أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث قانونية - عبد الحسين شعبان - فقه التجديد والاجتهاد في النص الديني















المزيد.....


فقه التجديد والاجتهاد في النص الديني


عبد الحسين شعبان

الحوار المتمدن-العدد: 3392 - 2011 / 6 / 10 - 21:22
المحور: دراسات وابحاث قانونية
    


ويعدّ من الجيل الثاني للمجددين العراقيين، وهو باحث في الفكر السياسي والقضايا الستراتيجية العربية والدولية. وله نحو 50 كتاباً منها: أمريكا والاسلام، والاسلام وحقوق الانسان، والاسلام والارهاب الدولي: ثلاثية الثلاثاء الدامي، وفقه التسامح في الفكر العربي الاسلامي، وصدر له مؤخراً كتابان: الأول الموسوم: تحطيم المرايا في الماركسية والاختلاف والثاني بعنوان: لائحة إتهام: حلم العدالة الدولية في مقاضاة إسرائيل.
من مواليد النجف الأشرف في 21 آذار (مارس) 1945 تخرج من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في بغداد، واستكمل دراساته العليا في براغ: جامعة 17 نوفمبر وجامعة تشارلس (كلية الحقوق) وأكاديمية العلوم التشيكوسلوفاكية، ونال درجتي الماجستير والدكتوراه في فلسفة القانون واختصاص بالقانون الدولي.

-1-
إذا كانت أسئلة الجدل بين الدين والعقل قد صيغت في الماضي البعيد والقريب على أنحاء مختلفة ومتباينة لمفهوم الدين نفسه، فإن سؤال الدين من داخل الدين سيطرح إشكالاته النقدية هذه المرّة في ضوء البحوث المنهجية المهمومة بالانتقال من مهمة تجديد الخطاب الديني، إلى مهمات تجديد الفكر الديني ذاته، لأنه لن يكون بالإمكان تجديد الخطاب دون تجديد الفكر، لاسيما بجعله يستجيب للتطورات والمتغيّرات ويتساوق مع روح العصر.
لعل سؤال الدين من خارج الدين يشتبك مع سؤال الدين من داخله، لأن كليهما ينشغلان بالهمّ الفكري والإنساني والروحي، سواءً كانت تفسيراته مثالية أو مادية، بأسبقية الوعي أو بألحقيته، باعتباره إنعكاساً للوجود المادي.
وإذا كان الأمر قد اقتصر في الكثير من الأحيان على تفسير العقائد الدينية، التي يتعلق بعضها بالظواهر الغيبية وتعطّش البشر الروحي للشعور بالطمأنينة الداخلية، لاسيما في ظل عجز الإنسان عن تفسير وحلّ الكثير من الأسئلة التي تواجهه، فبعضها الآخر يتعلق بجانبها الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، لاسيما بالقدر الذي يمكن أن تكون جزءًا من الصراع الدائر بين الانسان والانسان وبين الانسان والطبيعة، كسياق لصيرورة وجودية لا متناهية، وبالقرب أو البعد من المثل والقيم التي تروّج لها الأديان والفلسفات والأفكار، خصوصاً التي تريد تأمين سعادة الانسان ورفاهه، سواءً في الدنيا أو الآخرة، ولنا في تفسير هيغل للدين مثلاً، فقد كان بالنسبة إليه يعني الرغبة في السمو الإنساني نحو الأعلى والأكمل ومن خلاله يتجسّد – الإله – وهو ما قام فيورباخ بنقده ومنه استمدّ ماركس رؤيته بشأن الدين.
وضمن هاتين الرؤيتين - التاريخانية والغيبية للدين- أو المثالية والمادية إبتدأ النقاش المثير للجدل في زمن الحداثة وما بعدها ليزداد الإشكال المتعلق بالوعي الديني، إلى أن أصبح الكلام عن مقدرة الدين على مواجهة العصر وتحدّياته ينحصر في مجموعة من الدراسات والأطروحات والأفكار والمقترحات النظرية، لكيفية طرح التجديد ضمن إلتباس العلاقة بين النقل والعقل وبين الشريعة والزمن، أي بين الثابت والمتحرّك، أو بين القطعي الدلالة والظنّي الدلالة، أو فلنقل بين القابل للانفتاح على الفكر والعصر، وبين المغلق على النص والزمن..!
من هنا كان لا بدّ من فتح ملفات التجديد والاجتهاد والحداثة لمقاربة الهواجس المشتركة بين الديني والعلماني في زمن الحداثة على أن يتم انتهاج أسلوب الحوار الموضوعي الهادف لإتمام التكامل بين الدين والدنيا، لأن المسألة لا تتعلق بقيم السماء فحسب، بل أن الإشكالية تكمن في الأرض، ويدور الصراع حول القيم والمفاهيم التي يجسّدها الدين والفكر فعلاً لا قولاً، وارتباطاً مع مفاهيم الحرية والعدالة وسعادة ورفاهة البشر.
وعلى الرغم من تلقينا النصَّ الديني بكل القدسية والإجلال، إلاّ أن المسافة الزمنية بين زمن النص الأول وبين زماننا الحالي، تدفعنا للبحث والتساؤل عمّا إذا كان الموجود بين أيدينا حالياً من معطيات وشواهد أو الذي وصلنا هو نفسه من "وحي" اللحظة الأولى، أو فلنقل هل العلاقة اليوم بين وعينا الفكري وتطبيق حرفية (نصيّة) النص تؤدي إلى ذات النتيجة المطلوبة في زمن الوحي الأول والمتلقي الأول؟!
ويمكن أن نسأل بعبارة أخرى: هل المكوّنات الدلالية للنص واحدة وثابتة في كل المسافات الزمنية بموجب وحدة النص نفسه ووحدة مصدره المقدس؟ وهل ما يطرأ على الزمن من تغييرات ومستجدات أساسية وجوهرية، تفرض التقيّد بحرفية النص أو تسمح بالتغييرات؟ وإلى أي مدى يمكن التحرك لربط النص والعصر وأسلوب التلقي؟..
لقد وصلنا النص الديني عبر طرق النقل البشرية من خلال الفعاليات الاجتماعية والمدارس الفقهية، وكان للعقل والوعي البشري التأثير الأول والأساس في عملية النقل والتدوين والتصنيف والانتقاء والعرض. وفي حالات كثيرة ومن خلال مناقشة النص بالنص، ذاته نجد أن بعض العلماء قد لجأوا إلى التشدّد في إلتزام الحرفية (النصّية) تغطية لهشاشة مقدرتهم المعرفية أو لضعف في مقدرتهم العقلية التي من المفروض أن تعمل على استنباط ما يتناسب مع العصر ومتغيّراته وتيّسر كل ما له علاقة بالدين بحيث يصبح مقبولاً ومنسجماً مع متطلبات عصره.
ولو أخذنا بنظر الاعتبار أنَّ قسماً غير قليل من مكوّنات الماضي قد فُقدت، إمّا لعدم تدوينها المباشر أو لإختلال في دقة النقل، كأن ينقل جزءًا من الحدث لا كامله، فإن ذلك يشكّل مشكلة الوقوع في نصف الحقيقة، أو بمعنى يمكن القول: إن ما نُقل هو انطباع أو تصوّر أو تفاعل الناقل مع الحدث وعنه لا الحدث نفسه، مع احتمال، أن يكون الحدث المنقول منتقصاً من مجمل معطياته وملابساته ودرجة الاحتمال هنا عالية.
هذا إضافة إلى تعارض المعطيات نفسها وتناقضها، ما يعني أنَّ الحدث الماضي ذهب ولم يعد في الإمكان تمثله أو تصوّره بالكامل، كما كان لغياب أكثر أجزائه المكوّنة له ولحصول التشويش في الجزء المنقول منه، يجعله غير دقيق أو لا يفي بمتطلّبات إجلاء الحقيقة كاملة.
أضف إلى ذلك تعرّض النص الديني الشفاهي نفسه إلى تحوّل نوعي في طبيعته زمن صدوره، لاسيما بانتقاله من الشفاهة إلى التدوين، وهذا التحوّل لم يعد تحوّلاً شكلياً، بل ينال من نظام الاتصال ووضعية العلاقة لا بين المتكلم والمستمع فحسب، بل بين نص ومتلقي، ما يعني أن المتلقي الأول قد انتهى إلى الأبد ولا يمكن استرجاعه، وأن مُبَلِّغ النص لم يعد حاضراً مع نصه، بل أصبح النص هو المعبّر الحصري له.
وهكذا حلّت الكتابة المدوّنة بدلاً عن صوت المتكلم، الذي بلَّغ الوحي، وفقد الكلام قوة التأثير الموجودة في الخطاب الشفهي ومجمل التأثيرات المرافقة (نبرات، إيماءات، حركات جسدية معبرة...) والتي لا يمكن للنص المكتوب أن ينقلها، وبالتالي فإن كل مكوّنات أو ملابسات حدث التبليغ والتلقي الأول ستكون غائبة.
والتجديد لا يعني تغيير النصوص، بل يعني تغيير الفهم لتلك النصوص بما يتناسب مع الحال المعاصر. وللأسف فإن بعض علماء العصر إعتادوا ألاّ ينظروا إلى النصوص الدينية إلاّ من خلال الفقه القديم والتراث، ولاسيما الموروث منه باعتباره يمثّل القدرة على فتح مغاليق الفهم الصحيح للحاضر، وأن أي خروج عن نص الفقيه هو خروج عن الملّة. بينما المطلوب هو التدبّر والبحث عمّا يتوافق ويتناسب مع واقع اليوم، الذي أصبح مختلفاً، اختلافاً جذرياً عن واقع الأمس البعيد في زمان الفقه القديم.
إن الاجتهاد، مَلَكَة فطرية مكتسبة، تحصل للفقيه، ويُمْكِنُه - من خلالها - أن يختار من النصوص والاجتهادات ما يتلاءم مع الظروف المستحدثة، وما يتناسب مع واقع الحياة المتجدّد وما يمكن استنباطه من الأحكام والقواعد.

-2-
وإذا ما أخذنا مقولة أن الإسلام دين يصلح لكل زمان ومكان بحسب نصّيتها وحرفيتها، بما فيها من أحكام وقواعد خضعت لزمانها وكانت تعبيراً عنه، فإن هذا سيعني أن الإسلام ليس بحاجة إلى التحديث والتجديد والتناغم مع التطور العلمي والتكنولوجي والعولمة والحداثة وما بعدها، ولعل استنتاجاً مثل هذا سيقود الى التحجر والصنمية والجمود، من خلال نص لا يمكن تكييفه لمتطلبات الزمن، أو إعادة قراءته بما امتلك الانسان من تطور عقلي واكتشافات علمية!
وهكذا فإن مثل هذا الحكم سيعني إقفال باب التطوير والتجديد للفقه الإسلامي ووضع حاجز لا يمكن اختراقه بين الماضي والحاضر، في حين أن أية فكرة أو فلسفة أو دين ستكون صالحة بقدر ما يمكن تكييفها وتحديثها وعصرنتها، بما يتماشى مع تطور العصر والزمن.
وإذا ما أقرّينا بأن قواعد الدين الإجمالية هي كلّية وشاملة أي عامة ومجرّدة، فعلينا أن نبحث في الجزئيات والتفاصيل، لأن أمرها متروك للاجتهاد ومفتوح على الزمن فهي غير محصورة الحدوث في واقع واحد، وهذا ما يدعو إلى استنباط الأحدث من الاجتهاد الدائم المستمر.
وإذا كانت البشرية قد تقدّمت في شتى الميادين وخطت خطوات جادة في ميدان العلم والمعرفة والثقافة، وأضافت كمّاً هائلاً من المعلومات يزداد ارتفاعاً، بحكم المعطيات الجديدة، فإن الفقه الذي لا يواكب الزمن بما يجب عليه، سيبقى عاجزاً عن تلبية حاجات الانسان المتطورة التي لا تتوقف، والسبب الأول هو أنه لا يتسع ليشمل المجالات المتغيّرة والمتحرّكة، أو أنه إتّسع بشكل ضئيلٍ جداً، تاركاً الكثير من المسائل المعلقة دون جواب، أو حتى تركها متقوقعة على ذاتها في إطار الزمن الماضي. ولعل ذلك لا يلبّي الكثير من الاحتياجات المعاشة والمستجدات المستمرة، وهكذا ستكون آلاف الموضوعات الفردية والمجتمعية، غير خاضعة للبحث والتمحيص في بوتقة الفقه، لأنه بصراحة لا يمكنه النقاش حولها، لافتقاده الأدوات اللازمة والضرورية لذلك.
وما من شك في أن الإحساس بالزمن وخوض غمار الواقع وتحدياته على مستوى الأفكار والعلوم من موقع الإيمان بفريضة النقد الذاتي والمراجعة الفكرية، بهدف المواءمة لروح العصر الاجتماعية، سيضع العقل السكوني أمام تحدّيين أساسيين: التحدي الأول يتعلق بتحديد الهدف من أي اجتهاد أو تجديد الأمر الذي يستلزم أن تكون له الأولوية في البحث والاستنباط ، وبما أن النص القرآني هو نص مفتوح على الزمان والمكان، فإنه يحرّك العقل باستمرار نحو قراءة الواقع بحثاً عن حياة إنسانية أفضل، ولعل الأفضل دوماً هو ما استجدّ من الحداثة والعصرية.
أمّا التحدي الثاني، فهو إختيار الوسائل المناسبة للتجديد في إطار رحب من الإجتهاد والحرية، دون وصاية مسبقة أو تابوهات ومحرّمات، باستثناء ما يتعلّق بثوابت الدين وقيمة الانسانية كما يقال.
إن الإسلام وبحسب المفهوم القرآني وإنْ استمدّ قوانينه وتشريعاته من الوحي وبيّناته المثبتة في الكتاب، إلاّ أن مقوماته الموضوعية تتصل بالشرط الإنساني، أي بآليات التطبيق الفعلي الذي يغدو مع الزمن جزءًا من التاريخ ؛ وإلى أن يتخلص العقل الديني من موروثات التفسير الحرفي (النصّي) المغلق للكتاب، فإن الحداثة ستظل غير قادرة على الانتقال من حافة الزمن إلى حيث يجب، أي عمقه وجوهره، وهكذا تبقى أسيرة قوالب وصيغ جاهزة وجامدة لمناهج التفكير، وتدريجياً تنقطع عن الحياة، كلما انقطعت وشائج الصلة بينها وبين العالم المتغير وعلومه وتقنياته السريعة والملهمة.
هناك حواجز فقهية ومعرفية اصطنعها بعض المجتهدين تحتاج اليوم إلى إعادة النظر في مبانيها ومسوّغاتها وصلاحياتها، فهي وضعت في زمان غير زماننا، ولكي لا تستمر فتاوى المعاملات على الأقل في استهلاك القديم واجتراره ضمن أطر تجاوزتها الأيام فلا بدّ من ضرورة البحث عن أدوات جديدة متطوّرة في أصول جديدة تساعد على تطوير نظام الاستدلال بوسائل عصرية، لأنّ إهمالها يخالف منطق العقل والتاريخ ويحول دون تحقيق غاية الدين من هداية الإنسان للتي هي أقوم. وإذا أردنا العودة للإمام علي بهذا الشأن فقد جاء على ذكر ذلك بقوله: "لا تعلّموا أولادكم عاداتكم لأنهم خلقوا لزمان غير زمانكم"، ولعل في ذلك إدراك عميق ومبكّر لأهمية تساوق الدين مع واقع التطور والحياة المتغيّرة.
كما يجب التأكيد على ضرورة تبادل الآراء والإطلاع على ما استجدّ من تطورات ومتغيّرات، خصوصاً ونحن نعيش في عصر العولمة وثورة الاتصالات والمواصلات والمعلومات، لاسيما ما يتعلق بالطفرة الرقمية " الديجيتل"، وبكل ما له علاقة بالثورة العلمية- التقنية السوبر نيتيكية.
ولعل التطورات التي حصلت خلال العقود الخمسة الماضية، تكاد تزيد بعشرات ومئات المرّات عن التطورات العالمية على مدى خمسة قرون أو ما يزيد، بل لكل ما أنجبته البشرية في تاريخها، وهو الذي يدفع ويساعد على الاجتهاد استناداً الى القول الأثير " للمجتهد إن أصاب أجرين، وإن أخطأ أجر"، أي هناك حرية للخطأ، والخطأ مع الاجتهاد، حق مسموح ويمكن أن يعطي صاحبه أجراً، لطالما حاول وسعى للاجتهاد وأخطأ فيه.
هكذا يصبح مبدأ اختلاف الآراء والأفكار، أحد العوامل الأساسية في الوصول حيث يريد الفكر من التلاقح والتفاعل، سواءً على المستويات النظرية أو العلمية وفي الحقول العملية والاجتماعية كافة، وعلى الرغم من أهمية الاجتهاد الشخصي ودور الفرد في التاريخ، لكن الأعمال الكبرى تحتاج الى عمل جماعي وطاقات منتجة تصبّ بعضها مع بعض لإحداث التغيير المنشود وحسب رأي الإمام الشافعي " رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب" أي إعطاء فسحة للعقل وللتفكير والاجتهاد.
لا تكمن المأساة في إستنادها على النص، بل في منهجية انحباس قراءة النص ودلالاته قراءة أحادية، وضمن ظواهر التأثيم والتحريم والتجريم، وأحياناً دون معرفة كافية، لاسيما بعلوم العصر، الأمر الذي يؤدي الى الفوضى ويبعث على التشاؤم والقنوط، بل والعزلة، خصوصاً إذا كانت الأحكام تتعارض مع المعطيات العلمية، لما أنجزه العقل البشري، وهذا الأخير "نعمة ربانية" لا بدّ من استثمارها على أحسن وجه، إذْ أن أية محاولة لاغتيال العقل أو اعتقاله ستلغي إمكانية الحوار بين المقاربات المختلفة لنشاط الفكر الإنساني، بل ستعمل على تعميق الاختلاف المصطنع بين العلم والدين،، اللذان سيبدوان في تناقض لا يمكن الجمع بينهما.

-3-
التجديد الديني يجب أن ينطلق من وقفة صحيحة على قنوات الإنتاج المعرفي والثقافي لتفسير النصوص مع الأخذ بالاعتبار، أن لكل عصر من عصور " الفكر الديني" أساليبه في استخدام " النص الإلهي " تحت شعار "حاكمية" هذا النص على الواقع، وتتم قراءته أحياناً بطريقة متعسّفة أو إرادوية تبعاً لخلفيات المرجع القارئ، كما أن دور القراءة لا ينبغي أن يكون استعادة ما نقله السلف، بقدر ما ربط ذلك بالواقع من خلال نقده بما يستجيب لجوهر الدين وقيمه الانسانية، لاسيما في محاربة الاستغلال والظلم والدعوة للحق والعدل والكرامة الانسانية.
ولأن الفكر الديني عند بعض المتكلمين باسم الدين يقوم على " فكر اللغة " وليس على " لغة الفكر"، فقد وقع أحياناً بالطوباوية والجمود، ولأنه يستند عند بعضهم على مرجعية " التفسير التاريخي للنص"، فقد أتهم بتصدير المشكلات التاريخية على واقع لا يتحمّل شيئاً من مسؤولية تلك المشكلات إلاّ بمقدار إهماله في أن يجد لها حلاً ليتسنى له تجديد وعيه بالدين على قاعدة :( تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(سورة البقرة: الآية رقم 141) .
وإذا كان التقديس يطال الشروحات والتفاسير الأحادية، فإن ذلك يُعدّ من عوامل جمود الفكر الديني، ولتجديده يجب أن يواجه تحدّيات الاختبار بدءًا من إشكال المنهج ومن إشكال تجديد شخصية الفقيه المفتوح على تجديد أصول الفقه الإسلامي ومبانيه، ليتمكن بالتالي الإطلاع على علوم العصر بحيث يكون قادراً على الإجابة على الأسئلة الشائكة والمعقدة لواقعنا المعاصر .
وأياً تكن درجة التشابه بين مشكلاتنا ومشكلات السلف الصالح، فإن المنهج الصحيح في حلّها هو أن نضيء فهمنا نحن للنص الأول حتى ولو كان متعارضاً أو متناقضاً مع فهم من سبقنا من الفقهاء، فثمت فارق جوهري بين أن نبحث عن حلول لمشكلاتنا الراهنة في كتب السلف الصالح الذي أثرى فكره وعصره بتجربته العلمية في قراءة النص، وبين أن نصّب عقولنا وفاعليتنا الفكرية على المشكلات التي تعترضنا لنجد لها الحل من واقعنا وزماننا مراعين ألاّ تجيء نتائجنا الفكرية متعارضة مع تطورات الحياة ومتغيّراتها، وليس في هذا النموذج من معنى تجديد الفكر الإسلامي ما يجافي دعوة القرآن الكريم بالانحياز إلى الأحسن والأكمل والأجمل من الأفكار والأقوال والأعمال.
وأقول أنّي أرى أن الدعوة إلى التجديد تتكامل مع الدعوة إلى العلم والتعلّم، وما هي إلاّ بحث عن الأجمل والأكمل والأحسن، ولا أعتقد بأن أحداً ما يمكنه الوصول إلى أعماق مفهوم القرآن بعيداً عن التدبّر والتفكّر من أجل تجديد الوعي بالنصوص المدوّنة، وقد تم تأكيد الدعوة إلى إعمال العقل واحتكام الإنسان إليه في تدبّر أمور دينه ودنياه.
ومن الجدير بالذكر أن هناك بعض الكوابح من داخل وخارج الفكر الإسلامي تعوق إرادة التجديد، سواءً عدم القناعة بالتجديد والاستكانة لما هو قائم، أو انخفاض درجة الوعي بأهميته، أو الخشية من الانفتاح على الآخر، بحجة الحفاظ على العقيدة ونقاوتها ومنع اختلاطها بعقائد أخرى، أو التعارض مع مصالح وامتيازات بإسم الدين، قائمة ومستمرة، بل ومزدهرة، حتى وإن اتخذت لبوساً طائفياً أو مذهبياً.
ولعل مثل هذا الأمر يؤدي إلى التقوقع والانغلاق والنظر إلى الآخر باعتباره "عدواً"، مما قد يؤدي إلى حجب روح التجديد بحجة الثقافة الغازية أو "الغزو الثقافي"، وهنا تستحضر الصورة النمطية منظوراً إليها عكسياً، فبقدر الاسلامفوبيا أو (الرهاب من الإسلام) وهي النظرة السائدة في الغرب للنظر إلى الإسلام، باعتباره دين يحض على الكراهية والعنف والإرهاب، هناك الويستفوبيا (الغربفوبيا)، أي النظر بعدائية إلى كل ما هو قادم من الغرب باعتباره شرٌ مطلق.
وإذا كان الغرب السياسي بفلسفاته وأنظمته يستهدف فرض الاستتباع على المسلمين والإسلام وكبح جماح تنمية شعوب العالم الثالث ومنعها من تمثّل هويّاتها الثقافية، فإن الغرب في الوقت نفسه مستودع للعلم والتكنولوجيا ولخير ما أنجبته البشرية من أدب وفن وجمال وعمران، بما فيه تأييد بعض حقوقنا العادلة والمشروعة، لاسيما من جانب بعض الأوساط في الغرب الثقافي.
لقد جرى تشويه صورة العرب والمسلمين على نحو صارخ، لاسيما بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001 الإرهابية الإجرامية، بحجة أن بؤرة الإرهاب والعنف تكمن في الإسلام ذاته كدين، وتم اختزال تلك الصورة لتنطبق على أسامة بن لادن وتنظيمات القاعدة وغيرها، أما الإسلام الحضاري المعتدل وقيمة السمحاء، فقد اختلطت صورته وإلتبست قيمه عبر تنظيرات آيديولوجية بعضها مغرض مع سبق الإصرار وبعضها ساذج وهو ما نطلق عليه "الاسلاملوجيا" أي "الاسلام ضد الاسلام"، وهي محاولات لا تقلّ خواءً عن الافتراضات المسبقة، ابتداءً من فكرة "نهاية التاريخ" التي جاء بها فرانسيس فوكوياما في نهاية الحرب الباردة وتحوّل الصراع الأيديولوجي من شكل إلى شكل جديد العام 1989، متخذاً من الإسلام عدوّاً جديداً بعد انهيار الشيوعية، إلى فكرة "صدام الحضارات" التي روّج لها صموئيل هنتنغتون منذ العام 1993، والتي تجسّدت في بيان المثقفين الأمريكان الستين بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) والذي كان أقرب إلى البيان الحربي منه إلى إعلان ثقافي، على الرغم من دعوته للحوار، لكن الأجواء التي سادت كانت كلها تشجع على التهميش والاستئصال، وهو ما جرى التعبير عنه خلال الحرب العالمية ضد الارهاب الدولي، والتي وجدت ضالّتها في احتلال افغانستان 2001 واحتلال العراق 2003، وما صاحب ذلك من أعمال إرهاب وعنف منفلتة من عقالها وفي تعارض مع القواعد القانونية والانسانية الدولية.
ولولا الأزمة العالمية الاقتصادية والمالية التي عصفت بالولايات المتحدة وبالنظام الرأسمالي العالمي وانهيار بنوك عملاقة وشركات تأمين كبرى وانخفاض سعر الدولار بشكل خاص لكانت الحملة المعنونة " القضاء على محور الشر" قد طالت بلدان أخرى كانت على لائحة التنفيذ. ولعل الوجه الآخر لهذه الحملة كانت اسرائيل بحربها التي دامت 33 يوماً ضد لبنان وحزب الله تحديداً العام 2006 ومن ثم حربها على غزة التي دامت 22 يوماً في أواخر العام 2008 وأوائل العام 2009، بعد حصار مفتوح وهو ما بشرت به كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة حين وعدت بقيام شرق أوسط جديد ولم يكفها الحديث عن شرق أوسط كبير، ولكن صمود الشعب الفلسطيني والشعب اللبناني فوّت على واشنطن وحليفتها فرصة استكمال مخططاتها العدوانية.
وتستغل هذه التوجهات بعض أعمال العنف والتزمّت والتعصّب والغلو التي تتم بإسم الإسلام وتريد إعادة الزمن إلى الوراء، أي الى ما يزيد عن 1400 سنة الى الخلف، وتكفير وتأثيم وتجريم كل ما يعاكس نظرتها، وترفض أي تساوق مع التحديث والتجديد والمعاصرة، وهو ما ينبغي التوقف عنده ودراسته بعمق، لأن تلك الصورة النمطية المشوّهة والتي ما تزال عالقة بذاكرة الغرب السياسي من غزوات الفرنجة الأولى، وحتى احتلال العراق، المفتوح على احتلال الهوية والثقافة والدين والمستقبل، لا ينبغي لها أن تكون مبرراً لحجب الفكر الديني في إطار ضيق والعيش مع الماضي والإبحار في التاريخ ونصوصه، دون رؤية الحاضر واستشراف المستقبل، بعقل منفتح وفكر يقبل الآخر، ويتعامل معه على أساس المساواة والحقوق والعدالة، وهو ما يفترض أن يتم التمسك به لنا وله، ومن خلال فقه التجديد والاجتهاد في النص الديني وما له علاقة بالحياة ومتغيّراتها.



#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الشاعر أحمد الصافي.. التمرّد والاغتراب والوفاء للشعر
- قانون التغيير وتغيير القانون
- في العقول يبنى السلام وفي العقول يتم القضاء على العنف
- فصل جديد من الدبلوماسية الأمريكية
- سعد صالح.. سياسي كان يسيل من قلمه حبر الأدب
- إمبابة وأخواتها
- التنمية وحقوق الطفل: المشاركة تعني الحماية
- لغز الانسحاب الأميركي من العراق!
- التعذيب والحوار العربي - الأوروبي
- تحية لمظفر النواب: شاعر التجديد والتمرد والإبداع
- مَنْ يعوّض مَنْ؟
- الساسة العراقيون يتصرفون وكأنهم لا يزالون في المعارضة
- أيهدم بيت الشعر في العراق!
- بعد 50 عاماً على اعلان تصفية الكولونيالية
- دور المجتمع المدني بعد انتفاضات الشباب
- السمات العشر للانتفاضات العربية
- المواطنة بضدها
- الجنادرية والتويجري والأسئلة
- جاذبية التغيير
- الاستمرارية ميزت الجنادرية وهذه القضايا باتت ملحة


المزيد.....




- محكمة العدل الدولية تصدر-إجراءات إضافية- ضد إسرائيل جراء الم ...
- انتقاد أممي لتقييد إسرائيل عمل الأونروا ودول تدفع مساهماتها ...
- محكمة العدل تأمر إسرائيل بإدخال المساعدات لغزة دون معوقات
- نتنياهو يتعهد بإعادة كافة الجنود الأسرى في غزة
- إجراء خطير.. الأمم المتحدة تعلق على منع إسرائيل وصول مساعدات ...
- فيديو خاص: أرقام مرعبة حول المجاعة في غزة!!
- محكمة العدل تأمر إسرائيل بفتح المعابر لدخول المساعدات إلى غز ...
- مسؤول أممي لبي بي سي: -المجاعة في غزة قد ترقى إلى جريمة حرب- ...
- الأونروا تدعو لرفع القيود عن وصول المساعدات إلى شمال غزة
- الأمم المتحدة: هناك مؤشرات وأدلة واضحة تثبت استخدام إسرائيل ...


المزيد.....

- التنمر: من المهم التوقف عن التنمر مبكرًا حتى لا يعاني كل من ... / هيثم الفقى
- محاضرات في الترجمة القانونية / محمد عبد الكريم يوسف
- قراءة في آليات إعادة الإدماج الاجتماعي للمحبوسين وفق الأنظمة ... / سعيد زيوش
- قراءة في كتاب -الروبوتات: نظرة صارمة في ضوء العلوم القانونية ... / محمد أوبالاك
- الغول الاقتصادي المسمى -GAFA- أو الشركات العاملة على دعامات ... / محمد أوبالاك
- أثر الإتجاهات الفكرية في الحقوق السياسية و أصول نظام الحكم ف ... / نجم الدين فارس
- قرار محكمة الانفال - وثيقة قانونيه و تاريخيه و سياسيه / القاضي محمد عريبي والمحامي بهزاد علي ادم
- المعين القضائي في قضاء الأحداث العراقي / اكرم زاده الكوردي
- المعين القضائي في قضاء الأحداث العراقي / أكرم زاده الكوردي
- حكام الكفالة الجزائية دراسة مقارنة بين قانون الأصول المحاكما ... / اكرم زاده الكوردي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث قانونية - عبد الحسين شعبان - فقه التجديد والاجتهاد في النص الديني