أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - وليد مهدي - جمهورية بابل الاتحادية و عاصمتها بغداد !















المزيد.....


جمهورية بابل الاتحادية و عاصمتها بغداد !


وليد مهدي

الحوار المتمدن-العدد: 3393 - 2011 / 6 / 11 - 23:47
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


(1)

كان مجرد حلم يراودني بان تعود العراق لتاريخها ، وتستعيد اردية مجدها الحضاري التليد ...
حلمٌ يتراءى لي كلما مررت على صفحات التاريخ السومري الاكادي البابلي الآشوري بما فيه من ادب وفن وعلوم ..
يبلغ هذا الحلم ذرى بنفسجيته حينما امرُ على بغداد التي " كانت " وغيمة الخليفة التي يخاطبها :
امطري حيث شئت ..
لكنه لا يلبث حتى يتبدد مثل دخان ٍ تكثف طيفاً لبرهة لتزيحه هبة ريح حاضرنا الاليم ..
فاين العراقُ اليوم من بابل ، واين بغدادها من " بــــغـــداد " ..؟
مع ذلك ، يبقى في الروح صوت بابل التاريخ وهي تنادي ابناءها :
كيف تشظت العراقُ حرباً وفقرا ً وطائفية و اقوامية ودماً ، اين انتم يا ابناء دجلة والفرات ، وكيف تقبلون ان يضيع كلُ هذا الميراث ؟
اكادُ اسمعها تبكي كما اخبرتنا هي في ملحمة جلجامش :
كصرخة والدةٍ في مخاض ، صرخت عشتار :
كيف تحولت تلك الايامُ إلى تراب ؟

(2)

ذات يوم , كنت اقلب كتاباً بغلافٍ اسود ، لفت انتباهي في هذا الغلاف صورة اسد اثخنته عدة سهام ..
كان بعنوان .. الذات الجريحة .. ، فوجئتُ حقاً بانني لستُ الوحيد الذي كان يستمع لأنين بابل المتوجعة في دياجير عتمة الماضي باكية حاضرها ، نادبة امسها ..
كان اول لقاء فكري لي مع " سليم مطر " مؤلفه ، وهو كتاب ضخم ضم بين دفتيه اضاءات على مساحات شاسعة من التاريخ العراقي ناقشت وعالجت مسالة " الهوية " وحقيقة هذا التشظي لشعوب ملونة أقوامياً ودينيا ومذهبياً كانت في يومٍ من الايام امة واحدة ...
الآشوريين .. الاكراد .. العرب .. التركمان .. الشبك .. الايزيديين .. ، شيعة وسنة ومسيحيين وصابئة ... كلُ هؤلاء ينتمون إلى جذور ثقافية بابلية سومرية قديمة ..
فقد تكون العرب اصولها من بابل ، لكن المؤكد إن ثقافتنا برمتها تدين لبابل ..
فهي المركز والكل يدور في فلك محيطها ..
حاول الفرس تغييب الهوية العراقية منذ اليوم الذي سقطت به بابل في العام 539 قبل الميلاد ..
واعتبروا العراق محمية فارسية ، وعاود العرب فتح ( او احتلال ) العراق في العصور الإسلامية ليحدث اكبر مسخ وتغييب لهوية البلد الاصلية بتغريب شعوبها واعتبارها " اعجمية "
دفعت شعوب العراق ثمن هذه التحولات والصراعات بين الفرس والعرب من جهة ، والاتراك والفرس من جهة اخرى منذ عصور ، وها نحن اليوم ندفع ثمن تلك الرعدة الاستحواذية والنزوة القبلية التي ضيعت التاريخ المدني الحضاري لهذه البلاد وشعوبها وتهدد الآن خريطة بلدنا السياسية المعاصرة بالضياع تقسيماً وتآكلاً لتكون النتيجة من ثم مغادرة الخريطة السياسية الدولية ...
فدول الجوار العربية وغير العربية توغل يدها مدمية اليوم فيها ، وشعوب العراق بسبب تغييب وعيها الثقافي ضيعت البوصلة وتاهت في عرض النزاعات المسلحة والسياسية بين فرقاء تعددت انتماءاتهم وولاءاتهم إلا من الانتماء الحقيقي الاصيل لامــة العراق ..

(3)

قد اختلف مع الاستاذ سليم في كثير من الامور ، لكننا نتفق بان احياء الهوية الوطنية العراقية الجامعة هي الثابت الوطني الاول ..
اهم ما اختلف به معه هو عدم التفاته إلى اعادة " توطين " العراق في الخارطة السياسية الثقافية لعموم الامة الإسلامية ليكون دولة مركزية ، لان محاولة بناء العراق عبر عزله بسياج حديدي عن كل محيطه قضية تبدو صحية لقراءة سياسية عصرية .. في مدى النظر القريب ..
لكنها مستحيلة لرؤية تاريخية " ثقافية " عميقة وفي مديات مستقبيلة قادمة ، الثقافة والاديان كلها تنبع من هذه البلاد وتمد بحبال سرية مع عموم المكونات الاخرى للثقافة العربية والإسلامية ، العراق هي الدولة المركزية في الحضارة الإسلامية ولا يمكنها ان تكون مجرد رقم في تعداد الدول المسجلة في هيئة الامم المتحدة ..
يستحيل عملياً وعلى مدى قريب اقناع كل العراقيين بعراقيتهم الحقيقية التاريخية وليست " العراقيات " الاخرى المفصلة على مقاسات طائفية وقومية ...
لذا فإن الهوية العراقية لا يمكن بلورتها إلا كهوية مركزية لثقافة شرق اوسطية تضم كافة التلونات (وهذا موضوعٌ يحتاج نقاشه الموسع لمحل ٍآخر )..
الهوية الوطنية برايي الشخصي ، هي الرقم الاساس الصعب والثابت في كل المعادلات ، فكل القوى الدينية والسياسية والقومية في العراق تدعي احترام هذا الثابت ، عدا اخوتنا الاكراد الطامحين لوطنٍ كردي كبير وامة ٍ كردية قومية كبرى تلملم شعث تفرق الكرد في العراق وايران وتركيا وسوريا بدولة كردستان الكبرى ..
مع ذلك ، الاخوة الاكراد اكثر صراحة من باقي المكونات في نزعتهم الانفصالية ، اما الباقين وبسبب ظروف تاريخية وعوامل تحولات معقدة اصبحوا يخلطون بين الوطن والقومية او بين الوطن والمذهب ، باتوا يمزقون الوطن وينادون بوحدته في آن ..!
فالنخب من السنة العرب ( لا اقول كل السنة ) يتصورون بان العراق هو العراق العربي " السني " ، الشيعة العراقيين بالنسبة لهم مجرد " جالية " فارسية تسكن ارض هذا الوطن حتى لو تميزت بكثرة التعداد ، لا تعدو ان تكون جالية " عمال " يخدمون في ارض الاسياد ..
نخب شيعة العراق ( لا اقول كلهم ) يعتقدون بان العراق هو العراق الشيعي العربي ، ويرغبون بالتعايش السلمي مع كافة الاطراف الاخرى في هذه البلاد ، ويضعون حداً فاصلاً في وعيهم الجمعي بينهم وبين الايرانيين الشيعة .. لكنهم بتصورهم " اكثرية " ويحق لهم الاستئثار بحكم العراق ...
فالنخبة السياسية الشيعية ( لا اقول كلها ) يقول عنهم " بول بريمر " في كتابه المعروف عن فترة حكمه العراق بانهم الاكثر وطنية في هذه البلاد ، لكنهم وبعد سنوات من احتلال العراق تغيرت برايي الشخصي بوصلة الوطنية لديهم ..
فدخول دول الجوار الخط لمساعدة ابناءه لتحريره من الاحتلال ( وهي اصلاً سعت لدرء الخطر عن حدودها الممثل بزحف قيم الحرية والديمقراطية الجديدة المزينة للمشروع الامريكي سيء الصيت في المنطقة وليس لسواد عيون العراقيين )، وهو ما اظهر الانشقاق في صفوف المقاومة العراقية حسب ولاءاتها الـــ " ما وراء وطنية " ..
لهذا اصبحت المقاومة الشيعية اسوة بنظيرتها السنية المتكئة على بعض الدول العربية ، تعيد تصوير العراق على انه العراق الشيعي ، الكربلائي .. المتكئ على ايران ..
وبطبيعة الحال ، ليست هذه تصورات عامة في عموم الشعب ، ولو اردنا ان نقيمها بنسبة مئوية تمثيلية لمكونات الشعب العراقي فهي لا تمثل إلا نسبة قليلة جداً ، وهي في الغالب تصورات النخبة السياسية والدينية والقومية المؤثرة والممسكة في القرار السياسي لهذا البلد وهذه طبعاً مشكلة في ان تكون حكومة البلاد حكومة نخب فيما الشعب لا يمتلك قراره الذاتي ويلجأ للاستظلال بفيء هذه النخب خوفاً وطمعاً..( وهو اساس اللعبة الديمقراطية في العراق الامريكية ، عراق ما بعد صدام حسين ، عراق المحاصصة والطائفية )
فالشعب حين يوصل السياسيين عبر صناديق الاقتراع ، بطريقة ديمقراطية ، هؤلاء ما ان يدخلوا في اللعبة حتى تتشظى ولاءاتهم بين اللاعب الاكبر ( اميركا ) ودول الخليج وباقي العرب وايران والقيادات الكردية ..
وهكذا يستمر التعقيد ويتزايد على ما هو عليه اليوم كلما تزايدت سني الاحتلال في العراق..
فتزداد الجراح عمقاً وثخناُ في ظل غياب اي مشروعٍ وطني عراقي " حقيقي " خالٍ من تبعية لأي طرف اقليمي عدا " العراق " ..

(4)

لستُ في محل لوم الاخوة الكرد في نزعتهم الانفصالية ، فالفكر الشوفيني البعثي القومي قام بتكريس هذا الشعور لدى الاكراد منذ شباط الاسود 1963 والقتل الآثم لرمز الوطنية العراقية عبد الكريم قاسم ..
الفكر القومي اساساً وفي كل العالم يزيد من تكريس افكار القوميات المتاخمة لبعضها البعض ويعزز روحها ، من الطبيعي جداً أن تتأصل النزعة القومية بهذا الشكل لدى اخوتنا وشركائنا في الوطن بعد سنين من التغييب والقهر و الاستبداد ..
لكن ما لا تدركه النخب السياسية الكردية إن انشاء وطنٍ على اساس قومي في المنطقة يعيد سيناريو كيان الدولة العبرية القومي – الديني .. ، وهو كيان محكوم عليه بالفشل عاجلا أو آجلاً ولا يمكنه الوقوف طويلاً ضد حركة التاريخ ..
ففكرة الانفصال لا تعني الحصول على حق طبيعي مشروع لامة لها جغرافيا واحدة وثقافة واحدة ولغة بأصل واحد فقط ..
الانفصال يعني بالإضافة لذلك تغيير خريطة بلدان في المنطقة ، خصوصاً البلد الام العراق ، وكذلك تركيا وايران وسوريا ..
وهو ما يعني دخول الاخوة الاكراد في مشاكل عويصة وكبيرة تخدش الشعور الوطني لدى ابناء هذه الدول وتجر المنطقة إلى توترات وحروب لا يعلم مداها المستقبلي وعواقبها احد ..
الدولة الكردية لن تولد بعملية جراحية قيصرية كما يضنها البعض ، الدولة الكردية اذا ما ولدت فسوف تقتل امها .. العراق .. وتتسبب بمشاكل وحروب و توترات يمكنها أن تمتد لعشرات السنين.
وربما كانت هذه هي خطة التحالف الخفي بين قيادات سياسية كردية واطراف صهيونية ترى في العراق عدواً بدوافع سياسية مرحلية او دينية تاريخية ، وهذا المسار التحولي للانفصال وقتل العراق سياسياً كان من المفروض ان يتم بعد الاحتلال في 2003 ، لكن الاقدار شاءت بغير ما ارادوه بفعل دخول اللاعب " التركي " في المشروع الغربي في المنطقة والذي اجهض استقلال كردستان بصورة صريحة ..
تركيا ، العضو في حلف الناتو ، عاد الغرب ليسند لها الدور " القيادي " الذي سبق واسنده لإسرائيل منذ كامب ديفيد وحتى اواخر تسعينيات القرن الماضي في المنطقة ..
الغرب غير اليوم خريطة التحالف الاستراتيجي باستبدال " تركيا " بمحل كردستان حتى قال جلال الطالباني بانها ( اي دولة كردستان المستقلة ) اصبحت احلام عصافير ..
فانكسارات اسرائيل المتكررة مطلع القرن الحادي والعشرين وبتعاظم القوة والنفوذ في المنطقة للجمهورية الإسلامية الاصولية في ايران الذي اخل بالتوازن الاقليمي وعدم تمكن الدولة العبرية من مليء الفراغ وسد التخلخل هذا شكلت كلها صورة المشهد الجديد والدور التركي الكبير فيه لسد هذا الفراغ ..
وكما نرى اليوم ، لا يوجد توتر في المنطقة إلا وحشرت تركيا انفها فيه فتبدو وكان لها قراراتها وسياساتها المستقلة تماماً عن الغرب ..( وهذا غير صحيح بالمطلق لدولة عضو في حلف النيتو الغربي العسكري ) ..
تركيا هذه ، اكبر معارض ذو تأثير لنشوء الدولة الكردية ..لاحباً بالعراق ولكن لأجل ثوابت الوطنية التركية الرصينة الراسخة الرافضة لاقتطاع جزء من كيان الدولة ، تبقى تركيا رغم هذا جزء من المشروع الامبريالي الغربي وليس من الحصافة تجاهل هذا بالميل نحوها بما يفوق العلاقة الطبيعية بين دولتين صديقتين حتى لا يكبر الشرخ بيننا وبين اخوتنا الاكراد ..

(5)

بابل لابد ان تبعث كما هي عودةُ تموز .. ، فاذا تكاسلت عن بعثها اجيال الماضي والحاضر ، سيظهر الجيل الذي يعيد لها وحدتها ومكانتها في التاريخ المعاصر بإعادة توطينها " ثقافياً " كدولة مركزية لقيام حضارة عربية اسلامية ..
مثلما لا يمكن فصل كردستان وانتزاعها عنوة من جسد العراق ، لا يمكن فصل العراق وانتزاعه عنوة من كيان الحضارة العربية الإسلامية التاريخي وترابطاته الايرانية والتركية ..
العراق بحاجة لان تصبح " بابل " .. فهي الاسم الوحيد الذي يجعل العراق تولد من جديد ..
الشعب العراقي، وعلى خلاف الشعوب العربية، يقوم بتذكير العراق ..
اي يعتبر من كلمة " عراق " مذكراً ، فيما شعوب كل الدول العربية تعتبر اوطانها مؤنثة ..!
حتى إن صدام حسين في اواخر التسعينيات من القرن الماضي رفض " تأنيث " المطرب العربي لطفي بوشناق للعراق حينما يقول :
لأنكِ انتِ .. عراقُ التحدي ..
فاضطر بوشناق لإعادة اداء الاغنية لتكون " لأنك َ انتَ عراق التحدي " ..
بل قام صدام حسين بتغيير اسم " الجمهورية العراقية " في اواخر ايامه إلى " جمهورية العراق " واكثر فيما بعد بخطاباته الفارغة من تسميته بــ " العراق الاســــد " .. !!
بالنسبة لتسمية الدولة في باقي اللغات على الاقل لا تحتمل التأنيث والتذكير ، يحتفظ الوطن بخصوصية مجردة ، لكن المشكلة في ثقافة العراقيين ، العراق ذكر ..!
إعادة تأنيث بابل ، يعني مسح صفحة سوداء من وعي شعبنا الجمعي عنوان دلالتها العريض كان :
" العراق العسكري الابوي الصارم المتوحش" ..
ومن شأنه ان يكون خطوة اولى تحتاج إلى خطوات كثيرة لاحقة ، من منطلق معرفي انثروبولوجي واجتماعي ، تمكن العراقيين من الاستفاقة من ثقافة الاندروجين و الادرينالين هذه إلى ثقافة انسانية طبيعية متزنة .
وهو يعني استعادة البلاد لوضعها الطبيعي في الثقافة الإنسانية وبداية مرحلة اساسية لتخليصها من ارث الابوية الذي تأصل بشكل ٍ تفوق حتى على منابعها الصحراوية في جزيرة العرب .. من السخرية ان نجد " السعودية " انثى ، قطر انثى ، البحرين انثى ، الكويت انثى ..مصر انثى ، بل كل بلاد عربية هي انثى بمهجة وضمائر ابنائها ..عدا العراقُ ذكراً بشعور ابناءه !
لجم صوت القبيلة والعشيرة العالي ، واعلاء صوت الثقافة التاريخية واصالة الإنتماء لتاريخ العراق لا يتم إلا بخطوة اساسية جوهرية بدونها نحكم على مشروع احياء الهوية بالفشل ألا وهو العودة إلى الاسم الحضاري ... بابــــل ...
فهو اسم يمكنه ان يرجع بالوعي الجمعي العراقي إلى الجذور متجاوزاً هذه الابوية والذكورية التي لا تنسجم مع البناء الحضاري ( موضوع يحتاج لشرح يطول ) ..
وفي نفس الوقت هو اسمٌ يجمع تشتت الطيف في لون جديد – قديم واحد ، ويُمَكّن العراق من استعادة " دورها " في ان تكون دولة مركزية لثقافة أو لحضارة اسلامية ، بابل العلمانية التي تحترم الثقافة الإسلامية والمسيحية و الصابئية و الايزيدية و اليهودية وكل التلونات الاقوامية والطائفية والدينية الاخرى ..
ولنا مثال قريب في التاريخ المعاصر ، بلاد فارس التي حولها رضا شاه في ثلاثينيات القرن الماضي إلى " ايران " الاسم الارامي الذي تقبلته " الشعوب الايرانية " بمختلف تلوناتها وهو سبب مباشر في تماسك الهوية الإيرانية واللحمة الوطنية في ظل الجمهورية الإسلامية الحالية ، فلرضا شاه يعود الفضل الاول في تقوية وتمتين الهوية في دولة روح الله الخميني .
وحدها " بابل " وما تثيره من اصداء ثقافية في عمق التاريخ وترابطه الوجداني من تستطيع إعادة انتاج وعينا الثقافي بما يحترم ثوابت هذه البلاد العظيمة احتراماً حقيقياً غير منافق ، بابل وحدها التي لن تحترم الديانات الأخرى التي صنعت في مسار التاريخ العراقي والعربي فقط ، بل تعتبرها ديانات اساسية في تكوين الحضارة الإسلامية حتى لو لم تكن تتسمى باسم الإسلام .. حين تؤطر باطار ثقافي علماني ..
مثل هذه الصورة " غريبة " ، و تدفع البعض للاعتراض على فكرة إعادة توطين " بابل " كدولة مركزية في الثقافة الإسلامية ويعتبره حملاً ثقيلاً ، اذ ستبدو الفكرة طوباوية الظاهر.
لكن، هذا هو دور " العراق " الحقيقي في المشهد السياسي والثقافي عبر التاريخ، والعبث هو التجديف بهذه البلاد للخارج من مدارات الفلك التاريخي مهما ثقل الحمل ، علينا وعلى اجيالٍ من بعدنا ستأتي تحمل هذه المسؤولية " الحتمية " لقيام حضارة جديدة مركزها بابل .. وإلا فإن الجهود ستذهبها التجاذبات الداخلية الشديدة والمتنوعة هباء ..
ربما هي افكار جديدة على الواقع العصري ، لكنها قديمة بعمر السبعة آلاف سنة ترتكز على المعرفة والادب والفنون توحدها هذه المرة اللغة العربية ، لغة الضاد المتجذرة اصلاً من لغات المنطقة القديمة ، لكن باستبعاد ما وراء اللغة من قيم التشدد وثقافة الصحراء ..

(6)

الحمل ثقيل ، والخطوات ستمتد في اجيال ، لكنها ستبدأ في " جمهورية بابل الاتحادية " وعاصمتها بغداد ، وبدونها لن نخطو اي خطوات ناهضة في مسار سليم ..
لا ادعوا لإقامة امبراطورية مندثرة من جدث التاريخ ، فنحن في القرن الحادي والعشرين وقد ولى عهد الاباطرة والامبراطوريات ، ولكن لإعادة ثقافة لا تزال ماثلة حية لتحتل دورها ومكانتها في حاضرنا .. فهي ستصبح النموذج لحلولٍ كثيرة في المنطقة كلبنان و تلوناتها وكذلك سوريا وفلسطين والسعودية ومصر والمغرب العربي ..
لا اعتقد بان اي عمل سياسي حالياً يصبُ في خدمة " بابل " إلا اخراج المحتلين منها راضين او خائبين ..
هذا هو الثابت " الوطني " و " القومي " و " الإنساني " الاول ..
اما الثابت الثاني فهو ابعاد البلاد عن كل ما هو اصولي واعادة بناء الفكر السياسي في الداخل وفق هذا المبنى ، وهي مشكلة ليست بالهينة ومعالجتها تحتاج إلى بناء ثقافي عبر برامج واصدارات ومؤتمرات وندوات من شانها تليين صوت الاصولية في الداخل ، وكذلك تجنيب البلاد الوقوع تحت تأثيرات طموحات اصولية خارجية مثل النفوذ الإسرائيلي الذي يمثل دولة اسرائيل المستبطنة للأصولية ، ناهيك عن آفة الآفات الفكرية التي تهب على بلادنا من ولاية الفقيه الايرانية و ارض نجدٍ والحجاز الوهابية السلفية ..
فالفكر الاصولي السياسي ما كان لينمو ويتفرعن في المنطقة لولا زرع دولة اسرائيل التي تدعي العلمانية فيما تجر العالم من قرنيه ليبصم في الامانة العامة للأمم المتحدة معترفاً بها كدولة يهودية ..
لستُ ضد الشعب اليهودي وحقه في العيش على ارضٍ عربية في العراق أو فلسطين او اي دولة اخرى ، لكن عليه ان يتغير هو الآخر وينسى " المهمة المقدسة " في ارض الميعاد .. ويبني دولته على اساس احترام التعايش مع الآخر دون إطارٍ ديني للدولة ..!
ويتعايش كذلك مع باقي الشعوب على اساس فدرالي او علاقات تعترف بإسرائيل كدولة علمانية تضم فلسطينيين واسرائيليين مثلما تتباكى اميركا على علمنة الدول الإسلامية ورفع فقرات اعتبار الإسلام كدين رسمي للدولة ..
نريد من بابل دولة تحترم كل دين وثقافة ، وتبني دستورها على اساس علمي ثقافي عريق ونموذجي تحتذي حذوها دول شقيقة وصديقة في المنطقة .
وبكل الاحوال ، مشروع اعادة الهوية الوطنية العراقية على اساس محوري في الحضارة العربية الإسلامية يجب ان يكون مشروعاً ثقافياً طويل النفس ويمتد بمراحل إلى اجيال ..
علينا ان نتناسى العجلة ومحاولة قطف الثمار الآنية الممثلة بحصر العراق بعراقيته السياسية فقط ، هذه التوجهات تزيد من مشاكل البلاد ولا تحلها لكونها ستضيف طيفاً جديداً للطيف العراقي ..
قومية جديدة تدخل في صراع مع باقي القوميات ، ولن تشكل " الامة العراقية " بهذا الافق طيفاً كبيراً من النخبة إلا إذا اقامت ترابطات وثيقة مع كل الالوان الاخرى ، وهذا لن يتم دون إعادة توطين " بابل " في الخريطة الثقافية الإسلامية العربية ..وليس اجتزاءها من كل هذا الميراث كما سبق وتبنيت شخصياً مثل هذا التوجه قبل سنوات ، وها انا ذا اعلن تراجعي صراحة عنه..
اما المسائل التي يتحدث عنها الاستاذ سليم حول احلام القومية من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر أو دولة الخلافة من مراكش إلى بنجلادش وتشكيلها لحواجز وموانع في وجه نهوض العراق فهذه رؤية واقعية وسليمة لأنها مجرد احلام " سياسية " عفى عليها الزمن ..
ما اقصده هو توحيد الخريطة على اساس " الثقافة " بتبني مواقف شاملة وواضحة توحد الهم مع الامة كقضية فلسطين ومعاناة كل الشعوب الإسلامية والعربية الاخرى ..
فبدون وحدة الهم لا يمكن إعادة المكانة لبابل كثيمة جديدة لثقافة العراق العربية الإسلامية المركزية وهو منطلق يحتاج للتخلي عن الكثير من التنظير السياسي الذي يشخصن بعض الشخصيات والقيادات السياسية في العراق ويدخل المشروع في حيز ضيق و جدل عريض يبدا ولا ينتهي يجرف بالأفكار تدريجياً إلى نزاعات نحن في غنى عنها .. على الاقل في هذه المرحلة ..
رايي الشخصي أن نبتعد عن السياسة ودهاليزها ( في الوقت الحاضر ) لان العراق واقعة في مطب تاريخي جيو سياسي صعب وخطير ومعقد ، اميركا واسرائيل وحلفائهم ممن " تبقى " من الحكام العملاء العرب من جهة وايران وسوريا وحركات سياسية ومسلحة اقليمية من جهة اخرى .. فضلاً عن الطرف الكردي الثالث ودولته المستقلة عملياً ..
اولوية الاولويات العمل البحثي والتنظير الثقافي لتثبيت الهوية لأجل تجميع النخب المثقفة ولفت انظار النخب السياسية وكسبها بطريقة " هادئة " ومتزنة لا تدخل معهم في صدام مباشر .. كما نجد الاخ سليم ينتقد قادة الاكراد باستمرار في كتاباته ..
فجلال الطالباني ومسعود البارازاني لا يختلفان كثيراً عن عمار الحكيم او حارث الضاري او سواهم من سياسيين لا يمثلون رؤيتهم الشخصية فقط ، بل هناك شرائح وفئات واسعة تسهم في حراكهم السياسي بطريقة مباشرة او غير مباشرة مع اختلاف طبعاً سببه ان الاكراد حصلوا على حريتهم منذ عقدين من الزمن تقريباً فبات مشروعهم الانفصالي اكثر وضوحاً وقوة من سواه ..
فالحزب الإسلامي وهيئة علماء المسلمين وإن كانوا استثناء بعدم رفعهم لصوت الانفصال ، لكنهم يريدون وطناً تحكمه اقلية .. و يضعون اجندة استعلائية حالمة مسحوبة بأصداء القرون الماضية بحكم طوائفهم ومن يمثلون كأسياد لبقية " العبيد " مثل آل خليفة في البحرين ، وهذا اقبح من التقسيم نفسه دون اي التفاتٍ باننا في القرن الحادي والعشرين ..
لذا ، الحديث عن عمل سياسي وشخصنة في العراق ينفر الكثيرين ممن نحن بحاجة لهم للانطلاق بهذا المشروع ، لكن التركيز على الواقع الثقافي لبناء مسؤولية وطنية تاريخية عميقة ومفصلة ودقيقة طويلة النفس سيقود في النهاية إلى تهميش واقع التطرف والولاءات الاخرى لغير العراق التاريخي الاصيل ، رغم انني لا انكر المشقة المترتبة على مثل هكذا مشروع والمدة الزمنية التي يحتاجها ، لكن عمق العراق التاريخي بحاجة إلى نخب " تاريخية " على قدر عالي من المسؤولية ، نخب حقيقية بانتسابها للعراق فلا تنتظر جني الثمار ، تزرع لأجيال ستاتي بعدها ..



#وليد_مهدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الاحلام في الثقافة الإسلامية : الرموز والدلالة
- فؤآد النمري يبحث عن سوبرمان (2)
- فؤآد النمري يبحث عن سوبرمان (1)
- نوسترداموس برؤية تفكيكية (2)
- وفاء سلطان ودروسٌ في الحرية !
- نوسترداموس برؤية تفكيكية (1)
- الإنسان و الروبوت (2)
- الإنسان و الروبوت (1)
- ولادةُ عالمٍ جديد : تعقيباً على قراءة الرفيق عذري مازغ (2)
- ولادةُ عالمٍ جديد : تعقيباً على قراءة الرفيق عذري مازغ (1)
- التجسس السايكوترونكي وتقنياته الخفية
- السيطرة على العقول ( السايكوترونك ) : توضيحات
- انظمة تشغيل المخ ...مدخل لعلم السايكوترونك ( السيطرة على الع ...
- الوجه الآخر للجنون ..
- 2 - جبرائيل والشيطان
- 1- قراءة الطالع بالفنجان والاصداف والتوراة والإنجيل والقرآن ...
- امتنا العظيمة تستفيق : حان وقت تمزيق ( الباسبورت ) وعبور الا ...
- رموز الأحلام والدين : تحليل في خبايا رموز الأعماق النفسية ال ...
- الحداثة والدين : إشكالياتٌ وتوضيح لبعض الاخوة
- نحن والدين : مقاربة سيكولوجية _3_


المزيد.....




- استهداف أصفهان تحديدا -رسالة محسوبة- إلى إيران.. توضيح من جن ...
- هي الأضخم في العالم... بدء الاقتراع في الانتخابات العامة في ...
- بولندا تطلق مقاتلاتها بسبب -نشاط الطيران الروسي بعيد المدى- ...
- بريطانيا.. إدانة مسلح أطلق النار في شارع مزدحم (فيديو)
- على خلفية التصعيد في المنطقة.. اتصال هاتفي بين وزيري خارجية ...
- -رأسنا مرفوع-.. نائبة في الكنيست تلمح إلى هجوم إسرائيل على إ ...
- هواوي تكشف عن أفضل هواتفها الذكية (فيديو)
- مواد دقيقة في البيئة المحيطة يمكن أن تتسلل إلى أدمغتنا وأعضا ...
- خبراء: الذكاء الاصطناعي يسرع عمليات البحث عن الهجمات السيبرا ...
- علماء الوراثة الروس يثبتون العلاقة الجينية بين شعوب القوقاز ...


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - وليد مهدي - جمهورية بابل الاتحادية و عاصمتها بغداد !