أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - محمد علي الشبيبي - 3- عودة ومصائب وعواصف / 12















المزيد.....

3- عودة ومصائب وعواصف / 12


محمد علي الشبيبي

الحوار المتمدن-العدد: 3345 - 2011 / 4 / 23 - 23:47
المحور: سيرة ذاتية
    


من (ذكريات معلم) للراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1997)
حصن الاخيضر
في 1/4/1957 الساعة الثامنة صباحا تحركت بنا السيارة. وصلنا عين التمر قبل الظهر. ذات العيون والينابيع، ومنها تسقى بساتين النخيل وشجر الرمان والزيتون. وفيها مباني قديمة يطلقون عليها اسم القصور.
أما العيون والينابيع غير معتنى بها من الأهالي، ففيها أقذار، وبعض السكراب يستقر في قاعها. والأطفال يسبحون فيها كثيرا. ولم نتجول فيها لضيق الوقت. فتوجهنا إلى الأخيضر.
إنه بناء ضخم، وربما كان قلعة حربية -وهذا مذكور أيضا في كتابات المتأخرين-، ربما كانت عباسية، أو هي من العصر الجاهلي. بعضهم يقول إنها مسيحية. وقد لاحظت في واجهة البناية وفي أعلاها رسم "غصن زيتون" والمعروف أن هذا شعار فرسان الروم. أكثر جهاته ذات جدارين سميكين فيها كُوى يحتمل أن تكون للرماة حين تدعو الحاجة للدفاع عن القلعة ضد المهاجمين. وهو الآن طابق واحد، بينما تدل بقايا جدران قائمة قد تهدمت أن هناك كانت حُجر لشؤون هامة.
قاعاته كثيرة. أول قاعة عن يمين الداخل، واسعة فيها دكات مستديرة كثيرة من جانبيها من الباب حتى نهايتها، أشبه ما تكون لوقوف مصلين مسيحيين، بينما فيها محراب أيضا. ولعل المسيحيين أيضا يستعملون محاريب. هذا ما لا علم لي به. وجوه الجدران قد تعرت، ربما كانت نقوشا، وسرقت حجارتها. أكثر حجارتها من الصخر الذي يكثر في التلال المنتشرة هناك. الطابوق فيها قليل ، السور المحيط ببعض المسالك توجد فيه أقبية ضيقة لا يزيد ارتفاعها على أكثر من ثلثي المتر، لكنها تمتد طويلا. وتوجد في بعض جهاتها سراديب عميقة. ترددت في النزول إليها لأنها ظلماء. قال أحد البدو والذين وجدتهم هناك عن الأقبية، إنه كان يزج فيها من يحكم عليهم ليموتوا فيها، فهي سجن للموت. من أين للبدو هذا التعليل!؟ كما وجدت في قاعة كأنها إصطبل وفيها معالف وفي أسفل جدار كل معلف مربط إلا أنها عالية جدا، علو لا يتمكن حتى البعير أن ينال منها شيئا فبم يفسر هذا! وهنا وجدت عمال شركت الاسمنت العراقية.
على أي حال. يبدو أن المؤرخين وعلماء الآثار لم يتوصلوا لحد الآن عن عهد وتأريخ هذا البناء فاختلفوا في الرأي. أهو جاهلي أم إسلامي، أموي أو عباسي؟ ثم أهو الأخيضر أم الأكيدر؟ وربما كانت "اكيدر" محرفة عن "اخيضر" كما يقول "شكري الألوسي" مسندا رأيه هذا عن "ياقوت الحموي" وإنه أمير من أمراء كنده. وما دام المختصون لم يأتوا برأي قاطع فما يحق لي أن أنحاز لرأي ولست بالخبير.
وبعد أيام من العودة قمت بزيارة قبر "الحر ألرياحي" وهو الفارس الذي عرف عنه إن ابن زياد أمره أن يستقبل ركب الحسين، فيرغمه على أن يتوجه به إليه، وفعلا ضايق الحسين الذي اضطر أن ينزل في أرض كربلاء الذي استشهد فيها هو وأخوته وأبناء عمه وأنصاره. ثم انحاز الحر إلى جانب الحسين بعد طلب العفو والغفران. وضريحه محترم يزار، وسور صحنه كبير أيضا.
عند عودتي طبقت الأفق غيمة سوداء، ثم هبت زوبعة عظيمة، وأعقبتها أمطار غزيرة، بنفس الوقت. اقتلعت الزوبعة أشجارا ونخلا. وفي الطريق اقتلعت الزوبعة شجرة كالبتوس كبيرة، فتقطعت أسلاك الكهرباء، أثناء مرور رجل عجوز فوق حمار، فمسته الكهرباء، مات الحمار بصعقة منها وفر الرجل بسلام. وبعد أحد عشر يوما -21/4/1957- حدثت أيضا، بروق ورعود وأمطار غزيرة، وتقطعت أسلاك الكهرباء.
وحين أنهى ابني كفاح السنة الأولى نجح بتفوق إلى الصف الثاني وكان الناجح الأول. حين ظهرت نتائج امتحان البكالوريا في المدارس الإعدادية، كان جميع مدرسيه يتوقعون -بل قطعوا بهذا- أنه سيكون الأول. ولكن النتيجة ظهرت عكس ذلك. فاستغرب أساتذته ذلك، وبعضهم قال: كنت أتابع أجوبته أثناء المراقبة إضافة إلى ما أعلمه عنه خلال سنة الدراسة! أما هو فقد انتابه حزن عظيم، واعتبر المسألة نتيجة تلاعب. دافعت ضد رأيه هذا، غير إني أعرف أنه قد حدث مثل هذا، من أجل نجاح شاب، تعرفت عليه في الناصرية وكان شابا شهما للغاية، فاشل في الدراسة لكنه بطل في الألعاب الرياضية. وكان أن انتخب للدخول في كلية الملك فيصل لأنه الناجح الأول!؟. واستقبله عميد الكلية الانكليزي استقبالا حارا بالانكليزية طبعا، فوجم لا يحير جوابا. وصارح العميد بحكايته، وانتهى الأمر أن عاد بخفي حنين. وتلطف بعض وجهاء بلده وتوسط في أمر تعيينه في وظيفة استهلاك. فهو يقف في طريق القرويات والقرويين لاستحصال رسم الاستهلاك على ما يأتون به للبيع أو لغرض -الهبش والطحن- ولجهله حتى بالكسور العشرية والاعتيادية كان يسقطها ويعفيهم، بينما هو يثبت في الوصل مثلا أن المرسم كان كيلو وربع وأمثال هذا. وحين جاء مدققوا المالية، اتهموه بعد التدقيق انه مختلس وأي مختلس. إن المبالغ زادت على الألف!؟ وأوقف المسكين ضحية معلمي الرياضة، ولم ينج إلا بعد تدخلات الوجهاء وذوي الحظوة عند المراتب العليا! لا يستغرب القارئ هذا فإن الوجاهة في ظل الحكم السائد عندنا تستطيع أكثر من هذا.
ليس إذن من الغريب تكون حكاية أبني في محلها خصوصا وإن الناجح الثاني كان ليس ممن يرجى نجاحه!؟ كيفما يكن من أمر، فقد برهن الآن أنه ظلم، وقبل في القسم الداخلي أخيرا. وفي بداية السنة في 1/10/1957 نقلت إلى مدرسة الحسين.
مدرسة الحسين/1
هذه أول مدرسة أسست في كربلاء. حين نقلت إلى كربلاء كان مديرها السيد هاشم الخطيب، تلاه مهدي هاشم الشماسي. ثم أنتقل من وظيفة التعليم إلى الإدارة المحلية. وكان شابا طموحا وشاعر أو أديبا له إلمام باللغة الفارسية، وإطلاع على شعر أكثر شعراء الفرس. وله قصص منشورة، وقصة مطبوعة باسم "العمة لؤلؤة" وكراس صغير "مع الشعب الإيراني" هو نتاج تجواله في مدن إيران الشهيرة وبين آثارها القديمة. كما ترجم بعض رباعيات "حسين قدس نخعي" سفير إيران بطلب منه. بعد مراجعتها تعشق رباعية منها - نسيت أية رباعية هي حين قرأها عليّ-. وقال لصاحبها: أترجمها من أجل سواد عيون الرباعية وبدون مقابل!. وقد سبق لقدس نخعي أن طلب ترجمة رباعياته من قبل الدكتور مصطفى جواد والأستاذ المرحوم صالح الجعفري.
ولي بالشاعر الشماسي صلة أسبق من مجيئي إلى كربلاء، تعود إلى علاقتنا بقريبه الحاج "حسن الشماسي" المقيم في ناصرية "الأهواز" والذي أعلم أنهم من أصل بحراني ثم -بصريين-.
مدير المدرسة حاليا شاب يدعى "محمد حسين الأديب" وهو إيراني الأصل. خريج دورة بعد الإعدادية. ذكي جم النشاط، جيد في كل فروع الدراسة، مضافا إليه دراسته الفقهية. واسع الصلات خصوصا مع أكابر موظفي الدولة في مركز اللواء، ومع كثير من رجالاتها في بغداد والمدن الأخرى، ومع بيوت وجهاء كربلاء وتجارها، وبالأخص رجال الدين. وله بصفة خاصة صلة وثيقة برجل الدين الشهير"هبة الدين الشهرستاني محمد علي" والأستاذ "أحمد أمين" مدرس الرياضيات الذي أنصرف لدراسة الفقه وأصوله والفلسفة الدينية.
كما له صلة هامة بأحد رجال الهند، وقد سافر إلى الهند، وفي بيته مكتبة عظيمة قيل أنها تعود إلى هذا "الراجا" كما أنه يجيد اللغة الانكليزية والفارسية والهندية وقليلا من الكردية. وهو لكل هذا معتد بشخصيته أيما اعتداد. ومع هذا فهو يعتمد على المجاملة، يحاكي بها أساليب رجال الدين، بينما يقلد الارستقراطيين في أسلوب سيرته في الإدارة، في توحده -الغالب- فلا يدخل عليه من المعلمين إلا المقربين إليه. وحين يدخل بعض الآخرين فإنه بعد التحية، وتقديم ما أعتاد تقديمه من الشكليت وشاي الزعفران والسجاير، ينصرف إلى عمله المدرسي، أو التأليف الذي هو غالبا في الأمور الدينية -كيف تصلي اليومية- أو -حلق اللحية- أو -الصوم- إلى أمثال هذه. حاولت التعرف عليه قبل أن أنتقل إلى هذه المدرسة، حيث زرته عدة مرات. لكن لم أتفهمه جيدا إلا حين باشرت التدريس فيها.
المدرسة تضم أغلب أبناء وجهاء المدينة، خصوصا الذين هم في موقع محلة "العباسية" وأبناء الموظفين، بينما الغالبية أيضا هم أبناء الطبقة الفقيرة الذين هم بطبيعة الحال أكثرية في كل مكان. عهد إليّ درس العربي في صفي الخامس والسادس. ويبدو أنه لبروز شخصيته يختار المعلمين، إلا من ينقل إليها برغبة مع شفاعة محترم، أي أنه يختار ولا يعارض، تأدبا منه ومجاملة. وتضم المدرسة نخبة من المعلمين المتميزين باختصاصات معينة. صادق العاني في الإنكليزية، باقر القباني في العلوم الطبيعية، جليل السهروردي في الرياضيات، رفيق اطيمش في الرسم. كذلك معلمون لصف الأول.
لاحظت انه لا يعير اهتماما لو أن المعلم عاقب تلميذا من الطبقة الفقيرة! ولكنه يبدي اهتماما أكثر مما يلزم لو أن العقوبة وقعت على أبن وجيه!. انه يؤثر أن يرسل المعلم الطالب إليه لاتخاذ إجراء مناسب. وقد يكتفي بحجزه جالسا عند باب الإدارة، وينتهي الأمر بحلول الفرصة. وفي المعلمين من لا يكترث برغبته في رعاية أولئك، فهم ينظرون إلى طلبتهم بمنظار واحد.
صادف أن ندبت احد التلاميذ في الصف السادس لحل جملة على السبورة، كان مدللا حركا. أما في الدروس فمهمل للغاية. وبدل أن يستجيب، نهض يمثل مشية الثمل، نبهته إلى ما أريد، فمد يده إليّ بشكولاته من النوع الراقي: تفضل خوش شكليته!؟ أخذتها منه ، فاخذ يتمايل كأنه يتساقط؟ صحت به أن يجيب على المطلوب، فأجاب: آنه داي...خ! ناديت الفراش، وقلت: خذ هذا الطالب إلى المدير، وسلمه هذه الشكليته!؟ أما المدير فأجلسه في الإدارة لا خارجها! أنه ابن مدير منطقة تجنيد كربلاء "عبد الحميد سوادي". ولم أحاول تعقيب أمره. اكتفيت بهذا. مدير منطقة تجنيد كربلاء هو من لواء العمارة. كان أخوه كاظم سوادي معاون شرطة للأمور والمبادئ المحرمة، وقد مر ذكره في حديثي أيام الناصرية وإرسالي مخفورا إلى بغداد. (مرّ ذكره في قسم -الدرب الطويل- تحت موضوعة -الويل-/ ألناشر)
وصادفني صديق في الطريق ليلا فراح يعاتبني، كيف يصدر مني ما لم يعهده في سلوكي. وقص علي أن والد التلميذ، جلس إليه وإلى المفتش حسين قاسم العزيز، والغضب يغلب عليه، فهو يهدد ويتوعد (هذا المعلم الشيوعي .... وأنا لا يمنعني أن أرميه بطلقة مسدس، وأدوس عليه بحذائي .... انه يهين ابني يسميه بزر شكليت نايلون ... تأملوا سخفه أنه معلم تمام!؟ لقد قص على التلاميذ حكاية البعير المدلل، وأفهمهم أنها طبقا لوضع ابني ليث!؟). وعبثا حاولوا تهدئته، والدفاع عني باني لست كما يضن.
أفهمت صاحبي الحقيقة. قلت: ليتفضل حضرة السيد فيفعل ما يشاء!
في اليوم التالي كان لدي فراغ. فدخلت الإدارة لأقضي الوقت مع المدير. وجدت الرجل عنده، ولم أكن أعرفه. ولكن المدير بعد أن حياني، قال: هذا هو المعلم الذي تحدثت عنه. المدير لخص له الحكاية وقدم له الشكليته التي استلمتها من ابنه وأرسلتها إلى المدير. هذه الشكليته الحلوة تحولت أو حولها الطالب إلى شتيمة. المعلم يسميني بزر "شكليت نايلون" (مصطلح عامي يقصد به أنه ابن مترفين، ولم أقل هذا أصلا). والتفت الرجل يعتذر عما بدا منه. قال: أعترف أني تهورت كثيرا، شتمتك، هددت بالانتقام، إني أشكر الأخوة الذين دافعوا عنك. واشكر مدير المدرسة الذي أوضح لي الحقيقة. كذلك والدته وهي معلمة في مدرسة ابتدائية فيها بناتك، لقد انحازت إلى جانبك. وقالت: أن بناته مؤدبات فلا يعقل أن يكون كما يدعي ولدنا ونصدقه، إن أبننا مدلل حقا ومهمل. ونادى على ابنه، أمره أن ينحني فيقبل قدمي.
أمسكت بالتلميذ وقلت: لا يا سيد أنا لا أربي تلاميذي على العبودية، إني أربي للحرية. صاح: قبل يده. قلت ولا هذا أيضا. أرشده كيف يجب أن يستفيد ويتعلم ويخط مستقبل حياته. أما أنا فلست كما قلت -يريد ينتقم من أبني لأن أخي معاون شعبة شرطة الناصرية أوقفه كشيوعي؟- بالعكس أخوك جاملني كثيرا، وتوقيفي كان بأمر حاكم تحقيق الرصافة.
بعد هذا الحادث صار الرجل ممن يطلب ودي، وقد يفاجئني بوقوف سيارته يعرض علي أن يوصلني حيث أريد. أما زوجته النبيلة فقد كتبت إليّ مع إحدى بناتي تطلب مني أن أجلسه إلى جانب ولدي محمد وأن لا أعفيه من أي واجب. وتكرر شكرها لي.
أنا فخور أني أفعل ما يتلاءم وفهمي لقواعد التربية، وما تمليه علي ثقافتي وأخلاقي.
* * * *
واهتم كما يهتم ذوو العلم والسياسة بما يجد في العالم، وإن لم تكن اهتماماتنا ذات جدوى، ولكن أليس ما يجد من خير وشر بنا أو ينال مجتمعنا منه ما ينال الآخرين؟ ففي 4/10/1957حدثت في العالم ضجة، حيث أطلق السوفيت القمر الصناعي الأول. قالوا عنه، إنه يدور حول الأرض كل 95 دقيقة مرة. والتقطت إشارات وصلت منه. وعلى الأثر أعلن الأمريكيون إنهم سيطلقون كوكبهم في الربيع القادم. إنه سباق حقا ليس من أجل خدمة البشرية، إنما من أجل أن يصون كل منهم حكمه القائم أو سلطته على العالم.
وبعد فترة وجيزة في 3/11/1957 أطلق السوفيت كوكبهم الثاني. ويحتوي على أجهزة علمية للالتقاط والإرسال وتحليل الطيف الشمسي، والأشعة غير البنفسجية، ويحمل كلبا مدربا معه طعام يكفيه مدة معينة، وجرس ينبئه بموعد الأكل. ويرتفع هذا القمر عن الأرض مسافة كبيرة. أما الصاروخ الذي أطلق في 6/12/1957 ويحمل القمر الصناعي الأمريكي فقد أذيع عنه أنه تفجر في الفضاء وسقط القمر في البحر.
الناس في بلادي يهتمون بكل ما يسمعون، هاما أو غير هام. فقد تجمع عدد كبير من الناس أمام عيادة طبيب مصري جراح يدعى "إبراهيم" قالوا إنه مع مومس، أما هو فأغلق باب العيادة وأطفأ الأنوار. ثم تأكدت صحة التهمة. الذين يقترفون الآثام هذه الأيام ليسوا بالقلة ولا هم يتسترون أيضا، من عاديي الناس مثلما أيضا من ذوي ثقافة ووجاهة. فلماذا إذن رأوه أمرا عجبا؟ ألأنه مصري؟ أعتقد لأنه طبيب. والطبيب يجب أن يكون أمينا على أعراض الناس. هذا صحيح. وأطباء عراقيون أيضا يفعلون هذا، ومستقبل الأيام سيكون هذا أمر غير ذي أهمية. حدثني صديق أن ما يجري في المستشفيات أشد وأعجب. فالأطباء حتى الجراحين منهم، هؤلاء كنت أعتقد أنهم لكونهم يشرحون جسد الإنسان سوف تضعف فيهم شهوة الجنس بما يطلعون عليه وبتكرار، ولكني شاهدت بعيني إن كثير منهم يلاحق الممرضات، كحيوانات. وقد يعرض نفسه لإهانة، ولكن هذا نادر. فنحن ننادي بحرية المرأة، ولكن حرية المرأة مثل حرية الرجال تحت سلطة حكومات "رأس المال" إنها هي التي تجعل تلك الحرية "إباحية" ثم يهرج كتابهم وفلاسفتهم: إن الشيوعية، إذا حلت تفشت الإباحية!؟
ولقد حزنت اليوم 24/11/1957 لنبأ وفاة الشاعر المهجري الكبير "إيليا أبي ماضي". وقف أمامي زميل من المعلمين وقال: أيمكن أن يبقى امرؤ مخلد في الحياة إلى الأبد؟ فحول أحد الزملاء الموضوع إلى مجال آخر. كان هازلا. ولكن الآخرين أخذوه إلى مجال الجد. قال هذا ولماذا لا. الخضر ما زال حيا، وآخرون يقال لهم "رجال الغيب" و "عيسى بن مريم" و "المهدي المنتظر"!؟
لم أشارك في هذا الحديث. المتدينون من المعلمين هنا كثير، في طليعتهم مدير المدرسة، ولديهم دليل فوق كل دليل. هو دليل واحد. بعضهم يقذفه في وجه من يجادل حين لا يجد ما يرد مقابله. وبعضهم يجبهك مباشرة به (أتؤمن بوجود الله وإنه على كل شيء قدير؟ هذه الحياة المديدة من قدرة الله). طبعا لا يعرض أحد نفسه للمناقشة في وسط لا يكتفي بالجدل. بل لا يقصد من الجدل الوصول إلى حقيقة ما يجادل عنه، بل للتشهير، والإيقاع بالمخالف، والظهور مظهر المخلص للعقيدة على حساب خصمه. وحكاية أهل الكهف. واحدة مما يتخذوه الآخرون حجة دامغة.
أبو ماضي سيبقى حيا وإلى الأبد. ليس في "طلاسمه" حسب، كل شعره أوتار ترن على مسامع من يتعرف أسلوب أبي ماضي الرائع في قصائده التي جسد فيها مشاعره الوطنية والقومية والإنسانية، في "الطين" و "الشاعر والسلطان الجائر" و "الدمعة الخرساء". والتاريخ لا يخلد الطيبين حسب، إنه يخلد حتى أعداء الإنسانية أيضا. فالعراقيين لا ينسون صالح جبر بطل معاهدة بورتسموث المقبورة، ولا نوري السعيد مثلا، إنما سيبقى ذكرهم لعنة على الشفاه كلما ذكر شهيد أستشهد برصاصة في مظاهرة احتجاج، أو حكم عليه بالموت شنقا بأمر عات ظلوم.
ومهما كان للأحداث الخاصة بي من آثار تقض مضجعي، وتحز في نفسي، فإني أتصبر متأسيا بذوي الجهاد والتضحية من أجل عقيدة، أو غضبة ضد جزاري شعوبهم أمثال "نوري السعيد".
لم أقو اليوم على كبح جماح دمعة تلجلجت في موقي عينيّ، حين تسلمت تذكرة من أبي الشيخ، يطلب فيها أن أبعث إليهم اُم بيتي، لتقوم بخدمته وخدمة أمنا التي فقدت بصرها بحادث إعدام أخي "حسين". لدي ستة من الأبناء والبنات في المدارس الابتدائية والإعدادية. ولي دوامي أيضا فمن سيدبر أمر هؤلاء؟ ولكني آثرت أبويَّ علينا جميعا. ورحت أشرك بني جميعا، كلاً على قدر ما يستطيع لإنجاز ما نحتاج من أمر الطعام.
ولكن أمرا آخر، جعل حزني مضاعفا. أبي أحتاج المساعد فأسعفته، بعد أن سافرت أختي لاستقبال أخي "محمد علي" الذي تقرر إرساله إلى بدرة فقد أنهى محكوميته. كان قد حكم عليه بالسجن عشر سنوات عام 1949 في نفس الشهر الذي اعدم فيه شقيقنا "حسين" وبعد أن أنهاها أرسل إلى بدرة في 17/12/1957. ولابد أن يرسل إليها ليكمل الحكم الصادر عليه مع السجن عشر سنوات وخمس سنوات إقامة جبرية في بدرة. كم أنا مشتاق إليه. لم يعد لي شقيق غيره. وإنه جراء ما لقي من تعذيب وظروف سيئة أصيب بالتدرن الرئوي. أنا بحاجة إلى ما يمكنني من السفر للقائه. بضعة دنانير. وكم فكرت، من الذي أمد له يدي؟ إنها محنتي، ماء الوجه غال! وغبت عن وجودي في الصف السادس. وكأني في عالم بعيد ما فيه إنسان قط!
أحسست بطالب ينهض من كرسيه ويتوجه نحوي، ويضع يده على يدي: أستاذ؟
- نعم. لماذا تترك مكانك؟
- العفو أستاذ أشوفك محزون أنا بخدمتك إذا كنت محتاج؟ مباشرة صارحته بما أعاني. لقد شعرت إنه ذكي وطيب وإلا كيف أدرك ما أعاني. وخرج مسرعا من المدرسة وعاد بعد قليل يحمل أكثر مما توقعت!
الناشر
محمد علي الشبيبي



#محمد_علي_الشبيبي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- 3- عودة ومصائب وعواصف / 11
- 3- عودة ومصائب وعواصف / 10
- 3- عودة ومصائب وعواصف / 9
- 3- عودة ومصائب وعواصف / 8
- 3- عودة ومصائب وعواصف / 7
- 3- عودة ومصائب وعواصف / 6
- 3- عودة ومصائب وعواصف / 5
- 3- عودة ومصائب وعواصف/ 4
- نداء إلى رواد التيار الديمقراطي أينما كان
- 3- عودة ومصائب وعواصف/ 3
- 3- عودة ومصائب وعواصف/ 2
- 3- عودة ومصائب وعواصف
- 2- الدرب الطويل/ 21
- حتى لا تضيع دماء الضحايا المصريين
- 2- الدرب الطويل/ 20
- 2- الدرب الطويل/ 19
- تونس إلى أين!؟
- 2- الدرب الطويل/ 18
- 2- الدرب الطويل/ 17
- 2- الدرب الطويل/ 16


المزيد.....




- روسيا تدعي أن منفذي -هجوم موسكو- مدعومون من أوكرانيا دون مشا ...
- إخراج -ثعبان بحر- بطول 30 سم من أحشاء رجل فيتنامي دخل من منط ...
- سلسلة حرائق متتالية في مصر تثير غضب وتحليلات المواطنين
- عباس يمنح الحكومة الجديدة الثقة في ظل غياب المجلس التشريعي
- -البركان والكاتيوشا-.. صواريخ -حزب الله- تضرب مستوطنتين إسرا ...
- أولمرت: حكومة نتنياهو تقفز في الظلام ومسكونة بفكرة -حرب نهاي ...
- لافروف: أرمينيا تسعى عمدا إلى تدمير العلاقات مع روسيا
- فنلندا: معاهدة الدفاع مع الولايات المتحدة من شأنها أن تقوض س ...
- هجوم موسكو: بوتين لا يعتزم لقاء عائلات الضحايا وواشنطن تندد ...
- الجيش السوداني يعلن السيطرة على جسر يربط أمبدة وأم درمان


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - محمد علي الشبيبي - 3- عودة ومصائب وعواصف / 12