أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - سلام عبود - المثقف الشيوعي تحت ظلال الاحتلال (الجزء الخامس)















المزيد.....


المثقف الشيوعي تحت ظلال الاحتلال (الجزء الخامس)


سلام عبود

الحوار المتمدن-العدد: 3348 - 2011 / 4 / 27 - 21:33
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


5- تسويق الاحتلال ثقافيا: أفغنة الوعي

ثامنا، احتفظ الاتجاه الحاكم بسيطرته على أجهزة الإعلام المركزية الحكومية: قناة العراقية، والبث الإذاعي الرسمي، صحيفة الصباح، التوجيه العسكري والدعاية، دائرة الشؤون الثقافية (النشر والمطبوعات الحكومية)، هيئة الاتصالات و شبكة الإعلام العراقي بالتقاسم مع القيادات الكردية. خلال هذه الفترة بدأت القوى الإسلامية توسع دائرة نشاطها الثقافي وتعمل للارتقاء به، لكي يكون رديفا للسلطة السياسية. يقول حميد المختار (الصباح 12نيسان 2011 ) لمناسبة صدور مجلة (قراءات):
"جميلة هي النهضة الثقافية والأجمل منها أن تؤطر باطار ثقافي إسلامي يتطلع نحو المزيد لو توفرت الامكانيات التي تدعمه وتعطيه زخماً ... إنها تجربة يخوضها المثقف الاسلامي على مستوى اخراج مطبوع ثقافي، نعم للمثقف الإسلامي مشاركاته الفردية والاستثنائية التي تشهد بقدرته على خوض السباق، بل والفوز فيه احياناً.. فهل ستنجح التجربة..؟ وإنما أعتقد انها تنجح لو صدقت النيات اولاً وهي صادقة بوضوح من خلال هذا المحتوى الثقافي المتنوع ومن خلال مد اليد الى الآخر ثانياً والتعاون معه على بناء ثقافة وطنية رصينة بعيدة عن الهيمنات والالغاءات واقصاء الآخر عن فسحة الحوار المثمر" ويؤكد المختار " ان المثقف الاسلامي بحاجة ماسة وان يكن صاحب سلطة وهدف لكن يبقى بحاجة ماسة الى الآخر المهم في هذه الثقافة"
إن خرافة احتراف الثقافة، التي يعيش عليها الشيوعيون، لم تكن أكثر من وهم مؤقت عاشوه هم وحدهم، ويدركون الآن حجم ما يحمله من فراغ في المحتوى أكثر من غيرهم؛ لكنهم ارتضوا أن يعيشوه بعمق ومتعة، كحلم لذيذ، ولو لفترة وجيزة. فبعد مرحلة قيادة الإعلام بدأ الشيوعيون يفقدون المواقع الممنوحة أو المعارة لهم واحدا بعد الآخر. ولم يتبق لهم سوى موقع واحد مهزوز هو اتحاد الأدباء، الذي وجد أعضاؤه أنفسهم محاصرين في سجنه، الخالي أصلا من نوافذ قومية أو وطنية حقيقية، ومن نوافذ تشرف على مثقف الخارج، وبشكل خاص على المثقف المعادي للاحتلال، والتيارات الديموقراطية المستقلة، التي لم تتلوث بثقافة البعث وأدب الحرب والتعبئة الطائفية والعرقية.
كان فقدان الأرض الثقافية من قبل الشيوعيين مقرونا ومرتبطا ارتباطا جذريا وحسيا بانتفاء الحاجة الى الخدمات الإعلامية الدعائية المؤقتة. فقد وجد القادة الكرد الحاكمون أن ورقة كركوك، التي عهدوا بها الى الشيوعيين، لم تعد مثمرة في ظل إدارة شيوعية مقصوصة الأجنحة سياسيا وثقافيا واجتماعيا، وأن المهمة الوحيد المتبقية للشيوعيين هي الدفاع المجاّني عن مطالب القادة الكرد العرقية، في هيئة نشاطات وأعمال فردية، أو في هيئة مؤسسات مثل المدى، أو في هيئة تجمعات معادية للهوية الوطنية العراقية، مثل " التجمع العربي لنصرة القضية الكردية "، برآسة: كاظم حبيب ، زهير كاظم عبود، جاسم المطــير، أحمد ابو مطر، عباس العلوي. كما أعلنوا في بيان تأسيسهم.
وقد لعب هذا التجمع دورا ثقافيا تخريبيا كبيرا، لم يتوقف على تأييد عمليات الإلحاق العرقية، بل صعد صوته في كل النزاعات السياسية الدائرة في المجتمع أو بين أطراف السلطة وفي أروقة مجلس النواب، ووصل في بعض الأحيان الى حد التلويح بالعنف ضد الآخرين. ففي الخامس عشر من نيسان 2007 نشرت مواقع الانترنيت بيانا بعنوان " الى الديمقراطيين حول مشكلة كركوك"، رافقته حملة جمع تواقيع وسعار إعلامي محموم، أكدّوا فيه على وجود "مؤامرة كبيرة" تحاك ضد المدينة، وأن التأخير في تنفيذ إلحاق كركوك بالإدارة الكردية " سيخلق ظروفا معقدة وقد تؤدي إلى نتائج كارثية على عكس ما تروج لها الدوائر الشوفينية والإقليمية"، وتوعدوا الشعب العراقي بأنهم على أهبة الاستعداد لرد " الكيد الى النحر".
لم يتوقف الانهيارعند هذا الحد، فقد وجدت (القائمة العراقية) أنها لم تعد تفيد كثيرا من الوجود الشيوعي في داخلها، ليس لضعفهم فحسب، بل لأنهم أيضا ما عادوا ينفعون كورقة إضافية، وأن صلاحيات عملهم، كداعم إعلامي رئيسي لكل ما هو معاد للوطنية العراقية، مثل تزكية المطالب العرقية الكردية، وترويج سياسة قوات الاحتلال، وشعارات العداء للثقافة العربية المرفوعة الى أعلى السقوف، لم تعد نافعة في مرحلة تعدّ فيها القوى السياسية العراقبة نفسها لاستقبال معضلات ما بعد الانسحاب الظاهري، المبطن، للقوات العسكرية المحتلة، مع بروز حاجة قوية الى العودة الى المحيط العربي.
وحتى على مستوى العمل الثقافي الدعائي فإن القائمة العراقية وجدت أن الفتات الذي منح للشيوعيين لم يعد يتناسب مع ما يمكن أخذه منهم تحالفيا، فراحت تسحب البساط من تحت أقدامهم، بقطع الطريق عليهم حكوميا وحزبيا ، سواء بإغلاق منافذ تسربهم الى الحياة السياسية والثقافية، أو من طريق استعادة العناصر الشيوعية التي سميت في مرحلة المعارضة بـ "الساقطة"، التي تعاملت مع البعث إبان حكم الديكتاتورية، والتي ظهرت إبان الاحتلال حليفا للمحتل بوجوه وأزياء شيوعية. فقد بدأت هذه العناصر بالتساقط مجددا في أيدي مؤسسة الدولة، أو العودة الى منابعها التقليدية.

مجلس ثقافي للدعاية الحربية
في ظل هذا المناخ، وبعد سقوط ورقتي البزاز والعلوي، وتأرجح مواقع الشيوعيين، وجدت القوة المسيّرة للإعلام العراقي والمتحكمة بمراكزه ومصادر تمويله، أن إعادة التوازن مجددا أمر ضروري، لغرض السيطرة بقوة على مناخ الثقافة، فظهرت الى الوجود دعوة جديدة لا تشبه سابقاتها (العلوي البزاز) في تعجلها وتفاؤلها واستسهالها حصد النتائج. ظهرت الدعوة هذه المرة وهي تحمل في ملامحها الخارجية علامات النجاح المؤكد. فهي تجمع بين الداخل والخارج، بين الشيوعيين والبعثيين السابقين وأبرز كتاب التعبئة الحربية في زمن القادسية وأم المعارك، وتضم أسماء بارزة في اتحاد الأدباء والحكومة والمؤسسات الثقافية، وفوق هذا كله تملك دعما ماليا مسيلا للعاب المتعطشين الى الدعوات والسفرات والترفيه المجاني، والمتعطشين الى الظهور على الواجهات أيضا.
وفي الجانب السياسي الوطني، إذا كانت دعوة البزاز قد أشارت خجلا الى "القوات الأجنبية"، ودعوة (الأمانة العامة لرابطة الكتاب والمثقفين العراقيين) في نيسان 2003 الى "السيادة" من دون أن توضح طبيعة هذه السيادة، فإن الدعوة الجديدة ألغت تماما، في بيانها، أي أثر للاحتلال أو السيادة أو القوات الأجنبية. أي إنها كانت- في تقدير منظريها- خاتمة تدرجيّة في مجال القضم المنهاجي لفكرة معارضة للاحتلال لفظيا. كانت تلك الإشارة البليغة القاسم المشترك لمن هبّوا الى تلبية الدعوة، التي جمعت، كما زعم منظموها، أربعمئة مدعو، بينهم كتاب وفنانون وإعلاميون ووزراء. رُبطت الدعوة باسم له دلالات خاصة جدا، يجمع بين الماضي البعثي والحاضر الأميركي، بين التجارة والسياسة في وحدة متينة اسمها إبراهيم الزبيدي.
والزبيدي الذي افتتح عام 1999إذاعة بدعم أميركي، بثت برامجها من المملكة العربية السعودية، تحت تسمية (صوت الشعب العراقي"، ظهر اسمه ضمن طلائع القوات المحتلة، باعتباره عضوا في فريق مجلس إعادة الإعمار الذي قاده غاي غارنر. ثم ظهر اسمه باعتباره أبرز الوجوه المحلية في السلطة الثقافية العليا الممثلة للاحتلال إبان حكم بول بريمر: رئيس (المجلس الأعلى للثقافة). ثم ظهر اسمه مجددا عام 2007 رئيسا لـ (المجلس العراقي للثقافة).
وفي المواقع كلها، كانت كلمة "مجلس" هي العنوان الذي يميز المؤسسات الثقافية، التي شارك فيها الزبيدي، والتي تعني أنه كان موظفا أعلى في مجلس ما، قد تختلف تسمياته، لكنه يظل مجلسا ثقافيا أعلى للمصالح السياسية والحربية الأميركية.
تمّ اختيار أمانة عامة للمجلس تتكون من خليط من البعثيين والشيوعيين السابقين والشيوعيين الجدد ذوي الأصول البعثية والإسلاميين المتحدرين من أصول بعثية، قاسمهم المشترك هو تأييد الاحتلال بطرق متنوعة. أما هدفهم الذي يناضلون "بإصرار" من أجل تحقيقه فهو: " استعادة عنفوان الدولة العراقية المعروف مند آلاف السنين" ، كما يقول بيان المؤتمر. تكونت الأمانة العامة للمجلس من : الدكتور عبد الأمير العبود (وزير سابق)، الدكتور هاشم حسن، ضياء الشكرجي (حزب الدعوة وجذور بعثية)، ياسين النصير ، غادة بطي ، هاشم الشبلي(وزير حقوق الإنسان) ، مالك المطلبي ، إبراهيم الزبيدي (أمينا عاما) ، الفرد سمعان ، مهدي الحافظ (وزير التخيط السابق)، سلوى زكو، فوزية العطية، محمد غني حكمت ، حسين الجاف، اياد الزاملي (صاحب موقع على الانترنيت!) ، فاضل ثامر، شوقي عبد الأمير.
انعقد المؤتمر في 14- 16 نيسان 2007 في العاصمة الأردنية، ولا يُعرف الرقم الحقيقي للحاضرين، الذي تراوح بين 200 و230 و 400، وفق الروايات والبيانات المختلفة. كان الحاضرون خليطا غير متجانس، ضم عددا من الباحثين عن دعوات الأكل والسفر المجانية، لا تربطهم بأهداف المؤتمر صلة حقيقية. لكن الكتلة الأكبر هي الكتلة المكونة لقيادة اتحاد الأدباء، التي ضمت جل قياداته العليا، من الرئيس والأمين العام حتى أعضاء الأمانة العامة. وكان للبعثيين وأعوانهم حضور ملموس، وهم في الغالب من بقايا مرحلة الحرب، جاء بعضهم بصفة مستقل ( مالك المطلبي)، وارتدى البعض الآخر ثوب الطائفية (علي الشلاه)، واحتفظ البعض بصلاته البعثية غير المعلنة. انتخب المؤتمر مهدي الحافظ رئيسا، وإبراهيم الزبيدي أمينا عاما. وقد عجل المؤتمر بعرض رشاه الثقافية في هيئة نشر الكتب وإقامة النشاطات الثقافية وتقديم الجوائز والحوافز.
لكن المجلس، بكل ثقله، اختفى فجأة، بالسرعة التي ظهر فيها، ولم يخلف وراءه دخانا أو رمادا. لقد اختفى، كما لو أنه لم يولد أصلا. لأنه في حقيقة الأمر لم يولد، على الرغم من أن الإعلان عن ولادته تمّ في فندق ذي خمس نجوم. كان جنينا أميركيا ميتا، كغيره من أجنة الاحتلال الثقافية والسياسية.

لويا جركا ثقافي
الدعاية الواسعة التي رافقت ظهور المجلس والوعود الكبيرة جذبت الأضواء اليه، بطريقة لم تحدث في أي تجمع آخر للمثقفين العراقيين. كانت الأسماء التي ضمت ثلاثة وزراء وعدد من النواب والقيادات الأساسية في اتحاد الأدباء تضاعف من قيمته وأهميته. وكان انتخاب وزير سابق لرئاسته دليلا كافيا على أنه كيان يحسب له ألف حساب. وقد ترسخ هذا الانطباع بدخول رئيس وأمين عام اتحاد الأدباء العراقي الى المجلس باعتبارهما عضوين متواضعين في الأمانة العامة. فكل الدلائل تؤكد أن المجلس كيان أكبر حجما وأهمية من اتحاد الأدباء نفسه، وأنه يمثل مصالح قوة ما، عظيمة الجبروت.
لكن هذا الانطباع الخادع لم يوقف سيل الأسئلة والشكوك المتعلقة بتمويل المجلس وطبيعته وأهدافه، بل على العكس، زاد من شدة تدفقها. أما أكثرالأسئلة أهمية، التي أثارها قيام المجلس، فكانت الأسئلة الرامية الى معرفة حقيقة هذا المجلس، والغاية المباشرة من تشكيله: هل هو بديل لاتحاد الأدباء؟ هل هو بديل لوزارة الثقافة؟ هل هو بديل للهيئة الإعلامية التابعة لمجلس النواب؟ هل هو بديل لهيئة الاتصالات وشبكة الإعلام؟ ما كنهه وهدفه؟ لا أحد يعرف ذلك حتى هذه اللحظة. لقد ولد هذا المجلس الباذخ ومات، من دون أن يترك أثرا واضحا يدلّ على سبب التحمّس لإنشائه، وعلى سبب اختفائه السريع والمفاجئ.
ولكننا، لو تأملنا جيدا في ظروف ظهوره واختفائه، ربما نتمكن من العثور على بعض الخيوط التي توصل الى حقيقته.
منذ الساعات الأولى لانعقاد المؤتمر التأسيسي للمجلس جرت خلافات تتعلق بالمواقع القيادية وبتوزيع الهبات النقدية والعينية وتقاسم الموارد والتخصيصات المالية. وظهرت أسئلة جدية تتعلق بأشخاص طارئين على الثقافة قفزوا فجأة الى موقع القرار والتحكم. أمّا شهوة الابتزاز المالي فقد كانت سافرة ومفتوحة على نحو كبير وعلني، قادها شعراء وكتاب وفنانون، جعلت كثيرين، ممن حضروا لأسباب تتعلق بالمتعة والفرجة، يدركون أنهم أمام وضع يثير التساؤلات، لكنهم لم يحصلوا على أجوبة تطفئ شدة فضولهم وتزيل مخاوفهم الشخصية.
عن واقع المجلس كتب د. كاظم حبيب ، باعتباره أحد الوجوه التي حضرت مؤتمره، قائلا: "
في الفترة الواقعة بين 14-16/5/2007 عقد في عمان, عاصمة المملكة الأردنية, شارك في المؤتمر عدد كبير من المثقفين قدر بأكثر من 200 شخص, ولكن عند التصويت بلغ عدد المشاركين فيه 102 من مجموع مثقفي العراق. ولهذا اعتبر المؤتمر المجلس الجديد الذي تم تشكيله منظمة واحدة من منظمات المجتمع المدني غير الحكومية التي تعمل في مجال الثقافة ولا تدعي بأي حال احتكاترها للعمل الثقافي أو تمثيلها لمثقفي العراق ولا يحق لأي جهة أخرى إدعاء ذلك, وهو أمر مهم يضع حداً للقيل والقال حول تمثيلها لكل المثقفات والمثقفين أو لجماعة معينة." وقد انتقد حبيب شعار المؤتمر "عراقيون أولا"، واعتبره معاديا للقوميات غير العربية. لأن كلمة عراق في في تقدير حبيب كلمة غير لائقة سياسيا وثقافيا، أو في الأقل جاءت في غير موضعها. (الحوار المتمدن - العدد: 1933 - 2007 / 6 / 1)
ولكن ما حقيقة هذا المجلس؟ إذا لم يكن بديلا للأطر الثقافية القائمة: الوزارة، الاتحاد العام، هيئة الاعلام في مجلس النواب، هيئة الاتصالات وشبكة الاعلام، فماذا يكون؟ وكيف يعمل؟
هل هو إطار تنفيذي، أم إنه واجهة لجهة ما، أم هو تمهيد لقيام إطار سياسي جديد؟ أهو مجرد ملتقى ينافس ملتقيات المدى والملتقيات الحكومية؟ ولكن لماذا يضم فروعا للداخل والخارج؟ وما معنى العضوية، التي أكد عليها بيان المؤتمر؟ هل هي عضوية حزبية؟ أم عضوية ثقافية؟ أم عضوية مهنية تنافس عضوية اتحاد الأدباء، أم أنها تحل محلها؟ وما ضرورة وجود أعضاء وفروع إذا كان الأمر يتعلق بقيام هيئة مهمتها إقامة فعاليات ثقاتفية ونشر الكتب ومنح الجوائز؟ من يمولها؟ هل حقا أن قيام المجلس تمّ على نفقة "مجنون بالثقافة"، يعشق هواية تبذير أمواله ثقافيا، كما برر أحد المنتخبين الى الأمانة العامة، ممن قام بيان المؤتمر بتزيين اسمهم بعبارة "الاستاذ، الدكتور، الطبيب، المعروف"؟
إن اختفاء هذا الإطار من دون أن يترك أثرا وراءه، يدلّ دلالة قاطعة على أن هذا الجهاز كان مجرد نشاط تلفيقي من نشاطات ما يعرف بإعادة الإعمار الوهمية في العراق، التي لم ير أحد من العراقيين، حتى الآن، ما قامت بإعماره. أي إنه جزء من الأموال المخصصة للانفاق في العراق من قبل الدولة المحتلة. وإن هذا الجزء تمّ التخطيط له من قبل الأفراد الذين رافقوا مشروع الاحتلال وتعهدوا، بحكم مسؤولياتهم في جهاز الاحتلال، بتقديم خدمات سياسية وإعلامية داعمة لمشروع الاحتلال؛ فلم يكن هذا المجلس سوى واحدة من أفكار القائم على شؤون البحوث والاستطلاعات والإعلام الأميركي في العراق كنعان مكية. أما الزبيدي فهو منفـّذ إجرائي للمشروع، بحكم وظيفته السابقة في مجلس الإعمار. وإذا كان الزبيدي هو الواجهة التنفيذية الدعائية بحكم طبيعة عمله في برنامج الاحتلال، وبحكم طبيعته الشخصية، فإن بصمات كنعان مكيّة كانت محسوسة أيضا بالقوة نفسها، ولكن بطريقة مغايرة، غير مباشرة، تتلاءم مع دوره في المنظومة الوظيّفية للاحتلال، ومع طبيعته الشخصية الميّالة الى الغموض والعزلة. فقد سبق له أن تولى مهمة تشكيل ما عرف بقائمة مكيّة في مؤتمر لندن، التي شكلت العمود الفقري للمدعوين الى مؤتمر المجلس أيضا. وكان لمجمّعي بيانات تأييد الاحتلال دور محسوس في المجلس أيضا، كما كانت لطرق التقديم، التي بالغت في إظهار الألقاب العلمية والوظيفية، صلة بالدور الذي يريد القائمون على المجلس صناعته: لويا جركا ثقافي.
كان هذا المجلس إجراءً استباقيا، تزامن مع سحب البساط الثقافي الرسمي من تحت أقدام الشيوعيين، ومحاولة يائسة للاحتفاظ بهم أفرادا، من طريق ضمهم الى آخرين مماثلين في التوجه، بهدف صناعة وعاء بديل دعائي وإعلامي يقود الأفراد، وليس الجماعات والكتل. أي صناعة وعاء "مجلس" يدير نشاطهم الإعلامي الفردي، في إطار منظم ومخطط من أعلى، هدفه تنسيق المهمات الإعلامية المرتبطة بقوات الاحتلال وبالسياسة الأميركية المرافقة لها.
بعد سلسلة من المعارك الخفية، انتهت الصراعات حول المجلس بمعركة علنية تبادل فيها الحلفاء الجدد الاتهامات القاسية، التقليدية، بالعمالة للمخابرات العراقية. كان أشنعها وأبشعها المعركة التي شنها عضو الأمانة العامة للاتحاد إياد الزاملي على جاسم المطير، متهما إياه بالعمل لصالح الشرطة السرية في زمن صدام، ومتهما الجهة التي تقف وراءه: الحزب الشيوعي، بمحاولة سرقة جهود أعضاء المجلس. وقد قوبلت هذه الاتهامات باتهامات مماثلة، اختتمت حياة المجلس القصيرة والمريبة.(الحوار المتمدن - العدد: 2114 - 2007 / 11 / 29)
ولم تكن أسباب تلك الثورة المضادة، التي قادها بعض قياديي المجلس، لإسقاط "وكلاء الشرطة السرية" ، أي لإسقاط الشيوعيين، مجهولة أو غامضة. كان الخلاف صراعا مكشوفا على تقاسم الهبات والمهمات الأميركية إعلاميا. ومن المعروف أن جاسم المطير، الذي تحمّل شخصيا القسط الأكبر من الهجوم والتشهير، كان قد تصدر دعوة مماثلة الى تجميع المثقفين، سبقت تأسيس المجلس بثلاثة أشهر فحسب، دعا فيها الى قيام مؤتمر تأسيسي للمثقفين العراقيين، كما كان مؤسسا وقياديا في جماعة (التجمع العربي لنصرة الشعب الكردي). ورد ذلك في البيان الصادر عن الهيئة التأسيسية لمؤتمر المثقفين العراقيين في المهجر، الذي كتب يوم الأربعاء الموافق 14 شباط / فبراير 2007، ووقعه "الأستاذ جاسم المطير، الأستاذ حامد الحمداني، الأستاذ الدكتور سيار الجميل، الدكتورة كاترين ميخائيل، الأستاذ الدكتور كاظم حبيب، الأستاذ نوري العلي، الأستاذ الدكتور تيسير الآلوسي"، وجاء فيه:
"أيها المثقفون العراقيون في كل أنحاء العالم
نعلن عن : تأسيس مشروع مؤتمر المثقفين العراقيين في المهجر... ، يتمّ البدء بالعمل منذ هذه اللحظة المهمة وعلى وفق المبادئ التأسيسية التي عرضناها.. راجين لمسيرتنا وقوف المثقفين العراقيين إلى جانبه وإسناده لضمان النجاح والتوفيق لخطواتنا وسنعلن في الأجل المنظور تاريخ انعقاد المؤتمر التأسيسي ومنهاجه وجدول أعماله.. وأخيرا، نحيي كل المثقفين والمبدعين العراقيين المغتربين [في المهجر] ، ولنكن يدا واحدة من أجل استعادة ثقافتنا العراقية وتطويرها وان تمر بتحولات إيجابية بعيدا عن كل الإخفاقات ومواجهتها للتحديات القاتلة التي أصابت العراق الحبيب، وهو يمر بأحرج مرحلة تاريخية عبر مسيرته الحضارية الحافلة. " (الحوار المتمدن - العدد: 1827 – 15-2-2007 )
ومن المفارقات الكبيرة هنا أن اتحاد الأدباء، الذي اعترض على تأسيس اتحادات فرعية في المحافطات، ووصفها بالخيانة، مستندا في حججه الى القانون رقم 70 البعثي، لم يتذكر هذا القانون حينما ظهرت الدعوة الى تأسيس اتحادات المهجر، أو عند تأسيس المجلس الثقافي، كما لو أن كتاب المهجر ينتسبون الى وطن آخر غير العراق! أما سبب نسيان المرجعية القانونية البعثية فقد كان بسيطا وواضحا: لإن الدعوة تصب في مصلحة الجماعات ذاتها.
وقد تطرف أعضاء قياديون في اتحاد الأدباء تطرفا فاق تطرف عرفاء الثقافة الصداميين، حينما راحوا يبالغون في دفاعهم قيام اتحادات فرعية موالية لهم. يقول على حسن فواز في مقالة عنوانها ( اتحاد الكتّاب العراقين في السويد ، محاولة رائدة في صناعة المنفى): "ان المثقفين هم اصحاب الحل الاخير ... انها خطوة رائدة وشجاعة ،،،نأمل من كل الاصدقاء في منافي الدنيا التي اتسعت بهم لاعادة صناعة هذا المنفى على طريقة التمارين السويدية لكي نمنح الجسد العراقي ولو على بعد نوعا من الاحساس بالحياة." (كتابات، 5 حزيران 2006)
من هذا العرض كله، نصل الى خلاصة واضحة مفادها أن الثقافة لا تختلف عن غيرها من وجوه المحاصصة الحزبية، وربما تكون أكثرها رخصا وابتذالا وسوقية. إن الثقافة هنا ليست مشروعا وطنيا أو عقليا أو فنيا بقدر ما هي تحاصص سياسي خالص، يفتقر الى الأسس والمعايير المهنية والأخلاقية. إنها تحاصص سافر، مرجعيته الأساسية فوضى الثقافة، التي خلقتها فوضى الاحتلال وسقوط المرجعيات الوطنية الحقيقية، التي ناضلت ضد الاستبداد السياسي طوال عقود مديدة.
إن البحث المحموم عن صناعة شبكات وروابط وأطر ثقافية جديدة لا يعني أن الولايات المتحدة الأميركية كانت تبحث عن أشكال تنظيمية لتطوير قطاعات الثقافة العراقية. فلو كان الأمر كذلك لاستخدمت هذا الدعم من طريق تمتين وتطوير عمل المؤسسات الثقافية الحكومية والمهنية القائمة، وليس من طريق استحداث مجلس وهمي جديد، لا يحمل أية صفة حكومية أو مهنية أو شعبية. إن الولايات المتحدة الأميركية، حكومات وشعبا، غير معنية، وغير مهتمة بما يعرف بالثقافة. فهي ترى أن تطوير المعارف وتنشيط العلوم والابداع والتربية والفن والفكر مهمة زائدة عن حاجة المواطن العراقي المهان، المبتلى بهموم الأمن والماء والكهرباء والقوت. إن الوقت الراهن ليس الوقت المثالي للثقافة، وإنما هو الوقت الأكثر إلحاحا لوجود أطر تستطيع أن تجمع أكبر قدر من المتطوعين، الذين يتولون مهمة الدفاع عن مشروع الاحتلال، وعلى رأسه، الدفاع عن كل ما تحدثه الآلة الحربية من تدمير وتدخل صارخ في الشؤون الوطنية والحقوق المدنية. إن الموضوع كله لا يتعدى أن يكون تكوين وعاء ثقافي موسع، يرتبط مركزيا بالسياسة الإعلامية للقوات الأميركية تحديدا، ويخدم المشروع السياسي التابع لها محليا، في حال تقلص نفوذ هذه القوات عسكريا.
وبما أن هذه المهمة تمارس فعلا من قبل أعضاء اتحاد الأدباء المؤيدين لسياسة الاحتلال، من طريق القنوات المهنية الخاصة والعامة، تنتفي لذلك السبب الحاجة الى وجوة إطار مركزي ينظم عقد هذا الخليط المتنوع، الذي يجتمع تحت سقف جامع مانع: تأييد سياسة الاحتلال أو ما يعرف بالعملية السياسية. إن الحاجة الوحيدة، التي ظلت متأججة، هي الطمع في الاستحواذ على المساعدات المالية الأميركية، من طريق تأسيس المجالس الثقافية الوهمية. وقد تولى هذه المهمة ممارسون محترفون، سبق لهم أن قاموا باسم الثقافة أيضا، وباسم الجاليات العراقية في أوروبا وبعض البلدان العربية، بابتزاز بلدان المهجر الأوروبي والعربي والاحتيال عليها ثقافيا.
بموت هذا المجلس الثري استقرت الهيئات الثقافية على ما هي عليه الآن. بيد أن محاولات تكوين أطر جديدة تحت مسميات وأغراض متنوعة تظل ممكنة، تقوى وتضعف، بالتوازي مع حركة واصطفاف التكوينات السياسية القائمة، وبالتوازي مع حركة مشاريع الإعمار الوهمية.
يليه الجزء السادس



#سلام_عبود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المثقف الشيوعي تحت ظلال الاحتلال (الجزء الرابع)
- المثقف الشيوعي تحت ظلال الاحتلال ( الجزء الثالث)
- المثقف الشيوعي تحت ظلال الاحتلال (الجزء الثاني)
- المثقف الشيوعي تحت ظلال الاحتلال (التجربة العراقية)
- الأسرار النفسية لهزائم صدام العسكرية
- ظاهرة العراقيّ الصغير: حقيقة أم خيال!
- المستبد عاريا
- إسقاط نظام المحاصصة الطائفيّة العرقيّة الحزبيّة هو الهدف الأ ...
- حطّموا متاريس دولة اللاقانون!
- نعم يا طغاة الفساد العراقي: نحن متضرّرون!
- ثورة المواطنة وديكتاتورية الرئيس المنتخب!
- ثورة عراقية كبرى، ولكن...!
- انطباعات أميركية عن أميركا عراقية
- ممرات العبور من الحرية الفردية الى الحريات العامة وبالعكس
- أخيرا، حصل الإعلام السويدي على إنتحاريّه الخاص
- تدنيس المقدس (قراءة سلفية تهين الرسول محمد: حديث أم حرام)
- حكومة من تنك، وقَتَلة من ذهب، وإعلام خردة!
- أسرار وثائق ويكيلكس!
- تفكيك المقدس واستنطاق المسكوت عنه
- دكتاتورية الكراهية: الفرد العراقي من مجتمع التعبئة الى حالة ...


المزيد.....




- لم يسعفها صراخها وبكاؤها.. شاهد لحظة اختطاف رجل لفتاة من أما ...
- الملك عبدالله الثاني يمنح أمير الكويت قلادة الحسين بن علي أر ...
- مصر: خلاف تجاري يتسبب في نقص لبن الأطفال.. ومسؤولان يكشفان ل ...
- مأساة تهز إيطاليا.. رضيع عمره سنة يلقى حتفه على يد كلبين بين ...
- تعويضات بالملايين لرياضيات ضحايا اعتداء جنسي بأمريكا
- البيت الأبيض: تطورات الأوضاع الميدانية ليست لصالح أوكرانيا
- مدفيديف: مواجهة العدوان الخارجي أولوية لروسيا
- أولى من نوعها.. مدمن يشكو تاجر مخدرات أمام الشرطة الكويتية
- أوكرانيا: مساعدة واشنطن وتأهب موسكو
- مجلس الشيوخ الأمريكي يوافق على حزمة من مشاريع القوانين لتقدي ...


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - سلام عبود - المثقف الشيوعي تحت ظلال الاحتلال (الجزء الخامس)