أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - أحمد دلباني - متى ينتهي نشيد البجعة؟















المزيد.....



متى ينتهي نشيد البجعة؟


أحمد دلباني

الحوار المتمدن-العدد: 3398 - 2011 / 6 / 16 - 20:24
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


شذرَاتٌ حولَ بعض مآزق الثقافةِ العربيَّة السَّائدة:

مَتى يَنتهي نشيدُ البَجعَة؟
1

تحدَّث، مرَّة ً، الفيلسوفُ الألماني فريدريك نيتشه (1844- 1900) F. Nietzsche عن العائق الكبير الذي ظل يأسرُ الفكرَ الغربي، لقرُون ٍ، في المَاورائيَّات وُيبقيه بعيدًا عن الانفتاح على عالم الصَّيرورة والحياة، قائِلاً إنهُ الأخلاقُ ومنظومة القيم التي ترسَّخت في صورة أفلاطونيةٍ استعادتها المَسيحية بوصفها مُؤسَّسة انتصَرت تاريخيا على إرادة القوة والرُّوح المأساوية الإغريقية. وقد شبَّه نيتشه، في ُصورةٍ بديعة، ما عاشهُ الفكرُ الغربي بقوله إن الأخلاقَ مثلت سِيرسه Circé الفلاسفة. والكل يعلمُ أن سيرسه هذه هي تلك المرأةُ التي جاء ذكرُها في الأوديسَة الهُوميريّة، وقد تَمثل عملها في مَسخ أصدقاء أوليس Ulysse بتحويلهم إلى خنازير. هكذا رأى نيتشه كيف أن الفكرَ الغربي وقع أسيرًا في يد الأخلاق باعتبارها قيما شكلت خلفية مرجعية في النظر إلى العالم والأشياء من زاوية اجتهدت في طمس الحياة وصَبواتِها إلى القُوّة والامتِلاء. من هنا ُمسِخ الفكرُ الغربي وحوَّل نظرَهُ عن نداءاتِ الحياة العميقة والإرادة والخلق والإبداع والتجاوز ليسقطَ في أحبولة الانسحاب من العالم ومن هدير الصَّيرورة ويتعلقَ بالعوالم الوهمية. ونحن نعلم، جيدا، أن هذا النقد النيتشوي كان حاسما في الكشف عن بعض أزماتِ الفكر الغربي في ظل حداثة الغرب الكلاسيكية التي شهدَتْ بداية أفولِ المُتعاليات وهجرِ المعنى مخدعَ المطلق وسماءَ اللاهوت ليولد باستمرار، بعد ذلك، في التاريخ.

أردنا أن ُنورد هذا المثال من الفكر الغربي، هنا، كي نفتحَ النقاش على عوائق الفكر العربي المعاصر، وكي نبحث في بنيته العميقة وفي نظامهِ الإبستيمي عن سيرسه العربية التي تبقيه أسيرًا للشلل الذي يعرفهُ أمام تحولات العالم وصيروراتِ المعرفة. أردنا أن نفتحَ أضابير الموروث الفكري والثقافي العربي على النقد بغية فضح تراجع الوعي العربي أمام سديم اللحظة، وبغية إماطة اللثام عن تَشرنُق هذا الفكر أمام جلبة التاريخ وصخب التجربة في عالم لا يكفُّ عن التغير وطرح التحديات. كما نود أيضا أن نتناول، في ضوء جديد، مآزق الفكر العربي المعاصر التي ُتبعده عن الجذرية المطلوبةِ في مقاربة الواقع وتفعيل آلة النقد والمُراجعة. فما هي سيرسه الفكر العربي والحياة الثقافية والعقلية العربية عموما؟ ما أسُسها ومحدداتها؟ أين يتجلى امتدادُها في الحياة العربية بكل مظاهرها؟ ما العملُ من أجل الخروج من أسْرهَا ومواصلة المغامرة في اكتناهِ الوجود والعالم والتأسيس لشرُوط الإبداع؟

هذه الأسئلة وغيرُها نراها ضرورية، اليوم، من أجل بداية العمل على الخروج من الانحباس الذي أصبح يُمثل السمة الأساسية للفكر العربي. وربما كان من اللازم أن ُيدشن العقلُ العربي والإسلامي، بذلك، عهدا جديدا يكتب ِسفرَ خُروجه من تاريخ المصالحة مع التراجع إلى تاريخ أبوكاليبتيكي جديدٍ يشهد نهاية العوالم القديمة ونهاية حساسيّتها ومقارباتها للعالم، ويقفُ فيه على أرضٍ بكر آن أن تمتلئ بمدافن الآلهة التي ُتؤثث حياتنا.

2

يَحسُنُ بنا أن نشير، بادئ بدء، إلى أن محاولاتِ الفكر العربي الحديث الخروجَ من عطالة النظر ومن البطالة الروحية في العالم المعاصر قد انتهت إلى فشل. لم يكن فكرُنا في بداية " النهضة " إلا حنينا ونوستالجيا إلى ملاحم البداياتِ والولادة المقدسة في لحظة الاغتراب عن الحاضر الذي حاد عن اللاهُوت وجَعل فجر الناسُوت يَنبلج عقلانية ً وصناعة وقوة ًَ وهيمنة عند الآخر الغربي. لم تكن عقلانيتنا إلا انبهارا بالآخر أومصالحة مع موتنا التاريخي ونفخا في رماد ثقافتنا القديمة التي لم نعثر على وصفةٍ تعيد لها شرارة الحياة من جديد. لم تكن، بعد ذلك، يوتوبيا " الثورة " إلا بلاغة ورنينا في صحراء اللامعنى، ولم تكن " الصباحاتُ التي تغني " إلا وهما وسرابا وانحدارًا إلى جحيم الاستبداد وتدجين الإنسان ونَمْذجةِ الفكر؛ ما جعلنا نعتقد، شيئا فشيئا، أن غودو Godot المُخلّص لن يأتي أبدا. وفي خِضم الانهيار والخيبة الشاملة نرانا، اليوم، ُنشِيح بأوجهنا عن القدر العولمي الجديد، ونُؤثر الزواج بالأبديّة والمُقدَّس كتعويضٍ عن فقدان العلاقة الهارمُونية بالحاضر. هذا حصادنا في القرن الماضي. هذا وجهُنا الذي أطلَّ على تراجيديا التاريخ الحديث الماكر وهو ُيصنَع بعيدا عنا وُيوسّع تخومَ المعنى خارج بيتنا الصغير الذي اختنق بفعل العزلة واللافاعلية.

إننا ُنسلّم بأن الفكر، في عمقه، يقوم على فاعلية النقد. إنه مراجعة دائمة للمراسلات التي ُنقيمها مع العالم، وهو ترحال لا ينتهي في مفازة العالم والوجود بحثا عن حجر الحقيقةِ المقدس. بل إن الفكرَ اليوم، أساسا، ما هو إلا ذلك التفكيكُ الذي لا يتردد في نقد مؤسَّسة الحقيقة ذاتها ونقد تمظهراتها الفكرية والاجتماعية والسياسية. ألم تكن كلُّ أشكال الاستبداد والتحنط في الماضوية وكلُّ أشكال سحق الإنسان تتمُّ بواسطة الحقيقة مفهومة ً على أنها نظرية تعلو على التاريخ الذي أنتجها؟ ألم يكن العالمُ في منظور هذه الحقيقة ُيشبه " غولاغ " كبيرًا أو معتقلا للزج بهيُولى العالم في نظام المعنى المُؤسَّس على الواحدية؟ ألم تكن مؤسَّسة الحقيقة، في أوضاع كثيرة، تواطؤا مُعلَناً مع قوة النظام لا مع قوة المعنى؟ هذا ما يجعل من الفاعلية الفكرية فاعلية نقدية بالأساس. سيكون المفكرُ، بالتالي، هو ذلك الذي يمُد يدَه إلى ثمار شجرة السّر مُنتهكا قداسة المعنى المؤسس والمعمَّم. سيكون مغتبطا وهو ُيعيد اكتشاف فضيلةِ السقوط في المنافي الجميلةِ حيثُ بكارة المعنى.

هذا تحديدا، ربما، ما يجب أن ُيشكّل مدارَ المساءلات بالنسبة للفكر العربي اليوم. نقول ذلك ونحن نعتقدُ أن هذا الفكر لم يمتلك - طيلة نصفِ القرن الماضي - الجرأة الكافية في الذهاب عميقا نحو الأسس التي تشلُّ حركة الحياةِ العربية وتُبقيها بعيدةً عن الفاعلية والإبداع. لم يستطع هذا الفكرُ أن يدخل العالم المعاصر ولا أن يمتلكَ أبجدياتِه أو يسهم في تغيير وجهه. لقد استعاض عن المنظومات الفكرية التقليدية بمنظوماتٍ فكرية وافدة وأسهم بذلك في تراجُع الذات العربية وفي جعلها ُموميَاء لا روح فيها. لم تكن فلسفتنا أنسنة ونقدا للأوضاع التي أنتجت الاغتراب عن الواقع وإنما تكنولوجيا جديدة أجْهزت على الإنسان وطمسَت فيه منافذ الحرية وينابيع الصَّبواتِ الأولى إلى الانعتاق. لم تكن حداثتنا روحا جديدة وعقلا متحررا من الوصاية والمرجعيات المتعالية وإنما كانت تحديثا شكليا وآلة لم تُغيرْ نظرتَنا إلى ذاتنا وإلى العالم. ولكن كيف حصل ذلك في العالم العربيّ وهو يتأهبُ للتحرر من الأمبريالية ويحلم بدخول مسرح التاريخ الذي أصبح ميدانَ إبداع ٍ وصراع على امتلاك معنى الكينونة التاريخية للبشر؟ كيف وقع عقلنا وتفكيرنا في آلة الارتهان لما يسدُّ آفاق المعنى ووشوشاتِ الحياة العميقة؟ كيف فقدنا صداقتنا مع المجهولِ الآسر واكتفينا بالحكمة والتعاليم والوصايا المقدسة بكل أشكالها؟

3

هنا، تحديدا، نصلُ إلى تشخيص الأزمة التي أعاقت الفكر العربي المعاصر عن الحضور الإيجابي الذي يعني إنتاجَ زمنٍ مختلف عن أزمنة العوالم القديمة، يقطعُ مع محدداتها ومع نظرتها إلى العالم والأشياء. لم يكن الفكرُ العربي المعاصر نقدًا جذريا وقطيعة معرفية مع السّائد وإنما لحظة تَمثلَ عملُها في إعادة إنتاج زمن الواحدية والشُّمولية والأنظمة المغلقة. ذلك هو الزمن الثقافي الإيديولوجيُّ بامتياز. لم تكن الحداثة العربية، بذلك، انتصارا للحرية والإنسان وإنما انتصارا للمرجعيات ولأنظمة الواحدية الفكرية والسياسية التي حلت محل الواحدية الدينية القديمة. من هنا أتيح للحداثة العربية ( حداثة الدولة والفكر الإيديولوجي معا) أن تخلعَ الجُبة العلمانية المعاصرة على البنية القمعية القديمة، بعيدا عن روح الحداثة الفعلية التي تعني انبثاق زمنِ الإنسان المُتخلص من الوصاية ومن زمن المطلق في جميع مناحي الحياة – معرفة ً واجتماعا وسياسة.

في هذا يكمن، برأينا، شللُ الفكر العربي الذي لم يُؤَسس لحداثته الخاصة بوصفها سؤالا وأنسنة ً ومغامرة في المجهول، لا بوصفها تورطا في إنتاج منظوماتِ الإخضاع واستبدال اللوغوس العلماني باللوغوس الديني القديم. إن التفكيك الجاري اليوم في العالم يَجتهدُ في فضح البنياتِ الخفية لكل أنظمة الاستبعاد والنبذ التي تمارسُها منظوماتٌ فكرية ظلت، لزمن طويل، تدعي العمل على تحرير الإنسان من الاغتراب. وربما بيَّن التفكيكُ الفعلي لخطابنا الفكري المعاصر أن جرثومة الاستبداد والروح القمعية وحضور المقدس في صورة المرجعية المذهبية - ظلت كلها تنخرُ حياتنا من الداخل وتفضحها وتبقيها أسيرة للادعاء الفارغ الذي جعل من فكرنا المعاصر بيانا حداثيا تقدميا كما كنا نعتقد. هنا نعثر، ربما، على الملامح الأولى لوجه سيرسه العربية التي مسخت الفكرَ العربيَّ المعاصر وحوّلتهُ عن سُبلِ توسُّل الحداثة الفعلية في التأسيس لشروطِ الحرية والإبداع. هنا نتعرَّف على أزمة أوليس العربي الذي لم يستطع مواصلة رحلته إلى جزر الضوء والانعتاق، وسقط في أحابيل سيرسه العربية – عنيتُ بذلك بنية َ الفكر المرجعية والروح المذهبية والرؤية الشمولية القائمة على ادّعاء احتكار الحقيقة.

نستطيع أن نقرر، انطلاقا من ذلك، أن نظام المعرفة العربي العميق الذي تحكم في إنتاج رؤيتنا للعالم والأشياء ظل خاضعا لمحددات يمكن تبين ملامحها، جيدا، في سيادةِ المرجعيَّة والتعالي النصي للحقيقة. ذلك ما يكشفُ عنه فكرنا السائد منذ أكثر من نصف قرن، وهذا قبل أن تنتفض بعضُ صورِ هذا الفكر على الأبوية العقائدية المكرَّسة التي لم تكن إلا استعادة للأصولية التقليدية في ثوب دنيوي. لقد كان فكرنا، بالتالي، يُطل على العالم وعلى تراجيديا التاريخ من علياء النظرية، وظل يجتهد في العثور على نظام الأشياء والعالم مبتعدًا عن حركية الواقع الفعلي وهو يكتب ِسفرا جديدا قدر له أن ُيدشن انهيار زمن العقائديات المتصلبة والإيديولوجيات الشمولية. هكذا خسر هذا الفكرُ رهان الانخراط في العالم ورهان فهمه واستيعاب إيقاعه تمهيدا لتغييره نحو الأفضل كما ظل يدعي. إن المشكلة الكبرى لكل فكر، بالتالي، هي النزوع اللوغوسي الذي يجعله ُيشرف على التاريخ من ِخدْر ِ الكلمة الأولى، دينية كانت أو علمانية / إيديولوجية. الموقف واحد في الحالتين وهذا بمعزل عن مضامين رؤية العالم التي يحملها الفكر. إنه موقف الأصولية التي لا تحيدُ عن المرجع النصي، وُتؤسس عليه مواقفها الفكرية والسياسية وتصورها لعمل المجتمع وقيمِهِ ومُبادراتهِ التاريخية. ربما هذا ما عاشه الفكر العربي بصورتيه الذائعتين: القومية والماركسية / الاشتراكية.

ولكن ما يكونُ موقفُ فكر مماثلٍ من قضايا الحريات وحقوق الإنسان والديمقراطية واحترام ِ الاختلاف؟ ما يكونُ موقفه من قضايا الإبداع والنقد والمُساءلاتِ الفكرية الجذرية؟ أعتقد أن هذا السؤال لا يحتاج إلى عناء كبير من أجل الإجابة الشافية. لقد ظل الفكرُ الإيديولوجي منظومة نبذٍ واستبعاد وانغلاق إزاء المختلف، وظل مَعينا يهدر بكل صنوف الإدانة والتخوين باسم الوحدة؛ كما ظل سيفا مقدسا مُسلطا على صبوات الإبداع والمغامرات الفكرية خارج سلطة النموذج. من هنا نفهم كيف كان الفكر المستند إلى البنية الواحدية والشمولية يضمر في ذاته عنفا رمزيا لا يستطيع أن ُيترجمهُ - سلطويا وسياسيا- إلا في صورة قمع واضطهادٍ مُؤسَّس. هذه، بالتالي، مشكلة الحقيقة المؤسَّسية وقد ابتعدت عن كونها مغامرة في اكتناه ليل العالم والوجود.

4

لم نشهدْ قتلَ الأب في ثقافتنا العربية الحديثة والمعاصرة: هذا هو مشكلُ الحداثة الرّئيس عندنا. لم تعرف ثقافتنا انسلاخا من عوالم المرَجعيات المُتعالية عن التجربة، ولم تشهدْ أفول اللوُغوس وإنما أعادت إنتاج زمن الأب الثقافي / الرمزي في صورة تلبسُ زيَّ العصر. الحداثةُ، جوهريا، أنسنة ٌ لا تمذهُب؛ وهي تفكك للمطلق لا إعادة إنتاج له. إنها ذلك الزمن الحضاري الذي شهد " عطلة الآلهة " كما يحب أن يُعبّر هيدغر Heidegger. إنها نشيدُ البدايات التي أعلنت نهاية العوالم القديمة واضمحلال السَّماوات الفارغة. إنها - في كلمة - نيرون الذي شرب نخبَ احتراق الأبوية وشهد بداية عهد المغامرات البهية في السَّفر إلى العالم وقد أصبح غابة توُشوش بالسر من بعيد. لم نعرف الحداثة بوصفها انقلابا على استبداد البنيات المرجعية للفكر، ولم نفهمها بوصفها انتصارا للأنتروبوس الذي أصبح مركزَ الكون ومرجعَ القيم في عالم تفتَّت فيه التعالي. لم نشهدْ، بمعنى ما، في ثقافتنا الحديثة والمعاصرة ما يمكن أن نُسمّيه الثورة الكوُبرنيكية العربية في مجال الأنسَنة وإنما أعَدنا إنتاجَ زمن الوصاية اللاهوتية في عباءةٍ علمانية كما رأينا.

نعتقدُ، بالتالي، أننا لم ُننتج حداثتنا الخاصَّة وإنما دخلنا العصر من بوابة الاستهلاك مُصفدين بأغلال الروح القديمة وسيادةِ المركز المرجعي في الفكر والمُمارسة على السواء. تشهدُ على ذلك خيباتنا في محاولات تحديث مجتمعاتنا، وفشُلنا في القطع مع بنيات التقليد والماضوية، ما جعلنا نحيدُ عن ترسيخ قيم التعدد والاختلاف والديمقراطية بالمفهوم الحضاري الشامل. هذا، ربما، ما كان مدار بعض صور النقد الجذري في الفكر العربي التفكيكي المعاصر الذي يرجع، تحديدا، إلى لحظة أدونيس ومحاولاته الرائدة في فضح بنياتِ الهيمنة والانغلاق في منظومات فكرنا الإيديولوجية آنفة الذكر. إذ إنَّ " كل مذهبيةٍ حُبلى بالجلادين" كما يُعبّر أدونيس. وهل كانت حياتنا المعاصرة، في مستوى النظام السياسي وفي مستوى النظر الفكري، غير ذلك؟ هل كانت إيديولوجياتُنا الحديثة التي اعتمدناها مرجعياتٍ للتحرر وللتقدم الاجتماعي والإنساني غير ذلك أيضا؟ ألم تكن في تجلياتها الأدبيةِ والسياسية مُسوّغا للاضطهاد وقمع الرأي المخالف وترسيخ أحادية الرأي والنظر؟ ألم تحبل كلها بالجلادين من كل صنف؟ وهل هي تختلف، في هذا، عن ممارسات الفكر الأصولي الديني القائم على ادعاء احتكار الحقيقة النهائية للعالم والأشياء، من أجل تبرير الوصاية والحجر على العقل؟ هذا، ربما، ما يدعونا إلى استحضار نيتشه من جديد وهو يَعتبرُ المسيحية التاريخية مؤسَّسة مثلت " ميتافيزيقا الجلاد " كما ُيعبر بصورة لافتة. لم تكن حداثتنا القائمة على الفكر الإيديولوجي، أيضا، طيلة نصف القرن الماضي إلا رحما حبلت بالجلادين الذين خنقُوا حياتنا وسَحقوا الإنسان.

من الحداثة / النظام إلى الحداثة / التفكيك: ذلك هو المسارُ الذي سلكتهُ حركة النقد الجذري في فكرنا العربي المعاصر وهي تراجعُ مشاريعنا الفكرية وإنجازاتِنا السياسية على درب تحرير المجتمع العربي من الوصاية ومن مُؤسَّسات الماضي البائد. إنها حركة النقد الذي اجتهد في تعرية اللامفكر فيه في خطاباتنا وممارساتنا، وفي فضح بنيات الفكر العميقة التي لم تتزحزح عن طابعها الديني / اللاهوتي في التعاطي مع الواقع والتاريخ والإنسان والحقيقة. فقد تبيَّن أن الحداثة كما تمثلتها نُخبنا الثقافية والسياسية لم تكن إلا نظاما معرفيا مغلقا تمَّ فيه اعتقالُ العقل داخل زنزانة الإيديولوجية، وتم فيه التشريعُ لاستقباح الحرية والذاتية ومغامرات انتهاك السائدِ المُؤسس – شرطِ كل إبداع حقيقي. هذا ما جعل من حداثتنا انحرافا بيّناً عن الأنسنة الفعلية وترسيخا لسلطة المرجع والمعيار؛ وجعل الحقيقة تأسيسًا نصيا لا بحثا في مفازة الوجود أو انبثاقا من التجربة الحية ومن تعرجات التاريخ التراجيدي ومَساماتِه. هذا يعني أن ثقافتنا الحديثة والمعاصرة لم تنظر إلى المعنى بوصفه أرضا تقف عند تخوم السؤال والسَّفر الدائم في متاهة العالم، وإنما اعتبرته أرضا موعودة أوصتْ بها آلهة الثقافة الإيديولوجية لكل من يقدّمون الولاء ويبتعدون عن خطيئة النقد.

هنا مكمنُ المشكل الرئيس في نظام المعنى الذي رسَّخته الحداثة / النظام المغلق: كان المعنى سابقا ولم يكن لاحقا. إن هذه البنية المعرفية العميقة ظلت مَعِيناً للفشل الكبير الذي صاحَب كل منظومة شمولية تعتقدُ أنها اعتقلت العالم في خطاطاتها ومُسبَّقاتها. ولكن مكرَ التاريخ كان بالمرصاد منذ العقود الأخيرة التي شهدت السقوط المُدوي للعقائديات الكلاسيكية وممارساتها التي سحقت الإنسان وجعلته جرما صغيرًا يدور في فلكِ المَذهب الإيديولوجي. إنما تجبُ الإشارة إلى أن فكرنا العربيَّ الطليعيَّ المُعاصر لم يكن بعيدًا عن فاعلية التفكيك، وهو ما نجده يمتد من لحظة أدونيس إلى آخر تجليات النقد الذي يحاول أن يتجاوز مُحددات الحداثة الكلاسيكية المذهبية المغلقة إلى آفاق الحداثة التي تضربُ الأسسَ وتخلخل مُسلَّماتِ السائد المعرفي والحضاري عموما.
5

لا يقومُ الفكر بوصفه مراسلاتٍ مع سديم العالم وصخب التاريخ إلا على فاعلية النقد: نقدِ الأسس التي تطفو عليها أشكالُ الوعي السائد ونقد المضمرات التي تتحكم في خطابات المعرفة وتؤسِّسُ للفعل المعرفيّ. الفكر، بهذا المعنى، مراجعة دائمة لأنظمة المعنى في الثقافة. هذا هو مدلولُ التفكيك الذي استطاع أن يُخلّصَ الحداثة العقلية والفكرية من التحنط في المذهبية واللاتاريخية. إنه الحداثة الجديدة التي تعلن طرحَ جلدها القديم والانسلاخ من حكاياتها التأسيسية ومن يوتوبياتها المُنهَكة بفعل صيرورة التاريخ ومفاجآته ومآزقه. ونحن نعلم أن الفكرَ العربيّ الذي نشأ في كنف التمذهُب قد بدأ يُجابه، مُؤخَّرا، آلة النقد التفكيكي في محاولةٍ للكشف عن مسبقاته الضمنية وعوائق انفتاحه على مهاوي التاريخ وفاجعة انهيار المعنى القائم على المُسبَّق. لقد كان من اللازم عتقُ المعنى من المسبق الجاثم بفعل دوام نظام الحقيقة القائم على المرجعية النصية، وكان من اللازم أيضا تحريرُ إرادة المعرفة من إرادة الاعتقاد. أو في كلمة: كان يجب العمل على أن يصبحَ المعنى لاحقا لا سابقا كما سُيعبّر أدونيس.

كان يجب، بمعنى آخر، أن تعرف الثقافة العربية عملا نقديا مُماثلا لما فعله كانط Kant في الثقافة الغربية وهو يوقظ العقلَ الغربي من " سُباته الدوغماطيقي ". كان يجب الخُروج من السُّباتِ الإيديولوجي – أو السُّبات العقائدي كما يُعبّر علي حرب - داخل شرانق نظام المعنى المغلق القائم على المُسبَّقات في ثقافتنا العربية. ولكن هذا الأمر الذي تزامن مع لحظته الحضارية ما زال مشروعا مفتوحا وانتفاضة نقدية تُشهر حرابَ النقد الجذري في وجه انغلاقنا وتشرنقنا بعيدا عن فتوحات المعرفة وتحولات المعنى وتعرجات التاريخ. ما زال الفكرُ العربي السائد، بمعنى آخر، غارقا في خَدَرهِ اللذيذ وأقل جذرية مما هو مطلوب منه في اللحظة الراهنة. إذ هو لا يذهبُ عميقا في مساءلة الأصول، ولا يتجرأ على انتهاك المقدس المنتعش اليوم بفعل الانتكاس، ولا يحاول القرعَ على باب البدايات التي أسست لنظام الحقيقة وسلطة المعنى الراسخ في ثقافتنا منذ قرون. إنه فكرٌ يتصالحُ أحيانا مع المعطى، ويحاول ترميمَ ذاكرته ويهادن لحظة التراجع الشامل بالتحالف مع الأصوليات الجديدة. هذا ما يجعل منه انسحابا مُعلَنا من دائرة المهام النقدية الجذرية التي لا يكون الفكر ذا قيمة إلا انطلاقا منها.

كيف يمكنُ للنقد الفكري في الثقافة العربية، اليوم، أن يَحيد عن مَهمَّة نقد الأصول – والدينية منها تحديدا؟ كيف يمكن لهذا النقد أن ُيشيح بوجهه عن خلخلة الأسُس التي يقوم عليها نظامُ المعنى القمعي الراسخ عندنا؟ كيف يمكن ألا يجترحَ هذا النقدُ فضاءاتِ الانعتاق من زنزانة الواحديَّة في جذورها الفكرية وتجلياتها المُؤسَّسية تمهيدا لتحرير الطاقة الإنسانية على الإبداع وجعلِ المعنى انبجاسا من التجربة الحية مع الوجود؟ لماذا نسقط دائما في نزَعات الإصلاح الفكري التي تُطيل أمدَ الماضي وُتؤَمّن للأب الثقافي / الرمزي حياة جديدة بيننا؟ هذه الأسئلة نراها حارقة اليوم وهي تُشكل إحدى مهام الحداثة / التفكيك التي تجابه صفاقة المرحلة على مستوى كوني أيضا، حيث يتم بعثُ الآلهة في كل مكان وحيث ينفلت ماردُ اللامعقول مُتوَّجا بسيف التكنولوجيا. إذ نعتقد أنه بإمكان الفكر العربي الطليعي أن يُسْهمَ في حركة النقد الشامل استشرافا لعالم ينسلخ من أشكال التعالي الجديدة التي يمثلها تنابذ الجزر الثقافية وصدامُ " أنظمة الاستبعاد المُتبادل " في أوقيانوس الحضارة الإنسانية كما يحب أن يُعبر البروفيسور محمد أركون. بإمكان هذا الفكر أن يستعيدَ طفولة العالم وبكارة المعنى وأن يُحاورَ الوجود بروح المغامرين الذين يُؤخَذون بنداءات ندَّاهة المعنى في الجزر البعيدة.

لا يمكننا، بالطبع، إغفالُ دور العوامل السوسيو- ثقافية والتاريخية الثقيلة التي يرزح تحت إكراهاتها العقلُ العربي والوعيُ الشقيُّ السائد عندنا. إن هذه العوامل – كما يبين التاريخ – كثيرا ما تكون حاسمة في انتصار اللامعقول وفي انتعاش معنى القوة المُعبر عن الانسحاب من العالم ومن مغامرة اكتناه المعنى في ليل الوجود. هذا ما حصل تاريخيا عندما انتصر - بمعنى ما - " العقلُ الفقهيُّ" في حضارتنا الكلاسيكية مادًّا ظلاله حتى عهد قريب بوصفه السّمة المميزة لمواقفنا المبدئية من قضايا المعرفة، وبوصفه نظامنا المرجعي في مسألة القيم ورؤية العالم. لقد انتصر هذا العقل لغياب الحركية الضرورية في تاريخنا من أجل توليد الحداثة وتثوير بنيات المجتمع البطريركي. وما نشهده اليوم هو أيضا تراجعٌ يقف على أرضية الفشل التاريخي في القطع مع الماضي المُعاد إنتاجه، اليوم، باعتباره قوة هيمنة رمزية وإيديولوجية على الفضاء السوسيو- سياسي. ولكن رغم وعينا بكل ذلك إلا أن هذا الأمرَ يجبُ ألاَّ يُبرّرَ، بالطبع، بقاءَ نظام الحقيقة عندنا قائمًا على البنية المرجعية والتعالي اللوغوسي واستبداديّةِ المعنى الواحد.




6

إن الثقافة السَّائدة، بهذا المعنى، لا يُمكنها أن تُشكّل مَعِيناً للإبداع بمفهومه الواسع. إنها ثقافة تَستبعدُ الذاتية والحرية من دائرة الفاعلية ولا يمكنها، بالتالي، أن تعتقَ صبواتِ الإبداع والخلق من أسر نظام المعرفة التقليدي القائم على أحادية المعنى وعلى سيادة القيم التي خُلِعت عليها جُبَّة التعالي. هذا ما يفسر تقليدية الثقافة العربية الخاضعة لسلطة النموذج والمعيار في كل شيء، وهذا ما يفسر بقاءها مؤسسة ً تعيدُ – بلا كلل – إنتاجَ زمنها الخاص المُحنط كمومياء خارج تاريخ الإبداع البشري الحي. ربما أتيح لنا أن نلاحظ هذا الأمر في ميدان الشعر بخاصة. فرغم ثورة الحداثة الشعرية العربية منذ أكثر من نصف قرن إلا أنها لم تستطع أن ُتخلخلَ في العمق، إلى اليوم، البنيات العميقة للحساسية العربية التقليدية في تلقي الشعر وتذوّقه. يكمن وراء ذلك، بالطبع، تاريخٌ كاملٌ من إستيطيقا المشافهة ومن سيادة النموذج والمعيار المُلازمَيْن، ضرورة، لكل ثقافة تريد تحصين نفسها ضد ما يتهددها من غرق في فوضى اللاتشكل. ستصبح الثقافة السائدة، بهذا المعنى، تُرسًا يحمي وجه العالم التقليدي الآيل للانهيار من حراب النقد وحراب الصعلكة الثقافية التي تقودُها نخبٌ جديدة تريد استلامَ زمام مبادرةِ صُنع العالم الجديد على أنقاض العوالم المُنتَهية.

لا يمكنُ أن تكونَ الثقافة العربية الطليعية إلا سَفرًا في عوالم البكارة: بكارةِ العالم معرفيا، وبكارة اللغة إبداعيا. هذا ما يجعلُ منها خروجا عن أبجديات السَّائد المعرفي المتصالح مع لحظته، وخروجا عن الشعر الذي لا يَحيدُ عن أداء دور الفارس دون كيشوت المغترب عن زمنه والذي ظل يصارعُ طواحينَ الأوهام في عالم ٍ تجاوز تقاليد الفروسية. إن ما يملأ حياتنا هو سقوطُ كل ما كنا نعتصمُ به باعتباره طوقَ نجاةٍ في محيط التاريخ الأهوج. ورغم لحظة الانهيار الشامل إلا أننا ما زلنا نَتمسَّكُ، ولو ضِمنيا، في فعل نوستالجيا خائبة بحديثنا الذي لا ينتهي عن الهوية وعن مركزنا ودورنا في العالم. هذا جزءٌ من بُؤسِنا ونحن نَترنحُ على أرصفة البطالة الحضارية في العالم الراهن. رُبَّما كان الأجدر بنا ونحن نعيشُ فضائلَ الانسحابِ من مَشهدِ العالم الحي، وننفخُ في رماد التاريخ في محاولةٍ لبعث الآلهة القديمة - أن ننتبهَ إلى أن قدرَ الثقافات التي تعكِفُ على حراسةِ معابدها القديمة واستجداء البرَكاتِ من السَّماوات المُضمحِلة هو كقدَر طروادة: لن تبقى أبدًا بمعزل ٍ عن مَكر التاريخ ومُفاجآته واخترَاقاتِه.

السَّفرُ في عوالم البكارة؟ هذا يقتضي منا الانسلاخ، بالطبع، عن نظام المعرفة القديم، ويقتضي منا أيضا تحريرَ المعنى من المُسبَّقات وعتقَ الفاعلية الإبداعية من سلطةِ النموذج وكل أشكال الوصاية. ربما تكون هذه هي الحداثة الفعلية التي لا نتصورها إلا عملية تشبه " مسح الطاولة " في طبعةٍ عربية تُسدِلُ السّتارَ على تاريخ الارتهان في بنيات الهيمنة الرَّمزية الماضوية. سيكونُ الإبداعُ الفعليُّ خلقا ومراسلاتٍ جديدة مع العالم والوجود في أفق البحث الدائم الذي لا يتوقف. فالإبداعُ، جوهريا، مساءلة وإعادة نظر وخلخلة لما استقرَّ وساد. إنه مناهضة دائمة لمؤسسة الثقافة السائدة وعتقٌ لفينيق الدلالة من رماد المعاني المكرسة. سيكون الشعر، انطلاقا من ذلك، ثورة على الثقافة بوصفها مؤسسة َ هيمنةٍ طمست معها وجه الإنسان تحت أثقال التاريخ القمعي. سيكونُ سَفرا إلى العالم يُمزق شرانق الخَدر الإيديولوجي ويعلن طهارة اللغة من علاقاتها القديمة ومن نظام الدلالة القديم. لن يكون الشعر، بالتالي، غسقَ الكلام وشيخوخته وصداه، بل فجرهَ وبداياتِه وأعياده التي تخلع ضوءَ المعنى على جسد العالم المُعتم. لن يكون منشدَ القصر والناطق باسم الإيديولوجيات المدمرة وليدةِ الضغط السوسيولوجي والحنق على المرحلة كما نلاحظ في معظم شعرنا اليوم، وإنما سيكون تحليقا في بكارة العالم من خلال اشتغاله على اللغة ومحاولاته الدائمة في تنظيفها من ذاكرتها ومن مورُوثها الاصطلاحي / الدلالي لتعيدَ تأسيسَ علاقاتٍ جديدة بين الدال والمدلول تتجاوز نظامَ اللغة القمعيَّ القديم.

إننا نعتقد، انطلاقا مما سبق، أن الشعر الحقيقي لغة مغايرة وابتكارٌ للعالم وليس مُجرَّد وصف له. إنه السفر في متاهة العالم، وهو سؤالٌ مطروح دوما على الثقافة من حيث هو تشويشٌ لنظام القيم المكرسة. إنه عتق للعالم من نظام الدلالة السائد في الثقافة القائمة على المُسبَّق والمتعالي. وهو تأسيسٌ لمشروعية اللّعِب، بالمعنى الكياني العميق، بوصفه خلقا مغتبطا وفاعلية لا تكل في تدمير كل قصور الثقافة الرملية على شاطئ المجهول واللانهاية. هذا ما يجعل منه فكرا يُسائل المكبوتَ ويُفصِحُ عن المُغيَّب في الذات بفعل منظومات الإخضاع التاريخية. سيكون سؤالا يكتنز بهمهمات المقموع فاضحا، بذلك، صنمَ العقل الاجتماعي باعتباره مؤسسة قمعية هائلة. ونحن نعتقد أن فضيحة بنياتِ القمع الراسخة لا تكمن إلا في قول الجَسد. من هنا كان الجسدُ محرابا للشعر الحقيقي، وكانت الخطيئة ُ نبُوّتَه في قول الإنسان الشامل الذي ظل مطمُورًا تحت أكداس التعاليم وقيم الإخضاع. الشعر، بهذا المعنى، خروجٌ مُعلَن من دائرة قيم الثقافة القمعية، وهو فاعلية جسدانية تجنحُ إلى مناهضة الثقافة القائمة على طلاق الذات مع الوجود. إنه صبوات لا تهدأ وحنين عميق إلى تلك الوحدة البدئية بين الإنسان والعالم ِعبر فعل الحب وعِبر النشوة والانخطاف والسُّكْر والرقص وحَمْحمَاتِ الروح في منافي الكينونة المُعذبة. هذا ما يجعل منه، أيضا، انتصارا للرغبة ودخولا في إيقاع العالم وليل المعنى، حيث لا مكان للثنائيات التي مزقت الوعيَ وجعلت السماءَ سيدة ً على الأرض.

الإيديولوجية نعاسُ الثقافة. أما الشعرُ فهو يقظتهَا الدَّائمة. إنه طفولتها ونزوعُها الدائم إلى اقترافِ البدايات وعناق فجر الأشياء. إنه – في ذرواتهِ الكشفيَّة العليا - ذلك العصفورُ الذي يشرب، كلَّ صباح، من نهر النسيان قبل أن يسافرَ في غابةِ العالم. ربما نتذكر، هنا، الشاعر الفرنسي العظيم سان جون بيرس Saint-John Perse - يوم تسلُمِه جائزة نوبل للآداب - قائلا إن الشعر سيكونُ وليدًا للدهشة نظير ما كانت الفلسفة في بداياتها عند اليونان. الدهشة ينبوعٌ لا يكف عن الهدير بالدعوة إلى السَّفر إلى العالم والخروج من ذاكرة المعنى المستنفد. والشعر، هنا، هو ما يَسقي عُودَ الثقافة الذي جف فيه ماءُ التطلعِ والصبوةِ إلى أعياد الجسد والروح والشبق إلى الامتلاء الوجودي. فإذا علمنا أن ثقافتنا العربية السائدة هي، أساسا، ثقافة يغلب عليها الطابع الإيديولوجي، أمكننا أن ندرك مدى حاجتِنا إلى الشعر الذي ُيفصح عن الهُوية الإنسانية بكل أبعادها خارج خطاطات الإيديولوجية والفكر المذهبي الشائع، وأمكننا أن ندرك أيضا كيف أننا نعيشُ – بسببٍ من ذلك - على حافة الأفول التاريخي الفاجع ولا نعملُ إلا على إطالة أمدِ غياب الإنسان وغياب حضُورنا الفعلي على مسرح العالم. رُبَّما كان على شعرنا، انطلاقا من ذلك، أن يستعيدَ حقوقهُ في قول العالم والإنسان بمعزل عن البنية الثقافية العربية المهيمنة أشكالا من الأصولية ومن الرؤى المذهبية الإيديولوجية التي جعلت منه صدًى لمعنى القوة. رُبَّما كان عليه أن يبدأ بتحرير العالم من القراءات السائدة، وتحرير الوجود من مركزية اللوغوس اللاهوتي الطابع، وتحرير الحياة من هيمنة الواحدية وكل أشكال التعالي والمركزية التي أسَّست للنبذ. رُبما كان على الشعر – انطلاقا من ذلك – أن يُسهِمَ في تَدشين تاريخ ٍ جديدٍ يُولد معه العالمُ المُؤتلِف في اختلافه.

7

إنَّ وضعنا الثقافيَّ والحضاريَّ اليوم – بوصفنا عربا ومُسلمين – لا يُمكن أن ُيقرأ إلا باعتباره انسحابًا من كوميديا التاريخ الحيّ ودخولا في مُتحف العوالم المُنتهية. إننا، فعلا، لا ُنسهم في صنع وجه العالم ولا في ابتكار دروب الآتي لأننا لم نجعل من ثقافتنا مَعينا لهوية جديدة تجترح آفاق التعبير الكوني عن تطلّعِنا إلى الحرية والكرامة وإبداع الحياة في ألق المغامرة. لم نجعل من خصوصيتنا حركية تأخذ شكل شجرةٍ تنمو في اتجاه الضوء والأعالي التي تسكنها اللانهاية. لقد كان لفشلنا التاريخي في احتضان إيقاع العصر وتحديث مجتمعاتنا وحياتنا، وكان لمُجمَل الأوضاع التي عرفناها، بالطبع، أن دفعت بنا - أكثر فأكثر - إلى الانغلاق داخل أسوار الذات التاريخية الموروثة وإلى هجر فضائل المغامرة وقيم الإبداع والتطلع إلى المستقبل. لم نعُدْ نتحدث عن الحداثة والتجاوز والإبداع والاختراق وإنما عن الهوية المُهدَّدة بفعل عولمةٍ كاسحة لم تحقق نهاية ً سعيدة للتاريخ. لم تَعُد هويتنا مشروعَ بناء للذات في أفق ِ التغير ولم تَعُد سمفونية لا تكتمل، بل أصبحت رغبة انكماشٍ أمام تِنين التاريخ المُتَعثر. هذا ما طبَع ثقافتنا الحالية بنوستالجيا البحث الضمني عن حضن الأبِ المؤسس وعن التماهي مع ضوءٍ أصلي ينتشلُ الذاتَ الخائبة من هاوية التاريخ السَّديمي.

إن التفكير في هذا الاتجاه يعني، بكل تأكيد، المصالحة الضمنية مع السقوط المُدوّي لذاتنا الحضارية المُنهَكةِ وغير القادرة على مُجابهة العالم. بهذا تكون ثقافتنا نشيدًا للبجعة التي يرتفعُ صوتها بالغناء عندما ُتحتضر. هذا هو السِّياقُ العام لكل أحاديثنا عن الهوية والخصوصية ولكلّ أشكال شبقِنا الذي لا يَرتوي إلى أبُوّة التراث الرمزية وإلى القراءة الدينية الخلاصيَّة للعالم والتاريخ. كأننا لم نعُد نفكرُ إلا بوصفنا أيتامًا من أبُوّة التاريخ أو بوصفنا من ذرية آدم الذين يحملون معهُم فاجعة السُّقوط من فردوس ٍ مفقود. سيكونُ تفكيرنا، بالتالي، توبة ورجوعا عن خطيئةِ المُغامرة والإبداع وخطيئةِ احتضان التاريخ باعتباره زمنَ التغير والصيرورة والتقدم. سيكون تفكيرنا أصولية ً تسفحُ دمَ الأسئلة الكيانية والوجودية على مذبح مَرْضاةِ الآباء.

لكن الحداثة الفعلية ليست زمن آدم الذي يَدين بالطاعة الأبدية للآلهة. إنها زمنُ سارقِ النار: بروميثيوس. إنها زمنُ الإنسان المُتطلع، أبدًا، إلى هتك حُجبِ العالم ومُطاردة السر وتأسيس وجوده على المعرفة والحرية والإبداع. الحداثة زمن الإنسان المُنتفض على أبُوَّة الماضي والآلهة والمغامر بمد اليد إلى ثمار الشجرة المحرمة. بهذا تكون الحداثة الفعلية تاريخا يَعبقُ برائحة الإنسان، ويكون الإبداع الحقيقي أثرا تفوحُ منه رائحة الدم النافر من كبد بروميثيوس وهو ينازعُ منظوماتِ القمع التاريخية وصايتَها على المعنى. نستطيع أن نلاحظ أن الثقافة العربية الحالية - انطلاقا مما سبق - لم تَعُد تجِدُ نماذجَها في سيرة بروميثيوس التي صَنعت مجد الإنسان، ولم تَعُد تَحتفي بالاختراق أو تتأسَّسُ على السؤال، وإنما أصبحت حشرجة ً وتأوُّهًا في دهاليز التاريخ. لم تَعُدْ هذه الثقافة بحثا عن الخروج من مآزق الوعي في مجابهته الوجودَ والعالم، وإنما انزواء في الغسق حيث يرقد المعنى وقد تصَلَّبتْ شرايينهُ وأُحِيل على التقاعد. وإذا كان بروميثيوس العربي، في الماضي، قد كتب ملحمتهُ في صورة صَعلكةٍ بهيةٍ ناوشت سلطة الحقيقة المحتكرة في الفضاء السوسيو- سياسي، فإنه اليوم ما زال يؤدي الدَّور نفسهُ ولم يُتح له أن يُدشنَ زمنَ الإنسان المُتخلص من سطوةِ الآلهة نظيرَ ما حدث في الغرب الحديث.

متى ينتهي نشيدُ البجعة؟ متى ينتهي زمنُ الثقافة العربية التي تنتصب، إلى اليوم، تمثالَ ملح ٍ في مفازة التاريخ الآهل بفيض الفتوحات والانقلابات المعرفية والحضارية؟ متى ينتهي زمنُ الثقافة / الحشرجة لتولدَ الثقافة / الفاعلية الحية - إبداعا وكينونة وسؤالَ معنى ومصير ٍ خارج زمنِ الأب المُؤسّس؟ لن نحاول هنا، بالطبع، أن ندَّعي القدرة على وصف إكسير ملائم لانهيار عالمنا الحضاري أو طلاق ذاتنا مع التاريخ. ولكننا نعتقد، بالمقابل، أننا نستطيع أن نرفضَ السائد وأن نثورَ عليه وأن نجْهرَ بكونه أصبح مُستنفدًا وغيرَ قابل للحياة. نستطيع أن نستعيدَ فضيلة اقترافِ السفر من جديد في عوالم البكارة المعرفية والوجودية والخروج من أزمنة النهايات الفاجعة التي تجد من يبرِّرُها ومن يطيلُ أمدها اليوم في كنف المؤسسةِ الدينية والسياسية، وفي كنف ذلك الزواج المقدس بين السلطة العربية والأصولية الدينية في لحظة الخيبة العامة التي نعيشها. لن يكون المخرجُ إلا بوقوف فكرنا – كما ُيعبر ميشال فوكو M. Foucault - على عتبة " المهام الصَّباحية " من جديدٍ: يُواجهُ العالم بكرًا قبل أن تُلقيَ عليه الإيديولوجياتُ والأصوليات عباءتها، وقبل أن يتقنَّع المعنى بوشاح العالم الشائخ المُنهَك. ويواجهُ التاريخ متحررًا من قراءاتِه السائدة ومُفككا لعبة الهيمنة التي تتسَتَّرُ وراء خطاباته وبياناته الخلاصية. ويواجهُ الذاتَ مُخلخلا أسُسَها وكاشفا عن تاريخيتها بوصفها مؤسسة تاريخية لا تجد مَهدَ ولادتها المقدسة في السَّماء وإنما على الأرض.

8

كيف يمكنُ أوليس العربي أن يواصلَ رحلته المُضنية إلى مهد البدايات الأولى وموطنِ أكثر الرَّغائب حميمية؟ كيف يمكنه أن يتعمَّد بماء الشعر ليُعيد تسمية عالمِه وابتكار ذاته في أفق ما يأتي؟ كيف له أن ُيراجعَ مساراتِه وأن يجترحَ طرقا جديدة إلى الكينونة الأصيلة الحرة؟

لن يتأتَّى ذلك لأوليس العربي، في رأينا، إلا بالتخلص من أَسْر ِ سيرسه التي أوقعته في أحابيلها وأخمدت في روحه لهبَ المغامرة الكيانية. لن يتأتى له ذلك، ربما، إلا " بالتّهجير في كُل مهْمهٍ " كما ُيعبر أحدُ المكتنزين شهوة إلى بطولةٍ مُطهّرةٍ من فقر الحياة - أبو الطيب المتنبي. لن يتأتى له ذلك إلا بالخروج عن نظام طاعة الآلهة واقترافِ الخطيئة الأصلية من جديد: خطيئةِ تحرير العالم من حكاياته التأسيسيَّةِ التي تناسَلتْ في تاريخه مذهبياتٍ مغلقة وأنظمة َ قمع ٍ وتدجين.
--------------------



#أحمد_دلباني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الكتاب الأسود
- الشرعية السياسية والزمن الثقافي
- في الطوطمية السياسية وحضور الوصاية: الحقيقة والسياسة
- رسالة إلى مستبد عربي
- في مشكلة السلطة العربية واللاشعور السياسي الجمعي: خريف البطر ...
- عن الثورة العربية وأسئلة العقد الاجتماعي الجديد: قد يعود الب ...
- قداس السقوط
- احتفاءً بالكوجيتو العربي الجديد: - أنا أثور، إذن أنا موجود -
- المفكر الراحل نصر حامد أبو زيد: التفكير بوصفه قطفا للثمرة ال ...


المزيد.....




- قادة الجيش الايراني يجددن العهد والبيعة لمبادىء مفجر الثورة ...
- ” نزليهم كلهم وارتاحي من زن العيال” تردد قنوات الأطفال قناة ...
- الشرطة الأسترالية تعتبر هجوم الكنيسة -عملا إرهابيا-  
- إيهود باراك: وزراء يدفعون نتنياهو لتصعيد الصراع بغية تعجيل ظ ...
- الشرطة الأسترالية: هجوم الكنيسة في سيدني إرهابي
- مصر.. عالم أزهري يعلق على حديث أمين الفتوى عن -وزن الروح-
- شاهد: هكذا بدت كاتدرائية نوتردام في باريس بعد خمس سنوات على ...
- موندويس: الجالية اليهودية الليبرالية بأميركا بدأت في التشقق ...
- إيهود أولمرت: إيران -هُزمت- ولا حاجة للرد عليها
- يهود أفريقيا وإعادة تشكيل المواقف نحو إسرائيل


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - أحمد دلباني - متى ينتهي نشيد البجعة؟