريا بطرس كلامه قائلا :(وبهذا أصبح في مصر بطريركان أحدهما يختاره الأرثوذكس الأقباط والآخر يرسله القيصر ليكون بطريركا للملكيين. وكان الأقباط يرسمون بطريركهم سراُ وكان لا يسمح لهم بدخول الإسكندرية. وظل الحال على هذا الوضع حتى دخول العرب "المسلمون" مصر. وتخلص الأقباط من سلطة الرومان وبطاركة الروم الملكيين). انتهى كلام القمص ذكريا بطرس.
لذلك أقول: خذ كلامي بجدية وصدق، ويعلم الله أنني لا أسخر منك ولا أهزأ بك معاذ الله وحاشا لله، فدعك من العربان والجراد والغزو والغزاة، ودعك من بن العاص وبن الوليد وبن الخطاب، فهذا تاريخ قد مضى عليه قرون طويلة، والبكاء على اللبن المسكوب لن يفيدك بشيء، فدعنا نكون عمليين ونعالج المشكلة اليوم، الآن، أنت الآن تعاني من إخوانك المسلمين المصريين وتنظر إليهم كمحتلين لبلدك وأحفاد للعرب الغزاة الذين جردوك من حقوقك كمواطن مصري أصلي من المواطنين الأصليين لهذا البلد، كما ترى ويرى كثير من المصريين المسيحيين ذلك، لكن الواقع يقول أن لديك في مصر الآن عشرات الملايين من المسلمين، لا ندري هل أصولهم تعود للعرب الغزاة، أم تعود للمصريين الأقباط الذين اعتنقوا الإسلام؟، أجيبك، إنه مع التقدم العلمي الآن يمكنك بكل سهولة ويسر من خلال فحص الحمض النووي للمسلمين المصريين أن تعرف المسلم العربي الغازي من المسلم القبطي، فإن أثبتت فحوصات الحامض النووي أن المسلمين المصريين أصولهم عربية جرادية، فما عليك إلا أن تستخدم ابتداء كافة الأساليب الحوارية والإقناعية لإقناعهم بأن يحزموا أمتعتهم في هدوء ويحملوها على ظهورهم ويرحلوا من مصر ويعودوا إلى بلدانهم الأصلية التي جاؤوا منها، وإن لم يستجيبوا، ولم تفلح معهم محاولات الحوار الهادئ والإقناع، فأنت حسب علمي تقيم في الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتأكيد مجلس الأمن الدولي على مقربة منك، فما عليك سوى إعداد ملف كامل شامل حول هذه القضية متضمنا نتائج فحوص الحامض النووي لعشرات الملايين المسلمين أحفاد العرب الغزاة (المسلمون المصريون سابقا)، وأؤكد لك أن مجلس الأمن إن اقتنع بعدالة قضيتك، ورأى في ذلك مصلحة وفائدة للغرب، فأنا واثق بأنه سوف يستخدم كافة صلاحياته ومواده وفصوله وخاصة الفصل السابع من الميثاق الذي يبيح استخدام القوة العسكرية لتنفيذ قراراته، وسوف يقوم بحشد قوات وجيوش المجتمع الدولي لطرد المسلمين أحفاد العرب الغزاة من مصر وإعادتهم إلى أوطانهم الأصلية لتعود مصر كاملة إليك يا عم أسعد، وتغني ساعتها أنت والبابا شنودة والأنبا بيشوي وتقولوا: (مصر رجعت كاملة لينا، مصر اليوم في عيد).
أما إن كشفت فحوصات الحامض النووي عن أن المسلمين المصريين هم من الأقباط الذين اعتنقوا الإسلام، فما عليك سوى محاولات إقناعهم بالتي هي أحسن بالرجوع مرة أخرى إلى الأرثوذكسية دين آبائهم الأولين عن طريق التبشير بيسوع المسيح، ومحاولة إقناعهم بالعدول عن التوحيد الذي جاء به قرآن العرب الغزاة، وحاول أن تغريهم بعقيدة التجسد (طبيعتان في طبيعة واحدة)، وعقيدة التثليث"أو الأقانيم الثلاثة: (الآب، الابن، الروح القدس، إله واحد)، وحاول إقناعهم بعقيدة الخطيئة والفداء وصلب الإله وموته على الصليب ثم قيامته من بين الأموات، مع أني أشك كثيرا في أنهم سيجدوا شيئا يغريهم في هذا الإيمان، ولكن حاول، فإن نجحت محاولتك فقد قمت باسترداد قومك من دين العرب الغزاة ورددتهم إلى الأرثوذكسية ردا جميلا، وإن فشلت فقد كسبت شرف المحاولة. أو حاول أن تستخدم معهم حد السيف وأجبرهم على اعتناق الأرثوذكسية بالقهر والإرهاب كما فعل العرب الغزاة مع آبائهم الأولين، وواحدة بواحدة والبادئ أظلم، لكني لا أظنك توافق على هذا الاقتراح، لأن المسيحية دين محبة وسلام كما تقولون، أو أقترح عليك أن تبقى كما أنت مستمرا في حروبك الكلامية والعقيدية مع من يجارونك في هذه الحروب من المسلمين حتى تشعلوها نارا فتقع الواقعة وتندلع حرب أهلية دينية طائفية بين المسلمين والمسيحيين في مصر، لن يربح أحد منها شيئا والكل فيها خاسر، أو أقترح عليك أن تقوم بدراسة الإسلام بحيادية وجدية، سبحان الله، فقد تعتنق الإسلام وتصبح واحدا من المسلمين المصريين لك ما لهم وعليك ما عليهم، ولما لا؟، أو تبقى كما أنت على أرثوذكسيتك وحاول أن تبني بينك وبينهم جسورا من المشترك الديني والقيمي والإنساني والأخوة الوطنية للعيش في سلام، وتضع يدك في أيدي العقلاء منهم للتعاون في إقامة مجتمع إنساني راق تسوده العدالة والحق والمساواة. وإن لم يفلح معك اقتراح واحد من كل هذه الاقتراحات الوجيهة، فلم يبق أمامي من الاقتراحات الأخرى التي تحضرني الآن سوى اقتراح أخير لا أرضاه ولا أتمناه لك ألا وهو أن تسير على درب الشاب التونسي (محمد بوعزيزي). هذا ما استطعت أن أصل إليه من اقتراحات لحل مشاكلك مع اللغة العربية ومع القرآن ومع الإسلام ومع الجراد والعرب الغزاة، فالأمر إليك فانظر ماذا ترى.
• شهادة حق (2):
الشهادة كلمة، والكلمة إما أن تكون طيبة فتكون شجرة يثبت في الأرض أصلها، ويمتد في السماء فرعها، وإما أن تكون خبيثة فتكون شجرة، مجتثة من فوق الأرض ما لها من قرار، والقول حكم، والحكم قسطاس لسانه الاستقامة، والاستقامة أنفاسها العدل، والعدل هواء وماء، في وجوده روض وريحان وحياة وبقاء، وفي فقده دماء وموت وأكفان وفناء، يقول الحق سبحانه: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (152_ الأنعام).
لا يمكن لمنصف يخشى الله ويتقيه، وعرف للحق والعدل معنى، وأقام الشهادة لله، ونزع من رأسه وقلبه غطاء التعصب والتحيز والجور أن ينكر لا أقول اضطهاد المسيحيين في مصر ولكن على الأقل الحياة المجحفة التي يحياها كثير من المسيحيين في مصر لا كل المسيحيين، ولا يستطيع أحد كذلك أن ينكر ما يقع على كثير من المسلمين من إجحاف وتضييق من قبل النظام السابق، إلا إن الإجحاف الواقع على الطرف المسيحي أكثر وأثقل، ولكن لكل إجحاف حيثياته وأسبابه وكمه وكيفه ومكانه، فالجميع يقع عليه الإجحاف ولكن بصورة نسبية غير منظمة وغير ممنهجة. وكلا الطرفين مشارك أساسي في إيقاع الإجحاف بالطرف الآخر عن عمد وقصد، سواء كان بصورة مباشرة أو غير مباشرة، سواء كان بيده أو بيد غيره، لكن والحق يقال إن الطرف المسيحي الإجحاف به يظل هو الطافي على السطح والظاهر والواضح للعيان في كثير من المواقع، بينما الطرف المسلم قد لا يظهر الإجحاف به واضحا وجليا لكثير من العوامل، منها: عامل الأغلبية والسيطرة التي تستدعي عدم إظهاره والإلحاح عليه لعدم إثارة الأغلبية على الأقلية، وأسباب أخرى عديدة.
لكن هذا الإجحاف الواقع على الطرفين هل هي أسبابه دينية محض؟، كما يروج البعض ويحاول عن قصد أو غير قصد أن يلصق الأسباب بالدين (الإسلام والمسيحية)، أم أن له أسباب أخرى استدعت ضرورة الزج بالدين حتى بدا ظاهرا للعيان أن الصراع صراع ديني؟، أنا من وجهة نظري أرى أن الصراع في الأساس هو صراع سياسي شخصي ابتدأه البعض من الطرفين لتحقيق طموحات ومكاسب ونزوات سياسية شخصية لا علاقة لها بالدين، إلا إنه في سبيل تحقيق تلك الطموحات لم يكن للبعض من بد في سبيل تحقيق طموحاته سوى استدعاء الدين لإثارة النعرات الدينية والطائفية والعزف على وتر المشاعر الدينية للمسلمين والمسيحيين البسطاء إلى أن امتد الأمر فوصل إلى ساحة النخب المثقفة في الطرفين إلا قليل ممن رحم ربك.
إن الشحن الديني والطائفي وصل لدرجة جعلت كثيرين يتعمدون إخفاء الحقائق والتعتيم عليها وتبريرها وتفسيرها في إطار غير إطارها الموضوعي، ليبقى المتكسبون من الطرفين قابضين على ما تم تحصيله من مكاسب وامتيازات، إذ إن التقليب في سرد الواقع كما هو وسرد الحقائق كما هي ربما يتهدد تلك المكاسب التي لولا وجود الفتنة الطائفية واشتعالها وإخمادها كل حين لما حلم البعض بالتحصل على عشر معشار ما تم التحصل عليه من مكاسب، وهي في جلها مكاسب شخصية وسياسية وطائفية وليست مكاسب حقوقية حقيقية لجميع المواطنين مسلمين أو مسيحيين.
إن مدى الإجحاف الواقع على المسيحيين المصريين ليس له أية علاقة بالدين الإسلامي كدين ولا بالدين المسيحي كدين وإن اتخذت من الدين لباسا ومظهرا، وإن حاول بعض من الطرفين أن يلصقها بدين الآخر فهو تكتيك يأتي ضمنا كأحد أسلحة الحرب غير النظيفة التي تحاول تحقيق أكبر قدر من المكاسب على حساب تشويه دين الآخر وازدرائه والتحقير منه والمبالغة في إظهاره في أحط ما يكون، ناهيك عن تجنيد وشراء بعض من يعملون في الصحافة والإعلام من ضعاف النفوس ومن لا مبدأ لهم من الطرفين أو من الطرف المضاد لتحقيق ذلك مما لم يعد خافيا على أحد.
• الإعلام ودوره المشبوه في إشعال الفتنة الطائفية:
عند كل حادثة تحدث بين المسلمين والمسيحيين تقوم قيامة المثقفين المعروفين والمشهورين ورجال الدين الرسميين المعروفين والمشهورين وكذلك الإعلاميين، ثم يقوم الإعلام بحشد جميع قواته وضيوفه ومراسليه وبرامجه المرئية والمسموعة والمقروءة للتنديد بالحادث المروع الذي أحدث فتقا في النسيج الواحد، ويبدأ الحساب بترديد نفس المفردات القديمة الجديدة وهي: (سحقا للإرهاب والتطرف، نحن أبناء الوطن الواحد، مفيش مسلم ومسيحي، نحن عنصري الأمة، إحنا طول عمرنا عايشين مع بعض مفيش فرق، أنا زملائي وأصحابي مسيحيين، أنا جيراني مسيحيين)، وكذلك هي هي الأسباب عند كل حادثة، وهي: (التطرف، التعصب الأعمى، الإرهاب الأسود، الفكر الوهابي، التزمت، الطائفية)، وبعد ترديد نفس المفردات وتشخيص نفس الأسباب القديمة الجديدة، يقوم الإعلاميون مع نفس الضيوف الذين لا يتغيرون بوضع نفس التوصيات هي هي القديمة الجديدة ونفس الحلول هي هي القديمة الجديدة التي أصبحت تشبه النشيد الوطني الذي يردده تلاميذ الروضة كل صباح في طابور المدرسة دون وعي لما يرددون أو يقولون، أنا أستطيع أن أجزم أن من بين جموع المصريين الآلاف بل عشرات الآلاف من المفكرين والمبدعين الذين لا يؤبه لهم لديهم من الوعي والمسئولية والفكر والثقافة ما يجعلهم يدلون بآراء ومقترحات وحلول أكثر واقعية وعملية وجدية لكثير من مشاكلنا وكوارثنا. ومن الغريب كذلك أن الإعلاميين ومقدمي البرامج يستضيفون لتحليل ومناقشة مثل هذه الحوادث الطائفية بعض الصحفيين وبعض الكتاب وبعض أعضاء البرلمان من الطائفتين وبعض الفنانين وبعض رجال الأعمال، ولا أدري ماذا يملك الصحفيون وأعضاء البرلمان والفنانون ورجال الأعمال من معرفة علمية دينية لتحليل مشكلة هي في الأصل محض دينية عقيدية، ثم تستمر القيامة بضعة أيام ثم تخفت شيئا فشيئا حتى تهدأ ثم تضطجع لتغط في نوم عميق حتى يوقظها حادث جديد، أو يأتيها حدث جلل كالفوز بكأس الأمم الأفريقية فتجرفها فرحة النصر الكروي المقدس إلى حيث أودية النسيان. بل الأدهى والأمر والمضحك في الأمر كذلك أن المشكلة الطائفية تتحول بفعل السحر من أرض الواقع الحقيقي إلى ساحة المثقفين والإعلاميين والصحافيين ورجال الدين الرسميين من أبناء الدينين، فيقوم الإعلاميون والمثقفون والصحافيون ورجال الدين المسلمون بترضية الإعلاميين والمثقفين والصحافيين ورجال الدين المسيحي ويطيبون خواطرهم ببعض الكلمات المعزية وشيء من المواساة والمؤازرة مع بعض الهرولة بالكاميرات إلى الكنائس والمطرانيات لعمل بعض اللقاءات وبعض الأحاديث الصحفية مع بعض القساوسة والمطارنة من رجال الدين المسيحي حتى يكتمل المشهد المكرر الممل، وعقباها يرضى المسيحيون المثقفون وتطيب نفوسهم وينتهي الأمر إلى كأن شيئا لم يكن، مما يشعر المرء بأن الفتنة الحقيقية والمعركة الحقيقية كانت في الأساس بين الإعلاميين والصحافيين والمثقفين ورجال الدين الرسميين المسلمين والمسيحيين ولم تكن بين الجمهور الغائب المغيب من أبناء المسلمين والمسيحيين، في تجاهل تام بأن المعركة الحقيقية والفتنة الحقيقية هي في الأساس بين القاعدة العريضة من الشعب وليست بين النخبة من الطائفتين.
كذلك من يريد أن يصبح نجما صحفيا أو تلفزيونيا في لمح البصر فما عليه سوى التوجه لأي من برامج (التوك شو) في أي قناة فضائية مصرية خاصة أو قومية أن يتوجه لأي صحيفة مصرية خاصة ويصب فيهما جام غضبه وسخريته وتهجمه على المظاهر الدينية للمسلمين (الحجاب، النقاب، اللحية) وازدراء بعض المعتقدات الإسلامية كـ (إنكار السنة، الطعن في البخاري وكتب السنة والتراث الإسلامي، إنكار عذاب القبر) وغيرها من المعتقدات، وبعدها وبقدرة قادر سيتحول بين غفوة عين وانتباهتها إلى نجم تليفزيوني كبير تتهافت عليه جميع برامج (التوك شو) والبرامج الحوارية في القنوات والصحف الخاصة والقومية.
أنا أجزم وأقطع بأن تسعة وتسعين بالمائة من هؤلاء الذين يخوضون في عقائد المسلمين في الصحف وفي البرامج دون علم أو وعي بخطورة ما يفعلون وخاصة من يسمون أنفسهم بمفكرين مستنيرين لا يجيدون تلاوة النصوص القرآنية تلاوة سليمة، وأتحداهم أن يخرج واحدا منهم في أي برنامج تليفزيوني ويمسك بالمصحف الشريف ويتلو منه بضع آيات قليلة تلاوة صحيحة أمام الجمهور، أو يمسك بكتاب من كتب التراث الإسلامي ويقرأ منه صفحة واحدة قراءة سليمة، فإن كان هذا لن يحدث ولن يفعلوا، وإذا كانوا لا يجيدون حتى التحدث باللغة التي نزل بها النص الديني، فكيف بهم ينصبون أنفسهم مصلحين ومنتقدين لفهم النص الديني وهم لا يجيدون حتى تلاوته؟،
¬إن المتابع المنصف لوسائل الإعلام المصرية الخاصة وما تقوم ببثه عقب أي حادث طائفي يحدث في مصر بين المسيحيين والمسلمين وكذلك المتابع لكيفية تعاطي الإعلام الخاص مع هذا الملف الخطير في الأوقات التي ليس فيها أحداث عنف طائفي لا يمكن أن يخفى عليه ولو للحظة واحدة مدى تسابق وتنافس عدد كبير من الإعلاميين والكتاب والصحفيين والمثقفين إلى الإشارة بأصبع الاتهام إلى التزام أغلبية الشعب المصري بمعتقدات وشعائر الدين الإسلامي ومظاهره الشكلية، وكأنها أي المعتقدات والشعائر والمظاهر الدينية للمسلمين هي السبب المباشر أو غير المباشر وراء ما يحدث في مصر من أحداث عنف طائفي، مما جعل جموع المصريين المسلمين يشعرون بأن دينهم الإسلامي بمعتقداته وشعائره ومظاهره الشكلية قد أصبحوا جميعا في قفص الاتهام من قبل هذه الفئة التي تحتكر وتحتل وتسيطر على وسائل الإعلام الخاص والحكومي، وكذلك من قبل الفئة المحددة بعينها التي لا تتغير من ضيوف البرامج الحوارية التي يتم فرضها وفرض آرائها بقوة الأمر الواقع رغم أنف المصريين جميعا.
¬ومن البراهين الدامغة التي تثبت صدق هذه الحقيقة الواضحة خروج الآلاف من المصريين المسلمين لمواساة ومؤازرة إخوانهم المصريين المسيحيين عقب تفجيرات الإسكندرية، هذا الخروج غير المسبوق الذي حاول الإعلام أن يصوره للناس على أنه تعاطف ومواساة ورفض للعنف فحسب، بل لم يدركوا أن الدافع الحقيقي وراء هذا الخروج المكثف من المسلمين ليس سببه التعاطف والمؤازرة ورفض العنف فحسب، بل كان الدافع الرئيسي هو ذلك الشعور الجماعي الذي ولده الإعلام في السنوات القليلة الماضية لدى المسلمين المصريين بالذنب الذي لم يقترفوه ولم يشاركوا فيه، ولشعورهم بأن الدين الذي ينتمون إليه بمعتقداته وشعائره ومظاهره قد نجح الإعلام سواء عن قصد أو عن غير قصد في وضعه في قفص الاتهام، فخرجوا ليتبرؤوا من ذنب لم يقترفوه، ولينفوا عن دينهم تهمه ليست فيه، هذا هو الدافع الرئيسي وراء خروج آلاف المصريين المسلمين لمواساة ومؤازرة إخوانهم في الوطن.
ففي اليوم الأول لحادث الاسكندرية قامت قناة (ONTV) بتغطية إخبارية لحادث كنيسة القديسين طوال اليوم، وكان ضابط شرطة سابق قد امتهن الكتابة في الصحف مؤخرا وأصبح كاتبا ومفكرا ومحللا أحد الضيوف الذين شاركوا في تغطية الحدث على هذه القناة، حيث قام بصب جام غضبه على الحجاب والنقاب وعلى الرجال والنساء المسلمين والمسلمات الذين يقرؤون القرآن ويرددون الأذكار الدينية داخل عربات مترو الأنفاق، في إقدام فج منه على جرح الملايين من المحجبات المسلمات في مشاعرهن الدينية وهن لا ناقة لهن في الأمر ولا جمل. وكذلك في ليلة الاثنين التي أعقبت الحادث كان رئيس قناة (الفراعين) في برنامجه (مصر اليوم) هو وأحد الضيوف يصبون جام غضبهم وسخريتهم واستهزائهم على عقيدة (عذاب القبر) التي يعتنقها عشرات الملايين من أبناء المسلمين المصريين، في تغافل تام عن التأثيرات النفسية السيئة التي ستتركها هذه السخرية وهذا الازدراء على معتنقي هذه العقائد من المسلمين ما يجعل القلوب تمتلئ احتقانا يدفع بأصحابها إلى الاتجاه الخاطئ.
هذان مثلان صغيران من مئات الأمثلة التي تعج بها معظم وسائل الإعلام الخاصة والحكومية التي دائما ما تحرص على أن تكون أسباب المرض كامنة في معتقدات وشعائر ومظاهر المسلمين الدينية فحسب، حتى تولد شعور عام لدى المسلمين المصريين مفاده أن الانتساب إلى الإسلام أصبح تهمة وسبة في نظر كثير من الإعلاميين والكتاب، وأن الالتزام بشعائر ومظاهر ومعتقدات الإسلام أصبح عارا يجب على المسلمين أن يغسلوا أيديهم منه عقب كل حادث طائفي وأن يعلنوا في كل مرة: (براءة الإسلام من دم المسيحيين المصريين). يحدث هذا على مرأى ومسمع من المسئولين في الدولة دون أن ينتبهوا لخطورة تحريض الإعلام الخاص والإعلام الحكومي على الفتنة الطائفية بازدرائهم لما يعتقده ملايين المسلمين المصريين أنها مظاهر وشعائر دينية لديهم _حتى ولو كانت ليست من أصل الدين_ ما يدفعهم إلى الاحتقان والشعور بالاستهداف في دينهم فيندفعوا شعوريا للاتجاه الخاطئ.
كثير منا لا يفرق بين النقد العلمي الموضوعي الممنهج وبين الازدراء والسخرية والاستهزاء بالآخرين، فشتان بين شخص يرى خطئا ما أو انحرافا ما في بعض العقائد أو الشعائر أو المظاهر الدينية ثم يقوم بوضعها على طاولة البحث العلمي الجاد المسئول ليتبين ويبين للناس صحتها من خطئها ومناقشة أدلة المؤيدين والمعارضين بأسلوب راق مهذب ثم الخروج بنتيجة علمية موضوعية مقنعة، وبين شخص آخر يرى خطئا ما أو انحرافا ما في بعض العقائد أو الشعائر أو المظاهر الدينية ثم يقوم بعمل جلبة وثورة وضجيجا من السب والشتم والاتهامات والسخرية والاستهزاء بمن يخالفونه في فهمه ونظرته للدين، وهذا بالضبط ما يحدث الآن في معظم وسائل الإعلام فكثير من الناس إلا من رحم ربك حين يريد أن يسجل اعتراضه على ما يراه هو أفعالا وسلوكيات ليست من الدين تراه أول ما يبدأ، يبدأ بالسخرية من الناس واحتقارهم ورميهم بالجهل وبكل نقيصة وكأنه يتحدث عن أعداء دخلوا بجيوشهم أرض الوطن.
من السهل جدا تغيير وتعديل أفكار ومعتقدات الناس، إلا أن ذلك لا يكون إلا بالحوار الهادئ والفكر الناضج والمعرفة الحقيقية والمنطق السليم وبحسن العرض واللباقة في توصيل المعلومة والمجادلة بالتي هي أحسن، وبغض النظر عن خطأ بعض معتقدات المسلمين أو صوابها، وبغض النظر عن أن الحجاب والنقاب واللحية وغيرها من المظاهر الشكلية هي تشريعات دينية حقيقية أم لا، فعلينا ألا يغيب عن بالنا أن كل صاحب دين يرى في الدين الآخر أنه ليس هو الدين الحق، بل إن كل صاحب مذهب في الدين الواحد لا يرى في المذهب الآخر أنه المذهب الحق، إلا أنها جميعا تظل عقائد ومظاهر وشعائر دينية تعد حقا خالصا لكل الناس في كل الأديان وحقا لهم أن يعتقدوا ما شاءوا من معتقدات وأن يتمظهروا بما شاءوا من مظاهر دينية سواء اتفقنا معها أو اختلفنا، وسواء كانت من صلب الدين أو من خارجه، فالقوانين الدولية والدينية والإنسانية تجرم ازدراءها والسخرية منها.
فلو نظرنا إلى ما حولنا من أديان فسنجد أن تسعين بالمائة من عقائد وشعائر ومظاهر كل الأديان بما فيها الإسلام والمسيحية واليهودية وغيرها ليست من أصل الدين ولم يأت ذكرها أو فرضها في نصوص الكتب المقدسة لتلك الأديان، فلا يعني استخدام البعض لتلك المظاهر الدينية في أغراض سياسية أن نقوم بازدراء المظاهر والمعتقدات والشعائر الدينية ذاتها نكاية فيمن يستخدمها في غير موضعها، وإلا لماذا لم أر أو أسمع قط أن ربط أحد الإعلاميين أو المثقفين أو الكتاب بين القلنسوة اليهودية وجدائل الشعر واللحية الطويلة التي يتسم ويتمظهر بها اليهودي المتدين المتطرف المتعصب وبين ما يرتكبه اليهود من جرائم إرهابية في حق الشعب الفلسطيني، بل لن يجرؤ أحد ممن يهاجمون المشاعر والمظاهر الدينية للمسلمين عند كل حادث إجرامي يستهدف أحد المسيحيين المصريين أن يتناول بنفس اللهجة وبنفس السخرية وبنفس الازدراء القلنسوة اليهودية أو جدائل الشعر أو اللحية اليهودية ويسخر منها كمظاهر دينية يهودية ردا على ما يفعله اليهود المجرمون في أطفال ونساء ورجال الشعب الفلسطيني الجريح. بل إن ما أراه وأسمعه أنه حين يتعرض كاتب ما للشعائر والمظاهر الدينية اليهودية يتم زجره من قبل كثير من الكتاب قائلين له لا تربط بين الديانة اليهودية ومظاهرها وشعائرها وبين التطرف والإرهاب الصهيوني؟، فبالمثل لماذا لا يتم زجر من يتهجم ويسخر من المظاهر والشعائر والمعتقدات الدينية للمسلمين؟، ولماذا عند كل حادث إجرامي يحدث ضد الأبرياء المسيحيين يتم الزج بالحجاب والنقاب واللحية وعذاب القبر وقراءة القرآن وتلاوة الأذكار في عربات المترو في هذا الحادث أو ذاك؟،
إن ما يثير الدهشة والاستغراب حقا أنه مع كل حادث طائفي يحدث يتحول ذلك الحادث على يد كثير من الصحافيين والإعلاميين والمثقفين إلى ما يشبه فرح العمدة الذي يتسابق إليه كثيرون لتسجيل الحضور ودفع (النقطة) من باب مقولة: (نحن هنا) كنوع من المداهنة والمجاملة والنفاق ولحاجة في نفس يعقوب لدى العمدة ومسانديه، إلا أن (النقطة) في غالب الأحيان تكون على حساب ازدراء عقائد المسلمين وإهانة شعائرهم ومظاهرهم الدينية. أنا أتوقع أن يأتي يوم يحدث فيه حادث طائفي ما، ومن كثرة جلد الذات بحق وبباطل وادعائنا الملكية أكثر من الملك أن أرى صحفيا أو كاتبا أو مثقفا مسلما يخرج في أحد البرامج أو يكتب في إحدى الصحف معتذرا ومتأسفا ونادما أنه ينتمي إلى الدين الإسلامي.
(انتهى الفصل الأول ويليه الفصل الثاني)

نهرو طنطاوي
كاتب وباحث في الفكر الإسلامي _ مدرس بالأزهر
أسيوط _ مصر
موبايل: 0164355385 _ 002
إيميل: [email protected]



#نهرو_عبد_الصبور_طنطاوي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من أجل إنقاذ مصر
- الدعاء في سجن (مزرعة طرة) مستجاب
- ويل لمن تنكروا لفضل الرئيس مبارك عليهم
- ثورة 25 يناير ثورة إسلامية بلا خوميني
- حقيقة حياد الجيش وقراءة أخرى في المشهد المصري
- العلاقة المشبوه بين البابا شنودة والرئيس مبارك
- ثورة مصر: ثورة طاهرة في بيت دعارة
- احذروا أيها المصريون: هؤلاء يتآمرون عليكم
- شعوب تستلهم خلاصها من المنتحرين والمحروقين والغائبين
- البطولة الزائفة للمنتحر التونسي (محمد بوعزيزي)
- الطائفية الريفية والإجحاف بالمسيحيين
- مسيحيو مصر ليسوا سواء
- متى يعتذر المصري المسلم عن انتمائه للإسلام؟
- الإعلام الخاص يحرض على الفتنة بازدرائه للمسلمين
- أخطاء الرصد الإعلامي لتوجهات الناس تجاه الفتنة الطائفية
- هرطقات طنطاوية على دفتر الفتنة (1)
- نعم لوفاء الإنسان لا لوفاء الكلاب
- إسرائيل دولة غربية بمرجعية يهودية (6_6)
- إسرائيل دولة غربية بمرجعية دينية يهودية (5_6)
- إسرائيل دولة غربية بمرجعية يهودية (4_6)


المزيد.....




- “العيال الفرحة مش سايعاهم” .. تردد قناة طيور الجنة الجديد بج ...
- الأوقاف الإسلامية في فلسطين: 219 مستوطنا اقتحموا المسجد الأق ...
- أول أيام -الفصح اليهودي-.. القدس ثكنة عسكرية ومستوطنون يقتحم ...
- رغم تملقها اللوبي اليهودي.. رئيسة جامعة كولومبيا مطالبة بالا ...
- مستوطنون يقتحمون باحات الأقصى بأول أيام عيد الفصح اليهودي
- مصادر فلسطينية: مستعمرون يقتحمون المسجد الأقصى في أول أيام ع ...
- ماذا نعرف عن كتيبة نيتسح يهودا العسكرية الإسرائيلية المُهددة ...
- تهريب بالأكياس.. محاولات محمومة لذبح -قربان الفصح- اليهودي ب ...
- ماما جابت بيبي أجمل أغاني قناة طيور الجنة اضبطها الآن على تر ...
- اسلامي: المراكز النووية في البلاد محصنة امنيا مائة بالمائة


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - نهرو عبد الصبور طنطاوي - النظام المديني وزوال الديمقراطية – الجزء الأول