أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان حسين أحمد - (قبل رحيل الذكريات إلى الأبد) لفلاح حسن ومناف شاكر (1-3)















المزيد.....


(قبل رحيل الذكريات إلى الأبد) لفلاح حسن ومناف شاكر (1-3)


عدنان حسين أحمد

الحوار المتمدن-العدد: 3377 - 2011 / 5 / 26 - 12:16
المحور: الادب والفن
    


محاولة جدّية لتوثيق الأفلام الطلابية في معهد الفنون الجميلة ببغداد
تنافسَ في مسابقة الأفلام الوثائقية في الدورة الرابعة لمهرجان الخليج السينمائي عشرون فيلماً وثائقياً طويلاً وقصيراً. وعلى الرغم من أن فيلم (قبلَ رحيل الذكريات إلى الأبد) للمُخرجَين فلاح حسن ومناف شاكر لم يحصد أية جائزة، إلا أنه يظل من الأفلام المهمة التي تنتصر إلى مفهوم الوثيقة وتعزِّزها على مدار الفيلم الذي بلغت مدته (95) دقيقة. يتمحور هذا الفيلم حول قصة دراسة السينما في العراق، وتحديداً، في معهد الفنون الجميلة منذ تأسيسه وحتى الآن. كما يتناول مجمل التغييرات السياسية التي عصفت بالعراق وما نجمَ عنها من هزّات شملت الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والدينية وتداعيات كل ذلك على أفلام الطلبة الذين كانوا يصوّرون مشاريع تخرجهم بعد خمس سنوات من الدراسة النظرية المتواصلة. كما يتناول الفيلم في جانب مهم منه كيفية الحفاظ على التاريخ السينمائي الذي يُفترض أن يكون مؤرشفاً في ظل أنظمة شمولية مستبدة أو دينية متخلفة لا تعير الخطاب البصّري أدنى اهتمام، بل هي تسعى إلى محوه، وطمس آثاره، وإزالته من الوجود نهائياً.
في ظل هذه الظروف القاهرة قرّر المخرجان الدؤوبان فلاح حسن ومناف شاكر إنتاج فيلم مكرّس عن المنجز البصَري الذي قدّمه طلبة الفنون الجميلة منذ أربعينات القرن الماضي وحتى الآن. لقد انتدب المخرجان لهذه المهمة الدقيقة خمس عشرة شخصية سينمائية بينهم ناقد سينمائي واحد وهو مهدي عبّاس، وتسعة مدرّسين سينمائيين في المعهد سنأتي على ذكرهم لاحقاً، إضافة إلى خمسة مخرجين باتوا معروفين في الوسط السينمائي العراقي وهم جمال عبد جاسم، هادي ماهود، فارس طعمة التميمي، سلام عرب ومناف شاكر، آخذين بنظر الاعتبار أن بعض المدرّسين هم مخرجون أصلاً إلا أنهم اتخذوا من تدريس السينما مهنةً أساسية لهم.

لمحات تاريخيّة
حسناً فعل المخرجان، فلاح ومناف، حينما اختارا الناقد السينمائي مهدي عبّاس لكي يمهّد للحديث عن تاريخ السينما العراقية تحديداً، فتاريخ السينما العالمية معروف ولا يحتاج إلى أية توطئة أو تقديم، ولو أنني كنت أتمنى عليهما أن يُشركا ناقداً سينمائياً آخراً يتحدث عن الجوانب الفنية في الأفلام الطلابيّة. أكدّ عبّاس أنه تم عرض مجموعة من الأفلام القصيرة التي تتراوح مُددها من ثلاث إلى عشر دقائق عام 1909. ثم لفت الانتباه إلى أن هذا الفن الجديد الذي رآه المُشاهد العراقي أول مرّه قد جذب اهتمامه بشكل كبير الأمر الذي دفع بعض الأثرياء وأصحاب رؤوس الأموال أن يفكِّروا في بناء عدد من صالات السينما، وبدأت الأفلام تصل إلى بغداد من هوليوود أول الأمر قبل أن تصل الأفلام العربية إلى بغداد في ثلاثينات القرن الماضي. ينتقي المخرجان مشهداً أرشيفياً من الأفلام الأولى للأخويين لوميير لكي يعزّزا ما يذهبان إليه. ثم يتوقف عباس عند (شركة أفلام الرشيد) التي أنتجت فيلماً عنوانه (ابن الشرق) و (ستوديو بغداد) الذي أنتج أول فيلم وهو (علية وعصام) من إخراج الفرنسي أندريه شاتان، وقد عُرض يوم (9-3-1949) ببغداد وحقق نجاحاً كبيراً مما شجّع الأستوديو على إنتاج فيلم آخر هو (ليلى في العراق) أخرجه المصري أحمد كامل مرسي. أما الشركة الثانية التي أنتجت فيلم (فتنة وحسن) فهي شركة (دنيا الفن) التي أسسها الراحل الياس علي الناصر. وعلى الرغم من أهمية هذه الأفلام تاريخياً إلا أن الناقد مهدي عبّاس يرى أن أواخر الخمسينات قد شهد إنجاز عملين سينمائيين يعتبران البداية الحقيقية للسينما العراقية وهما فيلم (مَنْ المسؤول؟) 1956 للمخرج عبد الجبار توفيق، وفيلم (سعيد أفندي) 1957 للمخرج كاميران حسني. ويرى عبّاس أن هذين الفيلمين متأثران بتيار الواقعية الإيطالية، وقد تحدثا عن الحياة اليومية للمواطن العراقي، وصُوِّرا في الشوارع والأزقة والبيوت البغدادية ولايزال هذان الفيلمان يعتبران البداية الناصعة للسينما العراقية. ثم يدعّم المخرجان فلاح ومناف هذا الكلام بمشهد مأخوذ عن فيلم (سعيد أفندي).
حاول المخرجان فلاح ومناف أن يغطيا فترات زمنية طويلة قد تبدأ عملياً منذ أربعينات القرن الماضي وحتى الآن وهي مهمة شاقة حقاً وتحتاج إلى مزيد من الشواهد والأدلة والوثائق وقد نجحا في تغطية بعضها، لكنهما لم ينجحا في تغطية البعض الآخر منها. ثمة مشهد أرشيفي للزعيم الراحل عبد الكريم قاسم في أثناء الاعلان عن الجمهورية العراقية عام 1958.

معهد الفنون العالي
يؤكد عمّار العرادي، وهو أستاذ في معهد الفنون الجميلة منذ عام 1986 وحتى 1994، بأن السينما الطلابية قد انطلقت في العراق عام 1961 في معهد الفنون العالي الذي كان تابعاً لوزارة التعليم العالي حيث درس طلبة المسرح في السنتين الأخيرتين مواداً سينمائية وكان من أساتذتهم حكمت لبيب وعبد الجبار ولي وجعفر علي. وقد تخرّج من هذا المعهد فنانون معروفون أمثال راسم الجميلي وبسّام الوردي وعادل داود وغيرهم وقد أُغلقت الدورة بعد تخرجهم بحسب العرّداي. ثم نرى مشهداً للانقلاب العكسري بين 1963-1968 حيث ستأخذ الحياة برمتها طابعاً آيديولوجياً واحداً ينحو إلى تأسيس النظام الشمولي وعسكرة الحياة المدنية.

أدلجة الحياة اليومية
يؤكد الأستاذ عادل قاسم، وهو مدرِّس في المعهد منذ عام 1997 وحتى الآن، بأن الحكومة قد بدأت بالتفكير بالسينما منذ عام 1968 لأنها تساهم في تشكيل وعي الناس. ولأن أساتذة السينما وطلابها كانوا يدركون أهمية السينما الطلابية بشكل خاص، والسينما بشكل عام، فقد سعى بعض السينمائيين إلى تعزيز فكرة السينما الطلابية. لنتابع ما يقوله حسين السلمان، وهو أستاذ في المعهد منذ عام 1990 وحتى الآن، حيث يقول يستحق الفنان الراحل عزيز حدّاد لقب مؤسس السينما الطلابية في العراق، ثم يشير إلى المبادرة التي قام بها لتأسيس فرع للسينما في المعهد. كان عزيز حدّاد ضمن مجموعة من الفنانين الشباب العائدين من الاتحاد السوفييتي بعد تخرجهم من المعهد العالي للسينما في موسكو (فكيك) وهم حاتم حسين وعبد الهادي مبارك وطارق عبد الكريم وكوركيس يوسف. وقد تأسس فرع السينما في المعهد عام 1970 بفضل مجموعة من السينمائيين وهم حسين السلمان وقاسم عبد وحميد شاكر وبهجت صبري وسامي المطيري وأغلب هذه الأسماء لا تزال تعمل في الحقل السينمائي. ثم يمضي السلمان إلى القول بأن أغلب الأفلام التي أنجزوها في ذلك الوقت قد تم تصويرها بكاميرا بوليكس صغيرة لكنه، مع الاسف، لم يتذكّر من تلك الأفلام السبعة المُنجزة إلا فيلمه المعنوّن بـ (الجدار) وهذا خلل كبير كان عليه أن يتجاوزه إما بواسطة الاتصال بالمخرجين أنفسهم أو ببعض الأصدقاء السينمائيين المعاصرين لهذه التجربة، كما أن المخرجَين نفسيهما يتحملان جزءاً من المسؤولية. يكتفي السلمان بالقول بأن بهجت صبري قد أنجز فيلماً عن الصابئة المندائيين، ولكننا لم نعرف اسم هذا الفيلم الذي سيظل عائماً، ولم تسعفه الذاكرة في معرفة اسم فيلم قاسم عبد، ولكنه قال بأنه (فيلم عن الأطفال في المدارس)، يا تُرى، هل يكفي هذا التعريف الضبابي بالفيلم؟ ألم يكن الأجدر به وهو أستاذ لمادة السينما لأكثر من عقدين من الزمان أن يفكر بالأمر ملياً، ويتذكر جيداً، ويستعين ببعض الاصدقاء قبل أن يجلس أمام الكاميرا التي تريد أن توثّق وتصل بالفيلم إلى مستوى الوثيقة لا الخبر العابر؟ على أية حال، معظم السينمائيين يذكرون فضل الأساتذة عزيز حدّاد، والفنان الراحل كامل العزّاوي، وكريم مجيد (عمّو كريم) على فرع السينما الذي أصبح فرعاً مستقلاً بذاته. يؤكد العرّادي بأن الانتاجات السينمائية للمعهد كانت رائعة، إذ كان طلبتها يصوِّرون بكاميرات البوليكس على رقائق سينمائية ينقصها الصوت فقط لأن مختبرات الصوت كانت غير موجودة آنذاك، ولهذا فإن اهتمام الطلاب كان مُنصبّاً على ثراء الصورة السينمائية وقوّتها التعبيريّة.
يذهب السلمان إلى تسمية الوضع السياسي في منتصف العقد الأول من سبيعينات القرن الماضي بالانفراج الوهمي، إذ لجأت الدولة إلى إثارة حوارات مع عدد من الأحزاب السياسية في العراق مثل الحزب الشيوعي العراقي والأحزاب الكردية وما نجم عنها من إعلان بيان 11 آذار، إلا أن الدولة في حقيقة الأمر كانت تتربص بهذه الأحزاب الدوائر وتضمر لها الشر، ومع ذلك فإن ذلك التحرّك شمل الجانب الأدبي والثقافي وبضمنه السينمائي الطلابي.

الأفلام الطلابيّة
يشير المخرج جواد ثويني، وهو مدرِّس في قسم السينما منذ عام 1981 وحتى الآن، بأنه عندما قُبِل في قسم الفنون المسرحية والسينمائية بمعهد الفنون الجميلة عام 1975 سمع هو وأقرانه بأن قسماً خاصاً بالفنون السينمائية سوف يُفتتح في المرحلة الثانية. لم يصدقوا هذا الخبر أول الأمر، لكن هذا القسم فُتِح فعلاً ورأَسَهُ الفنان كامل العزاوي وكنا متخصصين في حينه بالإخراج والتصوير. منذ تلك السنة والسنة التي تلتها بدأت العمليات الإنتاجية في قسم الفنون السينمائية وكان على الطالب المشاركة بالإنتاج من المرحلة الأولى ولغاية المرحلة الخامسة. أشرنا في بداية المقال إلى أن أهمية هذا الفيلم تكمن في التوثيق للسينما الطلابية وقد وقع اختيار المُخرجَين فلاح ومناف على أكثر من عشرين روائياً قصيراً سنأتي على ذكرها تباعاً في أثناء تحليلها وتبيان أهيمتها الفنية. فقد أخرج جواد ثويني عام 1980 فيلماً روائياً قصيراً اسمه (الصبي والطيور)، مدته 19 دقيقة، بإشراف كوركيس يوسف، فيما كان مدير الانتاج جمال محمد أمين. يمكن اختصار ثيمة هذا الفيلم القصير بأن الأب الصيّاد يريد لابنه أن يكون مثله تماماً أو نسخة عنه، أي أن يكون صياداً مثل أبيه. ولأن الابن لا يحب هذه المهنة فإنه يلتجئ إلى الانتقام من أبيه بواسطة رمي بندقية الصيد في النهر. صحيح أن النهر قد احتوى هذه البندقية، لكن هناك صيادين آخرين يمارسون هذه المهنة أو الهواية حتى في اللحظة التي تخلّص فيها الابن من بندقية أبيه. تتجاوز ثيمة هذا الفيلم بعض الجوانب الواقعية لتشتمل على أبعاد رمزية من بينها الإشارة إلى محاولة ترسيخ العقليات القديمة البالية، فليس بالضرورة أن يقتفي الابن خطى أبيه، فثمة أفكار وأحلام جديدة في رأس هذا الصبي قد تتناقض تماماً مع الأفكار التي تدور في مخيّلة أبيه التي تنتمي إلى الماضي أكثر من انتمائها إلى الحاضر والمستقبل.
يؤكد جمال عبد جاسم، وهو مخرج درامي مشهور الآن، أن طلاب قسم السينما في السبعينات كانوا يطلِّعون على كمٍ كبيرٍ من الكتب السينمائية والأدبية الأمر الذي يزوِّدهم بعدد كبير من الأفكار والرؤى الفنية والجمالية. كما أن الأستاذة آنذاك لم يجبروا الطالب على أن يأخذ هذه القصة أو تلك، فالاختيار متروك للطالب نفسه في أن يكيّف هذه القصة أو تلك الواقعة. يشير المخرج جمال عبد جاسم إلى أن الطلبة آنذاك كانوا مُولعين بمشاهدة الأفلام السينمائية في صالات العرض، وخصوصاً تلك الأفلام التي تتوفر على جانب من الرمزية والتجريد، هذا النوع الصعب من الأفلام التي يفضلها طلبة المعهد ويحاولوا أن ينجزوا أفلاماً على غرارها. أنجز المخرج جمال عبد جاسم عام 1979 فيلماً روائياً قصيراً تحت عنوان (ذكرى ولدي)، مدته 19 دقيقة. ثم انتقل للحديث عن اعجابه بإحدى قصص الكاتب المصري جمال الغيطاني، وقرر أن يصنع منها فيلماً سينمائياً لأطروحة تخرجه، لكنه لم يُشر مع الأسف إلى عنوان هذه القصة كي نتعرف على مشروع تخرجه! ثم تحدث عن طبيعة العلاقة التي كانت تربط الجنسين في المعهد الذي كان مختلطاً آنذاك، بينما يعاني طلبة المعهد الآن فصلاً قمعياً بين الجنسين يكشف عن الحالة المزرية التي وصل إليها العراق في ظل هذا الحكم الثيوقراطي المتخلف. ثم يعرج جمال عبد جاسم إلى أطروحة زميل له صورّها في نينوى الأمر الذي دفعه لأن يختار مدينة بعشيقة التابعة لمحافظة نينوى ويصوِّر فيها أطروحة تخرجه التي لم نتعرّف على عنوانها. وقد أشاد جمال بحب الناس واحترامهم للفنان في تلك المرحلة الوردية من عمر السينما العراقية.
عزّز الأستاذ عمّار العرّادي وجهة نظر زميله جمال عبد جاسم إذ قال إن ما يميّز الفيلم الطلابي هو تصويره في مختلف محافظات العراق، إذ كان طاقم العمل السينمائي يذهب إلى القرى والقصبات والبحيرات والصحارى بهدف تصوير فيلم التخرّج وكانوا يُقابَلون باحتفاءٍ كبير من قبل الأهالي الذين يقدِّرون الفن والفنانين ويمحضونهم حُباً من نوع خاص.

تدهور الوضع السياسي
أشار حسين السلمان إلى انفراط عقد الجبهة الوطنية وتدهور الوضع السياسي بعد أن استلم صدام حسين السلطة في العراق وبدأت المؤثرات السلبية تأخذ طريقها صوب حركة السينما الطلابية الناشئة. ثمة مشاهد أرشيفية للحرب العراقية – الإيرانية التي استمرت ثماني سنوات متتاليات. يؤكد السلمان بأن واحدة من أهم الكوارث التي أثرت على الثقافة العراقية بشكل عام والسينمائية بشكل خاص هي اندلاع الحرب العراقية – الإيرانية التي عسكرت البلاد لاحقاً، وظهرت معالمها ليس في الجبهة الشرقية حسب، وإنما في عموم المدن العراقية. كما لجأت الدولة إلى أدلجة عناصر ومكونات الثقافة العراقية بما فيها السينما الطلابية. وهذه الأدلجة القسرية هي التي قادت البعض، سواء برغبة جدية أو من دون رغبة، إلى إنجاز أفلام متقاربة مع التوجهات السياسية للحزب الواحد الذي كان يقود العراق آنذاك.

الفاتحون مرّوا من هنا
حظي المخرج هادي ماهود باهتمام كبير من قبل المُخرجَين فلاح ومناف في هذا الفيلم، فبالاضافة إلى فيلمه المعروفين (الفاتحون مرّوا من هنا) و (الساعة 1800) فإن هادي ماهود ستتاح أمامه فرصة كبيرة للحديث عن تجربته السينمائية وذكرياته في معهد الفنون الجميلة حتى وإن جاءت هذه الذكريات في إطار أدلجة السينمائيين العراقيين عموماً ومحاولة البعض منهم المراوغة واتباع أساليب التمويه والتخفي لتمرير بعض الأفكار والرؤى المناهضة لمفاهيم الحرب التي كانت سائدة آنذاك. يشير العرّادي إلى أن طلاب المعهد قد أنجزوا بعض الأفلام التسجيلية بسبب الحرب ويذكر في هذا الصدد فيلم (الفاتحون...) لهادي ماهود الذي صُوِّر في مدينة المحمرة. وفيما كانت الأفلام التسجيلية تغطي الجانب الحربي كانت الأفلام الروائية القصيرة تغطي عدداً من الجوانب الاجتماعية والنفسية والعاطفية مثل مغادرة الرجال لمنازلهم وزوجاتهم وأطفالهم، وترك الشباب لحبيباتهم أو خطيباتهم، كان الفيلم الطلابي يفتقر إلى الصوت، ولكن في تلك الحقبة أُضيف الصوت بمساعدة مختبرات الإذاعة والتلفزيون، وقد أبدت هذه الأخيرة تعاوناً ملحوظاً مع المعهد فيما يتعلق بالتحميض ومختبرات الصوت والدوبلاج وما إلى ذلك. ثم نرى مشهداً طويلاً نسبياً من فيلم (سفر، بلاعودة) (Travel, without return) للمخرج حبيب صالح، مدته 10 دقائق وقد أنجزه المخرج عام 1983. يعتقد العرّادي أن الطلاب في تلك الفترة كانوا ناضجين ويعبّرون عن أفكارهم الفنية والجمالية بعيداً عن الجانب السياسي الذي كان مهيمناً. وكان همّ الطالب هو تسليط الضوء على الجوانب الاجتماعية التي تخص المواطن العراقي. كما يشيد العرّادي بقدرة الطلبة على الإخراج وتمكنهم من هذا الفن الرفيع.

لعبة التمويه والمشاكسة
يقول المخرج هادي ماهود بأن طلاب قسم السينما كانوا محظوظين فقد أتيحت لهم الفرصة لأن يحصلوا على أساتذة أكفّاء، إذ كانت الدولة تستقطب أساتذة من خارج العراق، فقد درّسهم الأستاذ المصري عبد الحميد الشاذلي وزوجته المونتيرة إلفت التابعي، كما درّستهم مصممة الديكور نيفين كيميل، وقد أفادوا من هؤلاء الأساتذة جميعاً، غير أن هناك أستاذاً مهماً بالنسبة إلى هادي ماهود وهو عبد الوهاب الدايني الذي (زقّ لهم السينما زقّاً) بحسب تعبير ماهود. ويبدو أن هذا الأستاذ المؤثر جداً علّمهم كيف يفكرون، وكيف يتخيلون، وكيف يبنون الفيلم بناءً رصيناً؟ كما علّمهم فن كتابة السيناريو وفن التمثيل وفن الجنون أيضا!
من المفارقات التي يوردها هادي ماهود في حديثه هي سرقته المتواصلة لمفتاح غرفة المونتاج من مكتب الأستاذ كامل العزاوي كل يوم تقريباً، فبينما يهيئ العزاوي حقيبته لكي يغادر المعهد يسرق هادي المفتاح من لوحة المفاتيح المعلقة على الجدار، وينتظر العزاوي لكي يغادر المعهد عندها يعود هادي ليفتح غرفة المونتاج ويبدأ رحلته في المونتاج. ويبدو أن لديه كمية كبيرة من الـ (Rushes ) و(الآوتات) فيظل يُمنتج إلى ساعة متأخرة من الليل، ثم يلتحف بستارة من ستارات النوافذ. وفي الصباح حينما يأتي العزاوي ثانية يذهب هادي ماهود للسلام عليه وإعادة المفتاح الذي سرقه إلى موضعه من دون أن يلفت انتباه رئيس القسم. يؤكد ماهود بأنه دخل المعهد ذات يوم في الثامنة صباحاً، ولم يغادره إلا بعد ثلاثة أيام، ويفسّر ماهود هذه الحالة بأنها حالة جنون قصوى، وأن هذا الحُب إلى السينما هو الذي صنع منه مخرجاً متميزا.
يسلط المخرجان فلاح ومناف الضوء على فيلم (الساعة 1800) لهادي ماهود، وهو فيلم روائي قصير مدته (22) دقيقة، وقد صوّره المخرج في (نقرة السلمان) بصحراء السماوة. لا يراوغ هادي ماهود البتة، ولا يحاول التملص من فيلم قد ينتمي إلى سياق الأفلام التي تمجّد الحرب. فهو يقول بالحرف الواحد: ( في تلك الفترة صنع الكثير من الأفلام الروائية والقصيرة والوثائقية التي تطبِّل للحرب، وقد يكون هذا الفيلم ضمن هذا السياق) ولكنه يستدرك موضحاً بأن هذا الفيلم على بساطته ينطوي على موقف سياسي مناهض للحرب بقوة. لنتابع قصة الفيلم المُستمدة من حادثة حقيقية، إذ تسقط طائرة عراقية في الأراضي الإيرانية، ويُصاب أحد الطيارَين، فيضطر الثاني لحمله على كتفه لكي يوصله إلى الأراضي العراقية، وهذا الإصرار على الوصول مفاده أننا يجب أن نصل لكي نستأنف القتال من جديد. في منتصف المسافة يموت الضابط الجريح فتحط ملائكة من السماء وترفعه لأنهم أوصلوا للناس بأن (الشهداء أكرم منّا جميعاً) وهذا الشعار ينطوي على تحريض واضح للحرب. ظل الطيار الآخر يواصل الرحلة وفي وسط هذا الخواء والتعب والجوع والقلق وحقول الألغام المتناثرة، ثم يسقط في نهاية المطاف ويتخيل جمجمة يتصاعد منها دخان، تمتليء هذه الجمجمة بالدخان الذي هو بيته، ثم نرى ابنه وهو يخرج من قلب هذا الدخان، فالحرب في حقيقتها هي موت وجمجمة ودخان وموت للطفولة وموت للحياة برمتها. أين تكمن المشاكسة إذن؟ إنها تكمن من دون شك في مجيء الدورية العراقية التي تنقذ الطيّار وتعيده إلى الأراضي العراقية. لقد مارس هادي ماهود لعبة التمويه والتخفي وارتدى أقنعة متعددة في أكثر من فيلم، ولكنه لم يسقط في الفخاخ المنصوبة دائماً.



#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- -فرقةُ القرّائين اليهود- للدكتور جعفر هادي حسن (الجزء الثاني ...
- -فرقةُ القرّائين اليهود- للدكتور جعفر هادي حسن (الجزء الأول)
- فيلم (كولا) ومضة تنويريّة تسحر المتلقي وتمَّس عاطفته الإنسان ...
- الرحيل من بغداد وهاجس المطاردة الأبديّة
- قراءة نقدية في ستة أفلام روائية ووثائقية وقصيرة في مهرجان ال ...
- فيلم (إيران، الجنوب الغربي) للفرطوسي يرصد أكبر كارثة بيئية و ...
- (وداعاً بابل) لعامر علوان . . الحجر يتكلّم والمدينة تتقمّص د ...
- التغريب والصورة الافتراضية للدكتاتور في فيلم (المُغنّي) لقاس ...
- حيّ الفزّاعات لحسن علي محمود وتعدد القراءات النقدية
- تعدد الأصوات والأبنية السردية في رواية -قفلُ قلبي- لتحسين كر ...
- تقنية فن التحرّيك في النص الشعري
- تقنية السهل المُمتنع في رواية (الزهير) لباولو كويلو
- قضايا وشخصيات يهودية للباحث جعفر هادي حسن
- أقول الحرف وأعني أصابعي. . . مَنْجمٌ للموضوعات الشعرية
- علاقة الحرب بالثقافة البصرية. . أمسية ثقافية تجمع بين القراء ...
- التعصّب القومي في فيلم -أكثرية- للمخرج التركي سيرين يوج
- الأبعاد الدرامية في تجربة ورود الموسوي الشعرية
- ورود الموسوي: أنا بسبع حوّاس، والمرأة المعذّبة هي جل اهتمامي ...
- ورود الموسوي: أحمل روح السيّاب، لكني لا أحمل صبغته الشعرية(1 ...
- المخرج جمال أمين يلج دائرة العتمة الأبدية


المزيد.....




- الإعلان عن وفاة الفنان المصري صلاح السعدني بعد غياب طويل بسب ...
- كأنها من قصة خيالية.. فنانة تغادر أمريكا للعيش في قرية فرنسي ...
- وفاة الفنان المصري الكبير صلاح السعدني
- -نظرة إلى المستقبل-.. مشاركة روسية لافتة في مهرجان -بكين- ال ...
- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان حسين أحمد - (قبل رحيل الذكريات إلى الأبد) لفلاح حسن ومناف شاكر (1-3)