أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - جورج حداد - حركة التحرير العربية: سيرورة التحول وتحدي العالمية















المزيد.....



حركة التحرير العربية: سيرورة التحول وتحدي العالمية


جورج حداد

الحوار المتمدن-العدد: 3365 - 2011 / 5 / 14 - 00:03
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر
    


لا يكاد يخفى ان حركة التحرير العربية، كجزء من الحركة التحررية والتقدمية العالمية، تعاني، بشكل عام، من حالة جزر، مستمرة منذ سنوات، بكل ما يرافقها من احباطات وتفسخ وفساد وروح استسلامية، لدى قطاعات واسعة من الاحزاب والتنظيمات والجماهير المناضلة، و"المسيّسة"، ولا سيما على مستوى "احزاب" و"حلفاء" و"جماهير" "الانظمة والسلطات الوطنية"، التي تحولت الى بؤرة للجمود و"خيبة الامل التاريخية".
وينبغي علينا الانتباه التام، والتأكيد بوضوح، ان هذه "الحالة الفشلية"، ليست حالة "حزبية" وحسب، "سلطوية" وحسب، وليست حالة "قطرية" وحسب، بل هي حالة فشل "مجتمعية شاملة"، "حزبية وسياسية شاملة"(اي بما فيها التيار الديني ـ السياسي، ولا سيما الاسلامي) ، و"قومية شاملة". فمن المخجل، مثلا، لا بل من العيب والعار الذي يندى له الجبين، إلقاء تبعة الفشل في مواجهة الاحتلال التركي للاسكندرون والاحتلال الاسرائيلي للجولان على عاتق النظام القطري السوري وحده، وحزبه البعثي وحده، وحلفائه و"جماهيره" وحدهم، و"تبرئة ذمة" ما يسمى "معارضة سورية"، بكل اطيافها، من جريمة "التعايش" مع هذا الاحتلال المزدوج، بكل احزاب وتنظيمات وتيارات هذه "المعارضة" و"جماهيرها" ومؤسساتها السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية، بالاضافة الى احزاب و"جماهير" ومؤسسات السلطة، اي بما فيها المؤسسة الدينية الاسلامية، والمؤسسة الدينية المسيحية. فكل البطريركيات المسيحية، مثلا، المقيمة في دمشق تسمى "بطريركية انطاكية وسائر المشرق"، ولكنها لا تكاد تحرك اصبع لتحرير القدس ولا لتحرير وانقاذ انطاكية ـ المدينة المسيحية العربية الشرقية الاهم، التي اضطلعت بدور تاريخي رئيسي في نشر المسيحية ومواجهة الامبراطورية الرومانية، بعد ان قامت روما بخطف المركز المسكوني للمسيحية من القدس وتحويله اليها اي الى روما.
ولكن هذه الحالة ليست "نهاية التاريخ". بل هي، مهما بلغ من فداحتها، ليست اكثر من حالة مرحلية، تمهد للانتقال نحو مرحلة نهوض جديد. وهذا ما يقتضي من الجميع إجراء مراجعة شاملة لتجربة المرحلة الماضية، بهدف استشراف المرحلة القادمة، التي تغرس جذورها في الماضي والحاضر معا.
الاتجاهان
في اطار الحياة الحزبية والسياسية العامة في البلدان العربية، برز تاريخيا اتجاهان، متعارضان في الشكل، وإن كانا غير متعارضين تماما ودائما في الهدف، وهما:
الاول ـ اتجاه هيمنة الحزب او التنظيم الواحد.
والثاني ـ اتجـاه التجـديد والتنوع في الحياة الحزبية والسياسية، وتكـوين "البـديل": تنظيميا، كفاحيا، نظريا، الخ.
وقد أدى الاتجاه الاول، في محصلة ممارسته، السلطوية بالاخص، الى خنق روح المبادرة، لدى الانتلجنسيا والكوادر والجماهير، الحزبية والمنظماتية، والى اختزال وتقزيم وعقم الحياة السياسية، حتى ضمن الحزب او التنظيم الواحد ذاته، من خلال السعي (الصادر عن أوهام قناعة ذاتية صادقة، او عن تضليل وتزييف مقصودين) نحو فرض الأشكال القسرية لـ"الوحدة الحزبية" و"الوحدة الوطنية"، ووحدة الارادة والقرار السياسيين والعسكريين الخ، وذلك نتيجة لفهم خاطئ، وممارسة تسلطية، لمبدأ "الوحدة"، الضروري بحد ذاته، إنما القائم على أساس التنوع الجدلي.
أما الاتجاه الثاني، فكان له الفضل الاكبر في العمل على تطوير أشكال ومحتوى الحركة الفكرية والسياسية والكفاحية، الا أنه فسح المجال، بشكل غير مباشر، لشتى اعراض التمزق والتفكك والنزاعات الجانبية، خصوصا في مناخات القمع، و"ثقافة" النفي المتبادل، التي بثها وغذاها الاتجاه الاول.
ولا بد هنا من ملاحظة اساسية، وهي ان هذين الاتجاهين لا يفصل بينهما خط حديدي، حيث انهما، في هذا التنظيم او ذاك، هذه الحالة او تلك، هذه الفترة او تلك، كانا "يتبادلان الادوار". ولكن هذا لا يلغي، بل يبرز اكثر، السمة الاساسية لوجود هذين الاتجاهين.
وفي تقييم عام، بعيد كل البعد عن الاحاطة بهذا الموضوع البنيوي الاساسي، يمكن القول:
أ ـ إن الاتجاه الاول استطاع أن يفرض نفسه في شتى الانظمة الوطنية العربية، وعمل على تغييب او تتبيع "الآخرين"، بشكل كلي او شبه كلي (بدون النظر هنا الى الاساليب المشروعة وغير المشروعة التي اعتمدها)، وذلك عن طريق المزاوجة بين أجهزة السلطة وبين التنظيم الحاكم، وقلب معادلة العلاقة بينهما رأسا على عقب، بحيث أصبح التنظيم نفسه اداة طيعة في يد القيادة السلطوية ـ الحزبية، مثله مثل أي جهاز سلطوي آخر. وقد ملكت القيادة ، بنتيجة ذلك، حرية التصرف الأكبر، لتنفيذ مفاهيمها وبرامجها ومشاريعها، السلطوية ـ الحزبية، مما جعلها مسؤولة تماما عن النجاح او الفشل، وبالتالي المسؤول الاول عن الانتكاسات وحالات الجمود، التي طالت الساحة الوطنية العربية.
ب ـ إن الاتجاه الثاني، الذي كان في موقع "الضعيف" شكليا وبنيويا، لإشغاله بشكل عام الحيز السياسي "المستبعد" و"المقموع" و"المدجـّن"، خارج نطاق السلطة و"داخلها"، أثبت جدارة اكبر في طرح "التساؤلات"، ومحاولات الاجابة على الاشكاليات التي تعترض حركة التحرير العربية، وفي تطوير اساليب النضال، وتحريك حالات الجمود. ويبدو ذلك بالاخص في الحلقة المركزية للصراع، أي قضية المواجهة مع الصهيونية.
وفي "جردة حساب" عامة مكثفة نجد:
ـ1ـ أن الاتجاه الاول قد اقتصر في النهاية على بعض الاحزاب والتنظيمات الحاكمة، التي استطاعت الاحتفاظ لمدة طويلة بالسلطة. وأن دوره في الحياة الحزبية ـ السياسية قد تقلص الى الحد الاقصى، بما في ذلك داخل حزب او تنظيم السلطة، ليقتصر على شريحة عليا ضيقة من ذلك الحزب، تتميز بالممالأة والانتهازية والنفعية والفساد، وتتأطر بشكل ائتماري ـ "استشاري" حول القيادة المتفردة بالسلطة، من ضمن آلية استتباع واستزلام، سلطوية فعلا، حزبية شكلا.
ـ2ـ اما الاتجاه الثاني، التجديدي، فقد غطى عمليا كل ما عدا ذلك من مساحة الحياة الحزبية ـ السياسية، وشمل بالتتابع جميع الاحزاب والتيارات والمجموعات الاخرى، التي دخلت، بهذا الشكل او ذاك، تحت عنوان "البديل"، من اكثرها فاعلية، حتى أكثرها تهميشا، وفي مختلف الظروف والتقلبات. وهذا ما يجعله فعليا – بعد كل حساب، وبالرغم من كل أشكال الضعف الظاهرية - يضطلع بدور المحرك، الضمير الحي والقلب النابض لحركة التحرير العربية، بمختلف فصائلها، بما فيها الاجزاء "القابلة لاستعادة الحياة" النضالية الحقيقية في التنظيمات الوطنية السلطوية ذاتها.
وفي هذه المناقشة نتوقف بشكل خاص عند الاتجاه الثاني، التجديدي، الذي نرى أنه تقع عليه بالدرجة الاولى مسؤولية "تحريك المستنقع"، والنهوض بحركة التحرير العربية من جديد، في الظروف الاقليمية والدولية الراهنة.
وهذا ما يقتضي إلقاء نظرة على المراحل الرئيسية الثلاث، كما نراها، في عمر الحياة السياسية والحزبية العربية:
ـ1ـ مرحلة التكوين الاوّلي للأحزاب والتنظيمات
تعود بداية هذه المرحلة، بشكل عام، الى عهد النضال ضد الكولونيالية والاحتلال الاستعماري المباشر، وضد الاقطاعية الموروثة من العهد العثماني، والرأسمالية الكومبرادورية العميلة، المرتبطتين بالاستعمار.
وربما كان "حزب الوفد" المصري أطول الاحزاب العربية المعاصرة عمرا حتى الآن. وتدخل ضمن هذا "الرعيل الأقدم" الاحزاب الشيوعية العربية الرئيسية. وتمتد هذه الفترة حوالي 80 ـ 90 سنة، تشكلت خلالها الاحزاب والتنظيمات، من جميع الاتجاهات.
وكانت هذه المرحلة شاقة جدا، لجهة تقديم التضحيات الجسام، في مواجهة القمع والتنكيل والحروب الاستعمارية. إلا ان تكوين الاحزاب والتنظيمات فكان "بسيطا"، بالمعنى المنطقي السياسي، حيث ان الفرز السياسي كان بيّـنا، وجبهة الاعداء واضحة المعالم، والاهداف محددة بسهولة (محاربة الاستعمار والغزو الصهيوني، الحصول على الاستقلال، تحقيق الحريات السياسية والمكاسب الشعبية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، الخ).
وانطلاقا من الضرورات المباشرة لهذه المرحلة، فإن الاحزاب المناضلة التي تأسست خلالها، على اختلاف ايديولوجياتها السياسية والفكرية والدينية، وانتماءاتها الطبقية والاجتماعية، كانت تتميز بالتلاقي على الخط الوطني العريض الجامع، بدون تعمق كبير في مستقبل الاوطان بعد "تحريرها".
وهذه "البساطة" في حياة الاحزاب في تلك المرحلة، ساعدتها على أن تتطور بخط تصاعدي، لجهة زيادة صلابتها النضالية، ونموها الكمي، واتساع شعبيتها، بدون خلافات وانشقاقات داخلية، ونزاعات وصراعات بينية خطيرة، تضعف النضال ضد العدو المشترك، وتضر بالتماسك الداخلي لكل منها، الذي كان قائما بشكل عام على قاعدة الشعارات العامة، والرابطة الكفاحية الوجدانية بمواجهة العدو، أكثر منه على قاعدة العمق الفكري والبرنامج السياسي الشامل.
ومن ضمن هذه "البساطة"، فإن احزاب تلك المرحلة، أيا كانت ايديولوجيتها او وسائل نضالها واشكال تنظيمها، كانت شبه مستغرقة في الاهتمامات والنضالات المباشرة المحصورة ضمن اطار بلدها. وهذا ينطبق على الاحزاب ذات التوجهات او الارتباطات "القومية"، و"الاسلامية"، و"الاممية". فكل من هذه الاحزاب ظل "بلديا" و"قطريا" في كل بلد عربي وجد فيه. وأي اهتمام يتجاوز هذا الاطار كان يدخل ضمن المستوى الفكري، والمؤثرات السياسية والفكرية والدينية والقومية، الخاصة بالكوادر المثقفة والمناضلين الواعين، وليس كانشغال عام للتنظيم. والعلاقات فيما بين التنظيمات في مختلف الاقطار العربية، كانت لا تتجاوز ـ عمليا ـ مواقف التضامن المبدئي والسياسي والتعاطف الشعبي. وهذا ينطبق كذلك على القضية الفلسطينية، التي تمتلك من الاساس صفة قضية قومية مركزية. إذ ان الاحزاب والتنظيمات غير الفلسطينية تعاملت معها هي ايضا، في تلك المرحلة، ليس كقضية خاصة بها مباشرة، بل كقضية "اضافية"، خاصة بشعب شقيق، أو بجماهير اسلامية ومسيحية شقيقة، ينبغي مؤازرتها والتضامن معها.
وبالتالي، فإن هذه المرحلة اتصفت بشكل عام بالمستوى "البلدي" او "القطري"، لفصائل حركة التحرير العربية، حتى في التعامل مع القضايا القومية، وهو المستوى الذي اخذت تحاول الارتفاع فوقه في نهاية هذه المرحلة، في الوقت ذاته الذي اخذت تظهر فيها ارهاصات تكوين "البديل".
البـديل!
وبعد حوالي 40 ـ 50 سنة من بداية هذه الفترة، أخذت تطرح على نطاق واسع مسألة "البديل". فشهدت المنطقة العربية حركة واسعة لتشكيل الاحزاب والمنظمات السياسية الجديدة، وإعادة تشكيل القديمة.
وترافق ذلك، موضوعيا، مع التعقيد الشديد الذي اخذت تتميز به الحياة السياسية العربية. كما ترافق، ذاتيا، مع انقضاء عمر "جيل سياسي" كامل، للقادة والكوادر والاحزاب. حيث ان دورة الحياة السياسية الناشطة والواعية لكل جيل من الكوادر، التي تتمحور حولها حياة جميع الحركات والتنظيمات والاحزاب، تتراوح بين 30 ـ 40 سنة تقريبا.
وقد شملت حركة تكوين "البديل" غالبية الحركات والاحزاب السياسية الرئيسية، الاشتراكية والدمقراطية والقومية والاسلامية، بدءا من جمال عبدالناصر، الذي حاول تجديد الاتحاد الاشتراكي وتكوين حزب طليعي بعد هزيمة حزيران 1967، مرورا بانشقاقات وتحولات حزب البعث وحركة القوميين العرب، وصولا الى بداية البناء الحزبي المنظم الواسع للحركات الاسلامية على اختلافها.
وكان بارومتر - اذا صح هذا التعبير - طرح "البديل"، يتمثل في الاحزاب الشيوعية العربية، التي تتبنى رسميا الايديولوجية العلمية الاكثر تقدما، وكانت تتمتع بعلاقات دولية مميزة، مما كان يرتب عليها مسؤولية تاريخية خاصة، تفترض فيها مبدئيا تبرير ذاتها نظريا وعمليا، وتتعارض مع الانتحال الاسمي والرسمي للماركسية ـ اللينينية و"الاشتراكية العلمية" والرفع الشكلي ليافطات "الاحزاب البروليتارية الطليعية".
وقد مرت هذه الاحزاب، في هذه المرحلة بالذات، بدورة من الخلافات والانشقاقات، التي تدخل من الباب العريض تحت عنوان أزمة البحث عن الذات، وتشكيل "البديل"، ضمن الواقع الوطني والقومي والاممي، المتغير بشكل عاصف.
ماذا كان يعني حينذاك، على الصعيد الفكري والسياسي والتنظيمي والنضالي، العمل لتكوين "البديل"؟
لقد اعطت التجربة الماضية شكلين رئيسيين:
الاول ـ ان يبادر كادر معين (فردا او اتجاها)، يطرح افكارا وأشكالا نضالية جديدة، الى تكوين إطار سياسي جديد، يتطور الى حركة او منظمة او جبهة او حزب. ويقدم هذا الاطار الجديد طرحا نظريا وسياسيا اكثر تطورا وتعبيرا عن الواقع، وممارسة أكثر إقداما واستجابة للتحديات القائمة، بالمعنى السياسي العام، على الساحة النضالية.
وتدخل ضمن هذا الشكل جميع الحركات والتنظيمات الجديدة، التي ولدت في تلك الفترة، واستمرت في الوجود بضع سنوات على الاقل على الساحة النضالية.
الثاني ـ أن يتبلور مثل هذا الكادر المجدد ضمن التنظيم المعين الذي هو جزء منه، وان يعمل من داخل التنظيم ـ الام على "تحويله" او "تغييره"، باتجاه أرقى، طامحا لجعله مركز استقطاب طليعيا وجماهيريا اوسع.
وتدخل ضمن هذا الشكل، جميع "التحولات" التي تمت ضمن بعض التنظيمات، والانشقاقات داخل تنظيمات اخرى، حيث يعتبر "الجناح المنشق" نوعا من "استمرار"، متبدل او متطور، للتنظيم الاساسي الذي انشق عنه.
وكأمثلة نموذجية على ذلك، يمكن الاشارة، في الساحة الفلسطينية، أو ـ بمعنى أعم ـ في ساحة المواجهة مع اسرائيل، الى:
ضمن الشكل الاول لـ"البديل"، يمكن الوقوف عند النموذجين التاليين:
النموذج الاول ـ حركة "فتح"، التي نشأت من خارج، وعلى حساب، التيارات والأطر الحزبية والتنظيمية السابقة عليها، وتطورت كتنظيم جبهوي فضفاض. لقد كان تشكيل منظمة "فتح" بدعم "مستور" من القيادة السعودية ردا "ميدانيا" على تشكيل "منظمة التحرير الفلسطينية" بدعم "مكشوف" من القيادة الناصرية. اي عمليا ان تشكيل هاتين المنظمتين كان تعبيرا عن الصراع التقليدي السعودي المصري لتزعم نظام الانظمة العربية "السايكس ـ بيكوي". وكضريبة "ولادية" لم تكن "منظمة التحرير الفلسطينية" ولا منظمة "فتح"، في اي لحظة من وجودهما، خارج سقف "سايكس ـ بيكو" بما في ذلك، وبالاخص، الاعتراف الفعلي، المكشوف او الضمني، باسرائيل. وهذا هو الاساس السياسي لاندماج المنظمتين لاحقا، وخصوصا في ما يسمى "السلطة الوطنية الفلسطينية" التي هي ليست اكثر من "وكيل حصري" كراكوزي ـ قراقوشي، للشركة المساهمة للانظمة العربية واسرائيل، في التحكم بمصير الشعب الفلسطيني المظلوم ومسخ وتصفية القضية الفلسطينية. ولكن اذا تجردنا جدلا عن هذا الجانب "الانظماتي" وحصرنا النظر في الجانب "المنظماتي"، وعدنا الى بواكير تشكيل "فتح"، يمكن الاكتشاف بسهولة ان هذا التنظيم "القطري" بامتياز قد قام في البداية على اكتاف كوادر مثقفة ومناضلة "اخوانية" و"بعثية"، اي انه قام نتيجة تلاقي تيارين ("اسلامي" و"قومي") متجاوزي القطرية، ولكنهما فشلا تاريخيا، كلا من منطلقاته وموقعه، في حل "القضية الفلسطينية" وتحرير فلسطين.
ونقطة الارتكاز المميزة في هذا التنظيم "المهجن" (الذي حمل منذ ولادته، في ضميره المستتر، وزر فشل "الاخوان" و"البعث" في مواجهة القضية الفلسطينية) لم تكن تتمثل في "النظرية"، التي كانت بالنسبة له برنامجا سياسيا شعبيا "غير مؤدلج"، يمكنه ان يحصل على اكبر اجماع ممكن، بل كانت تتمثل في "الممارسة" المتميزة، أي في اعتماد اسلوب الكفاح الشعبي المسلح، كعمود فقري لجميع اشكال الكفاح ضد اسرائيل، وكبديل ستراتيجي يتجاوز، من جهة، ستراتيجية الحرب النظامية، التي كانت سائدة، ومفروضة، حتذاك، من قبل الانظمة، وخصوصا النظام المصري بقيادة جمال عبدالناصر ومستشاره المفضل محمد حسنين هيكل الذي كان يعارض بشدة ويسخر من "العمل الفدائي" ويدعو الى اعتماد الحرب النظامية فقط. ويتجاوز، من جهة ثانية، مفاهيم النضال السياسي المقتصر على الاشكال الدعاوية السلمية، التي كانت تدين بها بالاخص الاحزاب الشيوعية المؤيدة للسوفيات، والتي كانت تدعو الى الاعتماد على المنظومة السوفياتية وطرح القضية الفلسطينية واحتلال الاراضي الفلسطينية والعربية على طاولة مساومات الحرب الباردة بين المعسكرين الدوليين، الشرقي والغربي، حينذاك.
والنموذج الثاني - "حركة التحرير الشعبية العربية"، بقيادة ناجي علوش، التي نشأت كمشروع حزب قومي عربي تقدمي مكافح. ونقطة الارتكاز في هذا التنظيم لم تكن في "الممارسة"، حيث أنه نشأ على أرضية "مسلـّمة" الالتزام المسبق والمشاركة الفعالة في خط الكفاح الشعبي المسلح ضد اسرائيل، بل في "النظرية الكفاحية"، المتمثلة في البرنامج السياسي والاطروحات الطليعية، المنفتحة على الفكر الاشتراكي العلمي، والتي تؤطر المحتوى الشعبي للكفاح، وتضعه في الاطار القومي العام، والاهداف التحريرية للمجتمع العربي، في ارتباط عضوي مع الكفاح المسلح لتحرير فلسطين.
وكان كل من هذين النموذجين التنظيميين يمثل تحديا للحياة السياسية العربية، سواء في شكل المنظمات والاحزاب، او الانظمة، وفي الوقت ذاته يسد "حاجة ضرورية" تفتقدها الساحة النضالية العربية. وهذا ما جعل وجودهما بحد ذاته موضوع صراع. وقد استطاعت حركة "فتح" الثبات والاستمرار في الوجود بالاستناد الى النزعة القطرية الفلسطينية التي "انقذتها" من وصاية اي من الانظمة القطرية العربية، الا انها في النهاية "ابتلعتها" وحولتها الى نظام عربي (فلسطيني! = ربع او نصف ربع او ربع ربع فلسطيني!) جديد.
اما البذور التي طرحتها "حركة التحرير الشعبية العربية" فلم تستطع الاستمرار في الوجود، وخنقت كليا تقريبا، ضمن الشرانق القمعية القطرية لمختلف الانظمة والاحزاب والمنظمات "العربية"، ولا سيما "فتح".
وضمن الشكل الثاني لـ"البديل" ينبغي التوقف بشكل خاص عند نموذجي:
- "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين"، و"اشقائها" و"شقيقاتها"، التي انبثقت عن عملية التحول الايديولوجي والكفاحي، التي تمت داخل حركة القوميين العرب العريقة السابقة، حيث تبنت "الجبهة": نظريا، الفكر الاشتراكي العلمي، المتمثل في الماركسية؛ وممارسةً، خط الكفاح الشعبي المسلح ضد اسرائيل.
لقد طرحت "الجبهة الشعبية" نفسها (بقيادة جورج حبش) بوصفها: حزبا طليعيا ماركسيا ـ لينينيا امميا؛ وتنظيما كفاحيا جماهيريا عربيا؛ وجبهة كفاح مسلح ضد اسرائيل والصهيونية العالمية. فكان من "الطبيعي" ان تتكاتف ضدها، سرا وعلنا، جميع القوى "الصديقة" والمعادية، التي تتضرر او كانت مرشحة لان تتضرر من وجود وممارسة واطروحات "الجبهة الشعبية"، بدءا من "القطرية الفلسطينية"، مرورا بجميع المنظمات والانظمة "الوطنية" وغير الوطنية "القطرية" العربية، وصولا الى القيادة السوفياتية السابقة (التي لم تكن، منذ عهد ستالين، سوى احتياط وحليف سري للامبريالية العالمية، وهذا ما كان من الصعب وشبه المستحيل على جورج حبش ووديع حداد وهاشم علي محسن ورفاقهم المخلصين ان يدركوه في حينه). فالقيادة السوفياتية السابقة لم يكن بامكانها ان تعارض على المكشوف تبني الاشتراكية العلمية من قبل جماعات وتنظيمات جديدة، الا انها لم يكن من الممكن ان تقبل بظهور تنظيمات ماركسية وشيوعية جديدة تسحب البساط من تحت ارجل الحركة الشيوعية العربية التابعة والمدجنة، ولا تعترف باسرائيل، وتحارب الصهيونية العالمية، التي هي "السر المكنون" و"الضمير المستتر" للقيادة السوفياتية السابقة. فكان من الطبيعي ان تتضافر جهود كل اعداء "الجبهة الشعبية"، وعلى رأسهم القيادة السوفياتية السابقة بكل امكانياتها وتقاليدها المخابراتية "الثورية" و"التقدمية"، لمحاصرة وتطويق وخنق تيار جورج حبش، من داخل "الجبهة" ومن خارجها. وفي المحصلة: تشتيت قوى "الجبهة" واضعافها ومنعها من الاضطلاع بالدور الطليعي التاريخي الذي كانت مرشحة له.
- الحزب الشيوعي الفلسطيني، الذي كان بمثابة إعادة اعتراف بالهوية الوطنية الفلسطينية، والذي تبنى خط الكفاح الشعبي المسلح ضد الاحتلال الاسرائيلي ، بعد ان كان الشيوعيون الفلسطينيون قد ألغوا هويتهم الحزبية الفلسطينية، مكتفين بالانضواء في صفوف الحزبين الشيوعيين الاسرائيلي والاردني، وبعد ان كانوا يؤيدون "الحل السلمي" للصراع العربي ـ الاسرائيلي القائم على "مبدأ" التسليم بتقسيم فلسطين و"الاعتراف" بشرعية قيام اسرائيل والنضال السياسي السلمي للاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في اقامة دولة على جزء من الارض الفلسطينية.
إنجازات وإشكاليات
ولا شك أن الأطر الجديدة، التي نشأت في تلك الفترة، والتي تدخل ضمن عنوان "البديل"، أسهمت، بأطروحاتها وممارساتها، في التأثير، بصورة مباشرة وغير مباشرة، على مفاهيم وممارسات الاحزاب والتنظيمات والبنى السياسية القديمة، خارج أنظمة الحكم الوطنية وداخلها، مما أدى الى تحقيق تقدم نوعي ملحوظ في مستوى حركة التحرير العربية، وذلك بالرغم من جميع النكسات الذاتية والموضوعية، التي تعرضت لها.
وفي محصلة عامة، يكفي ان نشير على هذا الصعيد الى ظاهرتين:
اولا ـ تأكيد أفضلية الستراتيجية الشعبية للنضال التحرري عموما والكفاح الشعبي المسلح خصوصا، وللبناء الوطني؛ وظهور عجز ومحدودية الستراتيجية النظامية.
فالأنظمة الوطنية والتقدمية ذاتها (ناهيك عن التقليدية شبه الاقطاعية)، التي غيّـبت شعوبها، واحتكرت القرار السياسي والعسكري لدولها، بواسطة مركـّب من القناعة الذاتية القاصرة والمكيافيلية الديماغوجية والدكتاتورية، - لم تستطع، عن طريق ستراتيجية الحروب النظامية والتوازنات العسكرية للجيوش النظامية، تحرير شبر من الارض العربية المحتلة. وهذا أمر طبيعي، تبعا لموازين القوى "النظامية" العالمية.
فبعد حرب السويس في 1956، بالاخص، اخذ العديد من القوى والاحزاب والانظمة الوطنية، بالرغم من التناقضات بينها، تراهن على تحقيق النصر على العدو، بالاعتماد على الدعم الخارجي الصديق، وبالاخص من قبل الاتحاد السوفياتي حينذاك. وقد ظهر عجز ومحدودية وفشل هذا الرهان، في هزيمة حرب حزيران 1967، كما في "انتصار" حرب تشرين 1973، الذي تمخض عن "فك الاشتباك" بواسطة "قوات السلام" التابعة للامم المتحدة، واخيرا عن "كامب دايفيد".
وحينما ظهر الكفاح الشعبي المسلح في 1965، بصيغة العمل الفدائي في البداية، واجه أيضا معارضة من العديد من القوى الوطنية والتقدمية، ولا سيما في اطار الانظمة الوطنية، التي اخذت تنادي، عشية هزيمة 1967 ومباشرة بعدها، بضرورة "التسوية" و"الحل السلمي" و"ازالة آثار العدوان"، وبالاعتماد على معطيات الحرب الباردة والتوازن الدولي بين المعسكرين حينذاك.
ولكن الاجتياح الاسرائيلي للبنان في 1982، أطلق "رصاصة الرحمة" على هذه الاوهام، وخصوصا على شعار "التوازن الستراتيجي" مع العدو بالاعتماد على الترسانة السوفياتية، واصبح شعار "السلام العادل والشامل!!!" مطلبا عاما لحفظ ماء الوجه للانظمة العربية وعلى رأسها ما كان يسمى "الانظمة الوطنية".
في حين ان الستراتيجية الجماهيرية للمقاومة، المدنية العزلاء، والمسلحة، أثبتت جدواها وفعاليتها في مواجهة العدو. وهذا لا ينتقص من دور الستراتيجية الدفاعية و"توازن الرعب" التسليحي، الذي تضطلع به الدول والجيوش النظامية، التي هي احتياط رئيسي للكفاح الشعبي العام وليس العكس.
ثانيا ـ هذا من الوجهة الكفاحية العسكرية. ومن جهة ثانية، فإن الانظمة الوطنية استطاعت تحقيق انجازات ملحوظة على صعيد البناء الوطني، الاقتصادي والاجتماعي. ولكن الثمن الاجتماعي لهذه الانجازات كان باهظا جدا: نمو البيروقراطية الطفيلية، العسكرية والسياسية؛ تفشي الفساد والمحسوبية والزبائنية؛ تدني انتاجية العمل؛ الجمود الاقتصادي؛ التضخم وغلاء المعيشة؛ البطالة الهائلة الكامنة والمستترة؛ الهجرة التي لم يحدث مثلها في ايام سفربرلك؛ فرض الاحكام العرفية والدكتاتورية ومعاملة شعوبنا التي تحكمها تلك الانظمة وكأنها "شعوب محتلة /أو/ مخطوفة".
وهكذا تمخض الواقع العربي عن لوحة مأساوية ـ كاريكاتورية، سوريالية، يعجز اعظم فناني العصر السورياليين عن رسمها: فالجماهير الفلسطينية المظلومة، داخل وخارج ما يسمى "الخط الاخضر"، كانت تعيش في ظل مفاعيل الاحكام العرفية والاستثنائية والعسكرية، الاسرائيلية، كتجسيد للاحتلال وفرض ارادة المحتلين الصهاينة. وبالمقابل فإن الجماهير العربية المظلومة في جميع قطاعات سايكس ـ بيكو الاخرى، وراء "خطوط الهدنة" مع اسرائيل، وبالاخص في ما يسمى "الانظمة الوطنية"، كانت تعيش ايضا في ظل مفاعيل الاحكام العرفية والعسكرية والدكتاتورية والاستباحة الكاملة لامن المواطن وحقوقه وسلامته ولقمة عيشه وعرضه وشرفه وكرامته، وذلك بحجة مواجهة الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين. وكان من العار الاجابة عن السؤال المرير: ايهما اسوأ، وضع الجماهير الفلسطينية في ظل الاحتلال الاسرائيلي، ام وضع الجماهير الفلسطينية المشردة وكل الجماهير العربية الاخرى في ظل احتلال الارض العربية من قبل انظمة "سايكس ـ بيكو" العربية، بما فيها وربما على رأسها ما كان يسمى "الانظمة الوطنية والتقدمية"؟؟؟.
ومع ذلك ليس من الواقعية والموضوعية نفي، او الانتقاص من اهمية، الانجازات التي تحققت، والتي تطرح الآن بشكل ملح مهمة المحافظة عليها. ولكن الواقعية والموضوعية تدعوانا ايضا الى التأكيد بأن الانظمة الوطنية فشلت أيضا في بناء مجتمع الرفاهية والحرية والتقدم، الذي كانت تنادي به. وبدلا من مجتمع دمقراطي متنام سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، جرى اقامة نوع هش من رأسمالية الدولة الاحتكارية، تتحكم بها شريحة فوقية ضيقة، حزبية ـ عسكرية ـ عائلية ـ طائفية الخ، بطريقة اصبحت معها الدخول الوطنية تحت رحمة الاستحواز الفئوي غير الخاضع للرقابة، ومادة للتبذير والفساد والاثراء الفاحش غير المشروع، ولبناء الاجهزة القمعية، والقيام بالمغامرات السياسية والعسكرية المكلفة والمدمرة. وبالنتيجة، فإن الانجازات المحققة أصبحت اليوم مهددة، من الداخل، بفعل التآكل السلطوي ـ الاجتماعي، الناتج عن الفساد والبيروقراطية العقيمة، ومن الخارج، بفعل الحصار والضغوط التي يمارسها ارباب النظام العالمي الجديد، في عصر "العولمة".
ويتضح الآن بجلاء، ان الانظمة الوطنية ذاتها أصبحت كلها مهددة بطبعة جديدة من "التصحيح" و"الانفتاح" و"التغيير الديمقراطي" المزيف، على طريقة "البيريسترويكا" الغورباتشوفية، اذا لم تستطع هذه الانظمة، في الوقت المناسب، اخذ العبر الضرورية من التجربة السوفياتية، واعطاء دور حقيقي للمبادرة الذاتية للجماهير الشعبية، ذات المصلحة الاساسية في قيام وتطوير دمقراطية حقيقية، تعبر فعلا عن واقعنا، وعن المصالح الوطنية العليا، التي لا تنفصل ابدا عن مصالح وتطلعات جماهير الشعب.
وفي المحصلة، فإن التجربة المريرة والغنية في العقود الماضية، أكدت صحة خط الكفاح الشعبي المسلح، بوصفه الاسلوب الرئيسي الذي ترفده وتخضع له جميع اساليب الكفاح الاخرى، لحل المشكلات التاريخية التي يتوجب على حركة التحرير العربية مواجهتها وحلها. وهذه المشكلات تتجسد ليس في الاحتلال وحسب، بل وفي مختلف اشكال الهيمنة الامبريالية والصهيونية، وتشمل التخلف المطلق والنسبي، المفروض على البلدان العربية، بالرغم من غناها الهائل - مأخوذة بمجموعها - في مواردها الطبيعية والبشرية، كما تشمل احدى اهم ادوات الهيمنة وفرض التخلف، الا وهي التجزئة، بكل اشكالها القطرية والمناطقية والطائفية والعشائرية الخ.
وبعد أن اثبتت المقاومة الشعبية المسلحة ضد الاحتلال جدواها، اخذت تدعمها وتنضم اليها جميع القوى الوطنية والتقدمية العربية، الواحدة تلو الاخرى. وفي تلخيص تعميمي لا يغطي كامل الصورة حتى في خطوطها العريضة، يمكن القول إن الانظمة الوطنية ذاتها مالت بدورها ايضا نحو دعم المقاومة ضد الاحتلال، وإن خارج "أرضها". ولكنها لم تستطع ان تكيّـف ذاتها لتتحول هي ذاتها الى طرف مشارك مباشرة في الكفاح الشعبي المسلح، لانها كانت ولا تزال تخشى اطلاق المبادرة الكفاحية لجماهير بلدانها، لان تلك الانظمة لم تكن واثقة من نفسها في القدرة على التحكم بالحركة الذاتية للجماهير، اذا ما امسكت الاخيرة زمام قضاياها ومصائرها بيدها. إذ أنه حينذاك لن تكون هناك امكانية للفصل بين القضايا الوطنية، "الخارجية"، والقضايا الوطنية "الداخلية"، الامنية والسياسية والاقتصادية الخ، وسيكون من الصعب منع الجماهير الشعبية التي تحمل السلاح وتقاتل اسرائيل بالتآخي مع جيشها الوطني، من أن تقول "كلمتها" في الشؤون "الداخلية" ايضا.
والآن يبدو من غير الطبيعي ان "تتوّج" تضحيات الجماهير الشعبية عامة، والفقيرة خاصة، في لبنان وفلسطين والجزائر ومصر وغيرها، من اجل التحرير، بنهب الثروات العربية، والتركيع الاقتصادي للبلدان العربية جميعا، وتحويل الارض العربية من جديد إلى قاعدة للجيوش الغربية، ومناطق نفوذ مفتوحة للامبريالية والصهيونية، تحكمها الفئات الفاسدة والمرتبطة بالمصالح الاجنبية، تحت ستار السلام والانفتاح والتطبيع واقتصاد السوق والعولمة.
ويبدو ان اسلوب الكفاح الشعبي المسلح، هو المؤهل كي يكون العمود الفقري لجميع اشكال النضال الشعبي، ضد الهيمنة الامبريالية والصهيونية، وفرض استمرار انظمة التبعية والتخلف والتجزئة والدكتاتورية "على العرب بواسطة العرب".
وطبعا لا يمكن ان نستخرج من ذلك صورة كاريكاتورية لـ"رامبوات" او "بونابرتات" يقومون بعمليات اختراق مسلح "للحدود" بين مختلف البلدان العربية، او "بين الطبقات" والاستقطابات السياسية داخلها. ولكن، واستنادا إلى النجاح والرصيد الوطني والاخلاقي الكبير لتجربة الكفاح الشعبي عامة، والمسلح خاصة، ضد الاحتلال، فان حركة التحرير العربية، القائمة اساسا على اكتاف الجماهير الشعبية ولأجلها، موضوعة الآن أمام تحدي استكمال عملية ربط مهمة "التحرير الخارجي" بمهمة "التحرير الداخلي"، وكسر الحلقة الجهنمية المفرغة لآلية الهيمنة الامبريالية والتخلف والتجزئة، عن طريق استخدام جميع الاشكال المناسبة للنضال، بما فيها الكفاح الشعبي المسلح، حينما وحيثما تدعو الضرورة، مع الاخذ بالاعتبار قواعد الشرعية الدولية، وشرعية الانظمة القطرية "فائقة الشرعية!".
ـ2ـ مرحلة الدورة الاولى لنشوء "البديل"
وتتزامن هذه المرحلة مع زوال الاحتلال الاستعماري التقليدي، وتحقيق الاستقلال السياسي للدول العربية، وظهور ما يسمى "الاستعمار الجديد"، الذي يعتمد على التبعية الاقتصادية والاحلاف والمؤامرات الخ، بالاضافة الى ولادة وترسّخ الكيان الصهيوني، الذي ظهر "بالعين المجردة" أنه ليس مأساة للشعب الفلسطيني وحسب، بل ويمثل مشكلة وخطرا وجوديا على الامة العربية بأسرها.
في هذه المرحلة لم تعد المهمات النضالية ترى بـ"البساطة" و"الوضوح" المباشر السابق، بل اصبحت "معقـّدة"، "اختلطت" فيها مهمات استكمال التحرر الوطني، ومواجهة العدوان الصهيوني، والمؤامرات الامبريالية، بمهمات بناء الدول الوطنية القطرية، والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وإقامة العلاقات بين الاقطار العربية كدول مستقلة، وبينها وبين مختلف دول العالم، بما في ذلك "اعداء" الامس واليوم. فكان من الطبيعي أن تزول "الحدود البسيطة" للنضال، وأن تتداخل وتتقاطع وتتعارض الحدود السياسية وغير السياسية، بين شتى الاتجاهات و"المعسكرات"، الداخلية، والبين ـ قطرية، والاسلامية، والدولية، الموجودة على الساحة العربية.
وظهر بوضوح متزايد ان القضايا التي يواجهها كل بلد عربي، هي جزء فرعي من واقع اوسع، يشمل الاوضاع العربية السائدة، وترتبط عضويا بالقضايا العربية العامة، ولا يمكن التصدي لها ومعالجتها ضمن اطار البلد ذاته، بالمفاهيم "البسيطة"، "البلدية" و"القطرية" السابقة، بدون علاقات عربية، وتضامن عربي متبادل، ورؤية عربية خاصة ومشتركة، الخ.
وكان من الطبيعي ان تؤدي ضرورة التقارب والاتحاد والوحدة العربية، الى "استنفار" النزعات "القطرية" الكامنة، بكل خصوصياتها، وبكل اشكالها، "السلبية" (الانعزالية)، و"الايجابية" (العدوانية، التسلطية من قبل قطر على قطر باسم "الاخوة القومية"). وقد نتج عن ذلك ما نتج عنه من ضعف وتهافت اشكال التضامن والاتحاد والوحدة السابقة، العاطفية، والفوقية، والتسلطية، ومن نزاعات ضارة ومدمرة ودموية، حملت أفدح الاضرار للأمة العربية عامة، ولشعوب الاقطار المعنية خاصة.
ولكن، خلافا لكل مظهر خادع، فإن هذا "الاستنفار" للنزعات "القطرية"، في هذه المرحلة، انما كان برهانا ساطعا على قصورها عن التعبير عن المصالح الحقيقية لشعبـ"ـها" بالذات، وتأكيدا "مباشرا" على الافلاس التاريخي لـ "النزعة القطرية"، وتأكيدا "معكوسا" على وحدة القضية العربية.
وفي مثل هذه الاوضاع "المعقدة"، وُضعت فصائل حركة التحرير العربية امام تحدي الارتفاع الى المستوى القومي والاقليمي، حتى في التعاطي مع القضايا "القطرية"، بما يقتضيه ذلك من تغيير في اشكال التنظيم والطروحات والممارسات. من هنا كانت "ضرورة" ظهور الاتجاهين اللذين سبق الاشارة اليهما:
أ - اتجاه الهيمنة الحزبية الواحدة، بهدف الامساك بوحدة القرار، وما يتيحه من "حرية" و"مرونة" في التعاطي "القطري" مع الشأن القومي، والتعاطي "القومي" مع الشأن "القطري" الخاص. وقد تمخض هذا الاتجاه عن قيام "الدكتاتوريات الوطنية"، والنزاعات التناحرية الناشئة عن إحلال علاقة الرفض والفرض مع "الآخر"، داخل وخارج اطار السلطة.
ب - واتجاه التعددية الحزبية، الذي عبرت عنه حركة تكوين "البديل"، الهادفة الى تجديد الحياة الحزبية والسياسية، وايجاد الاجوبة للاوضاع المتغيرة الجديدة، والتكيف والتفاعل معها.
والآن، في نهاية هذه المرحلة، فإن الاتجاه الاول، الذي كانت في يده سلطة الدولة، او السلطة الحزبية التقليدية خارج السلطة، استنفد جميع امكانياته، وأصبح عاجزا عن التقدم قيد أنملة، عن المواقع التي هو فيها، بالرغم من امتلاكه الشكلي والفعلي لـ"وحدة القرار". وأصبحت الانظمة الوطنية التي يحكمها، والمساحة السياسية الجماهيرية التي تخضع لنفوذه، تقف على مفترق التغيير، مما يعطي شحنة استثنائية لعملية تكوين "البديل" من جديد.
أما الاحزاب والقوى المناضلة الاخرى، التي كانت قد تأسست او "تجددت" تحت عنوان "البديل"، فإنها قد ادخلت الدينامية الى حركة التحرير العربية بمجملها، ورفعت من مستواها، وحولتها الى ما يشبه "خلية نحل"، وأقامت فيما بين مناضليها وفصائلها علاقات، ايجابية وسلبية، لم يسبق لها مثيل. الا أنها بدورها قد استنفدت الآن طروحاتها وأشكال نضالها السابقة، وأصبحت "تجتر ذاتها" وتراوح مكانها، عاجزة عن التقدم الجدي الى الامام.
وليس من الممكن للايديولوجيات العامة، العلمية الثورية، والليبيرالية، والاسلامية وغيرها، التي تتمسك بها او تلجأ اليها مختلف الانظمة والتنظيمات المأزومة، أن تنقذها من ازمة المراوحة والتقهقر. ذلك أن الايديولوجية هي مرشد نظري عام، ولا تنوب عن النظرية والممارسة المباشرين، المعبـّرين عن الواقع والمتفاعلين معه. وهذا ما يستدعي من هذه الاحزاب والقوى الوطنية، خارج وداخل السلطة، إجراء مراجعة لذاتها، وللواقع الاقليمي ـ الدولي شديد التعقيد، الذي اخذت تواجهه حركة التحرير العربية المعاصرة.
التحدي الجديد!
واليوم، بعد حوالي 40 ـ 50 سنة اخرى، أي تقريبا دورة حياة "جيل سياسي" آخر، تبدأ من جديد ارهاصات انشاء "البديل"، بما في ذلك انشاء "بديل البديل". ويتبدى ذلك في ازمة الحركة الشيوعية، والأزمة الشاملة لجميع انظمة الحكم الوطنية العربية، وأزمة الحركة الاسلامية (التي وصلت في وقت ما في السودان مثلا، الى حد اعتقال الزعيم والمفكر الاسلامي البارز الدكتور حسن الترابي، على ايدي بعض "انصاره" و"تلامذته" أنفسهم، واتهامه بـ"الخيانة!")، وأزمة الحركات الوطنية الدمقراطية والقومية والعلمانية العربية، وفي مقدمتها أنضجها تجربة: الحركة الوطنية اللبنانية. وعلى هذا الصعيد، تأتي في الدرجة الاولى من الاهمية: أزمة "فتح" وحركة المقاومة الفلسطينية عامة، فصيل الصدام المتقدم في مواجهة اسرائيل والصهيونية والامبريالية العالمية.
وطرح مسألة "البديل" مجددا، انما يدل ـ من زاوية نظر معينة ـ على حيوية حركة التحرير العربية، التي كانت المقاومة الوطنية والاسلامية في لبنان، والانتفاضة الشعبية الباسلة في فلسطين، والمقاومة الشعبية للاحتلال في العراق، ابرز تجسيداتها. كما يبرهن أن حالة الجزر الثوري المرحلي، أمام المد الامبريالي والصهيوني، في النطاقين العالمي والعربي، ليست قضاء مبرما لا مناص منه، وأن هذا المد الذي ظهر كعملاق لا يقهر، في حساب موازين القوى بين الدول، هو قزم عاجز في مواجهة الكفاح الجماهيري.
ويجد هذا الطرح واقعيته في أن "الاتجاهات التجديدية" أخذت تظهر على السطح، وتشق طريقها بمختلف الاشكال، في غالبية الاحزاب والتنظيمات، التي سبق ونشأت هي نفسها قبل الآن تحت عنوان "البديل".
وفي هذا السياق نفهم سعي بعض الممثلين البارزين لـ"الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين"، الى تكوين حزب "معارض" و"بديل" جديد، بما في ذلك "على يسار!" "الجبهة الشعبية". ولهذا دلالته الخاصة، إذ ان "الجبهة الشعبية"، التي ظهرت بعد هزيمة حزيران 1967 على يسار "فتح"، كانت ابرز معلم من معالم تكوين "البديل" في تلك الفترة، على الصعيد الكفاحي والايديولوجي المركـّب.
ولكن اذا كانت ولادة "البديل" في الدورة السابقة للحياة السياسية العربية مسألة صعبة، تمت في الغالب بطريقة "العملية القيصرية"، لما كان فيها من خروج على الجمود و"الاجترار الذاتي" الفكري والسياسي والتنظيمي والكفاحي، فإنها اليوم مسألة في غاية التعقيد، وأصعب من السابق بما لا يقاس، ليس من وجهة توفر امكانيات الطرح السياسي والفكري والتشكيل التنظيمي الخ، حيث أن هذه الامكانيات هي اليوم اكثر توفرا من السابق، بل من حيث مقدرة القوى المرشحة اليوم للاضطلاع بدور "البديل"، على فهم ومواجهة الاشكاليات والتحديات المعاصرة، الناشئة عن طبيعة المرحلة الراهنة للصراع الدولي، الذي أصبحت فيه حركة التحرير العربية، موضوعيا، بوعي منها او بغير وعي، مباشر او غير مباشر، ليس طرفا اقليميا رئيسيا وحسب، بل وطرفا دوليا ايضا.
وبكلمات اخرى، فإن محور التحدي في تكوين "البديل"، في المرحلة السابقة، كان يتعلق بشكل رئيسي بـ"العامل الذاتي"، ويدور حول تجاوز ذاتي ـ بأي شكل او درجة ـ للتنظيم السابق (بالمعنى المطلق للتنظيم)، وما نتج عن ذلك في حينه من "اعادة انتاج" للتنظيمات، على مستوى النظرية، او التطبيق، او النظرية والتطبيق معا.
اما في المرحلة الراهنة، فإن محور التحدي اصبح يتعلق بشكل رئيسي بـ"العامل الموضوعي"، ويدور حول قدرة جميع الاطراف والطروحات، بما فيها "البديلية" السابقة والجديدة ذاتها، على استيعاب ضرورات هذا العامل، المتمثل في الطبيعة الدولية المباشرة التي يكتسبها الكفاح العربي، وهو ما يقتضي من حركة التحرير العربية، مأخوذة بمجملها، وأيا كانت الايديولوجية واساليب الكفاح المجدية الخاصة بمختلف فصائلها، ان ترتفع من مستوى قوة محلية واقليمية، الى مستوى قوة عالمية، تتخذ معها دائرة اهتماماتها ومسؤولياتها نطاقا واهمية دوليين مباشرين، يختلفان بما لا يقاس، حجما ونوعا، عما سبق الى الان.
ـ3ـ مرحلة تحدي العولمة
نستنتج من ذلك ان حركة التحرير العربية تقف اليوم امام مرحلة جديدة اعلى من تطورها. وهذا ما نتناوله فيما يلي:
ان المرحلة الراهنة، التي اخذت، بوتائر متسارعة، وحتى من خلال الهزائم والانتكاسات ذاتها، تؤكد ميزتها الاساسية وهي: طابع حركة التحرير العربية، المعبّـر التاريخي عن القومية العربية، بوصفها قوة عالمية مباشرة، لا تقل اهمية، موضوعيا، عن أي قوة دولية عظمى، وتفوق في اهميتها الكثير من الاطراف الرئيسية الحالية على الساحة الدولية.
ان جدلية الصراع الدولي، بالارتباط العضوي والتفاعل مع ثلاثية: الموقع الجيوبوليتيكي والامكانات والمكانة، التي تتمتع وتتميز بها المنطقة العربية، كجغرافيا وكأمة، تدفع موضوعيا باتجاه ازاحة التراب والضباب عن الزيف الستراتيجي السائد، وابراز الحقيقة المغيبة، وهي: أن حركة التحرير العربية، بصفتها الشعبية، وبكل ما يبدو من تشتتها و"ضعفها" و"لارسميتها"، هي الممثل الحقيقي الوحيد للقومية العربية، وليست ابدا الانظمة العربية، مجتمعة ومتفرقة، بما فيها ما يسمى "الانظمة الوطنية"، بكل ما لها من تمثيل "شرعي" و"قوة". فهذه الانظمة يمكن لها ـ افتراضا ـ أن تأخذ دورا ايجابيا فعالا، بمقدار ما تخضع لمرجعية حركة التحرير العربية، وتعمل لتحقيق اهدافها التاريخية، وليس العكس.
وبهذه الصفة التمثيلية لأمتها، فإن حركة التحرير العربية، بإدراك او بعدم ادراك من فصائلها المتعددة، ليست مجرد مجموعة اطراف قطرية متفرقة، ولا طرفا اقليميا وحسب، يخضع للعوامل والقوى الدولية، بل هي موضوعيا طرف اقليمي ـ عالمي رئيسي، لا يقوم مقامه أي طرف دولي آخر.
وعدم اضطلاع مختلف الاطراف في حركة التحرير العربية بدورها الدولي بشكل مباشر، وترك القوى الدولية العظمى، والمؤسسات الدولية وشبه الدولية "الرسمية" و"الشرعية"، كالامم المتحدة ومنظمة مؤتمر الدول الاسلامية وجامعة الدول العربية، لتقرر عن الامة العربية مصائرها الرئيسية، وفي أحسن الحالات "التنازل الموضوعي" عن الدور العربي المباشر، وتجيير الوزن و"التمثيل" الدولي العربي لهذا الطرف الدولي "الصديق" او "الحليف" او ذاك، - انما هو مسألة وعي متخلف عن الواقع، يخلق "حالة فراغ "، أو "حلقة مفقودة" على الساحة الدولية، لا يستطيع أي طرف دولي آخر أن يقوم فيها مقام حركة التحرير العربية.
وهذه "الحالة الملتبسة" تؤدي على أرض الواقع الى عدم التوازن، والمضاعفات السلبية، والانهيارات، والمصادمات، لا في الاوضاع العربية وحسب، بل اولا واساسا في السياسة الدولية برمتها، وذلك بسبب غياب "الحلقة المفقودة" العربية من موضعها الدولي الطبيعي، الذي من مصلحة شعوب العالم بأسره أن تكون فيه. وهذا ما لم ولن يستطيع أن يقوم به "نظام الانظمة" القطرية العربية.
لقد ولى الزمن الذي كان يجري فيه عزل حركة التحرير العربية عن التعاطي المباشر بالشأن الدولي، زمن "حل" القضايا العربية ذاتها عن طريق "تقريرها" دوليا، و"تنفيذها" اقليميا وقطريا، تبعا لموازين القوى الدولية والاقليمية والمحلية. فاليوم، بدون اضطلاع حركة التحرير العربية بدورها العالمي الفعال المفقود، مثلها مثل بل وقبل أي قوة دولية عظمى، لا يمكن ايجاد حل اساسي لا للقضايا العربية، ولا لأي قضية اقليمية وعالمية رئيسية، بما فيها القضايا الكبرى العامة و"الخاصة" ذاتها، الاميركية والاوروبية والاسيوية والصينية والروسية الخ.
وبكلمات اخرى: إننا أصبحنا نرى بأم العين المجردة، ان القضايا القطرية والقومية العربية ترتبط مباشرة بالاوضاع الدولية، بحيث تبدو كشأن "وطني" لاميركا وروسيا واوروبا واليابان والصين الخ، التي "تتدخل" في شؤوننا بشكل مشروع او غير مشروع، صديق او معاد، مفيد او ضار.
ونرى بالتالي كيف أن قضايانا العربية (حتى اكثرها "داخلية" بالمعنى القطري الضيق ذاته) تصبح قضايا مفتوحة على السياسة الدولية، ومرتبطة بطبيعة الانظمة او الحكومات او الاتجاهات السياسية لهذا الرئيس او ذاك، في هذا البلد او ذاك، الخ، المؤاتية او غير المؤاتية بالنسبة لنا، وبالتالي للعالم بأسره.
وإذا عكسنا زاوية النظر نجد، بالمقابل، وبكل بساطة الحقيقة، أنه لا القضايا الدولية العامة وحسب، بل أيضا، وربما بالأخص، أن القضايا الداخلية الرئيسية لاميركا وروسيا واوروبا الخ، تصبح أكثر فأكثر قضايا ذات اهمية "عربية" مباشرة، ينبغي متابعتها والتدخل فيها بفعالية، بالشكل المشروع والايجابي مع الاصدقاء، وبالشكل "السلبي" مع غير الاصدقاء.
فمن الغباء والسطحية و"اللاوطنية" القطرية او القومية العربية، ان نقف مكتوفي الايدي امام انهيار انظمة حكم صديقة كما جرى للاتحاد السوفياتي. او ان نقف مكتوفي الايدي امام تحطيم الدولة اليوغوسلافية السابقة، الصديقة التقليدية للعرب، واقامة دول وانظمة موالية للامبريالية الغربية وذيلها التركي، على انقاضها. فقد كان هذا ضد مصلحتنا، تماما كما كان ضد مصلحة الشعب الروسي وغيره من شعوب "الدولة السوفياتية" والمنظومة السوفياتية السابقتين، وتماما كما كان ضد شعوب البلقان جميعا وفي طليعتها الشعب الصربي الباسل.
كما أنه من الإجرام، بحق شعبنا، كما وبحق دافع الضرائب والشعب الاميركي عامة، وكذلك بحق جميع شعوب العالم التي تعاني من عدم استقرار منطقتنا الحيوية، الناتج عن الهيمنة الامبريالية ـ الصهيونية؛ ـ من الاجرام أن تنهال المساعدات الاميركية بعشرات مليارات الدولارات على اسرائيل، على حساب الاقتصاد الاميركي والعالمي، وأن ننتظر الفانتوم كي تصب حممها فوق مدننا وقرانا وتبيد اطفالنا وتحمي مغتصبي ارضنا، ونكتفي بمقاومتها على ارضنا، وأن لا تكون لنا خطط سياسية واعلامية واجتماعية وكفاحية وغيرها، للتأثير على مراكز قرار ارسال الفانتوم، في قلب اميركا بالذات.
كما انه من الإجرام ان ننتظر الصهيونية كي تستجمع قواها في جميع زوايا المعمورة، وان تنطلق الزمر الصهيونية من كل مكان لتهاجمنا في بيوتنا، وان يتم انشاء صندوق تبرعات دولي تجمع فيه التبرعات لشراء الاسلحة لاسرائيل حت شعار "ادفع دولارا تقتل عربيا!" (يا بلاش!)، وان نكتفي نحن بالدفاع التراجعي عن انفسنا فيما نقوم بدفن قتلانا وتعداد خسائرنا والبكاء على اطلالنا. فيما ان حق "الدفاع المشروع عن النفس" وابسط شكل من اشكال المنطق وقوانين الصراع تقول انه يتوجب علينا ان ننطلق لمحاصرة الصهيونية ومهاجمتها بجميع الاشكال الضرورية والممكنة، لنضيق عليها الخناق في مراكز انطلاقها بالذات، أينما كانت، وفي أي حقل او زاوية او جحر توجد فيه في جميع انحاء العالم؛ وان نرد الصاع صاعين، وكل من يتحمل مسؤولية تدمير بيت عربي واراقة دم انسان عربي ان يدفع الثمن مضاعفا، ماديا وبشريا.
إن جميع فصائل حركة التحرير العربية، وبالرغم من جميع قشور الاحباط الطافية على السطح، حول تراجع الفكر القومي والاممي الخ، أصبحت ترى اكثر من أي وقت مضى، كيف ان القضايا العربية، الاقتصادية والسياسية والعسكرية، بما فيها القضايا القطرية ذاتها، حتى أبسطها احيانا، تصبح بحاجة ليس فقط الى اطار وثقل قوميين، بل - وفي الحساب الاخير - الى موافقة "مراكز القرار" الدولية وخصوصا ما يسمى "الشرعية الدولية" التي تستخدمها وتتلطى خلفها التركيبة الامبريالية ـ الصهيونية العالمية.
وحركة التحرير العربية تمتلك موضوعيا كل المقومات الضرورية:
اولا ـ أن تكون هي نفسها "مركز قرار" عالمي، في الشؤون العربية، كما في الشؤون الدولية والشؤون ذات الاهمية العربية لجميع دول العالم قاطبة.
ثانيا ـ أن تكون عامل تأثير فعال، يشارك في صنع اقرارات في "مراكز القرار" الدولية الاخرى، سواء في المؤسسات الدولية المختلفة او في داخل البلدان والدول ذات التأثير الدولي.
وتخلـّف حركة التحرير العربية عن الاضطلاع بهذا الدور، وما ينتج عنه من ضعف في الاطارين القطري والقومي بالذات، ليس مسألة معطيات موضوعية، وإمكانيات ذاتية، بل على وجه التحديد مسألة قصور ذاتي في وعي هذه المعطيات والامكانيات.
وعملية الاسهام في الارتفاع الى المستوى الدولي، الذي من المفروض الارتقاء اليه، هي التي ينبغي ان تكون في المرحلة الراهنة، المحتوى والمبرر الرئيسي للعمل من اجل تكوين "البديل" الجديد او المتجدد، في الحياة الحزبية والسياسية العربية، اعلاميا وثقافيا واجتماعيا واقتصاديا وامنيا وعسكريا وستراتيجيا.
وهي عملية شاملة،عموديا، من حيث التوجه، وافقيا، من حيث الاطار، لانها تتعلق بجميع فصائل حركة التحرير العربية، في مختلف الاقطار، ومن اصغر التنظيمات والحركات وحتى اكبرها.
واي حراك سياسي وثقافي وتعبوي وعسكري، لاي تنظيم كان، ينحدر عن مستوى هذا الهدف الستراتيجي العالمي، لن يتعدى كونه تحريكا مفيدا لمستنقع الاحباط السياسي الراهن، الا انه لن يستطيع الارتفاع الى مستوى ايجاد "البديل". وأي "تحول" او "تجديد" او "بناء تنظيم جديد" ينبغي أن يخضع لهذا الهدف.
مؤشرات دولية
ولإدراك ضرورة، وأهمية، الدور الدولي لحركة التحرير العربية، وطبيعة "البديل" المطلوب، نجد من الضروري هنا أن نلاحظ بعض المعطيات الموضوعية، التي برزت بشكل خاص من خلال النتائج التي اعقبت "نهاية!" الحرب الباردة، وانهيار المنظومة السوفياتية، والمضاعفات الدولية للصراع العربي مع اسرائيل والصهيونية، وحروب الخليج، والاحتلال الاميركي ـ الاطلسي لافغانستان والعراق، وغيرها من الوقائع الاقليمية ـ الدولية:
ـ1ـ ان انهيار المنظومة السوفياتية، واختلال توازن القوى الدولي، ومحاولة فرض ما يسمى النظام العالمي الجديد، ذي القطب الاميركي الأوحد، قد اصاب بالضرر جميع شعوب العالم. الا ان هذا الضرر اصاب بشكل خاص الأمة العربية، التي خسرت سندا دوليا قويا، بصرف النظر عن الجانب الايديولوجي والسياسي ـ الحزبي. وهذا ما ادركته ايضا بعض تلك الانظمة العربية ذاتها، الموالية للغرب واميركا. وقد تبدى هذا الضرر الخاص للأمة العربية، في محاولة فرض التسليم المهين عليها، بالهيمنة الغربية عامة والاميركية ـ الصهيونية خاصة، بوصفها حتمية "تاريخية" و"طبيعية" لا مفر منها. وهو ما يتنافى على خط مستقيم مع المصلحة الوجودية لهذه الأمة، ذات التراث العريق والتطلعات الحضارية التاريخية، حيث يراد "ببساطة" – كشرط ضروري لا يمكن بدونه استمرار الهيمنة الامبريالية على العالم – إلغاء العرب كأمة، وتكريس تجزئتهم القطرية والاتنية والطائفية الخ، والتعامل معهم ككيانات مصطنعة اقليمية ومحلية وعشائرية، بدون هوية قومية وحضارة انسانية، وكجزء من "سوق شرق أوسطية" تسيطر عليها اسرائيل والاحتكارات الامبريالية العالمية.
وهذا "الامتحان ـ المحنة" يبرهن، بما لا يدع مجالا للشك، بأن الأمة العربية تغامر بوجودها القومي ذاته، اذا اكتفت بدور المشارك "السلبي"، "المتلقي"، في معمعان السياسة الدولية.
ـ2ـ اذا أجرينا مقارنة دولية معينة نجد، للمثال والعبرة وحسب، ان المعسكر الغربي (الاميركي – الاوروبي) يخشى القوة الروسية، ويحتاج إلى السوق الصينية، ولكنه في الوقت نفسه يستطيع ان "يستغني" عن روسيا وعن الصين، وان يعزلهما، او ينعزل عنهما، دون ان يهدد ذلك اسس وجود النظام العالمي للغرب الامبريالي طالما انه يهيمن على المنطقة العربية.
ولكن هذا المعسكر لا يستطيع ان "يقاطع" المنطقة العربية، ككل، و"يعزلها"، أو"ينعزل" عنها، لأنه بذلك يدق المسمار الاول والاخير في نعش نظام التفوق الامبريالي العالمي، الذي تقوم الهيمنة على المنطقة العربية مقام عموده الفقري، بكل المقاييس الستراتيجية، الجغرافية والديموغرافية، العسكرية والاقتصادية والسياسية والحضارية.
ولا حاجة للتذكير بنوعية "المقتل" الذي يمثله "سلاح النفط" بالنسبة للغرب. والشيء ذاته يقال عن "سلاح الموقع"، حيث تمثل المنطقة العربية "الممر" و"مفترق الطرق" العالمي الرئيسي، الذي لا مواصلات ولا تجارة، وبالتالي لا اقتصاد عالمي، بدونه. وغير ذلك العديد من الميزات العربية التي تمثل "مَـقاتـِل" للغرب الامبريالي.
وحركة التحرير العربية هي المؤهلة لتحريك هذه "الاسلحة"، سواء كان ذلك رغما عن الانظمة العربية، او بدونها، او بالتعاون الضمني مع بعضها.
ـ3ـ وبالعكس من ذلك، فان الأمة العربية، بما تمتلكه من ثروات طبيعية وبشرية هائلة، ورقعة شاسعة، وموقع ستراتيجي وجيوبوليتيكي مميز، وعلاقات صداقة وتفاعل حضاري ضاربين في القدم، مع الغالبية الساحقة من شعوب العالم، مما لا يكاد يجتمع لأية أمة اخرى، تستطيع – بل من مصلحتها، بوجود نمط العلاقات الدولية الراهنة، الهيمنية واللصوصية – ان "تستغني" عن المعسكر الغربي، وان تشق طريقها المستقل نحو نهضة حضارية جديدة، تقوم بدور مرتكز راسخ لنهضة شرقية ـ جنوبية شاملة، تضع حدا نهائيا للتفوق الغربي ـ الشمالي، وتعيد التوازن الحضاري الدولي – ولكن على مستوى ارقى – إلى سابق عهده، الذي كان عليه قبل سقوط منارتي الحضارة العربية واليونانية، الاندلس والقسطنطينية، وقبل "فتح" البلاد العربية على ايدي الهمجية العثمانية، التي أكملت ما بدأه الصليبيون، فاتحة الطريق للاستعمار الغربي للشرق، تحت رايات "الاسلام" المزيف.
وإنه لمن العجب، والمخجل، لـ"نظام الانظمة" القطرية العربية، أن دولة كروسيا، بصرف النظر عن نظامها السياسي ـ الاجتماعي، وهي دولة يقل عدد سكانها عن عدد العرب بمقدار النصف او اكثر، وتحتل موقعا طرَفيا بالمقارنة مع الموقع المركزي الحساس للمنطقة العربية، تستطيع ان تكون دولة كبرى يحسب لها الغرب بأسره ألف حساب، في حين أن "نظام الانظمة" القطرية العربية بأسره يحسب ألف حساب لدولة مصطنعة قزم كإسرائيل.
ومثلما استطاعت المقاومة الشعبية للاحتلال الاسرائيلي ان "تحشر في الزاوية" اسرائيل، وأن "تحرج" مختلف الانظمة العربية، فإن حركة التحرير العربية مؤهلة لأن تعمل (على غرار "الوكالة اليهودية العالمية"، ولا بأس من التعلم من العدو، ومواجهته بسلاحه) وكأنهـا "وكالة شعبية عربية دولية"، أو "حكومة كونفدرالية شعبية عربية" غير رسمية، تفرض نفسها على الساحة الدولية، وتحرك وتقود المجتمع المدني العربي بأسره، في جميع الحقول الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية وغيرها، وتجر وراءها الانظمة العربية، وتحولها الى ما يشبه "لجانا تنفيذية".
ـ4ـ ان اليهودية والمسيحية والاسلام، منظورا اليها لا من الجانب الديني، بل من الجانب المجتمعي الحضاري العام، ولدت على الارض العربية، التي ظلت، بالرغم من كل الصراعات المحلية والاقليمية والدولية، تحتضنها إلى اليوم، بكل فئاتها وتناقضاتها وامتداداتها وعلاقاتها الدولية.
كما ان الاقوام والشعوب التي تتكون منها الامة العربية الحديثة، كانت منذ اقدم العصور على علاقة عضوية بـ"العالمين" الهندوسي والبوذي، الذي يشمل "قارتي" الهند والصين والشرق الاقصى كله. كما انها كانت على علاقة ضاربة في عمق التاريخ بافريقيا بأسرها. وهذا ما جعل المنطقة العربية مصدرا للاشعاع، وبوتقة للتفاعل، الحضاريين، على مر التاريخ. وهذا ما يجعل المنطقة العربية، موضوعيا، بوتقة رئيسية لحوار الحضارات، بوصفه مسألة عربية خاصة، بمقدار ما هو مسألة دولية عامة.
وبالمقابل نجد، مثالا: أن زرع اسرائيل القائمة على العنصرية "اليهودية"، والفتنة الطائفية في لبنان، وما اشبه، تحمل بوضوح ماركة "صنع في الغرب". وأن تمزيق الهند فور استقلالها، كان "مأثرة" انكليزية، تابعها الاميركيون. وأن تدمير تماثيل بوذا الاثرية في افغانستان ساعد على تشويه وجه الاسلام، ومحاولة تأجيج صراع اسلامي ـ بوذي، انطلاقا من كشمير، وهو ما تظهر فيه بوضوح بصمات المخابرات المركزية الاميركية؛ واذا لم يكن هذا العمل "من صنع اميركا" فإنه قد صب في مصلحة الامبريالية الاميركية وعملائها الفطنين وأدواتها العمياء، الذين عششوا في اميركا والسعودية وباكستان، وفرخوا في ضحيتهم المغتصبة افغانستان. وهذه "الانجازات" هي بعض معالم فقط، من "صراع الحضارات"، الذي يبشر به أنبياء "النظام العالمي الجديد".
والقومية العربية هي المؤهلة اليوم موضوعيا، أكثر من أي قومية اخرى، للتلاقي مع القوى الخيرة المناهضة للعنصرية والهمجية والتمييز الديني والاتني والقومي في العالم بأسره، وتأليبها جميعا لهزيمة منطق "صراع الحضارات" العنصري الامبريالي، وللاضطلاع بدور البوتقة العالمية الرئيسية لـ"حوار وتفاعل الحضارات"، بوصفه مسألة عربية "داخلية" خاصة، بمقدار ما هو مسألة دولية عامة. والمسؤولية الرئيسية في هذه المهمة التاريخية تقع على عاتق حركة التحرير العربية، العدو الاول في العالم للهيمنة الامبريالية الصهيونية.
ـ5ـ ان الصراع العربي ـ الاسرائيلي، يرتبط بشكل عضوي بالصراع ضد آلية الهيمنة الامبريالية العالمية، التي تعتبر الطغمة المالية اليهودية العالمية نواتها الرئيسية، كما تعتبر الصهيونية واسرائيل أداتها الرئيسية، سياسيا وعسكريا. وهذا ما يعطي القضية الفلسطينية العربية بعدا دوليا مباشرا، يهم جميع الشعوب، بمن فيهم اليهود الشرفاء أنفسهم، لا تمتلكه أية قضية قومية اخرى.
فأي شعب آخر في العالم، كبيرا او صغيرا، كان يمكنه، أو هو بامكانه، ان يتحرر من الاحتلال والاستعمار، مثلما من الامبريالية والصهيونية، على قاعدة النضال التحرري الوطني، القومي، الديني، الخ، دون أن يعني ذلك القضاء على الامبريالية، وبالتالي الصهيونية، في البلدان الاخرى، وبالاخص في بلدانها الأم (المتروبولات الامبريالية).
ولكن تجربة الكفاح التحرري العربي ضد الامبريالية والصهيونية، وأيا كانت الرايات الوطنية والقومية والايديولوجية والدينية لهذا الكفاح، تثبت بشكل متزايد الوضوح أن الامة العربية لن تستطيع ان تتحرر نهائيا من الامبريالية والصهيونية (بما فيها الظاهرة السرطانية، العنصرية ـ الاستعمارية، المسماة اسرائيل)، الا بالقضاء التام والنهائي على الامبريالية والصهيونية كظاهرة عالمية، وفي "عقر دارها" ومقارّها المركزية ومتروبولاتها بالذات.
وهذا يعني:
اولا ـ ان العرب "لا يستطيعون"، إلا ضد قضيتهم ذاتها، أن يكونوا عنصريين ومتعصبين، قوميا ودينيا ومذهبيا الخ.
وثانيا ـ انه، لأجل تحقيق الانتصار والتحرر النهائي، يتوجب على جميع فصائل حركة التحرير العربية وجماهيرها، من اية اتجاهات سياسية وايديولوجية ودينية كانت، أن تكون أممية، ومنفتحة حيال جميع الشعوب والقوى الصديقة الاخرى، بجميع الابعاد القومية والدينية والحضارية، بما في ذلك القوى التقدمية والشرائح والطبقات الشعبية المستغلة والمظلومة، في البلدان الامبريالية ذاتها، لتأليبها جميعا ضد العدو المشترك.
المسألة اليهودية
وفي هذا الصدد نشير بالاخص الى انه، في مجرى الصراع التاريخي العالمي الذي تخوضه الامة العربية، جرى استخدام "المسألة اليهودية" لتعبئة اليهود المضللين، ضحايا النازية والعنصرية الامبريالية، ضد مصلحتهم ذاتها اولا، وضد الفلسطينيين والعرب ثانيا، وضد جميع الشعوب ضحية الهيمنة الامبريالية العالمية ثالثا.
ولـ"سوء حظ" الامبريالية والصهيونية، أن الحل الرئيسي لـ"المسألة اليهودية" ذاتها، ومن ثم تحرير اليهود أنفسهم من عقدتي "التفوق" و"الغيتو"، سيكون على يد حركة التحرير العربية، عبر الانتصار على الامبريالية والعنصرية الصهيونية، تماما كما كان انتصار حركة التحرير الوطني في افريقيا الجنوبية شرطا لتحرير البيض المضللين انفسهم من عقدة "التفوق العنصري" و"الابارتيد". وبكلمات اخرى فهذا يعني ان الانتصار على اسرائيل، والقضاء عليها كدول عنصرية يهودية هو الطريق الوحيد لتحرير اليهود المضللين من الصهيونية، وبمقدار ما يساهم اليهود انفسهم في الانفكاك عن دولة اسرائيل والقضاء عليها، بقدر ما يعجلون في تحرير انفسهم من العزلة والعبودية للامبريالية والصهيونية.
ـ6ـ انطلاقا من عدالة القضية العربية، وبسبب التكوين الحضاري اللاعنصري للامة العربية، فهي لها اعتبارها الخاص لدى الاوساط التقدمية والمثقفة غير المتعصبة في جميع البلدان المتحضرة، وخصوصا في البلدان "الاشتراكية" الحالية والسابقة. وهي في الوقت نفسه تمتلك رصيدا معنويا خاصا في القارة الافريقية، وجميع البلدان الآسيوية والاميركية اللاتينية الفقيرة والنامية. وبحكم الروابط التاريخية والمعتقدات المشتركة، يمتلك العرب ايضا مدى حضاريا عالميا خاصا كبيرا، يتمثل في البلدان الاسلامية، التي هي بشكل عام تنتمي إلى العالم الثالث المظلوم، ضحية الهيمنة الامبريالية الغربية.
وهذه المميزات القـَبْـلية بالغة الاهمية، توفر لـ"الكلمة" العربية امكانيات تأثير هائلة، على النطاق العالمي بأسره.
ـ7ـ ان الانتشار العربي في ما يسمى "العالم الأول" وبالتحديد في اميركا الشمالية واوروبا الغربية، يبلغ الملايين من "المغتربين" و"اللاجئين"، غالبيتهم الساحقة هي من العمال، بمن فيهم اصحاب المهن الحرة و"الادمغة المستوردة". وهذه الجالية هي جزء وحسب من الجالية "الشرقية" المهاجرة الى "جنة الرأسمال" الغربية.
واذا كانت فيما مضى الميزة الاولى للامبريالية، المرحلة الاعلى للرأسمالية في عصر الاستعمار، هي "تصدير الرساميل" من "المركز" الى "الاطراف"، فعلى ما يبدو أن الميزة الاولى لـ"الأولترا ـ امبريالية" الحالية، التي يمكن اعتبارها المرحلة الاعلى للامبريالية في عصر "العولمة"، هي "استيراد اليد العاملة والادمغة الرخيصة"، من "اطراف" العالم الى "المركز" الامبريالي. (أي أننا امام "نسخة جديدة"، "متحضرة"، من "استيراد" "العبيد" الافارقة لبناء "العالم الجديد").
وهذه الظاهرة هي موضوعية، وعلى ازدياد، لأنها ترتبط لا بمرحلة منتهية من مراحل بناء "العالم الجديد"، الاميركي، او اي "عالم جديد" آخر ليس موجودا، بل هي ترتبط بضرورة ضخ مستمر لدماء جديدة "رخيصة" في جسد الرأسمالية الشائخ، في ظروف ازمتها الاقتصادية العامة، العالمية والمستمرة، وما ينتج عنها من الصراع الضاري بين الاحتكارات، لاجل السيطرة على الاسواق السلعية والمالية وعلى مصادر الخامات، ولأجل تخفيض قيمة الخامات واسعارها الفعلية، و"تخفيض كلفة" السلع والخدمات، اي تخفيض الاجور والتضخم وزيادة الاسعار.
وفي هذه الظاهرة (اي ظاهرة استيراد اليد العاملة والادمغة الرخيصة الى "المراكز" الرأسمالية) يكمن "مقتل" خطير لـ"اولترا ـ امبريالية" في عصر العولمة، لأن هذه الظاهرة تزعزع الاساس الاجتماعي ـ العالمي للاستغلال الاقتصادي للرأسمالية "المعولمة"، بتعرية لاإنسانيته "غير المباشرة"، المتمثلة في طابعه "الاصلي": الطبقي، وكشف طابعه اللاإنساني "المباشر"، الذي يتمثل في التمييز العنصري، القومي والديني، حيال اليد العاملة والادمغة "المستوردة"، على غرار ما كان الامر خلال "صيد العبيد" الى اميركا، ولا يزال يعبر عن نفسه بالتمييز العنصري ـ الطبقي المركب ضد الاميركيين السود والملونين. اي ان "الاستغلال الطبقي" "يندمج" و"يتجسد" في التمييز العنصري، بحيث يصبح الرأسمالي،مثلا، اميركيا واوروبيا ويهوديا "ابيض"، ويصبح صاحب العمل المأجور "اسود" او "ملونا". الامر الذي يعطي الاستغلال الطبقي والتمييز العنصري، المدموجين معا، طابعا انفجاريا مضاعفا.
ووجود جاليات العمالة الرخيصة المستوردة اصبح يمثل اليوم "قنبلة" هائلة موقوتة، اجتماعية ـ انسانية، زرعتها الامبريالية بيدها في "عقر دارها"، وهي "قنبلة" يتزايد يوما عن يوم "حجمها" وخطرها، بفعل الحاجة المتزايد للاولترا امبريالية الى اليد العاملة المستوردة الرخيصة، والى الارباح او "تخفيف الخسائر".
وأخذا بالاعتبار الحصة الخاصة بالعرب من هذه "الجالية"، ورصيدهم المعنوي الخاص لدى جميع الشعوب المظلومة الاخرى، التي تتشكل هذه الجاليات من ابنائها؛ واخذا بالاعتبار ان القومية العربية تمثل في عصرنا فصيلة الصدام الطليعية بوجه الامبريالية العالمية، فإن "فتيل" هذه "القنبلة" هو ـ موضوعيا! ـ في يد حركة التحرير العربية، بمجملها، وبمختلف فصائلها.
ـ8ـ بعد انهيار المنظومة السوفياتية، الذي ترافق مع "عرض القوة" في الخليج، الذي قامت به الكتلة الاطلسية بزعامة اميركا، لإرهاب جميع شعوب العالم، مستغلة مغامرة النظام العراقي في الكويت، أطلقت القيادة الاميركية في عهد جورج بوش الاب شعار "النظام العالمي الجديد"، موحية بأن عصر التناقضات الدولية المصيرية قد ولى، وأنه لم تبق سوى بضع "دول عاقـّة" سيتم اخضاعها، كما سيتم السيطرة على "الارهاب الدولي"، خصوصا "الاسلامي". ثم تكرس خط التشدد والتفرد الاميركي ورفع الشعارات المنادية بـ "العصر الاميركي" الجديد، بعد غزو واحتلال افغانستان والعراق في عهد بوش الابن.
وللأسف، أن كثيرا من المثقفين السطحيين، بل ومن "المناضلين الشيوعيين" المزيفين و"التقدميين" الاكثر زيفا، الذين كشفوا عن انتهازيتهم، ووجوههم الحقيقية واقفيتهم، أخذوا يلوحون بشعارات "المحافظين الجدد" اكلة لحوم البشر الاميركيين ويسوّقونها اينما استطاعوا.
ولكن السنوات العشر الماضية، اثبتت بجلاء ان الامبريالية لا تستطيع الغاء التناقضات الاجتماعية والسياسية والقومية، المحلية والاقليمية والدولية، لسبب بسيط هو أنها هي التي تخلقها، وتخلق معها أعداءها، أي اعداء الامبريالية، على مختلف المستويات، وفي جميع الحقول، وفي كل مكان.
وللمثال وحسب، فإن ذلك يتضح في أن الامبريالية فشلت فشلا ذريعا في "ملء الفراغ"، الاقتصادي والسياسي والعسكري، الذي تركه "انهيار الشيوعية!" في المنظومة السوفياتية السابقة. وكانت "المكافأة" على "سقوط الستار الحديدي"، أن سيقت شعوب تلك البلدان، التي يعود لها الفضل الاول في الانتصار على الهتلرية وانقاذ العالم الغربي منها، نحو الافقار والاذلال والتهميش. وها هي الآن تلك الشعوب، وفي طليعتها روسيا، تعود بالتدريج لأخذ موقعها المعادي للغرب الامبريالي، دفاعا عن هوياتها القومية وعن وجودها كمخلوقات بشرية.
وهذه المؤشرات وأمثالها تعني ببساطة، أن حركة التحرير العربية تمتلك موضوعيا جبهة عريضة جدا من الاصدقاء والحلفاء، الثابتين والمؤقتين، من جميع ألوان الطيف السياسي، ومن جميع القوميات، والاعراق، والمعتقدات، والاديان، لا في البلدان النامية والبلدان الاشتراكية السابقة والحالية وحسب، ولا في البلدان الاسلامية وحسب، بل وفي جميع البلدان، بما في ذلك داخل البلدان الامبريالية الرئيسية ومنها اميركا ذاتها.
المعادلة المنحرفة
ان السبب الأهم، في رأينا، لحالة التقهقر والاحباط، التي تواجهها حركة التحرير العربية في المرحلة الراهنة، لا يكمن في قوة الاطراف المعادية، وعلى رأسها الامبريالية الاميركية واسرائيل، بقدر ما يكمن في تشتيت طاقات الامة العربية وإغراق التوجهات القومية للجماهير العربية، في مستنقع القطرية، وذلك بسبب الالتباس بين مظهرين للعروبة:
أ ـ "العروبة" القطرية "الواقعية" او "الملموسة"، المتمثلة اساسا في الدولة القطرية ومصالحها واجهزتها وجيشها وشرطتها الخ، كما في الاحزاب والتنظيمات التي غلبت القطرية في اطارها التنظيمي على "التوجهات" القومية العامة، المفرغة من المدلول العملي.
ب ـ والعروبة بحد ذاتها، او العروبة القومية "التلقائية" "المباشرة" و"المجردة". أي المجردة من الاطر الدولوية والحزبية الخاصة، والتي تحولت الى اداة سياسية في يد مختلف "القطريات" التي تدعي كل منها انها هي التي تمثل "العروبة الحقيقية".
وهكذا اصبحت العروبة "عروبات" اسمية، تختبئ في عباءة كل منها مختلف "القطريات"، اي "اللاعروبة" فعليا.
وقد شمل هذا "الفشل القطري"، فيمن شمل:
ـ الناصرية، التيار التحرري العروبي الذي سبق وحصل على شعبية عربية كاسحة من المحيط الى الخليج، بشكل لم يسبق له مثيل منذ ايام الخلفاء الاوائل. وقد حملت اليه تلك الشعبية الوحدة المصرية ـ السورية على طبق من ذهب. فلم تكد تمر ثلاث سنوات حتى أسقطت تجربة الوحدة القومية الاولى في تاريخنا الحديث. وكان من اهم اسباب إفشالها، تطبيق منطق "الإلحاق" و"الهيمنة" القطريين، برعاية الناصرية وتحت جناحها، أم بغفلة ولامسؤولية منها، وتحويل سوريا الوحدوية الباسلة الى "مزرعة ومسلخ للمخابرات"، وسجن كبير، يتحكم بها المتنفعون والفاسدون وخفافيش الظلام من اجهزة المخابرات المصرية "الشقيقة" وفراخها "البلدية" السورية.
وحتى اليوم يتباهى الناصريون، ولهم الحق، بالانجازات التي حققها عهد عبدالناصر. الا انهم يتناسون مسؤولية النظام المخابراتي الدكتاتوري الناصري عن فشل الوحدة المصرية ـ السورية، ولا يقومون بأي نقد ذاتي تاريخي على هذا الصعيد، ناسين او متناسين ان الناصرية فشلت لا بسبب "نجاحاتها" بل بسبب اخفاقاتها، وبالاخص انهيار الوحدة المصرية ـ السورية على ايدي المخابرات والسياسيين "الناصريين" بالاسم، تلامذة محمد حسنين هيكل بالفعل.
ـ حزب البعث العربي الاشتراكي، احد اهم اركان حركة التحرير العربية، الذي استلم السلطة في بلدين عربيين رئيسيين متجاورين، هما سوريا والعراق، فلم "يكتف" بعدم اقامة اتحاد بينهما، بل زجهما، ولعشرات السنين، في نزاع لم يسبق له مثيل في الماضي، كان له أسوأ النتائج على الاوضاع العربية عامة، وعلى القضية القومية خاصة. كما "تعامل" كل من النظامين الحزبيين في البلدين مع الكويت، ولبنان، بعقلية "الغزو" و"الوصاية" و"البلطجة السياسية"، وهي العقلية التي اسهمت باضعاف مبدأ الأخوة القومية وعمقت النعرات القطرية وعززت الذرائع الامبريالية للتدخل في الشؤون الداخلية للبلدان العربية والعدوان والغزو والاحتلال للعراق.
ـ الحزب الاشتراكي اليمني، الذي قاد تجربة فذة في التاريخ المعاصر، لليمن والخليج وحركة التحرير العربية بأسرها، ولكنه لم "يقصّـر" في استهلاك رصيده التاريخي الباهر، بإغراق البلاد في حمامات الدم "الرفاقية" في "اليمن الجنوبي" سابقا، ثم ـ بعد الوحدة اليمنية ـ الدخول كطرف في حرب الشمال والجنوب، من منطلق الصراع على السلطة والولاءات العشائرية.
كما شمل هذا الفشل، ويا للأسف:
ـ الثورة الفلسطينية التي ـ وحتى قبل ان تصبح "مشروع دولة" ذات "مصالح قطرية" ضيقة، وبالرغم من المركزية القومية للقضية الفلسطينية ـ اضطرت لرفع شعار "استقلالية القرار الوطني الفلسطيني"، لمواجهة محاولات الوصاية "العربية"، فوصلت الى فخ التفرد في"أوسلو"، وانتهت "استقلاليتها" الشكلية الى إقامة "السلطة الوطنية!!!" الفلسطينية، تحت رحمة الاحتلال الاسرائيلي، والى ممارسة نوع من "الآلية الذاتية" لتطبيق الوصاية "العربية" والاسرائيلية على الجماهير والقضية الفلسطينية.
ـ الساحة الوطنية اللبنانية، التي كانت مسرحا للصراع السوري ـ الفلسطيني للوصاية عليها، الذي حسم لمصلحة سوريا. وفي الوقت الحاضر، وبالرغم من الانجاز التاريخي الذي حققته المقاومة الاسلامية بقيادة "حزب الله"، بطرد الاحتلال الاسرائيلي، والصمود البطولي ضد "الجيش الذي لا يقهر" في حرب تموز 2006، والذي جاء تتويجا للنضال الوطني العام في لبنان، فمن الواضح ان المقاومة الاسلامية ذاتها تدخل تحت سقف تفاهم سياسي سوري ـ ايراني لا تستطيع الا "ان تأخذه بعين الاعتبار!". ومن النتائج (السابقة) غير المبررة لهذا التفاهم، أن فصائل المقاومة الوطنية اللبنانية، التي سبقت "حزب الله"، والتي تنتمي للاحزاب غير الدينية، وغير الشيعية بصورة اكثر تحديدا، ومنها احزاب "قومية"، كحزب البعث العربي الاشتراكي (الجناح "السوري") ذاته، والحزب القومي السوري، بالاضافة الى الحزب الشيوعي اللبناني ومنظمة العمل الشيوعي، (وبفعل ايحاءات "عليا" اقليمية ودولية، تمت ترجمتها بضغوطات "ميدانية" خصوصا ضد الشيوعيين)، قد اجبرت او ألزمت او "التزمت ذاتيا" بإخلاء الساحة للمقاومة الاسلامية، لاسباب خارجة تماما عن ضرورات ومقتضيات المقاومة ذاتها. واذا لم يتم، قبل فوات الاوان، تخلي النظام السوري عن التعامل مع الساحة الوطنية اللبنانية بعقلية "الوصاية"، فهذا يعني أن خطأ معاملة لبنان كـ"رهينة" للابتزاز والمساومة، لا يزال قائما، مما يحمل افدح الاخطار على لبنان وسوريا والقضية العربية أجمعين.
وأخيرا لا آخر، فإن من اخطر نتائج هذه المعادلة المعكوسة بين القومية والقطرية، ان مختلف فصائل حركة التحرير العربية اخذت تختلف فيما بينها، واحيانا كثيرة تقف ضد بعضها البعض، من ضمن الانضواء تحت السقف السياسي الذي يفرضه هذا النظام القطري وذاك.
ولا يحتاج الى مناقشة، أنه من المحتم أن تؤخذ بالاعتبار الخصائص القطرية، والتعددية الاتنية والدينية والثقافية والحزبية الخ، في مختلف البلدان العربية، وتنوع اشكال النضال والشعارات والبرامج القطرية الملموسة، وقيام التحالفات الجانبية، ومراعاة الاعتبارات والظروف المرحلية الخ.الخ.
الا انه، ومن اجل تجنب سلبيات القطرية، من جهة، وحماية وترسيخ وتطوير النضالات القطرية، من جهة ثانية، يجب تأطير الاختلافات والتنوعات والخصائص ضمن المفاهيم والاطروحات واشكال النضال القومية العامة، وتوظيفها في المشروع القومي العام، الذي لا يمكن لأي قطر عربي ان يحقق نهضة تحررية وتنموية حقيقية، الا من خلاله.
وهذا ما لم يكن من الممكن، ولا يمكن في اي وقت ان توفره المعادلة المقلوبة الراهنة للعلاقة بين القومية والقطرية، بسبب افتقاد القومية الى "قاعدة" أو "نقطة ارتكاز" خاصة بها، فوق القطريات الواقعية القائمة. في حين أن كل من هذه القطريات، حتى أصغرها وأضعفها، تمتلك ذاتها بذاتها "قاعدتها" القطرية التي تـُخضع لها القومية "المجردة"، و"تفذلكها"حسب مفاهيمها ومصالحها.
فهل يمكن أن توجد، وأين، "قاعدة" او"نقطة ارتكاز" للقومية العربية وحركة التحرير العربية، منزهة عن الأنانية القطرية الضيقة، وتنسجم فيها القضية الوطنية الخاصة، مع القضية القومية العامة.
لقد أثبتت التجربة، خلال المرحلة الماضية التي تمتد حوالي اربعين سنة، وتشمل الفترة الاولى لتكوين "البديل"، أنه لا يوجد الى الآن، في الاطار العربي كله، "منطقة لاقطرية"، أو "قطر وطني ـ قومي" فعليا، (كما كانت فيتنام الشمالية، في حينه، تجاه فيتنام الجنوبية)، يمكن ان يكون "نقطة ارتكاز" او "قاعدة انطلاق" لتطوير بنية قومية ذات قوة تقريرية، لحركة التحرير العربية بمجملها.
فخلال فترة النضال ضد الاحتلال والهيمنة الاستعمارية المباشرة على مجمل المنطقة العربية، كانت العلاقة بين "الوطنية" و"العروبة" علاقة بسيطة مستقيمة، اقرب الى العاطفة واعلان النوايا، لا تخضع، كما أخذت لاحقا، لحساب "الاوضاع الخاصة" و"المصالح القطرية". بل ان تلك الاوضاع والمصالح القطرية ذاتها كانت تدفع كل طرف وطني كي يحاول "جذب" العروبة اقصى ما يستطيع باتجاه دعم قضيته الوطنية، بشكل كانت معه "الحدود" بين "الوطنية" و"العروبة" كانت تبدو "مفتوحة"، بحيث ان كل "وطني" مناضل ضد الانتداب والاحتلال والاستعمار، بل وكل مؤيد للحركة الوطنية في اطارها القطري، يبدو او يحسب بشكل تلقائي "عروبيا".
اما بعد تحقيق الاستقلال السياسي، وترسخ الدول القطرية، واحتواء الاحزاب الوطنية و"القومية" ضمن اطارها و"مشاغلها" و"مصالحها"، فقد انعكست المعادلة، واصبح كل طرف قطري ينظر الى العلاقة القومية من منظاره، وتحت سقفه القطري الخاص.
وبفعل الارتباط القطري لكل حركة او تنظيم او نظام وطني، فإن القناعات والمواقف القومية "المجردة"، اصبحت رهينة للنزعات الوطنية ـ القطرية، وتخضع بالتالي للسقف القطري "الواقعي". فنشأت من ذلك حلقة مفرغة لمعادلة علاقة قطرية ـ قومية مقلوبة، غير متوازنة، في أحسن الحالات، ومعكوسة تماما، في أسوأها. وهذه الحلقة المفرغة تكمن في أساس غالبية المشكلات القطرية الداخلية العربية، وجميع المشكلات، الى درجة الحروب، العربية ـ العربية.
والصفة "العربية" للانظمة القطرية خلقت نوعا من الالتباس والتلبيس في معادلة العلاقة القطرية ـ القومية. وهذا ما فسح المجال للتجاوزات القطرية، ولفرض السقف القطري للمواجهة مع العدو، ومن ثم المهادنة، والمساومة، والتحالف، والتطبيع، الخ، مع الامبريالية والصهيونية، باسم "الوطنية" تارة و"القومية" المنتحلة تارة اخرى. والمسرح العربي مليء بهذه المهازل المأساوية، ومنها حرب الخليج الثانية و"عاصفتها"، التي غنى فيها مختلف الانظمة القطرية مواويل "وطنيته" الخاصة و"قوميته!" و"عروبته!" الخاصة.
والسبب الرئيسي لهذا "الانحراف"، او "نقص المناعة" القومية، هو:
اولا ـ سبب ذاتي، يعود، عموما، الى التخلف الفكري والسياسي، الآيل الى غرق الاطراف الوطنية الفاعلة في الخصوصيات القطرية، وعدم قدرتها على الربط بينها وبين الخط القومي العام. ويعود، خصوصا، الى إغراءات السلطة الدولوية والحزبية، التي فشل ذلك التخلف في الصمود امامها.
وثانيا ـ سبب موضوعي، يعود الى التعقيد والتفاوت الشديدين في التركيبة القومية للامة العربية، كما في الاوضاع السياسية والاقتصادية لمختلف اصقاع المنطقة العربية مترامية الاطراف، بالمقارنة، مثلا، مع البساطة النسبية الكبيرة للتركيبة القومية والاوضاع السياسية السابقة في الفيتنام.
والتنوع والتفاوت الشديدين، سياسيا ودينيا واتنيا واقتصاديا، بين مختلف الاصقاع والاقطار العربية، وداخل كل قطر بعينه، (بالمقارنة مع البساطة النسبية للتركيبة القومية الفيتنامية، كما اسلفنا)، يجعل مسألة الوحدة القومية والجغرافية والسياسية العربية، اكثر الحاحا وضرورة بكثير جدا من الفيتنام وغير الفيتنام. ولكننا نجد ان ما يحدث هو العكس تماما، اي ان التنوع والتفاوت يدفع الى التباعد اكثر مما يدفع الى التقارب والتعاون، كي لا نقول "الاتحاد" او "الوحدة". وحتى لو اخذنا بعض المعايير الاقتصادية "البسيطة"، فإننا نجد ان بعض الاقطار العربية تفتح اسواقها للمنتجات الزراعية والحرفية والصناعية الاميركية والكندية والاوروبية والاوسترالية مثلا، اكثر مما للمنتجات المماثلة من البلدان العربية "الشقيقة" حتى حينما تكون افضل وارخص و"اقرب" من السلع الاجنبية، كما نجد ان اليد العاملة الاجنبية تـُستقبل في بعض البلدان العربية الاغنى اكثر من اليد العاملة العربية، وكذلك الامر بالنسبة للاختصاصيين والمهندسين من مختلف الفئات، بينما يضطر عشرات الاف الخريجين الجامعيين العرب الى معاناة البطالة والهجرة للعمل في البلدان الاجنبية.
وسيمر وقت، طويل جدا او أقل طولا، قبل ان تستطيع احدى او بعض الدول العربية الحالية ان "تعلو" على قطرياتها الضيقة، نحو تشكيل دولة منزهة العروبة، او دولة عربية موحدة او اتحادية، دمقراطية شعبية فعلا، تكون قادرة على ان تضطلع بدور "قاعدة قومية"، وأن تجتذب اليها الشعوب العربية "الشقيقة"، و"تساعد" الدول العربية الاخرى، على تجاوز "القطرية" العملية الضيقة، بقوة "المثال القومي" العملي ايضا الذي تقدمه تلك "الدولة العربية المتحدة" .
وحتذاك فإن "المشروع" او الخط القومي، سيبقى محصورا في نطاق "القناعة" او"المواقف" المبدئية والسياسية وحسب.
هل هذا يعني أنه لا، أو لا يمكن أن توجد "قاعدة" او "نقطة ارتكاز" قومية عربية؟
كلا ابدا!
بل هو يعني:
اولا - أنه، قبل استكمال النضج "العملي" القومي لحركة التحرير العربية، لا يوجد، ولا يمكن لأي طرف قطري سلطوي أن يدعي أنه وصي على القضية القومية.
ثانيا – ان "القاعدة" او "نقطة الارتكاز" القومية توجد الى الآن، فقط في نطاق "القناعات" و"المواقف" المبدئية والسياسية وحسب، الخاضعة للمراجعة والتطوير، والتي يتوجب العمل من خلالها لخلق معادلة جديدة لعلاقة قطرية ـ قومية تؤمن:
آ - تحرير الموقف المبدئي القومي من الرضوخ للسقف العملي القطري.
ب - الارتباط الواعي بالواقع القطري الخاص، مأخوذا بعموميته، وتوجيهه وتطويره بوصفه جزءا متصلا، لا منفصلا، من الواقع القومي العام.
الدور القومي ـ الاممي
إن الحلقة المفرغة، وحالة الجمود والاحباط التي تواجهها حركة التحرير العربية في المرحلة الراهنة، انما اخذت تتمحور حول تقاعسها عن الاضطلاع بدورها كقوة قومية ـ أممية.
ففي حين ان الجبهة الامبريالية ـ الصهيونية تخوض معركة، او حربا، عالمية تماما، على جميع الجبهات، وبكل العموميات والتفاصيل، ضد القومية العربية، فإن حركة التحرير العربية ذاتها، ناهيك عن الانظمة العربية، "تكتفي" بخوض معركتها العامة ضد هذا العدو العالمي الشرس، الذي هو أعتى قوة امبريالية في التاريخ، من مستوى ادنى بما لا يقاس مما هي عليه موضوعيا، وهو المستوى القطري المفكك والمنضوي ـ في احسن الحالات ـ تحت سقف اقليمي منخفض، عربي او غير عربي.
والخروج من هذه الحالة السلبية أصبح يكمن، بشكل متزايد الضرورة، في عملية الارتفاع بحركة التحرير العربية الى المستوى القومي ـ الأممي في المواجهة مع الامبريالية والصهيونية. وبالتالي، فإن اضطلاع حركة التحرير العربية بدورها العالمي الحقيقي لم يعد، منذ وقت بعيد، مسألة "ترف فكري ـ سياسي" او مسألة قناعة وإرادة ذاتيتين فقط، بل مسألة حتمية يفرضها العامل الموضوعي نفسه، على كل المستويات "القطرية" و"القومية" و"الاممية".
فإما ان تكون حركة التحرير العربية (من اصغر فصائلها الى اكبرها، ومن كل الاتجاهات السياسية والفكرية والايديولوجية والدينية) حركة "وطنية" "قومية" اممية، تناهض وتصارع التركيبة الامبريالية ـ الصهيونية العالمية على الساحة الدولية بأسرها، او لا تكون.
ولو أجرينا أي تحليل للمعطيات الدولية العامة، والمعطيات القطرية والقومية الخاصة بالأمة العربية، لتبين أنها لا تتيح وحسب، بل تجعل من واجب حركة التحرير العربية الاضطلاع بهذا الدور، القومي ـ الاممي.
وهذا يعني، بشكل عام:
آ - التعاون مع جميع القوى الصديقة والحليفة في العالم، على جميع الأصعدة، ليس فقط "دفاعيا"، في النطاقين العربيين، القطري والقومي، بل و"هجوميا"، في النطاق العالمي بأسره، بما في ذلك داخل البلدان الامبريالية ذاتها.
ب - العمل الواعي، الصادق والدؤوب، لاستقطاب اكبر جبهة عالمية، دفاعا عن القضايا العربية العادلة بوصفها الحلقة المركزية في القضايا العادلة لجميع الشعوب والجماهير المظلومة في العالم.
ج – وللمساهمة الجدية في النجاح في ذلك، ينبغي العمل لدعم جميع القضايا العادلة، وجميع قضايا التقدم والتحرر الانساني، لجميع الشعوب والجماعات الانسانية المناضلة، بحيث تصبح حركة التحرير العربية "الركن الاساسي" في كفاح شعوب العالم ضد الامبريالية والصهيونية والرأسمالية، و"ثاني اثنين" في مساندة ومشاركة كل شعب مناضل، وكل جماعة مناضلة، في أي بلد كان في العالم.
د – الافادة من جميع التحالفات الاممية، وجميع الامكانيات والعلاقات المؤاتية، في مختلف الدول، بهدف اقامة "نقاط ارتكاز" لمختلف فصائل حركة التحرير العربية، بالاشكال المناسبة، في مختلف دول العالم، تخدم النضالات والقضايا العربية، وتعرقل المساومات القطرية الخاصة مع الامبريالية، على حساب القضايا القومية العامة، مما يجعل من الصعب على أي نظام قطري عربي "احتواء" فصائل حركة التحرير العربية وإخضاع القضية القومية لسقفه المنخفض.
ومن شأن الاضطلاع بهذا الدور القومي ـ الاممي المزدوج والمترابط أن يؤمن لحركة التحرير العربية ميزات وامكانيات كبيرة أهمها:
ـ1ـ إضفاء الطابع الدولي المباشر على جميع القضايا العربية، الوطنية القطرية والقومية العامة.
ـ2ـ باتخاذ التوجهات والقضايا الوطنية القطرية والقومية ابعادا اممية، ترتفع تلقائيا فوق المصالح والتوجهات الضيقة، المفصّـلة على قياسات الانظمة القطرية، يتم او على الاقل يسهل عمليا حرمان تلك الانظمة من أي اساس لفرض سقفها "القومي" المنتحل، أو"وطنيتها القطرية" المعادية لـ"الوطنيات القطرية" الاخرى.
ـ3ـ تقوية اواصر التضامن والاتحاد فيما بين مختلف فصائل حركة التحرير العربية، لأن رفع القضايا العربية الى المستوى الأممي، والتعامل مع مختلف القضايا الدولية والاوساط الاجنبية، الصديقة والحليفة وغيرها، سيضع جميع تلك الفصائل في وضع يدفعها دفعا نحو وقف المهاترات، ومعالجة الخلافات بطريقة حوارية، والتفتيش عن نقاط الالتقاء فيما بينها.
ـ4ـ بالاستناد الى المستوى النوعي الارفع، المرتبط بالدور القومي ـ الاممي لحركة التحرير العربية، فإنها تستطيع أن تكشف موضوعيا، مع النقد المباشر وبدونه، تقصير الانظمة القطرية عن القيام بواجباتها حيال القضايا القومية، والقطرية الوطنية، حينما تطرح هذه القضايا عالميا، مع الاصدقاء والحلفاء في مختلف البلدان، خصوصا من قبل الاطراف الوطنية العربية المعارضة لتلك الانظمة. وهذا ما يساعد على كشف "الغطاء الوطني"، الذي يتم استخدامه لتستير وتبرير سياسة القمع وكبت الحريات والفساد، والتفريط بالقضايا القومية والوطنية، ومن ثم توجيه قوة ضاغطة، دولية، عربية، قطرية، ضد الانحرافات السلطوية، في أي نظام قطري عربي. كما يساعد على رفع مستوى الالتزام القومي والوطني، وتفعيل عناصر الاصلاح والدمقراطية والوحدة الوطنية والقومية، داخل جميع البلدان العربية.
ـ5ـ مساعدة الاحزاب والقوى الوطنية الحاكمة، على العودة لاصولها الجماهيرية وأصالتها النضالية، والتحرر النسبي من سلبيات الالتزام بمواقف متطابقة مع "سلطتها" الخاصة، ورؤية وتصويب اخطاء وانحرافات وتقصيرات تلك السلطة، عن طريق التفاعل الالزامي، الايجابي والسلبي، مع القوى العالمية الصديقة والحليفة، و"الاضطرار" الطبيعي لـ"الاستماع" الى آرائها وانتقاداتها. ومن ثم "الاضطرار" الى اقامة العلاقات والحوارات مع مختلف القوى الوطنية العربية، بما فيها المعارضة التي تنتسب الى القطر ذاته، والتي تلتقي مع الاحزاب الحاكمة على القضايا القومية والوطنية العامة، وتختلف معها حول السلطة وأساليب المواجهة مع العدو.
ـ6ـ الرد الدولي على الاستغلال الامبريالي الصهيوني للتجزئة القطرية - الذي يتبدى فيما لا يحصى من المهازل/المآسي العربية، التي كان من أبشعها "المسارات!" العربية المختلفة لحل النزاع مع اسرائيل - بتحريك التناقضات داخل النظام الامبريالي ذاته، بمختلف دوله، وداخل الجماعة اليهودية واسرائيل نفسها. فـ"نظام الانظمة العربية"، الذي غرقت في "خصائصه"، و"لبنه وعسله"، ومفاسده، الطبقات والشرائح الاجتماعية والسياسية والعسكرية العليا، بما فيها تلك التي جاءت الى السلطة على اكتاف الجماهير الوطنية، فحكمت "شعبها" الخاص بالسيف الذي حملته باسمه، - هذا النظام ليس وليد ذاته بذاته، وليس "عربيا" بأصله وفصله، مهما لبس من دشاديش، وحمل من ألقاب "عربية ـ اسلامية" منتحلة ومغتصبة، ورفع من شعارات "قومية" طنانة، وانما قام على قرارات امبريالية دولية للتجزئة القطرية العربية، جرى تنفيذها والمحافظة عليها الى الآن، بمختلف الاشكال، بارادة وقوة "مراكز القرار" الامبريالية العالمية. وبالتالي فهو "لعبة أمم" دولية، لا يتعدى فيها دور "اللاعبين" المحليين سوى التكيف، وتحصيل الفوائد، والثمن: مواصلة تحقيق المؤامرة الدولية لتمزيق القومية العربية.
وبدون التخلي عن مواجهة التجزئة "محليا" وإقليميا، فإن المواجهة الفعالة الحقيقية لهذه المؤامرة، لا يمكن ان تكون الا على المستوى العالمي، بالاستناد الى القوى الاممية الصديقة والحليفة، لكسر شوكة الاوساط الامبريالية والصهيونية العليا، في عقر جحورها التي "تفصّـل" فيها خططها وقراراتها "الجيوبوليتيكية" الدولية، واجبارها على الكف عن التدخل في الشؤون المصيرية للامة العربية.
فإذا ما عولجت علة التجزئة العربية في مصادرها اي في "بيت الداء"، في عقر دار الامبريالية العالمية، تصبح معالجة الأعراض القطرية مسألة ثانوية.
ـ7ـ ان المواجهة العالمية مع الامبريالية، تسهم في تخليص حركة التحرير العربية من الخضوع لسقف أي نظام عربي. وفي الوقت نفسه تتيح لها المناورة والتنسيق، الضمني او المباشر، مع مختلف الانظمة، حينما يكون ذلك مبررا، ضمن ما تسمح به اوضاع وامكانيات تلك الانظمة، بدون احراجها، وبدون الخضوع لها وخفض الرأس تحت سقفها، وبدون التخلي عن جوهر المواجهة العالمية، في آن معا.
ـ8ـ الحد التدريجي من التدخل "المشروع" وغير المشروع للدول الامبريالية في الشؤون العربية، لأن تعاطي حركة التحرير العربية، بمختلف الاشكال المشروعة قانونيا ونضاليا، مع الشؤون الخاصة بتلك الدول، التي تهم العرب مثلما غيرهم من الشعوب، سيدفع تلك الدول الى التفكير مليا حينما تتدخل في شؤون البلدان العربية وغيرها، ولا سيما من موقع العدوان والاستغلال الاحتكاري والنهب الامبريالي.
ـ9ـ الحد من قيام مختلف الانظمة العربية، بتتبيع مختلف التنظيمات والاحزاب المعارضة في البلدان العربية الاخرى، واستخدامها في النزاعات فيما بينها. ذلك ان الارتفاع الى المستوى الدولي يتيح لتلك التنظيمات والاحزاب:
آ - ايجاد مواقع، ومواقف داعمة لها، عربية واقليمية ودولية، عديدة، تحد من حاجتها للاستناد الى النظام المناوئ لنظام بلدها.
ب - "الاستماع المباشر"، من القوى العربية والاجنبية الصديقة والحليفة، الى الانتقادات الموجهة للنظام الذي تنضوي "تحت جناحه"، والعزلة التي ستصيبها اذا لم تأخذ ذلك بالاعتبار.
ج - الاقتناع بضرورة المحافظة على اعتباريتها، واستقلاليتها، عن طريق ابقاء معارضتها ضمن اطارها ومقتضياتها الاصلية، وتجنب الوقوع الذيلي في حبائل خلافات ومطامع الانظمة القطرية.
ـ10ـ أخذا بالاعتبار تجربة الاحزاب الشيوعية، التي كانت تحصل على دعم الدول الاشتراكية ولا سيما الاتحاد السوفياتي (سابقا)، وتجربة التنظيمات الاسلامية المجاهدة، التي تحصل على دعم بعض الدول الاسلامية (حاليا)، وهو – مع كل ايجابياته التي لا تخضع للنقاش - ما كان ولا يزال يحمل في طياته خطر الوقوع في نوع من نقص الاستقلالية، والتبعية، حيال البلدان الداعمة، فإن الاضطلاع بالدور القومي ـ الاممي يعطي فصائل حركة التحرير العربية الحصانة الضرورية على هذا الصعيد. ذلك أن تعامل التنظيمات والاحزاب المعنية، مع القضايا الخاصة بأنظمة البلدان الداعمة، ومناقشتها ونقدها وتأييدها ومعارضتها الخ، بحرية، يجعل العلاقة بين الطرفين علاقة متكافئة، ينتفي منها عنصر التبعية والمسايرة، التي قد تجر الى خلافات داخل صفوف حركة التحرير العربية ذاتها. وحتى اذا لم يكن بامكان التنظيمات الحاصلة على الدعم ان تقيم علاقات متكافئة واضحة مع الدولة الداعمة، وكانت مضطرة لمسايرتها، فإن التفاهم والتحالف بين هذه التنظيمات، وبين الفصائل الاخرى لحركة التحرير العربية، يمكن ان يوصل الى النتيجة ذاتها تقريبا، لأن "المسايرة" لا تنطبق على الجميع، وتتحول "المسايرة" الى نوع من "المناورة" الموضوعية و"التنسيق" الضمني فيما بين الاطراف الحاصلة على الدعم، والاطراف القائمة بالنقد الموضوعي لأنظمة الدول الداعمة، فتتحقق – في الحساب العربي العام ـ الفائدتين: الحصول على الدعم الضروري، وفي الوقت ذاته اقامة العلاقة الندية المتكافئة بين حركة التحرير العربية ككل والدول الداعمة.
ضرورة لا بد منها
ولكن ما هي المواقف والخطوات السياسية، والتنظيمية، والنضالية، التي تفترض الاوضاع والمعطيات القطرية والقومية والدولية وعيها، ومباشرة القيام بها، من قبل مختلف فصائل حركة التحرير العربية، في مرحلة تطورها الجديدة، التي يحتمها تحدي العالمية، وضرورة الارتفاع الى المستوى القومي ـ الاممي؟
ان أي من التنظيمات والانظمة الوطنية القائمة، وأي من الايديولوجيات الكلاسيكية، الاجتماعية والدينية، لا تمتلك مسبقا الجواب. وبالتالي لا يوجد طرف يمكن له ان يصدر وصفات جاهزة لحركة التحرير العربية، خصوصا في هذه المرحلة المفصلية الهامة.
ولكن هذا لا يعني ترك الأمور للعفوية، والتخلي عن المسؤولية التاريخية. بل على العكس، يعني مضاعفة مسؤولية الكوادر والقوى العربية الطليعية الملتزمة، التي تدرك اهمية تطوير رؤية، وعلاقات، وممارسة، اكثر تقدما، واكثر شمولية، واكثر إقداما، لحركة التحرير العربية، ورفع مستوى دورها القومي والاممي، من خلال مختلف الأطر والاوضاع والخصوصيات.
وبالاستناد الى هذه الارضية العامة، فإن كل مبادرة في هذا الاتجاه، ستسهم في التقريب من الهدف. ومع ذلك ينبغي ايجاد نقطة ما، تكون بمثابة حلقة مركزية، تشد بقية حلقات السلسلة.
وفي رأينا المتواضع، أن الحياة السياسية العربية، بما تتصف به من "حيرة" وتفكك عرضي، وغير ذلك من علامات المخاض الجديد، تعطي الجواب عما يمكن أن تكونه هذه الحلقة المركزية حاليا. فمن خلال الواقع تبرز، بإلحاح متزايد يوما عن يوم، ضرورة لا بد منها، لإنشاء مركز اعلامي، فكري جامع، عربي ـ أممي، باللغة العربية، ومن ثم باللغات العالمية الرئيسية وما هو ضروري من اللغات الاخرى. ويضطلع هذا المركز بدور منبر عام، وبوتقة دراسة وتحليل واستشراف، ومناقشة ونقد وحوار، ويشارك فيه المثقفون والمناضلون الطليعيون والمجربون، من مختلف التنظيمات والاحزاب والاتجاهات، ومن مختلف البلدان العربية والاجنبية، فيكون بمثابة بوتقة للتفاعل وبوصلة للتحول وتكوين "البديل الجديد"، ويقوم بدور رئيسي في اعادة تشكيل الوعي الذاتي لحركة التحرير العربية، فيعبـّر عن واقعها الموضوعي، ويسهم في تسليط الضوء على مهماتها الوطنية والقومية والاممية.
ومثل هذا المنبر يمكنه أن يساعد في تحقيق الضرورات التالية:
آ - التعرف الفكري والسياسي المتبادل، بين مختلف فصائل حركة التحرير العربية، وبينها وبين مختلف الاوساط التقدمية والمناضلة في العالم.
ب – بلورة تيار طليعي، في جميع فصائل حركة التحرير العربية، والمساهمة في بلورة التيار الطليعي العالمي.
ج – وضع الاسس الفكرية ـ السياسية لإقامة العلاقات والتنسيق بين الفصائل الطليعية العربية والاجنبية.
ومن اهم المحاور التي ينبغي على هذا المنبر ان يعنى بها:
ـ1ـ الموقع والدور العالمي، التاريخي والمعاصر، للقومية العربية.
ـ2ـ القضايا القومية العربية عامة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، بالاضافة الى القضايا الرئيسية لجميع الاقطار العربية.
ـ3ـ قضايا التيارات والتنظيمات الرئيسية في حركة التحرير العربية: الشيوعية والاشتراكية، الوطنية والقومية، الاسلامية والدينية، الدمقراطية والليبيرالية.
ـ4ـ تجربة الثورات التحررية، وأنظمة الحكم في البلدان العربية بعد الاستقلال، ولا سيما تجربة الانظمة "الوطنية" بكل سلبياتها وايجابياتها.
ـ5ـ تجربة الثورات والانظمة الوطنية والاشتراكية في العالم، والدروس المستخلصة من الاخطاء والانحرافات والنكسات، وخصوصا قيام وانهيار المنظومة السوفياتية، التي هي اهم محاولة تغيير اجتماعي في التاريخ المعاصر، والتجربة الصينية والهندو ـ صينية.
ـ6ـ قضايا افريقيا، البلدان الاسلامية، الهند والشرق الاقصى، واميركا اللاتينية.
ـ7ـ المحوران الاميركي والاوروبي الغربي.
ـ8ـ المشكلات العالمية الرئيسية: الحروب، سباق التسلح، الاقتصاد، البيئة، المافيا الدولية و"أممية الفساد"، الحريات الدمقراطية، حقوق الانسان والامم الخ.
ووجود شبكة الانترنت العالمية يحل، مرة واحدة، مشكلة التحرير الجماعي، والمشاركة التحريرية، والترجمة، والتواصل والاتصال والنشر، بالسرعة المطلوبة، وبأقل كلفة "طباعية" وتوزيعية ممكنة، وفيما يتجاوز كل الحدود وكل الرقابات القائمة والمفترضة.
ختاما، تبقى ملاحظة مهمة وهي: إن الكوادر العربية المثقفة والمناضلة، المجربة، التي تسترشد بالفكر العلمي التقدمي، والفكر القومي التقدمي، والفكر الديني المستنير، وتدرك على هذا الاساس القضية القومية العربية، ببعديها التاريخي والاممي، هي المؤهلة قبل غيرها للقيام بهذه المبادرة، لما تمتلكه من فهم موضوعي لمواقف مختلف الاتجاهات الفكرية والسياسية، ومن علاقات مع مختلف الاوساط الطامحة الى التحرر والتقدم، عربيا وعالميا.
فهل تبادر أوساط هذه الكوادر الى تحقيق هذه "العروة الوثقى" الجديدة، العربية ـ الاممية، التي تبدو بمثابة خطوة لا بد منها الى الامام، على طريق الارتفاع بحركة التحرير العربية الى مستوى دورها العالمي العتيد؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتب لبناني مستقل



#جورج_حداد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الوجه البشع لاميركا
- الازمة الاقتصادية العالمية والظلال القاتمة للحرب الباردة
- اليوضاسية
- -الدبلوماسية السرية- ...في العمل
- الكارثة اليابانية: أبعد من حدث بيئوي
- الصين الشعبية تحضر للرد بضربة عسكرية كاسحة للولايات المتحدة ...
- الحرب الباردة، في طبعة جديدة ... صينية
- التنين الصيني حينما يتحول الى يوان رخيص
- الافلاس الفضيحة لليبيرالية الغربية وأذنابها في البلاد العرب ...
- لبنان الوطني المقاوم في مواجهة مؤامرة التعريب والتدويل
- أميركا و-عقدة فيتنام-!
- ميلاد السيد المسيح: المنعطف التاريخي نحو تشكيل الامة العربية
- كوريا الشمالية: العقدة العصيّة في المنشار الاميركي
- إشكاليات المسألة الاميركية امام محكمة التاريخ
- اوروبا تتجه نحو التمرد
- الازمة الرأسمالية العامة لاميركا والزلزال -الافيوني الالكتر ...
- الامبريالية والشعب الاميركيان
- التبدلات الديموغرافية ومضاعفاتها المرتقبة في اميركا
- الامبريالية والعنف
- الهيمنة العالمية لاميركا: بداية النهاية..


المزيد.....




- لماذا تهدد الضربة الإسرائيلية داخل إيران بدفع الشرق الأوسط إ ...
- تحديث مباشر.. إسرائيل تنفذ ضربة ضد إيران
- السعودية.. مدير الهيئة السابق في مكة يذكّر بحديث -لا يصح مرف ...
- توقيت الضربة الإسرائيلية ضد إيران بعد ساعات على تصريحات وزير ...
- بلدات شمال شرق نيجيريا تشكل وحدات حماية من الأهالي ضد العصاب ...
- أنباء عن -هجوم إسرائيلي محدود- على أهداف في العمق الإيراني و ...
- قنوات تلفزيونية تتحدث عن طبيعة دور الولايات المتحدة بالهجوم ...
- مقطع فيديو يوثق حال القاعدة الجوية والمنشأة النووية في أصفها ...
- الدفاع الروسية: تدمير 3 صواريخ ATACMS وعدد من القذائف والمسي ...
- ممثل البيت الأبيض يناقش مع شميغال ضرورة الإصلاحات في أوكراني ...


المزيد.....

- النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف ... / زهير الخويلدي
- قضايا جيوستراتيجية / مرزوق الحلالي
- ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال ... / حسين عجيب
- الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر ) / حسين عجيب
- التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي ... / محمود الصباغ
- هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل / حسين عجيب
- الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر / أيمن زهري
- المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع / عادل عبدالله
- الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية / زهير الخويلدي
- ما المقصود بفلسفة الذهن؟ / زهير الخويلدي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - جورج حداد - حركة التحرير العربية: سيرورة التحول وتحدي العالمية