أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - سلام عبود - المثقف الشيوعي تحت ظلال الاحتلال (الجزء الرابع)















المزيد.....


المثقف الشيوعي تحت ظلال الاحتلال (الجزء الرابع)


سلام عبود

الحوار المتمدن-العدد: 3347 - 2011 / 4 / 26 - 00:09
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


4- البعث واليمين الأميركي هما مرجعية الحاضر
يقول ياسين النصير: "لا ثقافة وطنية في العراق، بل ثقافة حزبية ومناطقية، ولا مؤسسات، بل دكاكين ملحقة بهذا الجامع وبتلك الحسينية، ولا ميزانية مخصصة لها، بل ميزانيات تصرف من ميزانية الدولة لثقافة ومؤسسات الأحزاب". إن شدة اليأس وفقدان المقدرة على الإتيان بحلول جعلت الشيوعيين يتطرفون تطرفا لافتا في الاندفاع العلني الى الحل الأميركي، ليس سياسيا فحسب، بل ثقافيا أيضا: "على اميركا الدولة المحتلة تقع مسؤولية بناء اسس لثقافتنا مغايرة لأسس الطائفة والقومية والدين" أي إن المثقف الشيوعي لا يكتفي بتحريرنا من صدام على يد أميركا، ولا يكتفي بإدارة أجنيبة للبلاد، بل يطالب أيضا بمنح أميركا مهمة تحريرنا ثقافيا من ثقافة صدام وثقافة ما بعد صدام أيضا.
لكنّ الكتاّب الشيوعيين، الذين بالغوا في تمجيد كل ما هو رديء ومبتذل سياسيا وأخلاقيا لا تعوزهم الفطنة إحيانا، فهم يدركون أيضا أنهم يسرفون كثيرا في حجم ثقتهم الثقافية بالمحتلين، لذلك يستدرك النصير موضحا: " سيكون حديثي هذا موضع اخذ وجذب من بعض ممن لم يقرأ الوضع العراقي الحالي جيداً، ولم يتفهم ما عنيته بالثقافة جذرياً، وسيتقول المتقولون باننا " نطلب " من اميركا أن تنهض بثقافتنا!! دون ان يعي معنى " نطالبها".وليس "نطلب منها" وما كنا لنلجأ لأميركا المحتلة بالقول، لولا يأسنا من أحزاب الإسلام السياسي"
بيد أن هذا اللجوء الاضطراري الى أميركا المحتلة، بعد أن يُئس من الإسلام السياسي، لا يقول لنا: ماذا كان الشيوعيون يأملون من الإسلام السياسي قبل مرحلة اليأس والندم؟ وهل حقا يوجد فرق بين نطالب ونطلب؟ ألا يذكر هذا التعبير بأدباء التعبئة، الذين كانوا لا يطلبون من القائد رشاه التعبوية، وإنما كاتوا يطالبون بها يزدردونها ازدرادا! هنا نرى أن الشيوعيين يستعيرون أسوأ ما في السلوك الثقافي للمجتمع، ويحصرون نشاطهم بين شفرتين قاتلتين: يين أمنيات تأييد الاحتلال الخيالية وبين النشاطات الدعائية الطفيلية الضيقة والرخيصة، كتراخيص بيع الخمور! لقد انحسر النضال الشيوعي انحسارا مروعا، وانحصر في بقعة ضيقة، محزنة؛ فمن نضال وطني وطبقي جماهيري يهز الشوارع الى نضال عبثي من أجل حماية بناية مقر حزبي، تم تحاصصها مرتين، مرّة بقوة البعث، وأخرى بقوة الاحتلال! ذلك هو السر الذي جعل ثقافة الحزب الشيوعي عنصر تفضيل، وأهّلها للفوز بثقة المحتلين، في حقبة الإدارة الأميركية المباشرة.
ثانيا: بما أن الأحزاب جميعها تقوم بتدريب نفسها بما يتناسب وينسجم مع تطور عملية الاستحواذ السياسي، فإن الحزب الشيوعي هو القوة الأكيدة، التي لا يُخشى منها سياسيا وتنظيميا، لأنه لا يملك في معركة الصراع على السلطة الآن سوى تأهيل ثقافي سابق، معترف به كارث وماض ولّى، فقد أسسه النظرية وشعاراته ووسائل تطبيقه، ولم يعد يحمل مضمونا واضحا، بل لم يعد يحمل أي مضمون سوى الاحتيال على النفس من أجل البقاء، بأي ثمن.
ثالثا: بما أن الشيوعيين يملكون كادرا ثقافيا ولا يملكون أرضا، فهم الأصلح والأنجح مؤقتا للدعاية، وعلى وجه التحديد الدعاية التي لا تتعارض مع الإرادة السياسية المباشرة للشركاء المحليين، الذين يقتسمون الأرض فعليا، الأقوباء جدا منهم، وعلى رأسهم القيادات الكردية الحاكمة وبعض الأطراف الحكومية المتنفذة. أي إنهم قوة دعائية "مأمونة"، موجهة توجيها عاما، لا ينقص من مصالح القوى المتنفذة شيئا، هدفها الرئيس خدمة المشروع السياسي القائم: مشروع الاحتلال، الذي أسموه تمويها بالعملية السياسية. فلا ضرر هنا من أن تقود القوة الأكثر ضعفا وتغريبا في الواقع السياسي (الحسي) هذه الدعاية (النظرية). لهذا السبب كان اختيار العناصر الشيوعية، والبعثية السابقة المتلبسة زورا بالشيوعية، للمهام الدعائية يتضمن أفضليات نفعية تخدم التوازنات المؤقتة المتشابكة والمعقدة والمتناقضة. لأنهم التيار الوحيد الذي لاهوية له، بتقدير الأطراف القوية المتصارعة كلها.
رابعا: بما أن الشيوعيين لا يملكون مساحة سياسية للمحاصصة ( الجزء الممنوح لهم كان مجرد هبة في مقابل خدمات مباشرة سنقوم بإيضاحها لاحقا) يدافعون عنها، ولا مساحة تنظيمية مؤثرة في الحياة العامة والفعالية المجتمعية، فإن الإشاعة التي يجري ترويجها من قبل القوى الفاعلة نفسها، التي تتحدث عن عظمة الشيوعيين الثقافية، هي واحدة من أسباب قيام هذه الظاهرة، التي تعني الاحتفاط بخرافة الثقافة الشيوعية المتفوقة كإشاعة تسيّر مؤقتا واقعا انتقاليا. أي اختيار قوة مضمونة الجانب من الناحية العملية، تؤدي وظائف تنفيذية محددة جدا في مشروع الاحتلال وفي الحياة الثقافية. لذلك يقول الكاتب حميد المختار، عضو في الهيئة القيادية لاتحاد الأدباء معبرا عن وجهة نظر إسلامية معتدلة: " انا مع الحريات وضد من يصادرها واعتبر ان شرب الخمر شأن شخصي بحت وانا لا اريد ان افرض على الاخر طقوسي العبادية وحلالي وحرامي فهو له دينه ولي ديني ولا اكراه في هذا الدين، لكن الاخر لا يريد ان يتركني وشأني فلي معه تاريخ حافل بالاستخفاف والهزء والسخرية فمرة يوصمني بالرجعي واخرى بالمتخلف وثانية بالمتطرف وثالثة بالتقليدي وكنت مقصيا عنه منذ زمن ليس بالقصير مطرودا من جنته وغير محسوب عليه، اما آن الاوان للاعتراف بالاخر وترك فكرة المصادرة والاقصاء والوصاية وكأن الثقافة لهم وحدهم وكأننا خارج هذه الدائرة غريبين عنها ولا نمت لها بصلة.." (الصباح- 20-1-2011)
خامسا: بما أن الشيوعيين فقدوا اتجاههم وتماهوا مع مشروع الاحتلال سياسيا، فإن ذلك يعني أنهم الأكثر تأهيلا حتى ايديولوجيا لخدمة الوجود العسكري الأجنبي (الاحتلال) لا هدفا بعيدا فحسب، بل حتى على مستوى الإعلام اليومي. فقد أظهروا أنهم أهم وأكفأ وأخلص المدافعين المباشرين عن الاحتلال بديلا سياسيا، وعن جرائم الاحتلال كلها وسيلةً تنفيذية لبناء الحياة الجديدة. حتى أنهم فاقوا بتطرفهم القوى الأجنبية العاملة في منظومة الاحتلال نفسها، وتفوق بعضهم حتى على عصابات "بلاك ووتر" في مجال منح الشرعية للقتل والاعتقال والتخريب والفساد. وفي الفصلين الخامس والسادس من الباب الرابع من الكتاب يجد القارئ بعض النماذج العيانية توثق هذه الظاهرة.
هنا، لا بد من القول إنه لم تظهر قوة سياسية في تاريخ العراق فعلت ما فعله الشيوعيون من تهديم مقصود ومخطط بالإرث الثقافي الخاص بهم، وبالإرث الوطني عامة، لمصلحة قوى عرقية وأجنبية. والأمثلة عديدة، لا حصر لها: تم استكمال سرقة ونبش المواقع الأثرية في ظل وزارة الشيوعيين، وتم احتلال ونهب أغلب المواقع المكتشفة في بابل وكركوك والموصل ومدن حوض الفرات والجنوب وتحويلها الى مواقع عسكرية تابعة للقوات الأجنبية وللميليشيات العرقية وإقطاعيات خاصة للصوص، تمت أوسع سرقة في التاريخ الثقافي الحديث من قبل الحزبين الكرديين العرقيين الحاكمين بمساعدة "رسمية " مباشرة وغير مباشرة، وتمت سرقات علنية للمخطوطات الوطنية وبيع بعضها الى اسرائيل علنا، بحجة إعادة الإرث الى أهله، وتم إغلاق دور السينما والمسرح إغلاقا تاما وشاملا، وتم إلغاء مواد دراسية عصرية من المنهج التعليمي، وتم إكساب المواد التعليمية والجهاز التربوي عامة صبغة طائفية وظلامية. كل ذلك تم في حقبة ترؤوس الشيوعيين وزارة الثقافة ولجنة الثقافة في البرلمان. حدث هذا كله من دون أن يقوم المثقف الشيوعي باحتجاج واحدا، ولو لفظيا، على تلك الجرائم الثقافية البشعة، يوازي حجم الاحتجاج على منع تراخيص بيع الخمور، الذي وصفه حميد المختار من زاويته الإسلامية الناقدة بالقول: "قضية الخمرة (لدى مثقفي الحزب الشيوعي) اهم من الوزارة ومن الثقافة ومن الوطن ذاته" (الصباح- 20-1-2011)
كان أطول وأعقد انجاز انشغلت به وزارة الثقافة هو تولي مهمة تغيير العلم العراقي من طريق تحريره صبغته العربية وإكسابه مذاقا يرضي الذوق والذاكرة الإسرائيلية. وحينما فشلت الوزارة في ذلك تم تحاصص العلم فنيا بطريقة غرائبية، سوقية. حيث جرى ، باسم رفض بصمات صدام، الابقاء على أكثر بصمات صدام الشخصية خصوصية: عبارة " الله أكبر"، التي حبذ الإسلاميون تثبيتها، مقابل حذف بعض الدلالات القومية، لصالح القادة الكرد العرقيون. بهذه الطريقة السوريالية تم التحرر من صدام حسين ثقافيا ونفسيا. حادثة العلم تلخيص تام وحسي ، وسيلة ومضمونا، لحقبة تاريخية كاملة، اسمها ثقافة الاحتلال.
ولا يختلف سلوك اتحاد الأدباء عن ذلك كثيرا، فما فعلته قيادة اتحاد الأدباء من تدمير تاريخي مخطط للعلاقات الثقافية العربية العراقية، خدمة لأطراف عرقية وطائفية محلية وأجنبية، يعدّ جريمة وطنية لا تغتفر. كان الواجب الوطني والثقافي يحتم أن يكون دور الإتحاد في مقاومة محاولات عزل العراق عربيا معكوسا تماما، من طريق استنفار القوى الديموقراطية الحقيقية المعادية للاحتلال والديكتاتورية عربيا وعراقيا، وعدم اتخاذ العزل ذريعة لتقطيع ما تبقى من أسس الروابط الثقافية القومية. لأن العراق أغلبية عربية مطلقة- لا مساومة على ذلك إلا لدى العناصر الدخيلة على الهوية العراقية- تقوى وتغتني بمحيطها القومي الطبيعي، بصرف النظر عن ميول بعض قيادات الاتحادات العربية الرسمية. لكن ممارسات قيادة الاتحاد كانت مصممة تصميما دقيقا للتطابق مع النهج السياسي والقاعدة العقلية التي فرضها الاحتلال في مؤتمر لندن:"عراق لا عربي". لقد رفضت الأطراف السياسية كافة شعار مكية "عراق لا عربي ولا مسلم"، كتركيبة متكاملة، لكنها قبلته مجزأ. فقد رفضت جماعة علاوي صيغة "لا عربي" وقبلت صيغة "لا مسلم"، بينما قبلت معظم الأحزاب الدينية التخلي عن صيغة "لا عربي" والإبقاء على صيغة "مسلم"، أما القيادات الكردية فقد قبلت ورفضت الصيغ كلها في الوقت نفسه، لأنها كانت منذ البدء واضحة في سياستها: خلو أياديهم من أي مشروع عراقي، والإخلاص لمشروعهم الأوحد، العرقي الخالص، على حساب الأغلبية. وتجدر الإشارة هنا الى أن صحيفة "المؤتمر"، لسان حال المعارضة العراقية في الخارج، قامت بترجمة التوجه الأميركي هذا، من طريق اجتراح بدعة صحفية لم تشهدها الصحافة العربية من قبل في تاريخها كله، وهو إلغاء صفحة شؤون عربية، والاكتفاء بالمحليات والشؤون الخارجية. و كان مبتدع هذه الرشوة الثقافية القومية بعثي "عروبي" هو حسن العلوي.
إن هذا المشروع يطابق تطابقا مدهشا التصور الستراتيجي الإسرائيلي للعراق الجديد، كما ورد على لسان وزير الأمن الداخلي الاسرائيلي " آفي ديختر " في محاضرة ألقاها يوم 4 أيلول 2008 فى معهد أبحاث الأمن القومى الاسرائيلي:
"نحن لم نكن بعيدين عن التطورات فوق هذه المساحة منذ عام 2003، هدفنا الإستراتيجى ما زال عدم السماح لهذا البلد أن يعود الى ممارسة دور عربى وإقليمى لأننا نحن أول المتضررين. سيظل صراعنا على هذه الساحة فاعلا طالما بقيت القوات الأمريكية التى توفر لنا مظلة وفرصة لكى تحبط أية سياقات لعودة العراق الى سابق قوته ووحدته. نحن نستخدم كل الوسائل غير المرئية على الصعيد السياسى والأمني. نريد أن نخلق ضمانات وكوابح ليس فى شمال العراق بل فى العاصمة بغداد. نحن نحاول أن ننسج علاقات مع بعض النخب السياسية والإقتصادية حتى تبقى بالنسبة لنا ضمانة لبقاء العراق خارج دائرة الدول العربية التى هى حالة حرب مع اسرائيل"
من يحكم من ثقافيا؟
يلخص الكاتب شاكر الأنبار الموقف الشيوعي الجديد تلخيصا بارعا ودقيقا، نابعا من فهم داخلي عميق ومعايشة حقيقية، قائلا: " ما علاقة المثقف العراقي بدخول القوات الأجنبية عنوة الى بغداد؟ أما تعليق العضوية ذاك، فلم يأسف عليه أحد، إذ أن هموم الثقافة الرسمية العربية لم تعد تهم المثقف العراقي، وهو يعيش حالات غارقة بالتجريبية والجدة، وموغلة في الغرابة، على صعيد الرؤى الفكرية المتناقضة، وقضية الاحتلال وفلسطين، والمشتركات العربية في الكتابة، والتي ذهبت كلها في الحقيقة، مع ركب صدام وحزبه. (صحيفة الصباح – ثقافة 16-1- 2011 )
إن مناقشة هذا الانقلاب السياسي والعقلي لا توصل إلا الى نتيجة واحدة: إخراج الشيوعيين جملة وتفصيلا من تاريخهم كله. فمثل هذه الضربات الموجعة "التجديدية" و "التجريبية" ربما، والانفعالية والتغريبية حتما، التي أوردها الأنباري، تحمل اتهاما عميقا وجارحا لتاريخ الحزب الشيوعي العراقي، الذي ظل منذ طفولته يضع قضايا الاحتلال والاستقلال والقضايا العربية وقضية فلسطين في صدارة مهامه. إن مثل هذه الطروحات "الموغلة في الغرابة" تجعل الحزب الشيوعي، بقصد أو من دون قصد، مروجا نشيطا لاكذوبة قيادة النضال القومي من قبل "ركب صدام وحزبه" !!
وإذا ذهبنا الى آخر الدرب في المناقشة، نجد ما هو أبعد من ذلك لدى ناشط آخر من الفريق ذاته، تيسير الآلوسي، الذي يضع مصير العلاقات العراقية العربية بيد أقلية غير عربية (القيادات الكردية) ويرتهنها بها وحدها. فالأقلية العرقية هي التي تحدد مستقبل العراق العربي وصلته بمحيطه القومي أيضا، وليس السياسي وحده . ولا يكتفي الكاتب بذلك، بل يدعو الى أن تكون الحكومات العربية الأكثر تخلفا وسلبية تجاه الشعب العراقي هي الطرف العربي الذي ينعقد عليه الأمل. وما يهمنا هنا هو أن مقال الأنباري جعل الروابط الثقافية العربية "لا يأسف عليها أحد"، وهموم الثقافة العربية القومية جزء من " ركب صدام وحزبه" ، لكن العلاقات العربية تنقلب جذريا لدى الآلوسي، وتصبح "ركنا مهما ورئيسا في استقرار لا العراق لوحده بل منطقة الشرق الأوسط ودولها ". ولكن، بشرط واحد، هو أن تتم عبر "البوابة الكردية"! أي إن العراق العربي يعيد تقويم علاقاته القومية، التي يسميها الكاتب بـ"التطبيع"، طبقا للمصالح والأولويات القومية الكردية. وليس هذا فحسب، بل أن مصير علاقات العراق العربي القومية، أي عروبته، ستقرر على ضوء تماشيه مع المصالح السياسية العرقية الكردية الخاصة: " وأبعد من ذلك فإن ممر العلاقات العربية العراقية يمكنه أن يعزز ويتعمق بمقدار تعزيز العلاقات العربية الكوردية! " (الحوار المتمدن - العدد: 3091 - 2010 / 8 / 11 )
لم يتوقف الحط من قيمة الوطن عند هذا الحد، الذي يتم فيه وضع مصالح الوطن كاملا في جيب سلطات عائلية وعرقية مستبدة، لا تمثل الشعب الكردي تمثيلا صادقا، ولا يكون مجموع الإطار القومي الذي تنتمي اليه أقل من سدس تكوين الوطن، بل يصل تحقير المواطنة العراقية حدا غير قابل للتفسير، حينما يقوم وجه بارز من وجوه الحزب الشيوعي السايقين، كاظم حبيب، بالاعتراض الشديد على شعار "عراقيون أولا"، الذي رفعه مؤتمر ما عرف بالمجلس الثقافي العراقي، معتبرا أن لفظة " عراقيون" معادية لحقوق الأقليات!
لقد اندفع اتحاد الأدباء الى صيغ متطرفة حتى تنظيميا حينما دعا الى قيام كتل تحاصصية وجبهات انتخابية. ووصلت الأمور حدا مسفا، لم يعرفه تاريخ العراق أو تاريخ أي اتحاد آخر قط، حينما دعت قيادة الإتحاد الى "كوته" عرقية ودينية، من أجل المحافظة على نسب قيادية مضمونة باسم التحاصص العرقي المذهبي. فقد أدخلت الكوتة أقليات قومية انفصلت بإرادتها عن الاتحاد المركزي من دون أن يثير هذا الانفصال - بصرف النظر عن صوابه أو خطئه- ردود فعل ثقافية على الاطلاق.
وفي حمى الصراع من أجل الاستيلاء على الأرض الثقافية توج إتحاد الأدباء ضياعه المهني والعقلي هذا حينما طالب بإقرار أكثر قوانين حقبة الديكتاتورية فظاظة وتخلفا في المجال المهني والثقافي، وأعني به العودة الى قانون رقم 70 لسنة 1980 والمادة العاشرة منه. (صحيفة الصباح 26 شباط2011 ). أي إن الاتحاد يعتبر خرق قوانين صدام "مؤامرة وجريمة تدر "التعويضات المجزية". ولم يحدث في تاريع العراق سجال ثقافي وصل الى هذا المستوى المتدني عقليا ومهنيا وأخلاقيا. فحينما يتقاسم الشيوعيون الحكومة مع القوى الدينية يكون العراق "حرا" و"جديدا" و"منارة للشرق الأوسط"، وتكون "العملية السياسية" معيارا للوطنية الصادقة والديموقراطية الحقة، وحينما يختل التوازن ينقلب الخصوم الى " ظلاميين" و" متآمرين" و "ميليشيات مذهبية". ولا يكتفون بهذا القدر من الضياع والتشتت العقلي والسلوكي، بل يذهبون الى حد الالتجاء الى قوانين صدام القمعية لتأكيد حقهم في المحاصصة. إن الثقافة هنا مشروع ربحي خال من القيم التاريخية والثوابت الوطنية أو الاجتماعية. إنها مجرد عراك سافر " عركة شلايتية"، أناني، من أجل الاستحواذ على رقعة ما من أرض الوطن بكل الطرق.
يصف شاكرالأنباري الحالة الثقافية الراهنة قائلا: " إنهما - وزارة الثقافة واتحاد الأدباء - من جانب ثانٍ، ما عادتا عنواناً لوحدة العراق الثقافية، فنحن اليوم أمام إقطاعيات ثقافية، وإقطاعيات دينية، وإقطاعيات حزبية، والجميع مدجج بالبنادق، والمثقف الحقيقي ما هو إلا خائن للمذهب والحزب والعشيرة... وربما للوطن..."
وهذا وصف صائب تماما. لكنّ عيبه الوحيد يكمن في أنه لا يشير، من قريب أو بعيد، الى دور القيادات العرقية الكردية ودور الشيوعيين ودور المحتلين في صناعة هذه الصورة الثقافية البشعة؛ كما أنه يغفل تماما أن يصف لنا كيف كانت حال الثقافة قبل حقبة الاقطاعيات الدينية، في حكومتي بريمر وعلاوي تحديدا؟
كيف يمكن حل المشكلة الثقافية؟ عن هذا السؤال يجيبنا ياسين النصير قائلا: على المستوى الستراتيجي" أمريكا من يبني ثقافتنا الوطنية". وعلى المستوى القريب يجيبنا النصير أيضا في مقال عنوانه (بعد كل جريمة تنزل إلى الشارع مكنسة)، يقول فيه:
" يقال بعد كل جريمة، تنزل إلى الشارع مكنسة، لتزيل آثارها،ويقال أيضا بعد كل فعل للمكنسة، يفكر المجرمون بالتحايل على المكنسة القادمة، فكما أن المكنسة تلازم الوساخة والنتانة والفساد والجريمة، يلازم الإصرار على ارتكاب الجرائم والأخطاء وضعا اجتماعيا معقدا..ولا أعتقد أن بلدا يمر بفترة شيوع ثقافة الفساد دوليا ومحليا مثل ما يمر العراق به حاليا، وتحت ظل حكم الأحزاب الإسلامية، تحديدا.. في حالنا العراقية نحتاج يوميا إلى تغيير المكنسة، وإلى جيش من الوطنيين كي يتدربون على الكنس التاريخي لأوحال الماضي ولقاذورات الحاضر، ولنفايات المفسدين والمرتشين،مكنسة تاريخية عظيمة ومتدربون جدد مسؤولون عن حماية الشارع العراقي من التلوث والتدمير....في الورشة التي اقامتها هيئة الإعلام والاتصالات،التي كان محورها دور الإعلام العراقي في مكافحة الارهاب" (الصباح- ثقافة 16-1-2011)
حينما ننزع الصيغ التعميمية من هذه النصوص نجد أن الحديث يجري "تحديدا" و" حصريا" و"اليوم" و "الآن" و" ما عاد" عن الفترة التي تمت فيها استعادة المواقع الثقافية الرسمية من الشيوعيين. أي إن خسارة الشيوعيين مواقعهم التحاصصية قلبت القوى الحليفة الحاكمة "الديموقراطية" و"الشريك في بناء العراق الجديد" و" حلفاء العملية السياسية" الى دولة ميليشيات، وغدت "العملية السياسية للعراق الجديد" عبارة عن " الوساخة والنتانة والفساد والجريمة "، وغدا النقص الثقافي ينحصر في عدد المكانس. إن البحث عن معجزات ثقافية "أميركية" أو "كردستانية" أو "تجريبية"، خارج المشروع الوطني العراقي، ليس سوى دليل على شدة الأزمة التي تمسك بخناق المثقف الشيوعي، وشدة الخسارة السياسية التي نجمت جراء سياسة الابتعاد عن مصالح الشعب. إنه برهان قاطع على شدة العجز الذاتي، الذي دفع بعضهم الى صناعة خطاب انفعالي فاشل، كما في مقال المكنسة، الذي يعبر تعبيرا حقيقيا عما آلت اليه أوضاع الثقافة، وحجم خيبة الأمل السياسية والنفسية التي يعيشها المثقف الشيوعي الجديد، الذي يبني مشروعه على قاعدة قوامها "العنف والخضوع": العنف بالنيابة وبالواسطة، والخضوع المذل، السافر.
خلال سنوات الاحتلال تسارعت عمليات تهديم الإرث الشيوعي التاريخي بوتائر عالية جدا، بيد أن هذا التهديم لم يرافقه ظهور أفكار جديدة أو ممارسات بديلة خاصة. إن جل ما نراه هو فوضى عقلية لا أول لها ولا آخر، يتم فيها إعادة إنتاج الوهم الذي زرعه الآخرون في نفوس الشيوعيين فصدقوه على أنه حقيقة. لذلك يخاطبهم أحد المنافسين من جبهة القوى الحاكمة قائلا: " أما آن الاوان للاعتراف بالاخر وترك فكرة المصادرة والاقصاء والوصاية وكأن الثقافة لهم وحدهم وكأننا خارج هذه الدائرة غريبين عنها ولا نمت لها بصلة.. " (الصباح- 20-1-2011)
هذا الضياع الفكري هو عنوان المثقف الشيوعي في مرحلة الاحتلال، وهونتيجة مؤسفة خلقت مثقفا بلا ماض، بلا حاضر، بلا مستقبل، بلا وطن، بلا قومية، بلا انتماء إنساني، بلا وسائل، مثقفا يكتفي بدور وشعار "الكنـّاس الوطني"، كما يقول ياسين النصير، بعد أن كان يلعب دور القمّام، كما يؤكد الحاكم الأميركي بول بريمر.
سادسا: حينما ننظر الى طبيعة تصنيف واختيار المناصب الثقافية الحكومية العليا، التي اعتادت أن تقيمه الأحزاب المتحكمة بالواقع السياسي - الطائفية والعرقية خاصة- نجد أن الثقافة تقع في أسفل قائمة الاهتمامات، لأنها وظيفة بلا محتوى في نظرهم. إن القوى العرقية والطائفية تملك منظوماتها الداخلية، الشعبية والرسمية الدعائية المغلقة، وهي لا تحتاج الى مرجعيات ثقافية إضافية في تعاملها مع الآخر والمجتمع عامة، بقدر ما تكتفي بموروثها العقائدي داخليا الموجه الى أعضاءها، وبقدر من التعبئة والتحريض خارجيا: دعاية وإعلام. فالثقافة باعتراف الشيوعيين أنفسهم مؤسسة محتقرة من قبل القوى المتحاصصة كافة. ومن هنا كان وجود الشيوعيين طبيعا، فهم القوة الملائمة لقيادة هذا الموقع المحتقر سياسيا.
سابعا، إن الاستيلاء الظاهري على مواقع الثقافة الرئيسية: وزارة الثقافة، ولجنة الثقافة في مجلس النواب سابقا، والتعليم العالي والبحث العلمي، ومؤسسة الصحافة الأساسية في الداخل( المدى مؤسسة ودارا للنشر وصحيفة وهيئة تنفيذية ثقافية، وجريدة الصباح)، واتحاد الأدباء بالتعاون مع جبش الوشاة، ومجالس الثقافة الوهمية بالتعاون مع البعث الأميركي وجيش الوشاة أيضا، يجعل تلك المؤسسات تكوينات شيوعية اسما، لكنها مملوكة ملكية مباشرة من قبل قوى أخرى من حيث الوظيفة والمهام. أي إن الدور الشيوعي هنا اسميّ وظاهريّ، يتناسب تناسبا حقيقيا مع حجمهم سياسيا، ومع طبيعة التصور القائم عنهم، لدى خصومهم. بيد أن هذا الدور الهامشي والدعائي سيف ذو حدين: مغنم كسب مادي سريع من جهة، وموت معنوي أكيد في المدى الاجتماعي البعيد من جهة آخرى. يتوجب على الشيوعيين المفاضلة جيدا بين الخيارين، ومعالجة معضلات التحولات السياسية معالجة جماعية تصحيحية، بنكران ذات وشجاعة. فما عاد ملائما لهم الاستمرار في السياسة " التبريرية المحافظة". لأن سببها المادي - الاحتلال- قد يتقلص نفوذه المسلح أكثر فأكثر في المستقبل القريب.
يليه الجزء الخامس



#سلام_عبود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المثقف الشيوعي تحت ظلال الاحتلال ( الجزء الثالث)
- المثقف الشيوعي تحت ظلال الاحتلال (الجزء الثاني)
- المثقف الشيوعي تحت ظلال الاحتلال (التجربة العراقية)
- الأسرار النفسية لهزائم صدام العسكرية
- ظاهرة العراقيّ الصغير: حقيقة أم خيال!
- المستبد عاريا
- إسقاط نظام المحاصصة الطائفيّة العرقيّة الحزبيّة هو الهدف الأ ...
- حطّموا متاريس دولة اللاقانون!
- نعم يا طغاة الفساد العراقي: نحن متضرّرون!
- ثورة المواطنة وديكتاتورية الرئيس المنتخب!
- ثورة عراقية كبرى، ولكن...!
- انطباعات أميركية عن أميركا عراقية
- ممرات العبور من الحرية الفردية الى الحريات العامة وبالعكس
- أخيرا، حصل الإعلام السويدي على إنتحاريّه الخاص
- تدنيس المقدس (قراءة سلفية تهين الرسول محمد: حديث أم حرام)
- حكومة من تنك، وقَتَلة من ذهب، وإعلام خردة!
- أسرار وثائق ويكيلكس!
- تفكيك المقدس واستنطاق المسكوت عنه
- دكتاتورية الكراهية: الفرد العراقي من مجتمع التعبئة الى حالة ...
- نقد الخطاب الديني، التفكير والتكفير واللعب على المكشوف


المزيد.....




- إنقاذ سلحفاة مائية ابتعدت عن البحر في السعودية (فيديو)
- القيادة الأمريكية الوسطى تعلن تدمير 7 صواريخ و3 طائرات مسيرة ...
- دراسة جدلية: لا وجود للمادة المظلمة في الكون
- المشاط مهنئا بوتين: فوزكم في الانتخابات الرئاسية يعتبر هزيمة ...
- ترامب: إن تم انتخابي -سأجمع الرئيسين الروسي الأوكراني وأخبر ...
- سيناتور أمريكي لنظام كييف: قريبا ستحصلون على سلاح فعال لتدمي ...
- 3 مشروبات شائعة تجعل بشرتك تبدو أكبر سنا
- آخر تطورات العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا /19.03.2024/ ...
- إفطارات الشوارع في الخرطوم عادة رمضانية تتحدى الحرب
- أكوام القمامة تهدد نازحي الخيام في رفح بالأوبئة


المزيد.....

- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 4 - 11 العراق الملكي 2 / كاظم حبيب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - سلام عبود - المثقف الشيوعي تحت ظلال الاحتلال (الجزء الرابع)