أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - كاظم حبيب - حول ماضي الشيوعيين العراقيين ومستقبلهم!















المزيد.....



حول ماضي الشيوعيين العراقيين ومستقبلهم!


كاظم حبيب
(Kadhim Habib)


الحوار المتمدن-العدد: 3388 - 2011 / 6 / 6 - 19:44
المحور: مقابلات و حوارات
    


حوار مع الدكتور كاظم الحبيب عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي
سابقاً :
حول ماضي الشيوعيين العراقيين ومستقبلهم!

أجرى الحوار: إبراهيم أحمد
حين يبلغ المرء مرحلة متقدمة من العمر جميل أن يحتفى به ويكرم، ولكن الأهم أن يقف مستذكراً مساره الطويل بجرأة وموضوعية وهدوء بعيداً عن صخب الحفل وشموعه وكلمات المحتفين التي تطغى عليها عادة المجاملات والتهويمات العاطفية، ليرى بنور البصيرة الساطع مواضع الصواب والخطأ ، ثبات وصحة الخطى إلى الهدف،التيه والضلال وضياع الحلم والأمل، باختصار: النجاح والفشل خاصة في المحطات الرئيسية!
يغدو هذا أشد ضرورة وأكثر إلحاحاً حين يكون المرء مناضلاً اختار طريق العمل العام منذ صباه أو شبابه، أو مفكراً وكاتباً ساهمت كلماته في صنع عقول الكثيرين وربما تقرير مصائرهم،انطلاقاً من هذا كان لي لقاء مع الدكتور كاظم الحبيب، بعد أن بلغ الخامسة والسبعين من العمر، في مدينة يتبوري السويدية قبل أيام، في بيت صديقنا عباس سميسم ،تحدثنا فيه عن ضرورة حوار يدور حول محاور فكرية وسياسية أساسية كانت وما تزال من هموم نشاطنا وحياتنا الفكرية.
عرفت الدكتور كاظم حبيب في بغداد منذ أكثر من ثلاثين عاماً عندما كنت أحد كوادر الحزب الشيوعي وأكتب في جريدة طريق الشعب، وكان الدكتور الحبيب معروفاً لنا: عضواً في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، وعضوا فاعلاً في المجلس الزراعي الأعلى ، وأنه هو من يصوغ أو يساهم بشكل واضح مفهوم الحزب للسياسة الاقتصادية التي ينبغي أن تسود في العراق، وبعد انهيار التحالف مع البعثيين وخروجنا إلى المنافي، صار عضواً في المكتب السياسي، وقد جمعني به عمل مباشر لسنوات بتنظيم الحزب في الجزائر، وكنت وما أزال أتابع ما يكتب باهتمام، وعلى تواصل دائم معه عبر التلفون والنيت وفي لقاءات مباشرة خاصة بندوات في لندن وعمان والسويد، كانت أهم سمة وجدتها في شخصيته،خاصة في الآونة الأخيرة هي استعداده لسماع الرأي المختلف،ومناقشته باهتمام وحرصه على تصفية القلب والعقل من شوائب الماضي، الذي آذانا وجرحنا جميعاً!
كنت أسمع من بعض أصدقائي اللبراليين يقولون بخبثهم المحبب، ليتنا نرى قادة الأحزاب الشيوعية كيف هو مزاجهم بعد انهيار كعبتهم في موسكو ، هل ما زالوا يكابرون مدعين بأن نظريتهم كلية القدرة، وإن كتبهم المقدسة قادرة على شفاء الأوطان المريضة وإسعاد عشاقها المسلولين من هجرها أو تقلباتها؟
لقد حدث الزلزال الأيدلوجي ، وانهارت منظومة كبرى من الدول كانت تنام على مخدته الحريرية ، ولكن هل تغيرت عقول أتباعه وتلامذته ومريديه بنفس القدر؟ أو كما يحلو لخصومهم اللبراليين القول: لقد انهار المعبد ، هل صفى الكهنة ادعيتهم ومباخرهم واتجهوا صوب الشمس؟ صوب الحياة ، ليلووا عنق النظرية من أجل الحياة، ولا يلووا عنق الحياة من أجل النظرية؟ وحيث أن الدكتور الحبيب هو الآن الوحيد أو من القلة، ممن يمارسون الكتابة والعمل الفكري من قادة الحزب المتوقفين عن العمل الحزبي ،أو الذين أحيلوا أو أحالوا أنفسهم على التقاعد، لذا فإن الحوار معه يعطي مسحة فكرية، أو خلاصة مركزة، عما يدور في أذهان وسريرة رعيل من الشيوعيين العراقيين، ساهموا في مجرى العمل السياسي في العراق في نصف القرن الأخير من تاريخ العراق الحديث!
قال :
ـ أشعر بأننا بحاجة إلى رؤية هادئة لأحداث الماضي ولكنها صارمة بما يسهم في تحسين أوضاع اليسار, إذ أننا لا نشكل في عمر الزمن الجاري إلا رحلة قصيرة وقصيرة جداً, رغم أنها كانت تمس مصائر الكثير، والكثير جداً من البشر.

قلت إذا لنبدأ بما قد يبدو صارماً بعض الشيء:
- ألا ترى أن تأسيس الحزب الشيوعي العراقي في بلد متخلف كالعراق في الثلث الأول من القرن الماضي كان خطأ فادحا؟

** لقد بدأ العراق خطواته صوب نور الحضارة الإنسانية بعد انقطاع طويل في ظل الهيمنة العثمانية المديدة (أربعة قرون تقريباً) حين سقطت الدولة والعثمانية ووقع العراق تحت الاحتلال البريطاني. في هذه الفترة برزت حركة سياسية عراقية ذات مضمونين متداخلين ومتفاعلين, وأعني بهما:
1 . حركة سياسية دينية مناهضة للوجود البريطاني في العراق من منطلق ديني باعتبار الدولة المحتلة مسيحية وكافرة ويفترض مقاومتها ومن أجل إقامة مملكة عراقية مستقلة.
2 . هذه الحركة السياسية كانت مشبعة بالعداء للجديد القادم من الغرب, للحضارة الجديدة التي تهدد سيطرة المؤسسات الدينية المهيمنة على عقول الناس وأفئدتهم, سيطرة الإقطاع على الأرض الزراعية وإخضاع الفلاحين لهم وبدعم من المؤسسات الدينية, الخشية على الأموال التي كانت تصل إليهم من كبار الإقطاعيين وملاكي الأراضي الزراعية ومن الخارج.
ولكن بجوار هؤلاء وجدت فئة صغيرة من المثقفين والتجار الوطنيين الذين كانوا يسعون إلى التحرر وتخليص المجتمع من تأثير القوى الرجعية المتمسكة بالماضي بشأن التعليم والثقافة والمرأة وحرية الإنسان وحقوقه.
وخلال فترة العشرينيات ومن ثم في الثلاثينات برزت أحزاب سياسية عديدة منها الحزب الوطني لجعفر أبو التمن أو جماعة الأهالي أو الإصلاح الشعبي أو نادي المثنى. كما برزت جمعية مكافحة الاستعمار والاستثمار التي أسستها مجموعة تبنت الفكر الماركسي في 8 آذار/مارس 1934.
كان فهد (يوسف سلمان يوسف) في أوائل الثلاثينيات, وبعد أن أن انتقل من البصرة إلى الناصرية ليعمل في مكينة الثلج التابعة لأخيه, عضواً في الحزب الوطني ومعتمده في الناصرية ومراسله أيضاً وقريب سياسياً من جعفر ابو التمن.
أخذ المؤسسون الأوائل واقع العراق الفكري والسياسي والاجتماعي والديني بنظر الاعتبار حين أطلقوا على اسم الحزب الجديد "اجمعية مكافحة الاستعمار والاستثمار". ولكنهم اصطدموا بموقف متعنت من الأممية الثالثة التي كانت ترفض طلبات الانتساب إلى هذه الحركة ما لم تسم نفسها باسم الحزب الشيوعي العراقي, كما حصل تماماً مع الحزب الاشتراكي المصري الذي فرض عليه في العام 1924 تغيير اسمه إلى الحزب الشيوعي المصري واضطر أن يتخلى عنه الكثير من وجوهه الاشتراكية المعروفة حينذاك. كانت الأممية الثالثة تسعى إلى نشر الحركة الشيوعية المؤيدة للاتحاد السوفييتي والداعمة له عربياً ودولياً هو السبب وراء ذلك الإصرار على تغيير الاسم.
لم يكن تغيير الاسم وحده, بل كذلك الأهداف والنظام الداخلي الذي ارتدى ما أرادته له الأممية الثالثة وليس ما فكر فيه العراقيون المؤسسون الأوائل ومنهم فهد.
لا شك في أن الحزب كان سيؤثر أكثر لو أبقى الاسم السابق له في المجتمع العراقي ولتجنب الكثير من المشكلات الحكومية والشعبية.
ورغم ذلك فقد تقبل الكثير من البشر حينذاك هذا الاسم ودخلوا في الحزب وناضلوا معه وأستوعب حركة المثقفين العراقيين بشكل واسع. ويمكن القول بأن مدناً معروفة بتدين سكانها قد دخلوا في هذا الحزب وساعدوه وحقق شعبية كبيرة وقاد الحزب نضالات كثيرة. لقد حورب الحزب بسبب اسمه من جانب الدولة وأجهزتها ومن المؤسسات الدينية ومن الكثير من الفئات الاجتماعية المتدينة. وكان الحزب قادراً على تجاوز ذلك لو كان قد اتفق مع عزيز شريف في أن يكون اسم الحزب مثلاً "حزب الشعب" أو حزب "التحرر والديمقراطية".
ومع ذلك أقول بوعي ومسؤولية بأن الاسم الأول, أي جمعية مكافحة الاستعمار والاستثمار" وكان المقصود هنا الاستثمار في قطاع النفط وامتيازاته بشكل خاص, كان الأكثر قرباً من الواقع العراقي حينذاك وأكثر انسجاماً مع طبيعة المجتمع ومهمات النضال.

ـ كلامك يؤكد التحليل التاريخي الموضوعي، الذي يقول أن الحزب الشيوعي العراقي أسس بقرار أممي، أو خضع بشكل حاسم للتوجيه الأممي، وتجاهل الاعتبارات الوطنية؟

ج – هذا الاستنتاج ليس دقيقاً تماماً. أشرت في إجابتي بوضوح إلى عوامل عدة ساعدت على نشوء الحزب الشيوعي العراقي, إذ لولا قبول الواقع الموضوعي في العراق بوجود هذا الحزب والتفاف الناس حوله لما نشأ وتطور واستمر هذه الفترة الطويلة وقاد حركات جماهيرية واسعة وتصدر القوى السياسية في فترات مختلفة, علماً بأن عدداً غير قليل من الأحزاب العراقية كان قد نشأ ثم اختف من الساحة السياسية العراقية. سأحاول هنا أن ألخص بعضها في النقاط التالية:
1. كان للعامل الدولي دوره في إيصال الأفكار التقدمية والماركسية في فترة مبكرة من القرن العشرين إلى العراق, أو مع نهاية الحرب العالمية الأولى. وقد أثرت ثورة أكتوبر في العام 1917 على الكثير من شعوب العالم تماماً كما كان للثورة الفرنسية تأثيرها على مصر والدولة العثمانية وغيرها في حينها. كما كان للكتاب المصريين والحزب الاشتراكي المصري, الذي سمي في العام 1924 بالحزب الشيوعي المصري دوره في هذا الصدد, وكذلك بعض القادمين مع الجيش البريطاني في البصرة. إضافة إلى الدعاة السوفييت الذين وصلوا العراق في حينها. وكان للعراقيين الذين عاشوا فترات قصيرة في الخارج, ومنهم حسين الرحال في ألمانيا دورهم أيضاً في نقل الأفكار الماركسية إلى العراق. يمكن في هذا الصدد مراجعة كراس الأستاذ الدكتور عامر حسن فياض عن جذور الفكر الاشتراكي في العراق, وكتابنا-كاظم وزهدي عن "فهد والحركة الوطنية في العراق وحسين جميل عن "نشأة الأحزاب السياسية في العراق).
2. لقد وجدت في العراق منذ العشرينات أحزاب سياسية تقودها عناصر برجوازية صغيرة مثقفة وناشطة في التجارة وأبناء من عائلات ميسورة, كما برزت جماعة جريدة "الصحيفة" التي التزمت الخط التقدمي وخلفية ماركسية في نضالها من أجل تحرير المرأة والتصنيع وما إلى ذلك. ومع خروج العراق من الوصاية البريطانية المباشرة (الانتداب) في العام 1932 حتى تأسس العديد من الأحزاب السياسية العراقية الوطنية المعارضة بشكل عام والتي شاركت في النضال الوطني. وقد تبنت هذه الأحزاب أهدافاً عامة ومهمة حينذاك ذات طبيعة اقتصادية واجتماعية.
3. كان العراق لا يزال يخضع للسياسة البريطانية المؤثرة على القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي العراقي. كما كان الفقر والفاقة في الريف العراقي شديداً على العائلات الفلاحية المقترنة بالظلم الإقطاعي وقوانين اللزمة التي وضعها أرنست داوسن في العام 1932. وكانت الطبقة العاملة قد تشكلت لتوها في مناطق مهمة مثل منشآت النفط الخام في كركوك أو السكك الحديد في بغداد والبصرة أو الموانئ العراقية في البصرة... الخ.
4. السياسات القمعية التي مورست من جانب السلطة ضد قوى واسعة خلال الفترة الواقعة بين 1933-1936.
5. دور المؤسسة الدينية في تشديد الحصار الفكري والتضييق على الناس والفراغ القاتل للشبيبة, إضافة إلى البطالة الواسعة في المدن.
كل هذه العوامل وغيرها ساعدت على بروز حاجة لحزب سياسي يطرح شعارات الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وضد الإقطاع والبطالة. وفي هذا برز الحزب الوطني لجعفر أبو التمن , ثم جماعة الأهالي والإصلاح الشعبي, وكلاهما طرف واحد باتجاهات متعددة يسار ووسط ويمين, ولكنها كلها وطنية, ثم قوى أكثر يسارية هي الجماعة التي أطلقت على نفسها "لجنة مكافحة الاستعمار والاستثمار". التي تحولت بتأثير الأممية الثالثة إلى الحزب الشيوعي العراقي وتبنت بوضوح الماركسية – اللينينية وأصبحت عضواً في الأممية الثالثة.
هكذا كان التأسيس بفعل عوامل عديدة, ولكن كان للأمية الثالثة التأثير البارز على تقرير اسم الحزب وعلى نهج الحزب السياسي الدولي بشكل خاص. ولهذا جاء في كتابنا المشترك بيني وبين الصديق الدكتور زهدي الداوودي عن "فهد والحركة الوطنية في العراق" ما يشير إلى أن فهد مارس وكتب في الواقع العملي خطابين, خطاب وطني عبر فيه عن القضايا المحلية الوطنية, وخطاب أممي عبر عن القضايا الأممية بلغة لا تتناغم مع الواقع العراقي حينذاك ومستوى تطور المجتمع والذي تجلى في كراسه المعروف "حزب شيوعي لا اشتراكية ديمقراطية, والذي كان يعبر فيه عن الصراع الدولي بين الأممية الثانية والأممية الثالثة والذي لم يكن ينسجم مع واقع العراق وصراعاته حينذاك. أي أن الخطاب الأممي الذي نقله فهد إلى العراق لعب دوره في التأثير أيضاً على السياسات الداخلية, وبشكل خاص في موضوع التحالفات ودور الطبقة العاملة والحزب وبعض بنود برنامج الحزب, والتي لم تكن صائبة عموماً.

- ألفت مع الدكتور زهدي الداوودي كتاباً عن فهد، وقد شخصتما بعض مثالبه خاصة عدائه للمثقفين أو خشيته منهم،ألا ترى إن فهد كان شخصية ستالينية وبمزاج سوفيتي وإنه لم يتكون وفق روح وتراث عراقيين ولم يدرك ضرورات الواقع العراقي بواقعية وموضوعية، وإنه أراد زج العراقيين في صراع مع الغرب لحساب السوفيت مما أضعف الدولة العراقية الحديثة وساهم في انهيارها ووصول العراق إلى ما هو عليه اليوم ؟
** في هذا السؤال جوانب عدة يفترض أن نفككها ونجيب عنها بوضوح وروية.
أ‌. كان فهد جزءاً من المدرسة اللينينية بروحية ستالينية, إذ درس في المدرسة الحزبية السوفييتية في فترة حكم ستالين وفي فترة الهجوم الشرس لستالين على المثقفين السوفييت. كان الكثير من المثقفين في الاتحاد السوفييتي قد اتهموا بالتحريفية والانتهازية والعداء للطبقة العاملة ووجدوا الموت على أيدي ستالين. وكان فهد مشبعاً بهذه الروح التي تخشى من المثقفين حين يكونوا داخل الحزب ولكنه يحترمهم تماماً وهم خارج الحزب. لهذا كانت ثقته الأساسية موضوعة بالعمال والكادحين والفقراء وذوي المستوى الواطئ ثقافياً , والكادر الذي تربى عليه يديه وأخذ ثقافته منه بشكل مباشر. لم يكن لفهد عداء شخصي للمثقفين, بل ينطلق من موقف إيديولوجي خاطئ هو التشكيك بالمثقفين أو الارتياب من تصرفاتهم البرجوازية الصغيرة ..الخ.
ب‌. نشأ فهد على ثقافة عراقية جيدة وكون نفسه فكرياً وسياسياً قبل سفره إلى الاتحاد السوفييتي. وقد كان مطلعاً جيداً على أوضاع العراق السياسية والاقتصادية والاجتماعية وعلى مزاج الناس. وقد تجلى ذلك في القضايا والشعارات التي تبلورت في عهده إزاء القضايا العراقية الخاصة بالعراق والمجتمع العراقي. ويمكن أن تجد ذلك في كراساته عن البطالة أو مستلزمات كفاحنا الوطني على سبيل المثال.
ولكن فهد تربى في المدرسة السوفييتية الستالينية وفي فترة معقدة جداً ومتوترة, فكانت تربيته الأممية سوفيتية بحتة, وهي التي تتجلى في كتاباته عن الحزب الشيوعي والشيوعية وعن الاتحاد السوفييتي والاشتراكية وعن القائد ألأممي ستالين وعن مواقفه الشديدة والمتوترة إزاء من يقف ناقداً للاتحاد السوفييتي والحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي. ويمكن أن تجد تجليات هذه الوجهة في كراس "حزب شيوعي لا اشتراكية ديمقراطية" أو في الكثير من مقالاته عن الاتحاد السوفييتي في جريدة القاعدة حينذاك.
ج. لقد وقف الحزب الشيوعي العراقي إلى جانب التحالف الدولي ضد دول المحور في الحرب العالمية الثانية, واقترب في ذلك من كل الدول الغربية, ولكنه مع ذلك كان يركز على السيطرة الاستعمارية على العراق. وبعد الحرب العالمية الثانية انقسم العالم إلى معسكرين غربي وشرقي أو رأسمالي واشتراكي. أما الدول النامية فقد شكلت في أوائل الخمسينيات مجموعة الحياد الإيجابي ومن ثم دول عدم الانحياز؟ لم أشير إلى هذه الحقيقة؟ لأن الموقف من بريطانيا ومن الغرب قد ارتبط بثلاث مسائل لا بد لنا من إبرازها رغم مرور أكثر من ستة عقود على ذلك.
1. وجود سيطرة فعلية لبريطانيا على السياسة العراقية الداخلية وتشويهها بالتعاون مع البلاط والحكومات المتعاقبة للانتخابات لا ضد الحزب الشيوعي بل ضد قوى المعارضة الوطنية الأخرى, ومنها الحزب الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال والجبهة الشعبية وغيرها.
2. كانت سياسات بريطانيا في العراق تمنع التوجه صوب التصنيع وحل مسألة الأرض وتعديل اتفاقية امتياز النفط الخام في العراق منذ العام 1925 (شركة نفط العراق) وما بعدها لاتفاقيتي الموصل والبصرة. والتي تحقق التعديل في العام 1952 بمردود رجعي لعام 1951 بفعل حركة التأميم في إيران من قبل حكومة الدكتور محمد مصدق.
3. كان الصراع بين حركة التحرر الوطني والدول الاستعمارية أقدم بكثير من موضوع الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي. إلا أن وقوف المعسكر الاشتراكي إلى جانب قضايا حركة التحرر الوطني هي التي جعلت ليس الحزب الشيوعي وحده في العراق بل حركة التحرر الوطني كلها في العالم تميل إلى جانب الاتحاد السوفييتي وحركة عدم الانحياز كلها.
لا شك في أن الحزب الشيوعي العراقي كان يدفع باتجاه الوقوف إلى جانب الاتحاد السوفييتي, إذ كانت كل الأحزاب الشيوعية تعتبر هذه الدولة هي القلعة الحصينة للاشتراكية وللحركة الشيوعية وان الحركة الشيوعية قد تأسست من حيث المبدأ دفاعاً عن الاتحاد السوفييتي ضد التدخل الأجنبي, إذ كانت قبل ذاك أحزاب اشتراكية.
لم يضعف الحزب الشيوعي العراقي الدولة العراقية, بل الحكومات العراقية المتعاقبة وسياسة بريطانيا في العراق هي التي أضعفت الدولة العراقية وعرضتها إلى عداء جمهرة كبيرة من السكان ضدها وكذلك جزءاً من الجيش العراقي. دعنا نتذكر الأحداث قبل أن نصاب بنسيان بعض تلك الأحداث.
لقد كانت الحكومات العراقية المتعاقبة تتآمر على الوضع الديمقراطي الذي نشا في منتصف الخمسينات في سوريا, كما بدأت تتآمر على الوضع في مصر بعد انتفاضة الجيش ضد الحكم الملكي, بل كان نوري السعيد مرتاحاً جداً للعدوان الثلاثي على مصر وتمنى سقوط ذلك الحكم, رغم كون الحكم المصري لم يكن ديمقراطياً, ولكنه كان تدخلاً من جانب العراق في الشأن المصري. ثم أقام نوري السعيد الاتحاد الهاشمي دون العودة لاستشارة الشعب في العام 1958. ينبغي أن لا ننسى الموقف المعروف لنوري السعيد من القوى الوطنية. سياسات الحكومات العراقية المتعاقبة في العهد الملكي لم تكن ديمقراطية, ولكن الأوضاع التي نمر بها الآن تجعلنا نرى أن تلك الفترة كانت "ديمقراطية". من المؤسف أن ذاكرة الإنسان قصيرة الأمد, وإلا لما أمكن إجراء مثل هذه المقارنة. إذ لولا ذاك لما حصل هذا الذي نعيشه اليوم!
لا شك في أن سياسات الحزب في العام 1949 في عهد ساسون دلال, وكذلك في الربع الأول من العقد السادس كانت متطرفة, وخاصة حين كان حميد عثمان وبهاء الدين نوري على رأس الحزب, وتسبب في نشوء مشاكل عدة للحزب وللحركة الوطنية. ولكن العيب الأساس كان في طبيعة وسياسات الحكومة.
وصحيح أن الحزب الشيوعي وفي عهد فهد كان يطرح تشكيل الجبهة الوطنية يفترض أن تكون بقيادة الحزب الشيوعي العراقي منطلقين من موقف الأممية الثالثة والحديث عن خيانة البرجوازية الوطنية في هذه البلدان, والذي لم يكن صحيحاً. في بلد توجد فيه طبقة عاملة ضعيفة وحزب شيوعي نشط ولكنه سري لا يجوز الحديث عن قيادة الجبهة, بل يفترض أن يكون جزءاً من تلك الجبهة والتي حصلت في العام 1957 حين تراجع الحزب عن ذلك الطرح الستاليني الذي تكرس في الحركة الشيوعية في أعقاب المؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي والذي وجد تعبيره الخاطئ في سياسة حزب تودة في إيران إزاء الدكتور محمد مصدق خلال الفترة 1951-1952.

- هناك من يقول أن قيام حزب شيوعي في العراق حرم العراقيين من السير نحو مجتمع اشتراكي ديمقراطي، فهو باحتكاره لمفهوم الاشتراكية المشبع بالعنف والديكتاتورية نفر الناس من الاشتراكية عموماً، وأعطى الفرصة للسلطة المرتبطة بالإنجليز لمحاربتها أيضاً على أنها الشيوعية ؟

** لقد نشأت في العراق العديد من الأحزاب السياسية قبل تأسيس الحزب الشيوعي العراقي وكانت محاربة من جانب نظام الحكم وكان معتمدي تلك الأحزاب يعتقلون في العراق. وكانت تلك الأحزاب وطنية وديمقراطية واشتراكية وليست شيوعية وهي التي كانت تخيف النظام الحاكم ولم يستوعب أهمية التداول السلمي للسلطة. لم يرفع الحزب الشيوعي شعار الإطاحة بالسلطة في فترة فهد ولسنوات لاحقة, في ما عدا فترة قصيرة حيث تميز الوضع بالتطرف اليساري. لقد كان النضال سلمياً من جانب كل الأحزاب. كانت هناك إضرابات وكانت هناك مظاهرات, فكيف كانت تواجه من جانب الحكم؟ كانت تواده بقوات الشرطة واحياناً بقوات الجيش العراقي. أعطيك نموذجين لشرح وجهة نظري ولتبيان أن العنف لم يبدأ من الحزب الشيوعي ولا من أي حزب سياسي معارض, بل انطلق من السلطة التي كانت تحتكر العنف وتمارسه فعلاً.
1 . إضراب عمال شركة نفط العراق في كركوك. كانت المطالبة بزيادة الأجور وتحسين ظروف العمل وتوفير بعض مستلزماته. وكان الإضراب سلمياً وديمقراطياً وبعيداً عن استخدام العنف. توجه الموظفون البريطانيون والحكومة العراقية برفض المطالب وتوجيه القوات الحكومية ضد المضربين فكانت مجزرة كاورباغي, البستان الذي تجمع فيه المضربون. وقد أرسلت لجنة تحقيق حكومية برئاسة الحاكم عبود الشالچي وخرج بتقرير يؤكد أن القوات الحكومية هي التي ضربت وأن العمال لم يكونوا مسلحين ولا شاركوا بآي عمل عنفي. وقتل عدة أشخاص في هذه المجزرة غير المتكافئة.
2 . إضراب عمال الميناء في البصرة. لم يكن الإضراب مسلحاً ولا عنفياً بل إضراب اعتيادي ومطالب عمالية اعتيادية. ولكن لم تتحملها الحكومة العراقية فأرسلت سعيد قزاز وأنهى الإضراب بالعنف وقتل أحد قادة النقابة والإضراب في البصرة واعتقال الكثير منهم وتقديمهم للمحاكمة والحكم بقسوة عليهم.
وهناك عشرات الأمثلة التي تحضرني ولا بد أنها تحضرك أيضاً وأنت العارف بتاريخ العراق أيضاً.
لم تمارس القوى الوطنية, ومنها الحزب الشيوعي العراقي, العنف ضد قوات الحكومة وعلى الإنسان أن يتذكر مظاهرات حزيران السلمية في العام 1946 حيث سقط بعض الشهداء, ثم وثبة كانون الثاني 1948 وانتفاضة تشرين الثاني 1952 وكذلك انتفاضة 1956 حيث سقط في جميع هذه الحركات شهداء وجرحى ودخل المئات منهم السجون وحكم عليهم بأحكام ثقيلة وقضوا سنوات شبابهم في السجون دون ذنب اقترفوه, إضافة إلى بعض أحكام الإعدام التي نفذت فعلاً.
لم تكن السلطة مرتبطة بالإنكليز, بل كانت تابعة لها ومنفذة لسياساتها في العراق, وكانت ممثلة طبيعية لفئة الإقطاعيين وكبار الملاكين والتجار الكبار وكانت في سياساتها الداخلية إزاء الحياة الحزبية والديمقراطية رجعية.

ـ أرى إنك هنا لم تجب عن السؤال ،مضيت في حديثك السابق عن عداء السلطة للأحزاب، ( هل نستطيع أن نلحق هذا المقطع في الأجابة على السؤال الخاص بذلك) ليتك تحدثت عن احتكار الشيوعيين لمفهوم الاشتراكية المشار إليه في السؤال السابق؟

ج : لم يكن احتكار الماركسية واللينينية والفكر الاشتراكي قاصراً على الحزب الشيوعي العراقي, بل ابتلت بهذا المرض الحركة الشيوعية العالمية, وبالتالي كان الشيوعيون, أنا وأنت كنا منهم, نقول بأن الحزب الشيوعي العراقي هو الحزب الوحيد المالك لحق تبني الماركسية اللينينية وبناء الاشتراكية وما إلى ذلك وما عداه تحريفي وانتهازي. وهو خطأ فادح بطبيعة الحال. وكنا نتحدث عن كون حزبنا هو حزب الطبقة العاملة وقائدها, وهذا الخطاب هو الآخر كان خطأً كبيراً. إذ من الصائب القول بأن الحزب يسعى إلى التعبير عن مصالح الطبقة العاملة ... كذا وكذا ويتبنى تحقيق كذا وكذا من المهمات وليس بأي حال بتلك الصورة المطلقة. لم ينتخبه أحد ليمثل الطبقة العاملة, ولا يمكن ولا يجوز لحزب ما أن يتحدث عن نفسه بتلك الصورة الجبرية, إنه الممثل الوحيد للطبقة العاملة والفلاحين ..الخ.
لقد أشرت إلى أننا كنا "نعتقد جازمين" بأننا نمتلك الحق والحقيقة والصواب وهو الخطأ الأكبر, ولم نكن ندرك مخاطر هذا الادعاء وعواقبه السلبية على النقاش والحوار مع الآخر.
لقد أدى هذا إلى نشوء صراعات حادة بين القوى اليسارية واتهام من يرفع شعارات الماركسية بشتى النعوت غير الصحيحة. كما دخلنا في صراع مع قوى سياسية أخرى لم تكن في صالح القوى والحركة الوطنية.
لقد جرى التصدي لعزيز شريف وحزبه مثلاً, حزب الشعب, أو وحدة النضال, لأنه تبنى الماركسية-اللينينية, ووقفنا ضد الحزب الديمقراطي الكردي لأنه تبنى في فترة ما الماركسية اللينينية. واتهمنا الكثير من القوى بالتحريفية لأنها تبنت الماركسية على وفق اجتهادها.
لقد كانت قيادة الحزب مخطئة بوجهة العمل هذه وقبلها كل الحركة الشيوعية, إذ لا يحق لأحد احتكار أي فكر أو نهج فكري أو سياسة معينة أو طبقة اجتماعية له وليس لغيره. إن محاولة احتكار ذلك قد عبر بصيغة ما عن نهج شمولي في التفكير والتصرف السياسي, وكذا الحال في الحكم حيث احتكر الحزب الشيوعي السوفييتي الحكم ولم يسمح لأي قوى سياسية بتأسيس أحزابها وحاربها كلها. وفي الدول الاشتراكية نشأت أحزاب سياسية أخرى, ولكنها كانت خاضعة بالمحصلة النهائية للحزب الشيوعي الحاكم وأعضاء في ما كان يطلق عليه بالجبهة الوطنية التي يقودها الحزب الشيوعي. لقد غابت الديمقراطية عن تلك الأحزاب والنظم السياسية, والكثير من حقوق الإنسان, بما فيها العدالة الاجتماعية, التي تأسست تلك الأحزاب لضمان تحقيقها. إن إدراك هذه الأخطاء والإقرار بها هو الذي يساعدنا على التجديد وانتهاج سبل جديدة في نضال قوى اليسار, هو الذي يساعد على نهوض جديد لقوى اليسار في العراق والعالم العربي. وفي هذا من المفيد الإطلاع على كتاب الصديق العزيز الأستاذ كريم مروة الموسوم "نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي" الصادر في العام 2010.
لقد كان الطابع المميز للحركة الشيوعية الساعية للحكم هو الرؤية الشمولية, أي السيطرة وفرض دكتاتورية البروليتاريا في مواجهة دكتاتورية البرجوازية الحاكمة. وهي الحالة التي يفترض أن تكون قد تخلت عنها الكثير من الأحزاب الشيوعية في أوروبا, وبعض الأحزاب الشيوعية الأخرى, ومنها التغيير الذي أدخله الحزب الشيوعي العراقي على برنامجه ونظامه الداخلي من الناحية النظرية. ويأمل الإنسان أن يتجلى في الممارسة العملية ايضاً.

- كثيرون يرون أن الدولة العراقية الحديثة لم يتح لها الوقت لتحقيق مهامها الوطنية، ناصبها العداء الشعب كله منذ البدء وقبل أن يرى خيرها أو شرها، عاداها الشيوعيون ومن معهم بدعوى المسألة الطبقية، وحاربها الزعماء الأكراد بدعوى المسألة القومية ، ونبذها وحرض عليها الشيعية بدعوى بطلان الحكم بغيبة المهدي المنتظر ،وزعماء السنة خاصة نوري السعيد أضعفوها بجمودهم وتحجرهم، مما عجل بسقوطها،مع إنها قدمت منجزات كبيرة وكانت دولة مؤسسات وذات دستور حديث ناضج، ألا تعتقد أن قيام الجيش بالانقلاب عليها وعدم منحها فرصة للتطور،كان خطوة متهورة، وكارثة كبرى، في تاريخ العراق الحديث؟
** منذ تأسيس الدولة العراقية في العام 1921 وسقوطها في العام 1958 مر 37 سنة, وهي فترة غير طويلة, ولكنها لم تكن قصيرة جداً. وما تحقق من منجزات يعتبر في الحد الأدنى.
كان العراق قد خرج لتوه من الهيمنة العثمانية وسقط تحت الاحتلال البريطاني. ثم كانت انتفاضة 1919 في السليمانية وثورة 1920 في عموم العراق, ولكن بشكل خاص في الوسط والجنوب وغرب بغداد. فتشكلت الدولة العراقية ووضع لها دستور ديمقراطي. وكان المؤمل والمفترض أن تبنى الدولة في ضوء الدستور وتصدر القوانين التي تكرس الحق والعدالة وتضمن السير لبناء المؤسسات الديمقراطية وتروج لروح المواطنة في بلد كان لا يزال بعاني من أوجاع الدولة العثمانية. ولم يحصل هذا ولم ترس الحكومات المتعاقبة دولة القانون الحديثة, مما أدى إلى انكسارها عبر انتفاضة الجيش في العام 1958, حيث بدأت حقبة جديدة من تاريخ الدولة العراقية. والتي بدورها لم تستطع إرساء الدولة العراقية الجديدة على أسس دستورية وقوانين الحق والعدل. فكانت العواقب كارثية والتي عانى منها الشعب طوال العقود المنصرمة. من هنا يتبين لنا بأن الأساس لم يكن متيناً, كل ما لا يبنى على أسس متينة ينهار بسرعة ولا يحتفظ المجتمع بذاكرة إيجابية حول تلك الفترة.
تشير إلى أن الكثيرين يرون بأن الشعب قد ناصب الدولة العراقية العداء ولم يمنحها الوقت الكافي لإنجاز مهامها الوطنية. ولكن أليس من واجب هؤلاء أن يسالوا أنفسهم ما يلي:
لماذا ناصب الشعب العراقي الدولة العداء؟ هل كانت سياسات الحكومات العراقية المتعاقبة متجاوبة مع مصالح الشعب أم كانت بعيدة عنه؟ هل الشعب هو السبب أم الحكومة كانت السبب في تلك الجفوة ومن ثم العداء للدولة؟ هل كان على الحكومة أن تستبدل الشعب بشعب آخر في العراق أم كان على الشعب أن يستبدل الحكومة بحكومة أخرى أو دولة أخرى؟ وهنا لا بد من التذكير بروح السخرية التي تجلت في كلمات بروتولد بريشت حين علق على ضرب مظاهرات 1952 في برلين عن العلاقة بين الحكومة والشعب.
لو عدت إلى تلك الفترة الملكية وقد عشت سنوات كثيرة في ظل ذلك النظام الملكي كما درست سياسات هذا النظام ومواقفه وعلاقاته الإقليمية والدولية وتيقنت مما يلي:
1. إن الدستور الذي وضعه العراقيون بالتعاون مع البريطانيين كان ملكياً دستورياً وديمقراطياً. ولكن هل كان التنفيذ والسياسات الرسمية مطابقة لهذا الدستور. كل الدلائل التي تحت تصرفنا تؤكد بأن الدستور قد شوه بكل معنى الكلمة ومن جوانب عدة وخاصة في المجالين السياسي والاجتماعي, إضافة إلى ضعف التحرك صوب الاقتصاد. لم يكن الشعب هو السبب وراء العداء للحكومة, بل الحكومات المتعاقبة هي السبب في تحويل الشعب عنها. في العشرينات كان القوى السياسية متعاونة ومتحالفة والمعارضة متداخلة مع القوى التي تحكم العراق وتتبادل المواقع تقريباً, وكانت المطالب من القوى الوطنية والديمقراطية هادئة وموضوعية مثل دعم وحماية الصناعة الوطنية وصدر قانون بشأن ذلك في العام 1929. وحين وقعت معاهدة 1930 التي تم تعديلها بين العام 1922-1930 عدة مرات قد وقعا فعلاً وكان الكثير من الناس في العراق ضدها. وحين حقق العراق رفع الانتداب في العام 1932 بدأت قوى سياسية تطالب بسياسات تساعد على تعجيل تطور العراق. ولكن سياسات الحكومات لم تكن تهتم بالعراق, مما أجبر علي جودة الأيوبي بالقول بأن العراق أشبه بسفينة على وشك الغرق فعلى كل إنسان فيه أن يحمل وينقذ ما يمكن إنقاذه.
2. كان الحكام العراقيون يتعاملون مع القانون كما يحلو لهم وخاصة في الانتخابات حيث كانت ثلاثة أطراف تزورها لصالحها, وهي السفارة البريطانية والبلاط والحكومات المتعاقبة. وهي قضية لا نحتاج إلى توكيدها فهم أنفسهم وثقوا ذلك في مجلس النواب, "مجلس الموافقين".
2. لم يتسم نوري السعيد بالجمود والتحجر, بل كان سياسياً ذكياً ومتميزاً, كان ثعلباً وممثلاً ممتازاً للفئات الاجتماعية التي كان يدافع عنها وعن مصالحها, وكان معتمد السياسة البريطانية في العراق, وقد أساء هو بالذات للعهد الملكي قبل غيره وأكثر من غيره. تذكر كيف حل المجلس النيابي في العام 1954 بعد أن حصلت المعارضة على 11 مقعداً فقط لأنه خشي على سياسته اللاحقة من هذه المعارضة ولم يتحملها. فهل كانت الممارسة ناضجة كالدستور العراقي؟ كلا أبداً. وهنا تكمن المشكلة. فما كان على الورق لم يجد طريقه إلى التنفيذ إلا ما ندر.
3. ليست السياسات التي مارستها المعارضة سوى ردود فعل للسياسات الحكومية, أي أن الأصل هنا هي سياسات الحكومة. لنأخذ ما يطرحه السؤال: هل كانت القوى السياسية قد طرحت المسألة الطبقية, أم الممارسة الطبقية هي التي فرضت عليهم طرح التمييز الطبقي وغياب العدالة في المجتمع؟
دعني أذكر بحقيقة أساسية هي أن الأحزاب السياسية في أي بلد من البلدان هي جزء من البناء الفوقي للنظام الاجتماعي القائم, وتأخذ طبيعتها من طبيعة الوضع السائد في العراق من حيث السياسة والسلوك العام. فحين يكون النظام غير ديمقراطي وفقدان الحريات العامة وغياب ممارسة حقوق الإنسان, يمكن أن يتجلى ذلك في سياسات وسلوك الأحزاب أيضاً. حين نشرت كتابي الموسوم "ساعة الحقيقة: مستقبل العراق بين النظام والمعارضة" في بيروت في العام 1995 جاء ما معناه إن في الكثير من قوى المعارضة حينذاك شخصيات وقوى لا تختلف عن صدام حسين في فكرها وسياساتها, بل فيها ما هو الأسوأ من السمات التي تميز صدام حسين.
لقد سادت في العراق الملكيات الكبيرة التي بدأ النظام العثماني بتمليكها للأفراد وشيوخ العشائر وبعض الحكام في العراق قبل سقوط الدولة العثمانية. ثم جاء ارنست داوسن في العام 1932 لتكريسها في قوانين معروفة للجميع. وبالتالي انتزع من الفلاحين الأرض التي كانت ملكاً للعشائر كافة وسجلها بأسماء شيوخها ومن تريد الدولة تسجيلها باسمه. وبالتالي كان النضال من أجل تحقيق إصلاح زراعي ينصف الفلاحين الفقراء والمعدمين الذي سلبت منهم الأراضي التي كانت بحوزتهم.
فهل الحديث عن الإقطاعيين والفلاحين خاطئ أم كان صحيحاً يجسد واقع العراق حينذاك ومهمات المرحلة؟ ألا تتذكر الحل الذي طرحه نوري السعيد لمعالجة مشكلة الأرض في العراق؟ لقد سمعته بأذني من إذاعة بغداد وقد كنت في حينها في عملية نفي محلية, أي الإبعاد إلى مدينة بدرة وبعيداً عن السكان مع عشرات غيري. قال في الإذاعة وفي العام 1956 ما مضمونه: هناك شيوخ عشائر يملكون أراض شاسعة. سيموت هؤلاء وقد خلفوا الكثير من الأولاد, وبالتالي ستوزع تلك الأراضي عل الأبناء, وحين يموتوا هؤلاء توزع أراضيهم على أولادهم وهكذا وعبر عدة أجيال سنتخلص من الملكية الكبيرة. هل هذا الحل يرضيك؟ لا اعتقد ذلك, لأن القوى الديمقراطية في حينها قد طرحت مشروعاً لمعالجة مشكلة الأرض عبر إصلاح زراعي فيه: توزيع الأراضي الأميرية على الفلاحين بأسعار زهيدة, واستعادة الأراضي التي بحوزتهم والمأخوذة على وفق قاعدة بـ "اللزمة" لتوزيعها على الفلاحين في مقابل تعويض لذوي الملكيات الكبيرة.
بطبيعة الحال لم تكن لدينا طبقة عاملة كبيرة, ولكن النضال في سبيل تحسين الأجور وظروف العمل في شركات النفط الأجنبية والسكك والميناء كان لا بد منه, كان حقاً من حقوق العمال, وحين ضربوا في مجزرة كاورباغي, كان حاكم التحقيق قد أعطى الحق للعمال وأدان الحكومة ولم يكن شيوعياً, بل كان حاكماً مستقلاً هو الحاكم الأستاذ عبود الشالچي. في حين أن الحكومة هي التي أرسلت القوات لكسر الإضراب وقتل المضربين. وكذا الحال في إضراب عمال الميناء في البصرة في العام 1952 حين ذهب سعيد قزاز لكسر الإضراب وقد قتل القائد النقابي هناك, كما اعتقل وسجن العشرات. النظام الملكي لم يتحمل الإضرابات والمظاهرات السلمية.
أتمنى على هؤلاء الكثيرين أن يعيدوا النظر بالماضي وفق أسس سليمة وليس مجرد أن عاشوا فترة أصعب من تلك التي كانت في زمن الملكية, فالنظام الملكي هو الذي أسس للعنف وهو الذي شوه الدستور وزور الانتخابات ولم يحقق الكثير من الإجراءات الاقتصادية إلا عبر نضالات شعبية طويلة وصعبة.

ـ ولكن ألم يكن من الممكن العمل على نضال سلمي يطور الدولة العراقية نحو حال جديد يتم فيه تطبيق الدستور وممارسة الحياة الديمقراطية بصورة صحيحة دون انقلاب عسكري فتح أبواب جهنم على العراق؟

ج : كل الانقلابات العسكرية أو المدنية يمكن أن تفتح أبواب جهنم على مجتمعاتها. ولكن السؤال الأهم والأكثر حيوية يا صديقي العزيز هو الآتي: من تسبب في توفير شروط ومستلزمات حصول انقلابات عسكرية في العراق؟ الإجابة عن هذا السؤال ضرورية لأنها تضع النقاط على الحروف لما حصل في العراق في العقود المنصرمة.
في العراق حصلت من الناحية الفعلية المباشرة ثلاثة انقلابات عسكرية في العهد الملكي, عدا محاولة انقلاب فاشلة قام بها مدير الشرطة العام في بغداد علي الحجازي. انقلاب 1936 بقيادة الفريق بكر صدقي العسكري, وكان بتأييد من جماعة الأهالي أو الإصلاح الشعبي وعلى رأس الحكومة كان حكمت سليمان, وانتهى الانقلاب بعد اغتيال قائد الانقلاب في الموصل. ثم جاء انقلاب 1941 بقيادة العقداء الأربعة. وبرئاسة رشيد عالي الكيلاني للحكومة. والذي انتهى بمعركة بين القوات العراقية والقوات البريطانية التي كانت مستقرة في الحبانية وهروب الضباط الأربعة وعودة الوصي عبد الإله إلى بغداد وما اقترن بذلك من مجزرة الفرهود العنصرية والهمجية ضد يهود العراق في بغداد وراح ضحيتها 145 قتيلاً بين طفل ورجل وامرأة على وفق ما جمعه الدكتور تصفي يهودا خلال ثلاثين عاماً, لماً بأن اللجنة الحكومية أشارت غلى 189 قتيلاً, ومن ثم الفرهود الأقل وحشية الذي حصل في البصرة بدون قتلى. ثم كان انقلاب أو انتفاضة الجيش في 14 تموز 1958 حيث التفت الغالبية العظمى من الشعب العراقي حقاً حول قادة الانتفاضة وسعوا إلى تحويلها إلى ثورة شعبية لكي يتغير نظام الحكم كله إلى حكم ديمقراطي دستوري وبالتعاون مع جبهة الاتحاد الوطني.
لم يتعلم نظام الحكم الملكي من الانقلابين الأول والثاني شيئاً, ولم يغير من نهجه في الحكم ولم يسع إلى الاستفادة القصوى من إمكانيات العراق لتنشيط الحريات الديمقراطية والحياة الدستورية والكف عن تزوير الانتخابات ومكافحة البطالة والتخلف. بل راح نوري السعيد, وهو مهندس الحكم الملكي الفعلي, يهتف برعونة من راديو بغداد في العام 1956 بأهزوجة "دار السيد مأمونة" وكان هذا تحدياً واستفزازاً لكل القوى السياسية غير الحكومية.
أخي العزيز يفترض أن نقتنع بأن لا يمكن أن ينجح أي انقلاب ولا أي ثورة شعبية ما لم تتوفر مستلزمات نجاحهما أولاً, وعلى سلوك الانقلابيين أو الثوار يعتمد استمرارها أو فشلها ثانياً.
ولهذا لم يفسح نظام الحكم الملكي بالسير بطريق سلمي وديمقراطي لتحقيق التغييرات المنشودة في الوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسات الداخلية في العراق, بل كان بمرور الزمن يفرض المزيد من العقوبات ضد الشعب. وربما من المفيد أن تستعيد جزءاً من تاريخ العراق السياسي لهذه الفترة, أي الفترة الواقعة بين 1954-1958 لترى السياسات التي مارسها نوري السعيد والنخبة الحاكمة التي سمحت وفسحت في المجال لنجاح حركة 14 تموز 1958. لقد عشت هذه الفترة وعرفت سوءات نظام الحكم والنخبة الحاكمة حينذاك.
لم يرفع الحزب الشيوعي العراقي ولا بقية أطراف الحركة الوطنية العراقية قبل عام 1856 شعار الإطاحة بالملكية, بل كان الشعار المركزي هو الإتيان بحكومة تستجيب لمصالح وطموحات الشعب وليس دفاعاً عن مصالح الإقطاعيين وكبار الملاكين أو شركات النفط الاحتكارية. ولكن ابتداءً من سياسة الحكم في العام 1956 بدأت الأحزاب السياسية تفكر بضرورة التخلص من نظام الحكم الملكي وإقامة الجمهورية.
ولهذا فمن السذاجة أن نعتقد ونقول بأن الثورة أو الانقلاب ما كان له أن يكون, أو كان بالإمكان تجنبهما, إذ أنهما أصبحا واقعاً بما في ذلك ما ترتب عليه خلال الخمسين سنة المنصرمة. ولكن يبقى المسؤول الأول عن كل ما حصل يكمن في سياسات الحكومات الملكية المتعاقبة التي لم تفهم سيكولوجية الشعب والجيش في العراق, ولم تستجب لمصالحه وطموحاته. وهو نفس الداء الذي وقع فيه كل الحكام اللاحقين, بمن فيهم قاسم وكذلك حكام الوقت الحاضر. وهي مشكلة كبيرة.

- كتبت أنا قبل فترة مقالة عما سمي في حينها بخط آب، وكنت وما أزال اعتقد أن هذه المحطة كان يمكن أن تكون منعطفاً كبيراً في مسيرة الحزب، وربما العراق، لو قادها الشيوعيون آنذاك بدقة وشجاعة للتخلص من منطلقاته النظرية الشيوعية الحادة، لكن مسيرة الحزب مضت في طريقين غير مختلفين كثيراً رغم المناوشات الحادة بينهم، فعزيز الحاج والقيادة المركزية مضيا نحو الثورة المسلحة رغم عدم توفر ظروفها الناضجة، واللجنة المركزية مضت نحو ما أسمته (بالعمل الحاسم ) وكلاهما لم يمتثلاً لقدرات الواقع وضروراته الملحة، وقد كتب الأستاذ عزيز الحاج رداً ، وكتبت أنت رداً ، ولكن ثمة التباساً ما يزال يتطلب التوضيح: ألم يكن خط آب هو الخط الصحيح، وهو الخط الذي عاد الحزب الشيوعي إليه اليوم، والفرق هو أنه كان قبل خمسين عاماً تقريباً مع قوميين عراقيين بعضهم ماركسيين بينما هو اليوم يعمل مع رجال دين وقوميين أكراد برجوازيين وإقطاعيين؟

** حين يراد إعادة النظر بأحداث التاريخ ودراستها بإمعان يفترض استحداث كل الجوانب التي كانت تحيط بالعملية كلها. لا يجوز أخذ جانب واحد من العملية وترك الجوانب الأخرى.
السياسة التي مارسها عزيز الحاج كانت مغامرة حقاً, وكذا السياسة التي مارسها الحزب بالعمل الحاسم, أي العمل العسكري الانقلابي كان هو الأخر مغامرة, وكلها غير محسوبة العواقب.
ولكن خط آب لم يكن سليماً بدوره لأسباب عدة.
1. لم يكن الحزب الذي يراد إنشاءه من قبل القوى القومية الناصرية ديمقراطية بل كانت قوى لا ديمقراطية تريد إقامة نظام الحزب الواحد في البلاد والقيادة الفردية لعبد السلام محمد عارف.
2. كانت الجماعة القومية تريد تصفية كل الأحزاب السياسية الأخرى دون استثناء, وبالتالي كان ذلك لا يعني سوى إقامة دكتاتورية تحت شعارات قومية شوفينية مناهضة للقوميات الأخرى وذات طبيعة طائفية معروفة بسبب سلوك عبد السلام محمد عارف ذاته.
3. كانت تلك القوى قد شاركت بفعالية كبيرة في انقلاب شباط الدموي وقتل المئات من الشيوعيين والديمقراطيين والوطنيين في السجون العراقية , ولم يكن الوضع النفسي للحزب يسمح بالموافقة على حل الحزب والالتحاق بجماعة يمكن أن ترتكب ذات الجريمة بحق الشيوعيين, علماً بأن عبد السلام عارف كان يمارس قتل الشيوعيين إلى ذلك الحين, ومنهم على سبيل المثال لا الحصر حميد الدجيلي. بعد خط آب كنت في بغداد بصورة سرية وأتذكر الوضع جيداً. صحيح كان هناك تخفيفاً عما كان عليه في عهد البعث, ولكن الاضطهاد والقسر والسجن والتعذيب كان مستمراً.
لقد كان الأمر حينذاك ملتبساً. فالقضية المطروحة كانت حل الحزب الشيوعي والدخول في الحزب الاشتراكي التي شكله عبد السلام محمد عارف ومعه كل من خير الدين حسيب وأديب الجادر وآخرين من القوميين العرب الأكثر يمينية. لم يكن هذا بالضبط هو خط آب 1964, إذ أن خط آب لم يطرح موضوع تغيير نظام الحكم لعبد السلام عارف بل دعم بعض سياساته المماثلة بالشكل لسياسة عبد الناصر بما فيها التأميم التي لم تكن من مصلحة الاقتصاد العراقي لأنها شملت البرجوازية الوطنية المتوسطة, ولذا سمي باليمين. وكان وراء الرغبة في حل الحزب مجموعة صغيرة جداً. فيما بعد برز اتجاه يدعو إلى الثورة المسلحة التي قادها عزيز الحاج, والخط الآخر الذي يدعو للانقلاب الثوري والتزمته أكثرية من كانوا قبل ذاك مؤيدين لخط آب.
ومن المفيد عدم الخلط بين فترتين مختلفتين وسياستين مختلفتين أيضاً. لم أكن أجد مناسباً أن يجري التعامل مع من قتل الشيوعيين والديمقراطيين قبل ستة شهور لا غير حل الحزب والدخول في حزب شمولي يرفض وجود الحريات العامة وحرية الأحزاب, وبين الفترة الراهنة حيث تسود الطائفية التي لا أجد أي مبرر للتعاون مع القوى الإسلامية السياسية وادعوا إلى اتخاذ موقف المعارضة والتزام مصالح الشعب بكل مكوناته وفئاته الاجتماعية.
ومن الممكن أن تطرح هذا السؤال على الحزب الشيوعي, إذ لم أعد عضواً فيه.

- استمرت قيادة عزيز محمد للحزب الشيوعي لثلاثين عاماً، واجهت الحزب خلالها مراحل خطيرة ومعقدة جداً، لم يخرج الحزب منها منتصراً أو سالماً كما ادعى البعض، وهو اكتفى من الغنيمة بالإياب، كما يقول الشاعر القديم، ويرجع بعض ذلك لقدرات السكرتير عزيز محمد الفكرية المتواضعة ولطريقة إدارته التي انتهت بعودته لثيابه الكردية القومية بعد الثوب البروليتاري! في فترة قيادته مني الحزب بنكسات ومصائب كثيرة تذكر منها واقعة بشت أشان ، وعاش الحزب جموداً فكرياً وحالات فساد طال سمعة الحزب ومقدراته، واليوم خرجت القيادة القديمة ملفعة بالصمت، ألا ترى أن من الضروري كشف ما جرى، لا كجو فضائحي بل كجو مصارحة ومكاشفة صحية وضرورية، ليس من أجل أرواح مئات الشهداء الذين ضحوا بأرواحهم تحت راية الحزب وحسب، بل من أجل نساء ورجال أحياء ما زالوا يعتقدون بان الحزب الشيوعي هو ميدان نضالهم من أجل وطنهم وشعبهم؟

** كان عزيز محمد عضواً في المكتب السياسي حين تعرض الحزب لضربة 1963, وكان في حينها لا يزال في كردستان العراق. وفي اجتماع اللجنة المركزية في العام 1965 انتخب سكرتيراً للحزب. كان الرفاق الذين انتخبوه يدركون أنه ليس بالنظري المتضلع بالفكر الماركسي, ولكنه كان مناضلاً جيداً وتحمل الكثير من عذابات السجون وآلامها وأطلق سراحه بعد انتصار ثورة تموز 1958, وكان سياسياً محترفاً في الحزب ودرس في المدرسة الحزبية السوفييتية. فكان الرجل مخلصاً لحزبه ووطنه, كما كان مخلصاً للحزب الشيوعي السوفييتي والاتحاد السوفييتي باعتبارهما حصن السلام وقلعة الشيوعية والفكر الماركسي-اللينيني.
لقد كانت قيادة عزيز محمد للحزب في فترة عصيبة مليئة بالصراعات الداخلية والخلافات الفكرية والسياسية ولم يكن في مقدوره أن يلعب دوراً أكبر مما لعبه حينذاك. وكان الوضع في الحزب يساعد على استمرار قيادته للجنة المركزية والمكتب السياسي وعدم تغييره. إن هذا لا يعني أن لم يكن هناك من هو أفضل منه نظرياً, بل كان هناك فعلاً من هو أكثر منه وعياً واستيعاباً للنظرية مثل عامر عبد الله أو غيره, ولكن كانت تنقصهم جوانب أخرى في العمل الحزبي, وكان, كما يبدو, أكثرهم قدرة على إدارة الصراع الداخلي وعلى تأمين توزان لصالحه, كما أن الحزب الشيوعي السوفييتي وجد فيه شخصية متفانية في حبها للحزب الشيوعي السوفييتي ومخلصة لحزبها الشيوعي. وبالتالي استمر فترة طويلة في قيادة الحزب.
لم يستطع عزيز محمد ولا قيادة الحزب كلها أن تلعب دوراً كبيراً في تحقيق الانتصارات, بل ارتكبت أخطاء فادحة وتحملت الكثير من النكسات, وكنت أنا واحداً من تلك القيادة التي أخطأت كثيراً, سواء بالتحالف مع البعث أم في مسائل سياسية أخرى. وحصلت كوارث فعلية في الحزب لم يكن وحده مسؤولاً عنها, ومن الخطأ تحميله كلها. كما من الخطأ القول أن الحزب خرج معافى, بل خرج الحزب وقد خسر مئات الكوادر الحزبية والمثقفة والنقابية وحملة الشهادات العالية والمناضلين الجيدين, سواء عبر استشهادهم على أيدي حزب البعث والحكم الدكتاتوري الفاشي أم في معارك بشت أشان أم في معارك أخرى في كردستان العراق.
ليس هناك إنسان كامل السلوك والسيرة أو من لم يرتكب أخطاءً, أنا وأنت كنا في هذا الحزب وكنا وفق مواقعنا مسؤولين بهذا القدر أو ذاك عن أخطاء الحزب أيضاً. ولكن كان على عزيز محمد وهو في مركز الرجل الأول في الحزب أن:
* يتخلى عن مسؤولية قيادة الحزب بعد نكسة 1978/1979, ويفسح في المجال لرفيق آخر يأخذ على عاتقه قيادة الحزب.
* أن يسعى لتغيير طاقم اللجنة المركزية ومكتبها السياسي, فمن غير المعقول أن يمارس الرفاق قادة التحالف مع حزب البعث, مسؤولية وقيادة الصراع ضد البعث.
* أن يخفف أو يقطع الطريق على الحزب الشيوعي السوفييتي ممارسة تأثيره على سياسة ومواقف الحزب الشيوعي العراقي.
* يبتعد عن بعض المسائل والتصرفات الشخصية في بغداد ودمشق التي عرضت شخصه والحزب إلى إساءات كان يمكن ويجب تجنبها.
لا أجد ما يبرر الخوض في السلوك الشخصي لهذا الرجل الحزبي أو ذاك, بل الأهم من كل ذلك هو تأثيرات ذلك الرجل على حياة وسياسة الحزب.
لدي القناعة بأن عزيز محمد, إذا كان مناسباً خلال السنوات الأولى من انتخابه سكرتيراً أولاً للجنة المركزية للحزب, فإنه لم يكن الرجل المناسب لقيادة الحزب تلك السنوات الطويلة اللاحقة التي بلغت 27 عاماً دون بروز قدرة على التغيير والتجديد والإبداع. بل كان الأفضل له وللحزب تغييره بعد فترة من الزمن ليأتي غيره ويساهم في تجديد الحزب. وهذه المسألة لا تقتصر على الحزب الشيوعي العراقي حينذاك, بل هي لا تزال فاعلة إلى الوقت الحاضر. كما إنها علة كل الأحزاب السياسية في الدول العربية, فمن يصل منهم إلى سدة المسؤولية لا يريد أن يتركها لغيره وقبل موته يريد أن يورثها لأحد أبنائه. والأحزاب الشيوعية هي الأخرى مبتلاة بهذه العلة إلى الآن. والوضع الراهن في العراق يدلل على ذلك أيضاً في تعامل سياسيي الأحزاب المختلفة مع المناصب الحزبية والحكومية.

ـ لقد مر استشهاد العشرات من خيرة كوادر وأعضاء الحزب في بشت آشان بصمت، 1983 بل بدا كأن تدليساً أو تكتماً مقصوداً أسدل عليه من قبل قيادة الحزب، استمر حتى اليوم، من في رأيك المسؤول عن جريمة قتل هؤلاء الرفاق؟

ج- لم يسكت الحزب الشيوعي العراقي عن المعارك التي وقعت في بشت آشان بأي حال. بل في حينها قام بأكبر حملة إعلامية بصدد الشهداء الذين سقطوا في تلك المعارك بين الأحزاب السياسية العراقية, أي بين الاتحاد الوطني الكردستاني من جهة, والحزب الديمقراطية الكردستاني والحزب الاشتراكي الكردستاني والحزب الشيوعي العراقي والحزب الاشتراكي الكردي من جهة أخرى. ويمكنك العودة إلى بيانات وصحافة الحزب حينذاك لتجد فيها ما نسي الآن, كما يبدو.
كان الخلاف المركزي هو بين الحزبين الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني والمنافسة على قيادة المنطقة. وكان دخول الحزب الشيوعي على خط الصراع بين الحزبين خطأً فادحاً من قيادة الحزب وقيادة حركة الأنصار الشيوعيين. وقد جُر الحزب للصراع جراً. ومع ذلك فأن المشكلة قد تبلورت حينذاك في مسألة واحدة هي: من يقود النضال ويهيمن على الساحة الكردستانية حينذاك؟ بدأت الأجواء القاتمة تخيم أكثر فأكثر على العلاقة بين الحزب الديمقراطي الكردستاني وجماع المكتب السياسي بعد انهيار الحركة المسلحة الكردية في العام 1975 وبعد تأسيس الاتحاد الوطني الكردستاني في العام 1976 في برلين ليعلن عن عودة مناضليه إلى كردستان والمشاركة في الكفاح المسلح ضد نظام البعث الحاكم. وقد تفاقم هذا الخلاف بفعل وجود هذا الحزب في كردستان والمماحكات المتبادلة مع الحزب الديمقراطي الكردستاني. ولا شك في أن الحكم الدكتاتوري البغيض لعب دوره في تنشيط الصراع بين الحزبين من خلال محاولته العمل مع الاتحاد الوطني الكردستاني ودفعه للسيطرة على المنطقة وإبعاد الحزب الديمقراطي الكردستاني عنها, في حين كان الحزب الديمقراطي الكردستاني يمنع قبل ذاك محاولات وصول مسلحي الاتحاد الوطني إلى المناطق الجبلية في كردستان العراق. وقد بدأ التفاوض فعلاً بين حكومة صدام حسين والاتحاد الوطني الكردستاني, وقبل أن تفشل تلك المفاوضات, إذ أنها أدت غرضها للنظام الدموي, بدأت تلك المعارك المحزنة. وإذ أحمل, من وجهة نظري الشخصية وحسب متابعتي للأحداث حينذاك, الاتحاد الوطني مسؤولية كبيرة في هذا الصدد, فأن الحزب الديمقراطي الكردستاني يتحمل مسؤولية مماثلة في نشوب الخلافات والصراعات والنزاعات المسلحة, ولا يمكن أن أعفي المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي والمكتب العسكري المركزي من المسؤولية في هذا الشأن أيضاً, وكذا القوى الأخرى المشاركة في ذلك النزاع. لقد كانت صفحة مؤلمة وحزينة في تاريخ العلاقات بين الأحزاب السياسية في كردستان حينذاك, والتي خفت بتشكيل الجبهة الكردستانية في العام 1088, ثم عادت في التسعينات, وخاصة في العام 1996 لتتوقف في العام 1998 وإلى الآن.
لقد استشهد الكثير من المناضلات والمناضلين الشجعان من كل القوى السياسية التي شاركت في المعارك, ولكن كانت خسارة الحزب الشيوعي العراقي في بشت آشان الأولى وبشت آشان الثانية كبيرة حقاً وفادحة جداً.
لقد وجهت رسالة شخصية إلى السيد رئيس الجمهورية جلال الطالباني راجياً فيها اختيار الوقت المناسب والأسلوب المناسب للاعتذار عن سقوط الشهداء في النزاعات المسلحة في بشت آشان, وربما في غيرها, بين القوى السياسية العراقية في إقليم كردستان في فترة النضال ضد الحكم الدكتاتوري. وجهت هذه الرسالة في بداية تولي الأستاذ جلال الطالباني رئاسة الجمهورية. ولكني ولحد الآن لم أتسلم أي جواب على تلك الرسالة الخاصة ولم تظهر استجابة لها منه, مع علمي القاطع بوصولها إليه فعلاً. وكنت قد أشرت في تلك الرسالة إلى أن هذا الموقف ومن موقعه في رئاسة الدولة والأمانة العامة للاتحاد الوطني الكردستاني سيدفع بالأحزاب الأخرى إلى تقديم الاعتذار لما وقع منها أيضاً وصدور مواقف مشتركة بشأن معالجة القضية مع عائلات الشهداء. وهي مسألة قائمة إلى الآن.
ولكن أخي الكريم لا ينفع القيام بحملة ضد هذا الحزب أو ذاك في هذه المرحلة بالذات حيث توجد صراعات شديدة والبلاد كلها في أوضاع غير مستقرة, بل يفترض أن تعالج بطريقة هادئة, خاصة وأنها مشكلة صار عمرها 27 سنة يراد معالجتها لصالح تطوير العلاقات بين القوى السياسية وليس استخدامها لبث الخلافات مجدداً في ما بين القوى والأحزاب التي حدثت في ما بينها تلك المعارك الأليمة. ينبغي العمل على دمل الجراح وليس إلى فتحها.

- ما هي أهم الأسباب التي حالت دون أن يقوم الحزب الشيوعي العراقي في مراجعة مسيرته، فكره، أهدافه وعدم حصر القضية باسمه الذي عفا عليه الزمن طبعاً؟

** دعني أثبت حقيقة مهمة جداً في أسلوب عمل الحزب الشيوعي العراقي, وأعني بها استمرار انتقاد نفسه بعد كل فترة من فترات النشاط السياسي. فهو يصدر تقييماً وتقويماً لسياساته ويمارس نقداً ذاتياً. ولم يمارس أي حزب سياسي مثل هذا النقد قطعاً في ما عدا حزب آخر مارسه في أعقاب انهيار الحركة الكردية المسلحة في العام 1975 حيث أصدر المؤتمر الاستثنائي للحزب الديمقراطي الكردستاني انتقاداً لسياسات التعامل مع الغرب وإيران والعواقب التي تحملها الحزب والشعب حينذاك. ينبغي أن نسجل هذه الظاهرة الإيجابية العامة والمستمرة للحزب الشيوعي العراقي.

ـ معظم التقييمات كانت ملطفة، وفيها لهجة تبريرية واضحة ، بل فيها نزعة تبرئة الذات وإلقاء المسؤولية على الغير، أليس كذلك؟

ج- لم يكن الأمر هكذا دوماً, أي لم تكن كل التقييمات تحاول تبرئة الذات ورمي العبء على عاتق الآخرين, بل كانت هناك تقييمات ذات طبيعة تقويمية. كان هناك مثل هذا التقدير, وخاصة في القاعدة الحزبية ولدى الكثير من الكوادر أو بين القياديين أيضاً, ولم تصدر التقييمات باستمرار بالأكثرية بالضرورة. وفي حالة حصول مثل هذا التقييم التبريري, فأنه في المحصلة النهائية لا يساعد على تجنب الأخطاء.
إن الأحزاب السياسية التي تعمل بالسر, يصعب عليها, كما أرى, ممارسة الديمقراطية, التي يسعى إليها الإنسان, سواء باختيار الرفاق الجيدين للقيادة من خلال معرفة جيدة بهم وبصفاتهم ومستواهم الفكري والسياسي, أم بما ارتكبوه من أخطاء في نضالهم السياسي ..الخ, إضافة إلى النظام الداخلي الذي كان يضع أمام الشيوعي أن "نفذ ثم ناقش", وهو خطأ فادح حقاً وجلب الكثير من المشكلات للحزب الشيوعي العراقي. كلنا مارسنا ذلك, ولكن لم ندرك في حينها الآثار السلبية الناجمة عن هذه الأسلوب الذي نقل إلينا مع اللينينية والستالينية في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي..
ولكن هذه الحقيقة نسبية بطبيعة الحال, فهو حين كان ينتقد نفسه ويضع سياسة جديدة, كان المفروض أن يتجنب السقوط في أخطاء أخرى ومماثلة, بما في ذلك الكف عن النقد حين يتحالف مع قوى أخرى أو يشارك في السلطة. وهو العيب الكبير الذي كان يعاني منه الحزب وكان موضع نقد مستمر, وهو ناشئ عن المستوى الثقافي والوعي العام وعن ضعف الديمقراطية في حياة الحزب الداخلية, وخاصة في القيادة وفي العلاقة بين القيادة والقاعدة.
دعني أشير إلى مسالة أخرى. كما تعرف فأن التعامل مع رأي شخص واحد يختلف عن التعامل مع حزب سياسي فيه قيادة وأعضاء. إذ لكل من هؤلاء رأيه الخاص. حين تسألني عن الأسباب التي حالت دون عملية التغيير ولسنوات طويلة, أجيب بوضوح ودون أي لبس أو إبهام, بأننا جميعاً, أنت وأنا أيضاً, كنا في مدرسة فكرية وسياسية واحدة, كانت تعتقد بامتلاكها الحقيقة والحق, وأن مرجعيتها الكبرى لا ترتكب أخطاءً بل منزهة من كل خطأ, أو أنها معصومة عن ارتكاب الأخطاء. وأقصد هنا الحزب الشيوعي السوفييتي والاتحاد السوفييتي. لقد كنا مؤمنين وأصبحت النظرية الماركسية هي الدين الجديد لنا. وهي مشكلة كبيرة لمناضلين قضوا سنوات طويلة من عمرهم على نهج معين أن يغيروا ذلك النهج الخاطئ. وحين أدرك بعضنا مواطن الخلل في النظرية وفي التطبيق, كان الوقت قد فات في قدرته على التغيير وفي تأثيره على الحزب وسياساته.
في الربع الأخير من العام 1987 وبداية العام 1988 قدمت سلسلة من المحاضرات الفكرية والسياسية في كردستان العراق أثناء وجودي ضمن حركة الأنصار الشيوعيين وكنت عضواً في المكتب السياسي للجنة المركزية, وأشرت في حينها إلى مواطن الخلل في الفكر والممارسة وسبل التغيير. وكان لما أطرحه الكثير من التأييد لدى الكوادر والقاعدة الأنصارية, ولكن لم يكن بالضرورة في كل القيادة بل كان مقبولاً لدى البعض منهم. كان الوضع معقداً جداً ولم يكن ممكناً إجراء التغيير المنشود, حين شعرت بعدم قدرتي على تحقيق ذلك قررت التوقف عن العمل في اللجنة المركزية.
تاريخ الحزب وعادات الرفاق في العمل والحنين للماضي وقلة القراءة والإطلاع وضعف المستوى الثقافي والمعرفي وكذلك المعرفة بما يجري في العالم والتحولات الجارية فيه تشكل أسباباً حقيقية لرفض التغيير المنشود في الحزب الشيوعي. قبل انعقاد المؤتمر الوطني الثامن للحزب الشيوعي العراقي وجهت رسالة مفتوحة لقيادة وكوادر وأعضاء وأصدقاء الحزب وضعت فيها أبرز, وليس, كل المسائل التي اعتقدت بأنها تساعد الحزب على التحرك بشكل أفضل. وضُعت الرسالة في ملفات المؤتمر بحيث يستطيع من يشاء الإطلاع عليها, كما قمت بنشرها بشكل واسع, لأنها كانت رسالة مفتوحة. ولكن لم تقبل من أكثرية المشاركين في المؤتمر. كان تغيير اسم الحزب أحد مقترحات تلك الرسالة. وقد رفض. من هنا أقول إن عملية التغيير في أي حزب ليست سهلة, إذ تحتاج إلى قيادة مقتنعة وراغبة في التغيير, ثم عملية تثقيف وتنوير مستمرين, إنها عملية معقدة وليست سهلة رغم ضرورتها الشديدة في المرحلة الراهنة.
من المفيد أن يطرح هذا السؤال على قادة الحزب الشيوعي العراقي ليطرحوا وجهة نظرهم في الكثير من الأسئلة المثارة في هذا الصدد.

ـ بعد كل ما جرى ماذا استجد على الفكر الاشتراكي ، ومفهوم اليسار الإنساني لمغادرة وهم الحزب الشيوعي، ووعوده الميتة منذ ثمانين عاماً ، ونشوء تجمع جديد لليسار يتبنى قضية التغيير والبناء الحضاري في العراق خاصة وهناك آلاف من الرجال والنساء ممن غادروا الحزب الشيوعي ومازالوا مستعدين من أجل العمل التقدمي ولكن خارج الإطار الشيوعي؟
ج ** من كان عضواً في الحزب الشيوعي العراقي ويتخلى عن عضويته يفترض فيه أن لا ينسى انه شارك مع بقية أعضاء الحزب في ترويج تلك الأفكار التي أسميتها "ميتة".

ـ بالطبع أنا لا أنكر عضويتي السابقة في الحزب ولا أبرأ نفسي من المسؤولية ولكن في معرض مراجعة الماضي من الضروري تسمية الأشياء بأسمائها، لقد وعد الحزب الناس بالشيوعية وكان وعداً مستحيلاً أي ميتاً فعلاً

ج ـ ليست كل الأفكار التي سجلت في برنامج الحزب الشيوعي هي ميتة أو فات أوانها أو لم تكن في أوانها وخاطئة أو كانت أوهاماً أكثر مما هي أحلام, رغم وجود أوهام غير قليلة في البرنامج وفي الممارسة العملية. ومع ذلك من المفيد والصحيح أن تُطرح القضية بصيغة أخرى.
يشكل المنهج الماركسي المادي الجدلي الأداة الفعلية لعملية فهم الواقع ومعرفة طبيعة المرحلة وتشخيص المهمات والأهداف. وحين لا يجري فهم واستيعاب لهذا المنهج من أي شخص أو حزب, عندها يمكن أن ترتكب الأخطاء الفادحة, خاصة عندما تهيمن الرغبات الذاتية والإرادية على الواقع الموضوعي وعلى القوانين الاقتصادية الموضوعية وقوانين التطور الاجتماعي, إذ أن التجاوز عليها يقود إلى ارتكاب الأخطاء ووقوع مآسي وكوارث لا حد لها.
بدأ الخطأ الفادح قديماً, أي منذ أن اعتبر لينين ثورة أكتوبر بـ "الثورة الاشتراكية", في حين كان في العام 1916 وفي كتابه "الدولة والثورة" قد أكد بأن روسيا غير ناضجة للاشتراكية بل هي لا تزال لم تستكمل مسيرتها الرأسمالية. وحين حاول تعديل ذلك الشعار في سياسته الجديدة التي سميت بـ "السياسة الاقتصادية الجديدة" (النيب), كان الوقت قد فات والتزم ناصية الحزب والحكم جوزيف ستالين و "روسن" النظرية الماركسية وجسد في عمله الرغبات الذاتية والقسر بدلاً من اعتماد الواقع وبدأ بلوي رقاب القوانين الاقتصادية والاجتماعية الموضوعية لصالح تقديراته الخاطئة, لوي رقبة الواقع لمشيئته!
تصورنا جميعاً وعلى غرار تصور الاتحاد السوفييتي بأن نهاية الرأسمالية قاب قوسين أو أدنى, وهي التي لم يطرحها ماركس ولا إنجلز. ومن هنا بدأت المشكلة. أخطأنا في تقدير طبيعة المرحلة والقوى التي تشارك في النضال من أجل تحقيق المهمات على الصعيدين المحلي والدولي, وأخطأنا في تقدير دور الطبقة العاملة ودور الحزب الشيوعي العراقي, وافترضنا دور الطبقة العاملة القيادي ودور الحزب القيادي للجبهة الوطنية في بلد تسوده العلاقات الإنتاجية شبه الإقطاعية وهيمنة استعمارية غير مباشرة وأكثرية فلاحية في البلاد واقتصاد متخلف, وفي وقت كانت الطبقة العاملة محدودة وضعيفة وكذا الحزب الشيوعي كان ضعيفاً. لقد تركنا الواقع خلفنا وهرولنا بسرعة إلى أمام, حلقنا في الأحلام الوردية لمجتمع خال من الاستغلال وتصورناه قاب قوسين أو أدنى في الاتحاد السوفييتي على أقل تقدير, التي كانت أوهاماً حقاً, رغم صدقيتنا في ذلك وحسن نوايانا, ولكن النوايا الحسنة غالباً ما تقود إلى جهنم!
من هنا يتبين أن المشكلة هي ليست الوعود الميتة بل الرؤية السطحية للواقع وعدم الخوض بها والاعتماد على استهلاك المنتج الفكري والسياسي السطحي لقادة وجمهرة من علماء الاتحاد السوفييتي وليس كلهم على مدى عقود عدة. لم نكن مبادرين في دراسة الواقع وفي فهمه ولا في فهم المنهج المادي الجدلي وسبل ممارسته. لقد ارتكبنا أخطاءً كثيرة, ولكننا مارسنا التنوير في المجتمع أيضاً, وهي خصلة حميدة ومهمة.
ومع ذلك فقد لعب الحزب دوراً مهماً وملموساً في التوعية الفكرية والسياسية وفي النضال من أجل الاستقلال ودعم الفئات الفقيرة والكادحة والدفاع عن حقوق المرأة واستطاع أن يدفع بقضايا الفلاحين إلى أمام لمعالجة مشكلة الأرض وسبل استثمار واستغلال موارد البلاد الأولية التي كانت في أيدي شركات النفط الاحتكارية.

وبصدد الملاحظة الأخيرة أشير إلى أن الحزب الشيوعي قد طرح الهدف البعيد هو بناء الشيوعية والذي تقول عنه أنه كان هدفاً مستحيلاً ولن يتحقق. من الخطأ أن نتحدث عن بناء الشيوعية في العراق ونحن ما نزال نعيش في علاقات ما قبل الرأسمالية وبداية نمو العلاقات الإنتاجية الرأسمالية. ولكن من الصواب الحديث عن العدالة الاجتماعية التي يفترض النضال من أجلها وبالصيغة التي يمكن أن تتحقق بمراحل مختلفة, كما إنها مسالة نسبية. ليست العدالة التي أطمح لها هي مستحيلة, ولكنها بعيدة المدى وربما أجيال كثيرة تمر قبل أن تتحقق عدالة اجتماعية بمستوى لائق بكرامة الإنسان المهدورة حالياً وخاصة الفئات الكادحة والفقيرة والمعدمة. إن الفقر والظلم إن داما دمرا, هذه حقيقة ينبغي لنا أن نعترف بها, وبالتالي النضال ضدهما ضرورة موضوعية لكل إنسان يعي إنسانيته ويعي معنى الكرام التي يهدرها الفقر والجوع والحرمان.

ـ ولكن كان من الممكن أيضا ممارسة التنوير عبر حزب اشتراكي ديمقراطي وحتى لبرالي ديمقراطي ربما يكون التنوير آنذاك أعمق وأوسع وأسهل ودون هذه التضحيات الجسيمة ،ماذا ترى؟
ج- دعني هنا أن أؤكد ما يلي:
1. هناك مسألة مهمة لا بد من ذكرها وهي إن من حق كل إنسان في العالم أن يتبنى الفكر الذي يراه مناسباً, وهذا يضمنه الدستور العراقي الأول الصادر في العام 1925, كما تضمنه اللوائح الخاصة بحقوق الإنسان والمواثيق والعهود الدولية. ولهذا من حق كل جماعة أن تؤسس الحزب الذي يتفق ومصالحها واتجاهها الفكري .... وأعني بذلك, لم يكن العيب في تشكيل الحزب الشيوعي العراقي, بل كان العيب في النظام السياسي والقانوني الذي يحرم تشكيل حزب شيوعي ويدفع به إلى السرية وبالرغم منه. هذه هي المسألة المركزية التي يترض التركيز عليها بشكل عام, لكي لا تختل المعايير وينحرف النقاش. وهذا يعني إن النظام السياسي الملكي قد ارتكب جريمة أساسية حين أصدر قوانين مخالفة للنص الدستوري الذي يؤكد على حرية الفرد وحريته في التفكير والعقيدة ..الخ. وأعني بذلك المادة القانونية 89 أ التي وضعت في العام 1938 وفيها تم تحريم الشيوعية في العراق. والمخالفة الثانية برزت في مطاردة الحزب الشيوعي العراق واعتقال أعضاء الحزب وزجهم بالسجون. والمخالفة الثالثة للحكم هي اتهام قوى سياسية غير شيوعية بالشيوعية كما هو معروف لدى الجميع. إذا اتفقنا على هذه المسألة من الناحية المبدئية عند ذاك نستطيع أن نتحدث عن القضايا الأخرى بروية أكبر.
2 . لم يكن تأسيس الحزب الشيوعي حينذاك خطوة سهلة في مجتمع لا يعرف معنى الاشتراكية أو الشيوعية, وهي المتهمة بالإباحية وما شاكل ذلك. ولكن الناس قبلوا بها لسباب كثيرة. وشيوخ الدين رفضوا إدانتها في حينها مثلاً لأنها وجدت صدى سياسي وليس من الناحية الفلسفية بين أوساط الشعب في موضوع العدالة الاجتماعية وضد الاستعمار..الخ.
كان الأفضل لو بقي الحزب باسمه السابق, كما أشرت إليه سابقاً, أي "لجنة مكافحة الاستعمار والاستثمار" أو حزب الشعب, أو حزب اليسار الديمقراطي من الناحية التكتيكية والإستراتيجية. ولكن الحكم كان يرفض أي شكل من أشكال الوجود العلني للأحزاب. فحين اسس الحزب, حزب التحرر الوطني, حورب ومنع من العلنية, إذ اعتبر واجهة الحزب, وكان من الأفضل للحكم لو وافق على ذلك لكان ربما قد انتهى الحزب إلى القبول بحزب التحرر الوطني الذي يوفر له العلنية وينهي وجوده كحزب شيوعي عراقي. ولكن النظام رفض الحزب الجمهوري وأحزاب أخرى في حينها لأنه كان ضد الحياة الحزبية أياً كانت طبيعتها.
2. لم يتحمل الحزب الشيوعي العراقي وحده التضحيات الجسام في العراق بل أغلب القوى السياسية في العهد الملكي وما بعده. فلم تكن الشيوعية وحدها معاقب عليها, بل كان في حينها حزب البعث أيضاً, وكذلك الحزب الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال وحزب الجبهة الشعبية وحزب التحرير الإسلامي. من هنا يتبين إن النظام الملكي بحكوماته المتعاقبة كانت تتوجه ضد الجميع, ولكن حقدها وظلمها الأكبر لحق بالشيوعيين لأنهم ساهموا بفعالية في صفوف المعارضة السياسية.
3. علينا هنا أن لا ننسى بأن كل الحركات الفكرية والسياسية حينذاك كانت ترفع شعارات كبيرة ولم تستطع تحقيقها, ومنها الحركة القومية العربية التي رفعت شعارات الوحدة العربية بين الدول والشعوب العربية, وهي الآن, وكما ترى, أبعد ما تكون عن مثل هذه الوحدة, دعْ عنك الشعارات الأخرى. لقد كان عصر حركات التحرر الوطني حيث استطاعت الكثير من الدول الأسيوية والأفريقية أن تقيم دولها وتشكل حكوماتها المحلية, وبالتالي فهو لم يكن عصر التحرر والاشتراكية, بل عصر التحرر والديمقراطية, ولا زال كذلك وسيستغرق وقتاً طويلاً.
ولا شك في أن الصراع الدولي بين الشرق والغرب أو بين المعسكرين كان له كبير الدور والأثر على حركة التحرر الوطني وعلى رفع شعارات متطرفة.
كان من المفيد أن يحصل تغيير الاسم والبرامج منذ فترة طويلة. ولم يحصل ذلك, ولكن الآن يفترض أن يحصل ذلك, فلا بد أن تدرك الأحزاب اليسارية, ومنها الأحزاب الشيوعية, التغيرات الكبيرة الحاصلة في العالم وأن تمارس التغيير في الكثير من الأمور في نهجها الفكري والسياسي وفي ممارساتها السياسية وفي أساليب وأدوات عملها ونضالها, ومن لا يعمل ذلك يصطدم بجدار الواقع بحقائق الوضع, والحقائق صخور صلدة!
لقد عالج الصديق ورفيق النضال الطويل الكاتب والمحلل السياسي الأستاذ كريم مروة موضوع اليسار وتجديده في أكثر من كتاب, ومنها كتابه الموسوم "نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي" الذي يستحق القراءة والتفكير بالموضوعات المهمة التي طرحها للنقاش.
القوى اليسارية التي تسعى إلى التجديد يفترض فيها, كما أرى, أن تعمل بالاتجاهات التالية كمقترحات أساسية:
1. أن تستخدم المنهج العلمي, المنهج المادي الجدلي, في فهم الواقع العراقي, شريطة أن تستوعب هذا المنهج وسبل استخدامه وتبتعد عن فرض رغباتها الذاتية.
2. أن تعي الماضي بكل أبعاده وأحداثه وما تحقق وما ارتكب من أخطاء ليكون مساعداً لها في فهم الحاضر واستشراف آفاق المستقبل.
3. أن تنطلق من الواقع الذي تعيش فيه, أن تدرسه بعناية من حيث طبيعة المرحلة والمهمات والقوى الفاعلة فيه وأساليب وأدوات عملها.
4. التخلي الكامل عن القوة والعنف والانقلابات والتمسك بالنضال السلمي والديمقراطي ومن أجل سيادة مبادئ الحرية الفردية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات والعدالة الاجتماعية وحقوق المرأة ومساواتها بالرجل.
5. أن تطرح برنامجاً ينسجم مع التحليلات والاستنتاجات وأن لا يحلق في الأحلام التي تصبح أوهاماً, مع ضرورة أن يبقى حلم العدالة الاجتماعية غير بعيد عن المنظور العام, ولكن بعيداً عن قفز المراحل أو حرقها.
6. ولكن على قوى اليسار أن ترى وتعترف بالأخطاء الفكرية والسياسية التي ارتكبتها في مجرى النضال, وهو ليس عيباً بل فضيلة لكي تستطيع أن تسير بقوة وعنفوان نحو الأمام لتحقيق مصالح الشعب.

ـ كيف ترى مستقبل الحزب الشيوعي العراقي؟


ج- إن بقى الحزب الشيوعي العراقي على وضعه الراهن , سيبقى قائماً, ولكنه سيبقى يلعب دوراً هامشياً في الحياة السياسية العراقية. ولكن سيتغير هذا الوضع لو استطاع الحزب أن يغير الكثير من واقعه الراهن إذا أدخل تغييرات حقيقية, ومنها اسم الحزب, كما أرى. لقد طرأت تغييرات كثيرة وعميقة على المجتمع العراقي خلال نصف القرن الماضي, على وضعه الطبقي والاجتماعي والنفسي, على بنية تفكيره, كما تغيرت أوضاع أو بنية الطبقات الاجتماعية والوعي الاجتماعي في العراق, وكذلك المهمات التي تواجه المجتمع. ومن هنا يتطلب الأمر حزباً يسارياً ديمقراطياً حديثاً يتسع لفئات اجتماعية عديدة تتطلبها طبيعة المرحلة ومهمات النضال...الخ. الأمر لا يعود لي, بل هو مرتبط بالحزب الشيوعي العراقي, والذي يفترض توجيه السؤال له أيضاً, كما أنه مرتبط بمؤتمراته.


- كنا وما نزال نكن للشعب الكردي التقدير والمحبة مؤمنين بحقه في نيل حقوقه القومية بما فيها حقه بإقامة دولته الوطنية المستقلة على الأرض التي هي أرضه حقاً، وليس أرض الآخرين طبعاً، ولكن ألا ترى أن زعماء الأكراد اليوم أسفروا عن وجوه قومية متصلبة جداً، وأطماع قومية، وجشع طبقي لا حدود له، وعن نزعات هيمنة يصعب تقبلها، وهم بذلك قد فقدوا الكثير من أصدقائهم بين المثقفين العراقيين، بل هم بذلك جعلوا القضية الكردية مريبة منفرة ، ولو دار الزمن الهش، وما أسرع دورانه، فهم لن يجدوا ذات الأنصار والمؤازرين الذين كانوا معهم في الحقب السابقة، بينما أنت ما تزال تدافع عن قيادتهم وسياساتهم، مما جعل ذلك موضع تساؤل الكثيرين ؟

** دعني من حيث المبدأ أن أؤكد بعض المبادئ الأساسية التي أتحرك في ضوئها في الحكم على الأحداث والقضايا. فأنا أرى بأن:
* من حق جميع شعوب العالم أن تناضل من أجل حق كل منها في تقرير مصيره وإقامة دولته الوطنية المستقلة على أرض وطنه, بغض النظر عن كبر أو صغر عدد أفراد هذا الشعب أو ذاك. والشعب الكردي هو أحد أقدم شعوب المنطقة ويمتلك مثل هذا الحق.
* جميع شعوب المنطقة الكبيرة والصغيرة لها دولها في ما عدا الشعب الكردي الموزع على أربع دول, في حين إن عدد سكانه يقترب أو يزيد عن 30 مليون إنسان. ومن حق هذا الشعب أن يطمح بالعيش في أجواء الحرية وأن يقيم دولته الوطنية المستقلة على أرض وطنه. وها نحن أمام الشعوب العربية في الخليج التي لها دولها المستقلة عن بعضها, رغم أنها دولاً صغيرة جداً لا يصل عدد أفراد بعضها عن نصف مليون إنسان. فما هو المعيار الذي نقيس على ضوئه حق الشعوب غير معيار المساواة في الحقوق, وبالتالي حق هذا الشعب في إقامة دولته الوطنية أيضاً والتي حرم منها على مدى قرون و عقود.
* حين ناضل التقدميون العرب في العراق من أجل الديمقراطية, وقفنا إلى جانب القضية الكردية لأنها قضية عادلة ومشروعة, ولم يكن هذا الموقف منَّة منا عليهم, وهم شاركوا معنا في النضال من أجل حقوقهم ومن أجل الديمقراطية في العراق أيضاً. ولم يكن ذلك منَّة منهم علينا, بل كان نضالاً مشتركاً لتحيق أهداف مشتركة.
* لقد مارست الحكومات العراقية المتعاقبة في زمن الملكية وفي الفترات اللاحقة, وبشكل خاص في فترة البعث الثانية, سياسات تهميشية أولاً, وسياسات عدوانية شوفينية ثانياً, وسياسات إبادة فعلية وضد الإنسانية ثالثاً, إذ مارسوا التعريب والتهجير القسري والتشريد وكل ما هو معروف في قاموس العنصرية بما في ذلك عمليات ومجازر الأنفال, إضافة إلى مجزرة حلبچة البشعة حقاً والتي هي ضد الإنسانية وإبادة جماعية حيث استخدم السلاح الكيمياوي فيها.
علينا أن نتذكر كل ذلك حين نبحث في القضية الكردية.
حين نتحدث عن الحركات القومية في العالم, علينا أن لا ننسى ضيق أفق أو الشوفينية في مثل هذه الحركات, هكذا هو موقف قوى القومية العربية والتركية والفارسية أو غيرها في الدول النامية بل وفي الكثير من الدول الأوروبية المتقدمة. وحين نتحدث عن القوى الكردية السياسية نميز بين القوى القومية والقوى الديمقراطية والتقدمية, وكذا الحال بالنسبة للقوى العربية التي نميز في ما بينها من حيث الأفكار والبرامج والأهداف والمصالح وأساليب وأدوات النضال.
ومن هنا يفترض أن نقارن بين السياسات العربية المتشددة والسياسات الكردية المتشددة في مواجهتها. ألا ترى أن طرح السؤال وبالطريقة التي صغتها تنطلق من رؤية ومواقع القوميين العرب أيضاً الذين لا يرون إلا جانباً واحداً من القضية هو الجانب الكردي, ولا يريدون رؤية الجانب العربي الذي هو الآخر أكثر تشدداً وتصلباً وجموداً من أي وقت مضى والتشدد يجلب بالمقابل التشدد أيضاً.

ـ اعتقد أن من الصعب قبول هذا الحكم، فحشر الكرد مع العرب وغيرهم في العراق وعدم منحهم دولتهم، كان صفقة استعمارية بين الإنجليز وتركيا جرى فيها التخلي عن وعد الكرد في معاهدة سيفر 1921 بمنحهم دولتهم الوطنية، أي أن الكرد والعرب في العراق هما ضحايا لعبة استعمارية، لكن قادة الكرد القوميين، حاربوا الحكومة العرقية على مر العهود كما لو أنها هي الاستعمار، واليوم يبدون أشد غلوا في عدم تفهمهم أن علاقتهم التاريخية مع العرب محكومة بثوابت إقليمية لا ذنب للعرب في العراق فيها، دون إنكار أن تعامل صدام معهم ومع الشعب الكردي كان وحشياً وإجرامياً ومداناً، ولكن لقادة الكرد القوميين أخطاؤهم وجرائمهم أيضاً، لم لا نتحدث عن ذلك؟

ج- في هذا التعليق الكثير من المسائل التي تستوجب المعالجة الجادة والهادئة وبمنظور ديمقراطي. ويفترض تجزئتها لكي نحسن الإجابة عنها:
1 . أتفق معك بأن العرب والكُرد كانوا ضحية مؤامرة دولية على شعوب المنطقة كلها. كان الكُرد موعودين بدولة, وكان كل العرب موعودين بدولة عربية واحدة أيضاً. ولم يحصل ذلك. بل شُكلت الحكومة العراقية في العام 1921 دون أن تكون ولاية الموصل جزءاً من العراق أو تركيا بل بقيت تحت الاحتلال الإنجليزي وغير مدمجة بالدولة العراقية أو الدولة التركية. ولم تكن المؤامرة بين بريطانيا وتركيا, بل كانت بين بريطانيا وفرنسا بتعبير أدق, إذ كانت تركيا تريد ولاية الموصل كلها بما فيها الموصل وكركوك وأربيل والسليمانية. وحين أدمجت ولاية الموصل بالعراق. وحين جرى البحث في رفع حالة الانتداب عن العراق وعضويته كدولة مستقلة بعصبة الأمم, جرى تبادل الرسائل والوثائق بين مجلس العصبة والملك فيصل الأول والحكومة العراقية, حيث جرى تأكيد وتوضيح حقوق الكُرد في إطار الدولة العراقية. والوثائق كلها متوفرة ويمكن الإطلاع عليها.
2 . لم تلتزم الحكومة العراقية بتلك الوثائق والعهود والوعود الملزمة للحكومة العراقية, بل رمتها جانباً, مما فرض على الشعب الكردي المطالبة بحقوقه المشروعة. وحين بدأ المطالبة بحقوقه, راحت الحكومات العراقية المتعاقبة تمارس القوة والعنف والجيش العراقي لضربه في مناطق سكناه. وبالتالي أرى أنك ترتكب خطأً فادحاً ومخالفة صريحة لكل الوقائع التاريخية حين تقول:
"...، لكن قادة الكرد القوميين، حاربوا الحكومة العرقية على مر العهود كما لو أنها هي الاستعمار،..". لا يمكن اتهام من يناضل في سبيل حقوقه المشروعة بمحاربة الحكومة العراقية, بل إن الحكومة هي التي حاربت الكُرد الذين طالبوا بحقوقهم المشروعة. هذا جرى منذ الثلاثينيات من القرن الماضي وتكرر في الأربعينيات منه أيضاً.
وحين انتصرت ثورة تموز 1958 هلل الكُرد حين ورد في الدستور "العرب والكُرد شركاء في هذا الوطن". ولكن حين قيل بأن العراق كله جزءٌ من الأمة العربية رفضوا ذلك, وكانوا على حق في هذا الرفض. ولم يبدأ الكُرد القتال, بل بدأ قاسم بقصف المناطق الكردية. رغم ذلك كان بالإمكان حلها بطريقة أخرى لو توفرت الأجواء المناسبة لذلك.
وما جرى بعد ذلك وفي فترة حكم البعثيين الأول وحكم القوميين ومن ثم حكم البعثيين الثاني تشير أنت إليها بصواب, بأنها كانت جرائم بشعة ضد الكُرد وضد الإنسانية وإبادة جماعية. وفي الجزء السابع من كتابي الموسوم "لمحات من عراق القرن العشرين" درست هذا الموضوع بتفصيل كبير.
3 . حين نعترف بوجود شعب آخر غير الشعب العربي في العراق هو الشعب الكردي, يفترض أن نعترف بأن له أرضاً كان ولا يزال يعيش عليها, وهي الأرض التي يطلق عليها كُردستان, وهي القسم الجنوبي من كُردستان الكبرى المقسمة إلى أربعة أجزاء في هذه المنطقة من الشرق الأوسط, قسم لتركيا وآخر سوريا وثالث للعراق ورابع لإيران. الشعب الكُردي في كُردستان العراق له علاقات تاريخية مع الشعب العربي في العراق, علماً بأنه الأقدم في هذه المنطقة منَّا نحن العرب, إذ قدم أجدادنا إلى العراق من الجزيرة العربية مع الفتح الإسلامي للعراق وليس قبل ذاك.
هذا الشعب لا يريد الانفصال عن العراق, ولكن له مطالب في الأرض التي يقول عنها أنها كُردستانية. في مقابل هذا يقول العرب في العراق غير ذلك, فكيف نعالج الخلاف؟ مثل هذه الخلافات كثيرة في العالم القديم وفي الوقت الحاضر. هذا ما أشرت إليه قبل ذاك أيضاً. إن ما تسميه غلواً من القوميين الكُرد, يطلقون عليه هم إنه الغلو القادم من العرب الذين يريدون اقتطاع أراض كُردية. علينا أن نمتلك الشجاعة لمعالجة القضية بموضوعية عالية ووفق أسس ديمقراطية رصينة وبعيداً عن التهديد والوعيد والإساءات, إذ إن مثل هذا التوجه يزيد الأمر تعقيداً وصعوبة بدلاً من معالجة المسألة.
4. عندما تتحدث عن الجرائم التي ارتكبها الكُرد, عليك أن تكون ملموساً وبعيداً عن التعميم. وحين أقول أن الحكومات العراقية المتعاقبة قد ارتكبت جرائم بحق الكُرد, أستطيع أن أضعك في مواجهة تلك الأحداث مباشرة وبالوقائع الدامغة. وإذا كان الحديث عن الصراعات الحزبية والنزاعات المسلحة التي حصلت بين القوى الكردية أو العراقية عموماً, فهو أمر آخر يفترض وضعه في مستوى آخر ومعالجته أيضاً, ولا شك في أن كل عملية قتل لفرد أو أكثر هي جرائم فعلاً, كما جرى الحديث بشأنه في موضوع بشت آشان أو قتل الشيوعيين القادمين من المدرسة الحزبية في موسكو في النصف الأول من العقد الثامن من القرن الماضي من قبل مسلحي الحزب الديمقراطي الكردستاني ...الخ.
يفترض أن لا يكون التهديد الذي وصلك من بعض بؤساء الفكر والسياسة من الكُرد هو الدافع لمثل هذا الطرح حول القضية الكردية. لقد كان التهديد مدان ولك الحق في إبداء الرأي, بغض النظر عن التباين في وجهات النظر والاختلاف حول هذه أو تلك من المسائل. وقد شجبت هذا التهديد في حينها وكنت مقالاً حول ذلك, رغم اني كنت مخالفاً لوجه نظرك التي اعتبرتها حادة وغير منصف في بعض جوانبها. ولكن أحترم رأيك, كما تحترم رأيي.

كل القوميين لهم مطالب في الأرض في جميع أنحاء العالم. والسؤال هو كيف تعالج هذه القضية, قضايا الخلاف على الأرض والحدود. هناك خلاف بين كربلاء والأنبار على الحدود بسبب التغييرات التي أدخلها صدام حسين على الألوية السابقة أو المحافظات, والخلاف قوي ومؤذي إن استمر, وهو ليس بخلاف بين شعبين بل بين قوى في شعب واحد يفرقها المذهب. هناك خلافات على الحدود العراقية الإيرانية وبين الدول العربية.. وهي مسائل موروثة من فترة السيطرة الأجنبية القديمة والحديثة ومعالجتها يستوجب الهدوء والصبر والموضوعية والمساومات المتقابلة.
حين نتحدث عن القضية الكردية وعدالتها يفترض فينا أن نكون مبدئيين ولا نساوم على المبادئ مهما كانت أخطاء الطرف الآخر قائمة. وحين نبحث في الإشكاليات السياسية علينا أن نميز بين ما هو خاطئ وما هو صحيح حسب تقديرنا وحسب فهمنا وقدرتنا على التمييز, عندها نستطيع أن ننتقد أو نمدح أو نقف إلى جانب هذه السياسة أو تلك رغم أننا لا نمتلك الحقيقة كلها ولا الصواب كله في الفكر والسياسة.
تقول في سؤالك : ... , ولو دار الزمن الهش، وما أسرع دورانه، فهم لن يجدوا ذات الأنصار والمؤازرين الذين كانوا معهم في الحقب السابقة، بينما أنت ما تزال تدافع عن قيادتهم وسياساتهم، مما جعل ذلك موضع تساؤل الكثيرين؟
في هذا المقطع يشعر الإنسان وكأنك تتوقع أن يدور الزمن الهش ويعود من كان, أو من هو الآن, ضد القضية الكردية إلى السلطة, عندها سوف لن يجد الكُرد الأصدقاء ذاتهم. في هذا المقطع يمكن القول بأن الأصدقاء العرب هم أيضاً تغيروا وليس الكُرد وحدهم, وليس بسبب الكُرد وسياساتهم قد تغير بعض العرب التقدميين والديمقراطيين والشيوعيين وتخلوا عن أحزابهم وسياساتهم السابقة لأي سبب كان. وليس في هذا عيب, ولكن العيب كل العيب في التخلي عن المبادئ وعن الاعتراف بحق الشعوب. التغيير لدى الفرد ليس خطأً, ولكن المسألة الجوهرية بأي اتجاه يتحرك هذا الفرد او ذاك, هنا تكمن المسألة المركزية!

ـ اعتقد انك في هذا تتجنى على نوايانا لمجرد أننا نشخص تعالي التطرف القومي لدى القيادات الكردية، هذا غير مقبول، نحن لا نتخلى عن قناعتنا بحق الشعب الكردي في استقلاله وتكوينه لدولته الوطنية ولكننا نرفض نزعة التوسع ومحاولة غمط حقوق الآخرين أيضاً ، ونحذر من أن المغالاة والتطرف قد تجر للصدام والصراع الحاد، وفقدان الأصدقاء والحلفاء ، هذا ليس تخل عن المبادئ، هذا تمسك بها وحرص عليها‍، وممارسة جريئة وواضحة لها.

ج- لا أتجنى عليك أو على غيرك ممن لهم وجهة نظر مماثلة لوجهة نظرك بأي حال, وأنت صديق عزيز ورفيق نضال طويل والاختلاف في الرأي لا يضيع للود قضية, ولكن أنطلق من طريقة صياغتك للأسئلة التي هي اتهامية وأحكام مسبقة.
لدي القناعة الشخصية أيضاً بأن هناك حقاً بعض التعالي لدى جمهرة من المسؤولين الكُرد وليس كلهم فالتمييز ضروري والإطلاق خطأ. ومع ذلك فالتعالي أمر غير محبذ وغير مرغوب به. ولكن قل أيها الأخ الكريم, ألم يتحملوا الكُرد عقوداً كثيرة من تعالى الحكام العرب في العراق؟ ألم يتحملوا تهميشهم اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً في أكثر فترات الحكم العراقي الحديث؟ ألم يتحملوا عذابات التمييز في مواقع كثيرة من الدولة العراقية وأجهزتها؟ إن الكُرد, كشعب وكمسؤولين يحتاجون, كما أرى, إلى فترة غير قصيرة ليستعيدوا وضعهم الطبيعي بعد المجازر المرعبة التي ارتكبت بحقهم في العهود المنصرمة وخاصة في عهد الدكتاتور الأهوج والمجرم بحق الإنسانية صدام حسين, وأن يحسوا بأنهم متساوون في الحقوق والواجبات كبقية المواطنين العرب في العراق. لقد كانوا يعاملون كمواطنين من الدرجة الثانية, وهو أمر مقرف حقاً لأي إنسان أو مجموعة بشرية أو شعب. وهو ما يفترض أن نفهمه حقاً.

أشرت لك في أكثر من موقع في إجاباتي بأن السياسة التي يمارسها بعض قادة الكُرد لا أجدها صحيحة, ولكن طريقة عرضك للموضوع هي المثيرة حقاً. تتحدث عن نزعة التوسع وغمط حقوق الآخرين, ولكن ألا يمكن اعتبار ذلك كرد فعل للسياسات التي مارسها صدام حسين في التعريب والتهجير القسري وتغيير أسماء القرى والقضية وتغيير خارطة المحافظات العراقية, لِمَ لا تتحدث عن ذلك أيضاً, وليس فقط جرائم القتل والتغييب التي ارتكبها النظام البعثي ضد الكُرد ... الخ.
أنا لست إلى جانب التوسع في المطالب الكردية وبالطريقة الجارية حالياً من جانبهم في معالجة المسألة, ولكني لست مع الطريقة التي تعالج فيها الحكومة العراقية لها أيضا, إذ أن التسويف في المعالجة يعقد المشكلة ولا يعالجها. ويبقى السؤال كيف نعالج الموضوع؟ وكيف نقلص الخلافات ولا نوسع فيها؟

أعود الآن إلى استكمال إجابتي عن السؤال قبل التعليق الأخير.
الذين يفكرون بأني أدافع عن قيادات الكُرد وسياساتهم هم ضمن المخطئين حقاً وأيضاً, إذ أنهم: إما لم يطلعوا على مواقفي السياسية من القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية في العراق وفي إقليم كردستان العراق التي أكتبها وأنشرها على نطاق واسع؛ وإما أنهم ينظرون بعين واحدة إلى القضايا التي أكتبها وأنشرها على الملأ؛ وإما أنهم, وهو ما لا أتمناه لكل إنسان, مصابون بعلة الرؤية القومية العربية اليمينية والشوفينية.
أنا لا أدافع عن هذا الحزب أو تلك القيادة في كُردستان العراق أو في العراق عموماً ولا عن سياسات تلك الأحزاب والقيادات, بل أدافع عما أراه صحيحاً وما يتفق مع المبادئ التي التزمت بها منذ ما يزيد على ستة عقود, وفي الوقت الذي لم تكن تلك الأحزاب في السلطة أو حتى لم يكن بعضها قائماً.
إن دفاعي عن حق الشعب الكردي لا يختلف قيد أنملة عن دفاعي عن الشعب العربي الذي أنتمي إليه. إذ أن من يحترم قوميته ويدافع عنها عل وفق الحق, يفترض فيه أن يحترم القوميات الأخرى ويدافع عنها على وفق الحق, ومن يريد أن يكون القانون والحق إلى جانبه, يفترض فيه أن يسعى لكي يكون الحق والعدل إلى جانب الشعوب الأخرى المطالبة بحقوقها المشروعة والعادلة.
لقد وجهت نقداً للسياسات الخاطئة والمتعجلة للقيادة السياسية وللأحزاب السياسية في كُردستان العراق حين وجدت ذلك ضرورياً, ولكني وبالقدر ذاته وجهت النقد إلى القيادة العراقية وإلى الأحزاب السياسية العربية أو العراقية عموماً حين شعرت بأن النقد واجب وضروري لتعديل المسار, كما أرى, وربما لست باستمرار على حق أو على صواب في نقدي وملاحظاتي. قبل قليل كنا نتحدث عن حزب سياسي احترمه واقدر نضاله وشاركت معه في النضال عقوداً عدة, ولكن لم يمنعني هذا عن نقد ما يستوجب النقد حسب رأيي, واقصد به الحزب الشيوعي العراقي, وهذا ليس إساءة لهذا الحزب ولا تجاوزاً عليه. النقد ضروري ولكن الدفاع عن الحق والقانون ضروريان أيضاً.
لدي الإحساس الكامل بأن لو كان العرب في موقع الكُرد, لكان موقف العرب مماثلاً للموقف الكردي الراهن. ليس كله خطأً وليس كله صائباً, وكذا الحال في مواقف العرب. وقد أشَّرت الخطأ والصواب حين وجدت ذلك ضرورياً على وفق اجتهادي. ولهذا فقولك موضع تساؤل الكثيرين لا يغير من حقيقة أن الآخرين الكثيرين هم الذين تغيروا بفعل التغير الحاصل في كل المعايير السابقة التي كنا ندين بها ونعمل في ضوئها. ومع ذلك يتطلب من كل إنسان أن يعيد النظر بمواقفه حين يجد ذلك ضرورة وهو ما أقوم به بين فترة وأخرى. ولم أجد ما يفترض تغيير موقفي من حقوق الشعب الكردي, ولكن اتخذت المواقف الضرورية إزاء السياسات التي تمارسها الحكومة الكردستانية أو الأحزاب الكردستانية. وأتمنى على ذلك الكثير أن يفكر ويعيد النظر بمواقفه.

ـ لماذا تفترض أن التغيير قد حصل لدى هؤلاء الناس، وهم في معظمهم من المثقفين ومن المعروفين برهافة الضمير وعدالته، لم لا تتحدث عن هذا التغيير الذي طرأ على القادة الكرد ومشاريعم وشعاراتهم بفعل السلطة ونعمها ومباهجها وفسادها وأوهامها،لماذا؟

ج- هناك بعض الأخطاء التي, كما أرى, ارتكبها الأخوة المسؤولين في كُردستان منذ سقوط النظام, أو بتعبير أدق منذ مؤتمر بيروت والتحالفات مع القوى الشيعية على حساب التحالفات مع القوى الديمقراطية, وقد ذكرت هذا في أكثر من كتاب لي ومقال, والتي تمس العلاقة بينهم وبين القوى الديمقراطية والتقدمية العراقية والتي ساهمت في إضعاف هذا التيار الوطني في العراق. كما أن تركيزهم على التحالف مع الشيعة, باعتبارهم كانوا من المضطهدين في العهد ألصدَّامي أو كل العهود السابقة, هو الآخر يشكل مشكلة لي وللقوى الديمقراطية العراقية, رغم قناعتي بوجود توازنات معينة تدفع بهم إلى هذا الموقف, ولكني لا أراه سليماً على المدى المتوسط والبعيد, وفيه كما أرى قصر نظر. هذا أحد العوامل التي أثارت المثقفين العراقيين العرب في العراق ولا تزال تحركهم.
غالباً ما كانت الكراسي تفسد الناس في كل أنحاء العالم, وهي من المؤسف سمة مشتركة في العالم كله. لقد كتبت عن هذا الموضوع كثيراً, ولكن هذا الموقف لا يجعلني اتخذ مواقف صارخة ضد الكُرد أو ضد العرب, إذ لا معنى لها. بل يفترض طرح وجهات النظر بهدوء وموضوعية وإدانة ما نراه خاطئاً ومضراً بالشعب الكردي أو بعموم الشعب العراقي على وفق اجتهادنا, ولسنا بالضرورة نملك الصواب في كل ما نطرحه.

س: في حديثنا عن القضية الكردية ألا حظ إنك ما تزال تستعمل المصطلحات السابقة حين كان الكرد مطاردين من السلطة ويوصف خصومهم عادة بالشوفينية ، اليوم الكُرد هم من يمسك بالطرف الأقوى من المعادلة ويمارسون التوسع ونزعة الهيمنة على الأرض والناس ويتحدثون كمنتصرين فيتوعدون ويهددون ويصفون ما يعتقدون أنها أرضهم بالأرض المقتطعة من كردستان ألا ترى أن من الضروري مراجعة طريقة المثقفين العراقيين في التعامل مع القضية الكردية؟

ـ كما يبدو أن هذه القضية تشغلك كثيراً.
ـ نعم لأني أراها أحد العوامل الرئيسية التي ساهمت في اضطراب العراق وخرابه والحال الذي نعانيه اليوم.

ـ أنا لم استخدم المصطلحات القديمة أو التي عفا عليها الزمن, بل ثبَّت بعض المبادئ التي لا أزال اعتمدها وأثق بصوابها. كما أشرت لك بأني غير متفق على جملة من السياسات التي مارسها ويمارسها الحكام الحاليون في كردستان العراق ولا مع تلك التي يمارسها الحكام الحاليون العرب في بغداد. أما بشأن القضية التي تشغل العرب والكُرد التي تمس الأرض وحدود الإقليم والتي بدأ يطلق عليها بـ"الأراضي المتنازع عليها", فأن من واجب الحكومات والمجالس النيابية والمؤسسات المسؤولة وبالاستناد إلى الدستور معالجتها. هناك تقسيمات إدارية منذ العهد الملكي نشرت في كتاب التقسيمات الإدارية للألوية في العراق في العام 1962 من قبل وزارة الداخلية للحكومة العراقية والتي يفترض العودة إليها أيضاً لنرى مدى التغييرات الوقحة التي أدخلها صدام حسين على خارطة الألوية أو المحافظات في العراق. وهي حدود كانت موجودة قبل أن يمارس الدكتاتور العنصري صدام حسين سياساته المعروفة بالتعريب لا للبشر فحسب, بل ولمناطق كثيرة حيث تم تغيير تبعية الأقضية للمحافظات المختلفة بما فيها أقضية تابعة للمحافظات الكُردية وسجلها تابعة لمحافظات عربية. هذه الحقيقة يفترض أن تؤخذ بالاعتبار لمعالجة المشكلة على أسس سليمة وبعيدة عن السياسات القومية المتشنجة, سواء أكانت عربية أم كردية.
هذه المشكلة لا تشغلني كثيراً لأني واثق من أن الشعبين العربي والكردي في العراق سيبقيان عقوداً طويلة جنباً إلى جنب وفي بلد واحد, غذا ما سلك الجميع سياسة ديمقراطية, وإذا ما وضعت القوانين الضرورية لتنظيم العلاقة السليمة بين الحكومة الاتحادية وحكومة افقليم. ولا أجد ما يبرر أن يغير المثقفون العراقيون موقفهم من القضية الكُردية, ولكن من الممكن ومن حقهم أن يتخذوا مواقف نقدية إزاء سياسات حكام كُردستان الحاليين. وهي مسألة مرتبطة بموقف كل مثقف عراقي يعي مهمته وواجبه في ظل الأوضاع الراهنة التي يعيشها المجتمع العراقي.
من الواضح بأن هناك محاولات من جمهرة من المسؤولين الكُرد أن يستفيدوا من ضعف الحكومة العراقية أو ضعف وتفكك الموقف العربي العراقي ببغداد فيطرحوا مطالبهم التي لا يقرها العرب. وإذ أعتقد أن هذا الأسلوب غير سليم من حيث المبدأ والواقع, فأن الأسلوب الأسلم في معالجتها هو الحوار الجاد والمسؤول من قبل الجميع بدلاً من التوتر والتهديد الذي لا ينفع أحداً, سواء من هذا الطرف أو ذاك .
إن تخندق العرب في العراق ضد الكُرد, أو تخندق الكُرد ضد العرب, لن ينفع أحداً ولن يقود إلى حلول سلمية للمشكلات المعلقة, وقد جربت الحكومات العراقية كلها حلولاً عسكرية انتهت بمزيد من الخراب. ولهذا من المفروض أن يلعب المثقفون العراقيون من عرب وكرد دوراً فاعلاً ومؤثراً من خلال الدعوة إلى مفاوضات حول المشاكل المعلقة وليس بانتظار فرصة مواتية للعرب لكي ينقضوا على الكُرد مثلاً, أو أن يستثمر الكُرد ضعف العرب في العراق لكي يطرحوا مطالب لا يمكن أن تمر. إذ أن مثل هذا التصور غير مناسب لحل المشكلات بل يزيدها تعقيداً.
نحن أمام مطالب قومية كردية, في مقابل رفض عربي لتلك المطالب. والسؤال كيف تعالج هذه الأمور في إطار دولة واحدة؟ ما هي الأسس التي تعتمد لمعالجة الموضوع؟ وما هي الأساليب والأدوات التي يفترض أن تستخدم لمعالجة هذه القضايا؟ أنا واثق بأن الكُرد لن يستطيعوا فرض كل ما يريدون الحصول عليه, ولا يمكن للعرب في العراق أن يرفضوا كل ما يطالب به الكُرد. من هنا تنشأ أهمية الحوار والاعتماد على أسس مبدئية في معالجة الخلافات القائمة. لا يمكن أن نعتمد معادلة الصفر في حلول من هذا النوع. لقد فقدنا الكثير من الأرض العراقية للكويت بسبب مواقف القوميين العرب والبعثيين اليمينيين والشوفينيين والتوسعيين. وفقدنا الكثير من الأرض لإيران بسبب مواقف البعثيين والقوميين العرب المؤيدين لهم في العام 1975 وفق اتفاقية الجزائر في محاولة الحكومة البعثية حل المشكلة الكردية عن طريق الحرب والتآمر.
هذا لا يجوز بل يفترض الجلوس إلى طاولة المفاوضات ومعالجة كل المشكلات المعلقة بهدوء وروية وقناعة بمصالح الشعبين في دولة عراقية ديمقراطية اتحادية.



س: برزت اليوم في المجتمع العراقي، القضية الطائفية، وهي طبعاً قضية قديمة جداً، لكنها أخذت الآن طوراً رهيباً، أوصل العراقيين للحرب الأهلية،
وقد تباينت المواقف والتوجهات بصددها، فالأمريكيون بعد أن شجعوا على ظهورها يبدون اليوم في حالة تراجع وتذبذب بصددها، والإيرانيون ماضون بها لما يحقق هيمنتهم على العراق ويخدم مصالحهم وصراعهم مع أمريكا، وقادة الأكراد تنازلوا عن الطائفة من أجل القومية، وتحالفوا مع قادة شيعة تنازلوا عن القومية من أجل الطائفة، بينما قادة السنة القادمون للعمل السياسي بعد تردد ما يزالون كأنهم لم يصحو من هول الصدمة وقلوبهم شتى ويتخبطون بين الطائفة والقومية، هل تعتقد أن من الممكن توحيد العراقيين في موقف وطني بصدد الطائفة؟ ألا ترى أن المسألة الطائفية لم تحظ بعد بالدراسة والتحليل الكافيين، كيف ترى دور المفكرين والمثقفين في ذلك؟

** أكبر الأخطار التي تهدد الوطن والمواطنة تبرز في تبني قوى وأحزاب سياسية عراقية الفكر القومي اليميني الشوفيني والطائفية السياسية المقيتة والعنصرية الكريهة. إذ يقف وراء كل ذلك الفكر الشمولي والاستبداد في الحكم.
وإذا كنا قد خبرنا القومية الشوفينية على أيدي البعثيين والقوميين, فإننا قد خبرنا الطائفية منذ سقوط النظام الدكتاتوري في السياسة العراقية والتي تجلت في المحاصصة اللعينة التي تقسم العراق إلى أديان ومذاهب وطوائف متصارعة ويغيب عن أرض العراق مبدأ المواطنة الحرة والمتساوية.
الطائفية والتمييز الطائفي ظاهرة ليست جديدة في الحياة العراقية. فقد عرفتها عهود الدولة الأموية والعباسية والعثمانية والعهد الملكي وكذلك الجمهورية الثانية والثالثة والرابعة والخامسة الجارية إلى الآن. يكفي أن تعود إلى العهد العباسي لتجد أمامك لوحة مريرة من الصراع بين المذاهب, بين الحنبلية والمعتزلة على سبيل المثال لا الحصر. ولست ببعيد عن تاريخ ومشكلة "خلق القرآن, أو الصراع بين العباسيين والعلويين أو بين الأمويين والعباسيين الذي اختلط فيه العشائري بالمذهبي ...الخ. وعلينا أن نتذكر أيضاً تاريخ الدولة العثمانية والدولة الفارسية في العراق والصراع المذهبي بينهما على أرض العراق ومعاناة العراقيين بسبب ذلك. ولم يكن هذا الصراع مذهبي بحت, بل كان لأغراض الهيمنة على العراق أيضاً.
لست هنا بمعرض تحليل وإبراز أشكال ظهورها على مدى تاريخ العراق الإسلامي وما بعده, ولكن لا بد من القول بأن الولايات المتحدة الأمريكية قد كرست المحاصصة الطائفية في الحكم ابتداءً من مجلس الحكم الانتقالي وما بعده, ولكن كان هذا قد برز في فترة المعارضة السياسية للنظام البعثي منذ الثمانينات أو قبل ذاك أيضاً.
صحيح تماماً حين تتحدث عن دور إيران في لملمة البيت الشيعي ومحاولة كسب المعركة لصالح إيران بشكل غير مباشر. ولكن ألا ترى بأن السعودية والأردن والخليج وسوريا كلها كانت تسعى إلى لملمة البيت السني تحت قيادة أياد علاوي القومي النزعة والشيعي المذهب, وهو صراع في أن يكون السنة على رأس الحكم بدلاً من الشيعة. وكلاهما خطأ فادح للعراق ومستقبل أجياله القادمة.
والمباحثات والزيارات التي قام بها المسؤولون الحزبيون والحكوميون في الاتجاهين كلها تبرهن على هذا الاتجاه الطائفي ودور الطائفية المذهبية ودول الإقليم في المشكلة العراقية, رغم أن الناس, غالبية الناس في العراق, غير مرتاحين لهذا الدور. من الخطأ خلق منافسة بين السنة والشيعة في العراق على السلطة, بل المفروض أن تكون السلطة موضوع منافسة بين المواطنين والمواطنات ولمن يقدم الأفضل لهذا الشعب الجريح والوطن المبتلى في ضوء المنافسة على البرامج.
من الممكن توحيد العراقيات والعراقيين على أهداف ومبادئ وبرنامج وطني ومدني وغير عنفي. ولكن هذا يحتاج إلى غياب أو ابتعاد الأحزاب والقوى الإسلامية السياسية عن السلطة, إلى عدم تدخل الدين في السياسة, وهي عملية معقدة وربما طويلة أيضاً. ولكن سيصل إليها الشعب العراقي بتجربته وعذاباته الخاصة.
المذاهب اجتهادات في الدين, وعليها أن تبقى كذلك, وهي شأن الأفراد مع الدين والمذهب الذي يلتزمون به بحريتهم, وليس هذا من شأن الدولة أو السياسة ولا المجتمع ككل. ومن هنا فأن دخول الدين في السياسة يخلق التمييز والتباعد بين البشر إلى الحد الذي يمكن أن يدفع إلى حرب طائفية شرسة ومقيتة وقاتلة, فالهويات الدينية والطائفية والإقليمية قاتلة حقاً, كما يقول الكاتب اللبناني المعروف أمين المعلوف, وليس أقل من ذلك الهويات القومية المتعصبة, سواء أكانت عربية أم كردية أم تركمانية أم فارسية أم غيرها.
4/8/2010 كاظم حبيب



#كاظم_حبيب (هاشتاغ)       Kadhim_Habib#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كفى خلطاً للأوراق يا رئيس الوزراء !! كفى إساءة لمنظمات حقوق ...
- هل من تجاوب إيجابي لصرخة الدكتور جاسم محمد الحافظ؟
- قراءة ومناقشة -خارطة طريق اقتصادية- للسيد الدكتور محمد علي ز ...
- قراءة ومناقشة -خارطة طريق اقتصادية- للسيد الدكتور محمد علي ز ...
- قائد قوات عمليات بغداد وكذبة الموسم!!
- حركة شباط - مايس 1941 الانقلابية والفرهود ضد اليهود
- حذاري .. حذاري من سياسة سورية خبيثة!
- استفزاز ميليشيات جيش المهدي وانتهازية رئيس القائمة العراقية
- قراءة ومناقشة -خارطة طريق اقتصادية- للسيد الدكتور محمد علي ز ...
- مرة أخرى مع مصادرة الحكومة لحرية التظاهر في العراق! - أطلقوا ...
- ما هو الموقف من وجود القوات الأمريكية في العراق؟
- هل من بديل لانتخابات عامة مبكرة, وما العمل من أجلها؟
- قراءة ومناقشة -خارطة طريق اقتصادية- للسيد الدكتور محمد علي ز ...
- قراءة ومناقشة -خارطة طريق اقتصادية- للسيد الدكتور محمد علي ز ...
- قراءة ومناقشة -خارطة طريق اقتصادية- للسيد الدكتور محمد علي ز ...
- قراءة ومناقشة -خارطة طريق اقتصادية- للسيد الدكتور محمد علي ز ...
- لتنتصر إرادة شعب سوريا على الاستبداد والقمع والقسوة, لنتضامن ...
- قراءة ومناقشة -خارطة طريق اقتصادية- للسيد الدكتور محمد علي ز ...
- أين حقوق الأرامل والمطلقات والأطفال يا حكام العراق؟ عاملات ا ...
- الفساد وحكام الدول العربية والعراق


المزيد.....




- نهشا المعدن بأنيابهما الحادة.. شاهد ما فعله كلبان طاردا قطة ...
- وسط موجة مقلقة من -كسر العظام-.. بورتوريكو تعلن وباء حمى الض ...
- بعد 62 عاما.. إقلاع آخر طائرة تحمل خطابات بريد محلي بألمانيا ...
- روديغر يدافع عن اتخاذه إجراء قانونيا ضد منتقدي منشوره
- للحد من الشذوذ.. معسكر أمريكي لتنمية -الرجولة- في 3 أيام! ف ...
- قرود البابون تكشف عن بلاد -بونت- المفقودة!
- مصر.. إقامة صلاة المغرب في كنيسة بالصعيد (فيديو)
- مصادر لـRT: الحكومة الفلسطينية ستؤدي اليمين الدستورية الأحد ...
- دراسة: العالم سيخسر -ثانية كبيسة- في غضون 5 سنوات بسبب دوران ...
- صورة مذهلة للثقب الأسود في قلب مجرتنا


المزيد.....

- قراءة في كتاب (ملاحظات حول المقاومة) لچومسكي / محمد الأزرقي
- حوار مع (بينيلوبي روزمونت)ريبيكا زوراش. / عبدالرؤوف بطيخ
- رزكار عقراوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: أبرز الأ ... / رزكار عقراوي
- ملف لهفة مداد تورق بين جنباته شعرًا مع الشاعر مكي النزال - ث ... / فاطمة الفلاحي
- كيف نفهم الصّراع في العالم العربيّ؟.. الباحث مجدي عبد الهادي ... / مجدى عبد الهادى
- حوار مع ميشال سير / الحسن علاج
- حسقيل قوجمان في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: يهود الع ... / حسقيل قوجمان
- المقدس متولي : مقامة أدبية / ماجد هاشم كيلاني
- «صفقة القرن» حل أميركي وإقليمي لتصفية القضية والحقوق الوطنية ... / نايف حواتمة
- الجماهير العربية تبحث عن بطل ديمقراطي / جلبير الأشقر


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - كاظم حبيب - حول ماضي الشيوعيين العراقيين ومستقبلهم!