أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صبري هاشم - ما قبل اللذّة .. الجزء الثاني - شيوعيون ولكن .. -















المزيد.....

ما قبل اللذّة .. الجزء الثاني - شيوعيون ولكن .. -


صبري هاشم

الحوار المتمدن-العدد: 3329 - 2011 / 4 / 7 - 14:13
المحور: الادب والفن
    


17 ـ

عبثتْ بليلِنا حَيْرةُ التائهِ ولم نستسلمْ لنزالِها الثقيلِ فكنّا نُخططُ للقاءٍ عَبْرَ النهرِ المستريحِ في الأواخرِ مِن تموز . هي في الضفّةِ الأخرى وما بيننا زمنٌ مِن وجْدٍ مُضطربِ الموجِ سنقطعُهُ بواسطةِ عبّارةٍ مِن خشبِ الحورِ أفنى رائحتَه في هديرٍ أزليٍّ وإطاراتٍ مِن مطاطٍ . هي بدائيةُ الوجودِ . طوّحتُ بها في ذلك الفضاءِ الجافلِ أمام العيونِ القرويةِ لرجالٍ لم يروا أبعدَ مِن ظاهرِ السّفحِ كنّا بالقربِ مِن التقاء نهرين . أيهما هو الخيارُ الصحيحُ يا زوجتي العزيزة ؟ ما لنا وهذه الوقفة الحائرة ؟ فاتَنا زمنُ التّراجعِ ودخلْنا في عارِ الخيانةِ . العراق حرثتْهُ قنابلُ الحربِ والدكتاتور يمتصُّ رونقَ البلادِ ونحن نتوكأُ على زفراتِ الأماني . لا تستطيعُ قوةٌ على الأرضِ أنْ تسقطَ نظاماً مِن أقصى الجبالِ وعلى مسافةِ 600 كيلو متراً مِن العاصمةِ إلاّ إذا استجلبتْ قواتٍ غازيةً ومعها سارتْ نحو البلادِ عندئذٍ سيغدو للخيانةِ طعمٌ آخر . أنا لا أريدُ أنْ أتذوقَ طعمَ خبزِهم هذا .

***
18 ـ

كيف تذكّرتُ صيفَ البصرةِ ؟ كنّا نفترشُ في الليلِ السّطوحَ ، وفي سمائنا بلايينُ النجومِ تمرحُ وقمرٌ على رؤوسِنا يحطُّ . كنّا في كلِّ ليلةٍ نقطفُ مِن حقلِ السماءِ العجيبِ ما شئنا مِنِ النّجومِ ، نوزِّعُها في الأصباحِ على صدورِ نسائنا. كنّا في كلِّ ليلةٍ .. ثمة ليلةٌ لا تُشبه هذه الليالي الغريبةَ .

***

19 ـ
في أكثر مِن مكانٍ قلتُ إنّ الأحزابَ الشيوعيةَ في العراق وفي الوطنِ العربي وفي العالمِ كلِّهِ تُسيطرُ عليها الأقلياتُ القوميةُ والدينيةُ وتتبوأُ مراكزَ القرارِ فيها مِن أجلِ أنْ تحرفَ نضالَها لصالحِ انتمائها القوميّ أو الدينيّ أو المذهبيّ والطائفيّ ضد القوميةِ أو الدينِ الأكبر السائدِ في البلدِ ـ اُنظروا في الأسماءِ المهيمنةِ على قياداتِ تلك الأحزابِ وتأكدوا مِن صحةِ قولي ـ مستفيدة مِنْ غفلةِ الأكثريةِ في القاعدةِ بسببِ تدنّي الوعيّ لديها أو بسببِ رومانسيتِها الثوريةِ المُفرطةِ . في العراقِ كان المؤسسُ والقائدُ والقياداتُ التي هيمنتْ على الحزبِ فيما بعد ليست مِن العربِ أو المسلمين . هذه القياداتُ الحزبيةُ رسّختْ اعتقاداً لدى الشيوعيين أنّ العراقَ بلدٌ ليس عربياً وأنَّ قضاياهم المركزية هي ليست قضايا الأمة حتى صار المُتحزِّبُ الشيوعيّ يقفُ مع كلِّ قوميةٍ على سطحِ الكوكبِ إلاّ القوميةَ العربيةَ ومع كلِّ وحدةٍ إلاّ الوحدةَ العربية . هم حتى مع وحدةِ الغجرِ في حلِّهم وترحالِهم إنما ليسوا مع أيّ تقاربٍ بين بلدين عربيين . أكثر الشيوعيين العرب لم يدركوا هذه الحقيقةَ وإنْ أدركوها ولم يتفوّهوا فهم في قناعةٍ أخرى لا ندري ما هي !

***

20 ـ

ونحن في هوركي زارتْنا عند الظهيرةِ طائراتُ التُّركِ .. لم تلقِ علينا أرزاقاً ولم تقصفْنا ولكن في سمائنا لعبتْ وعلى رؤوسِنا صهلتْ وأسمعتْنا شيئاً مِن أنغامِها ثم غادرتْنا بعد أنْ أفزعتنا قليلاً . كنّا في السابعِ عشر مِن أيار مِن العام 1983 ، ثم توالتِ الطلعاتُ الجويةُ بعدئذٍ . بعد يومين نزحْنا .. إلى أين؟ اتخذْنا مِن عمقِنا الوطنيّ مهرباً .
أخذْنا متاعاً للطريقِ قليلاً وشيئاً
مِن شهوةِ الأملِ
لففنا الوليدَ بكوفيةِ المقاتلِ
وعلى الصدورِ ِحملناه
ثم مضيْنا عميقاً في كهفِ المتاهةِ
نحو غربةٍ ستغدو أزليةً

***

21 ـ

لم نحصدْ مِن وجودِنا في الشّمالِ العراقيّ النائيّ غيرَ مزيدٍ مِن الخيباتِ وكثيرٍ مِن الانكساراتِ .. مات رفاقٌ نُحبّهم واختطفتْ يدُ الغدرِ منّا مَنْ كان حتى الأمسِ حالماً بعراقٍ بهيٍّ جميلٍ . أخذتْ قوى الأحقادِ العنصريةُ منّا أصدقاءَ كانوا يكتبون ، في الحُلمِ ، نصوصَهم وأشعارَهم على أديمِ الماءِ وفوق رقائقَ مِن ورقٍ قديمٍ يكتبون يقظتَهم .. يُغرّدون لوطنٍ باتَ في قلوبِهم . صفوةٌ مِن خيرةِ الرفاقِ حَصَدَهم رصاصُ الغدرِ الطلباني . لم أنسَ تلك الأسماءَ التي رحلتْ بذاك الرصاصِ الغادرِ وتركتني وحيداً . أين سأبحثُ عن قبورِهم؟ في أيِّ القممِ مِن قنديل ؟ تحت أيِّ صخرةٍ مِن أرضِ بشتاشان ؟ على أيِّ القبورِ توزّعوا ، على السّفوحِ أم في باطنِ الوديان أم أنّ قبراً واحداً احتواهم جميعاً ؟ لم نأخذْ مِن وجودِنا في هذا المنفى مِن أرضِ " الوطن" سوى التمزّقِ وكثيرٍ مِن العطبِ الجسديّ والروحيّ . وبعد ربعِ قرنٍ لم نعثرْ لهم على أثرٍ .. أين درستْ قبورُكم أيّها الرجالُ الأفذاذُ فأنتم واللهِ أشرف وأكرم مِمَن مشى على هذه الأرضِ .

***

22 ـ

هنا وتحت صخورِ هذه الأرضِ " كُردستان " دفنّا أسرارَنا وحبالَ أبنائنا السريّةَ . نستشعرُ لذّةً بممارسةِ لعبةِ الخروجِ على القانونِ . هنا نشهرُ ضدَّ الهواءِ سلاحاً ، فنصيب منه أجملَ النّسيمِ ثم نُرديه قتيلاً . لعبةٌ سمجةٌ تلك التي صيّرونا إليها في غيابِ الوعيِّ بدعوى الثوريةِ التي لا تحتلُّ في القانونِ الدولي سوى مساحةِ إرهابيّ . هنا فوق هذه الأرضِ التي ابتلينا بالدفاعِ عمَنْ عليها سُفكتْ دماؤنا بلا رادعٍ أو رحمةٍ لأننا نزلْنا " ضيوفاً " . هنا .. هنا لا بدّ مِنْ طردِ الزمانِ وإلغاء المكانِ .

***

23 ـ

في ديوانِه الموسومِ " الديوان الغجري " تحدث لوركا شاعرُ اسبانيا العظيمُ عن آلامِ الغجرِ .. عن مآسيهم وأحزانِهم . عن حلِّهم وترحالِهم . لعل لوركا انتمى روحياً لهذه الشريحةِ الاجتماعيةِ الغريبةِ فتدفقَ روحُه شعراً . مَنْ يدري ؟ ألم ينتمِ ، في الزمنِ نفسهِ ـ الثلث الأول من القرن العشرين ـ تقريباً ، عرارُ شاعرُ الأردن " العظيم" إلى هؤلاء البشرِ مُتعاطفاً معهم ومُدافِعاً عن وجودِهم وحقِّهم في الحياةِ ؟ الغجرُ أمةٌ غريبةُ الأطوارِ مَنحتْ نفسَها حقاً إلهياً في السرقةِ والرحيلِ الأبديّ وفي إتيانِ الفواحشِ ، إنما الغجرُ يستدلّون على مَنْ يبتغيهم بقلوبِهم . أجل هم هكذا أينما وجدوا حتى لو في قريةٍ قابعةٍ في جنوبِ تركيا ، قرية " بيلات " مثلاً ، على الحدودِ مع العراق .

***

24 ـ

لم أتركْ ذاكرتي تحت وسادةٍ مِن ترابِ الطريقِ ولم أفكِّرْ بترفٍ فكريٍّ إلاّ حينما أنزعُ بين الفينةِ والأخرى لاستراحةِ المقاتلِ ، حيث أُرخي رأسيَ ـ بعد أنْ أنزفَ حنيني على هامةِ الوطنِ ـ على كتفِ الشِّعرِ فتأتي القصيدةُ بلا استئذانٍ منّي ، في الغالبِ متلفعةً بثوبِ الحبِّ تأتي ، فيسميها البعضُ قصيدةَ غزلٍ ويظنّها سقطةَ شاعرٍ أو بطراً في زمنِ الخرابِ أو يراني طروباً إنما هي إبتسامةُ المحزونِ . هم هكذا أبناءُ جلدتِنا اتهاميون دائماً ، إقصائيون دائماً، وإنْ شئتم فعدوانيون على مرِّ الزمانِ . سنتركُ جزءاً مِن ثروةِ الذاكرةِ للأبناءِ الذين ربما لم يتمكنوا في المنافي مِن فكِّ ألغازِ لغتِنا فيضطرون ، للأسفِ ، إلى ترجمةِ روحِ الآباء . سنتركُ لهم زاداً لمعرفةِ مجتمعِنا . أفزعتْنا هذه الكوابيسُ وجعلتْ منافينا جحيماً بعد أنْ صادرتْ منّا وطناً ما كان علينا نتركُه مِن أجلِ شلّةٍ عدوانيةٍ كارهةٍ لهذا الوطنِ ، تنامُ وتصحو على البغضاءِ. لم أفكِّر يوماً بالتخلّي عن ذاكرتي وإنْ أوجعتني ، فأنا أدخرها لكلِّ حينٍ . هم جعلوا مِن شبابِنا دريئةً لعجزِهم المقيمِ . هم أزهقوا أحلامَنا . قادةٌ عنصريون أنانيون زرعوا حياتَنا بالأشواكِ ومرّوا فوق أجسادِنا غيرَ مبالين بصبواتِنا وعشقِنا الجميلِ للحريةِ . ماذا يعنيهم لو تدمّرَ الوطنُ ؟ لا شئ مادامت تلك الرؤوسُ ، رؤوسُهم ، الخاويةُ العفنةُ سالمةً . لن أتركَ الذاكرةَ في مزبلةِ النسيانِ . لن أنساكم أيّها الخائنون . ترمون غيرَكم بما تضطرمُ به نفوسُكم المريضةُ ، فهذا جلاّدٌ وذاك دكتاتورُ وهذا ليس وطنياً وذاك عميلٌ وأنتم ترتعون في وحلِ الصفاتِ.

***

25 ـ

في العام 1980 رفع الحزبُ الشيوعي شعارَ الكفاحِ المُسلّحِ ضد سلطةِ الدكتاتور صدام حسين . في تلك الأيامِ هبّت أعدادٌ غفيرةٌ مِن أجملِ شبّان الحزبِ وغادروا منافيهم باتجاهِ شمالِ الوطنِ . البعضُ مات في الطريقِ والبعضُ قُتل في معاركَ غير مُتكافئةٍ والبعضُ إغتالتْهُ يدُ الغدرِ المُتجسدةِ في همجيةِ بيشمركَة الطالباني التي تجلّت في مذبحةِ بشتاشان الشهيرةِ والبعضُ اغتالتْهُ "الجحوشُ" مِن الأكرادِ المتعاونين مع النظامِ أو مع هذه الجهةِ أو تلك . في تلك الفترة رفضتْ قطّاعاتٌ واسعةٌ مِن الحزبيين الكفاحَ المسلحَ وقبلتْ بالعقوبةِ الحزبيةِ التي وصلتْ أحياناً إلى حدِّ الطردِ مِن الحزبِ الذي تركتْ مِن أجلهِ الوطنَ أو قبلتْ أنْ تُرمى بالعمالةِ للنظامِ وسفاراتِه وتحت حججٍ وذرائعَ مختلفةٍ، منهم مَنْ تحجج بالمرضِ والآخر مَن افتعلَ خصومةً مع الحزبِ لا ندري ما هي والبعضُ صار ينتظرُ الوليدَ القادمَ مِن بطنِ الغيبِ والآخر أعلنَ خوفَه على حياتِه والقليلُ منهم مَن قالها صراحةً إنه لا يُريدُ لامرأته ، بعد تركِها والتوجه إلى شمالِ العراق ، أنْ تكونَ عشيقةً لهذا القائدِ أو ذاك أو مصدراً لمتعةِ المشوّهين مِن الرفاقِ ، وهذا حقٌ لا جدالَ عليه ففي تلك الآونةِ برزتْ في الحزبِ ظواهرُ سيئةٌ للأسفِ سرعان ما انتشرتْ في كلِّ منظماتِ الخارجِ مِن بيروت حتى عدن ومِن بلغاريا حتى الجزائر . الحزبيون بهذا المعنى أفرغوا الشيوعيةَ مِن محتواها وألقوا بها الى الجحيمِ . فالشيوعيّ بالمعنى المُجرّد هو ذلك الإنسانُ الذي يسعى إلى بناءِ الجمهوريةِ الفاضلةِ أو هو الإنسانُ الفاضلُ !
فأيّ معنى بقي للشيوعيّ في ظلِّ هذا الخرابِ ؟
المتمنعون هؤلاء عوّدونا على أنْ يتصدروا المشهدَ الحزبيَّ في الظروفِ المؤاتيةِ . إنهم نهازوا فرصٍ بامتياز !!

***
26ـ سُئلتُ مرّةً لماذا يُغنّي البلبلُ ؟
فأجبتُ :
في أعلى نخيلِ العراقِ تمرةٌ يثقبُها بمنقارهِ بلبلٌ ، يضعُ في عفّتِها شيئاً مِن روحِه وبعضاً مِن رضابهِ ثم يغلقُ ثقبَ العفّةِ . في أعلى حلاوةِ النخيلِ الباسقِ يأتي في صبحِ البصرةِ بلبلُ التمرةِ التي مِن لعابهِ تخمّرت .. يحتسي ما في جوفِها بأعتى شهقاتِ اللذّةِ ويسكرُ . البلبلُ البصريُّ يُغنّي حينما يسكرُ .. ويسكرُ بخمرةٍ معتقةٍ مِن رحيقِ روحهِ . هو دائماً يغني .. مادام هناك نخيلٌ يُغنّي .
هنا في هذه الجبالِ المكسوّةِ بالقسوةِ والصخورِ وشجرِ البلّوطِ حيث لا نخل ولا بلابل ولا تمور ولا نرى مِن الطيورِ سوى النّسورِ تجوبُ السّماءَ . هنا في أقصى قمةٍ في الشمالِ يصدحُ صوتُ الرعاةِ العذبُ . عجبي هل يسكرُ الرعاةُ من حنينِ التمرِ !؟

***

27 ـ

صرْنا على أبوابِ الشام زوجتي وأنا وصغيرنا الذي لم يُكملْ شهرَه الثاني . الحافلةُ توقفتْ أمام السيطرةِ المنصوبةِ عند مدخلِ دمشق . في الحافلةِ بشرٌ صبورون . بقسوةٍ استجوبني الضابطُ ولم أدرِ ما السبب :
ـ مِن أين أنتَ ؟
ـ مِن العراق .
ـ وكيف دخلتَ البلدَ ؟
ـ مثل كلِّ العراقيين في الشامِ الذين تزدحمُ بهم بيوتُ السيدة زينب .
ـ مَن أعطاك هذه الهويةَ ؟
لم أجب كانت هويتي وهويةُ زوجتي صادرةً عن جبهةِ النضالِ الشعبي الفلسطينية . عندما سلّمَنا إياها الرفيقُ المسؤولُ في القامشلي لم نطّلعْ على فحواها بسببِ الثقةِ العمياء بالحزبِ ورفاقِ الحزبِ .
أضاف :
ـ في أيِّ يومٍ مِن شهرِ تموز نحن ؟
أجبتُ :
ـ في العاشر مِن تموز مِن العام 1983 .
قال الرجلُ :
ـ أُنظر إلى تأريخِ إصدارِ الهويةِ ؟
نظرتُ وتعجبتُ . كانت الهويةُ صادرةً في الرابعِ عشر مِن تموز مِن العامِ نفسِه . أي أننا نسبقُ الزمنَ بأربعةِ أيام .
الحافلةُ تتململُ ضجراً وزوجتي سئمت الوقوفَ بين يدي فصيلِ السيطرةِ والصغيرُ يصرخُ تحت أشعةِ شمسِ تموز والضابطُ يلحُّ على معرفةِ هويتي الحقيقيةِ .
ـ مِن أيِّ جماعةِ أنتَ ؟
ـ لستُ مِن جماعةٍ محددةٍ إنما أنا مِن الحزبِ الشيوعي العراقي .
ـ أعطني أسماءَ مسؤوليكم في القامشلي والشام .
أعطيته أسماءَ شخصيتين كرديتين عراقيتين حزبيتين متنفذتين في القامشلي والشام ولهما علاقاتٌ وطيدةٌ مع جهازِ المخابراتِ السوريّ حيث عن طريقِهما، بإشرافِ المخابراتِ ، يأتي إلينا الدعمُ اللوجستيّ مِن مالٍ وسلاحٍ في حركةِ الأنصارِ الشيوعيةِ وكذلك لبيشمركَة الأحزابِ القوميةِ الكرديةِ .
ـ كان عليك أنْ تكشفَ عن هويتِك منذ البدايةِ .
صار الضابطُ كريماً معنا فأطلقَنا وأطلقَ الحافلةَ التي لم تتوقفْ بنا بعد تلك الرحلةِ .

***

28 ـ

كثيرةٌ هي الأفكارُ العظيمةُ التي تزورُنا ولم نحتفِ بها فتعتذر عن المجيء ثانيةً ، وكثيرةٌ هي الصورُ الشعريةُ التي نُضيّعها في لحظةٍ ما ولم نقتنصْها بشجاعةٍ .

***

29 ـ

في تلك الأيامِ مِن أيامِ حربِ الأنصارِ كنّا نتوزّعُ هامَ الجبالِ ولم نتوقفْ أمامَ مرايا النفوسِ إلاّ قليلاً . كانت صدورُنا تكتمُ كلاماً غريباً يأتي مِن مكانٍ قصيٍّ، من خلفِ الأفقِ . لم نستطع البوحَ به رغم جمالِه وجمالِ مأتاه . آلافُ الأفكارِ النبيلةِ والكريمةِ ذهبتْ أدراجَ الرّياحِ ولم تُدوّن .. آلافُ الصورِ الشعريةِ التي تبددتْ دون أنْ تُسجّلَ على ورقةٍ حيث كانت الورقةُ والقلمُ ترفاً فكرياً . ضاعتْ قصائدُ وأفكارٌ في هباء المكانِ ، تطايرتْ مِن فوق القممِ ومع هذا لم نبكِ على مياهِ الخابورِ كما بكى يهودُ السبيِّ على مياهِ بابل . لم نندبْ حظوظَنا .

***

30 ـ

في الطريقِ إلى رؤوسِ الجبالِ الهكارية
تأتي الرياحُ بغتةً
مثلما تأتي المنايا محملةً بالزئيرِ القاتل
ويأتي بالثلجِ صمتٌ
في كلِّ حينٍ يأتي ، بجرحٍ فاغرِ الفمِ ، وطنٌ
في الطريقِ رجالٌ مِن مدنٍ مفتوحةٍ على البرّيّةِ والماء
لم يعرفوا للطبيعةِ قسوةً
ولا عصفاً في سكون
أخذهم الثلجُ الحارقُ ووحشةُ المكانِ
أحدهم أبِقَ في اشتدادِ العاصفة
أحدهم كان ذا بأسٍ ، شجاعاً
أكَلَ الثلجُ قدميه فاسودتا
وبات في خَلوةِ المسافة
مصادفةً
إلى مكانٍ ما في شعابِ الجبالِ أوصلوه
حسينٌ هذا ناطحَ السّماء
ولكن في لحظةِ يئسٍ خََذَلَهُ الجسدُ
حسينٌ هذا أوهنَه الكبرياء
حسينٌ يا ابن الأكرمين
خاب الرجاء

***

31 ـ

في فجرِ الحادي والعشرين مِن نوفمبر في العامِ 1970 وبعد الانتخاباتِ الطلابيةِ والعماليةِ ، اقتحمَ رجالُ الأمنِ حرمةَ بيتِنا ـ كنتُ طالباً في الصفِّ الخامس العلمي ـ وفتّشوهُ شبراً شبراً . كانوا يبحثون عن السّيدين كارل ماركس وفلاديمير ألتش لينين والساعةُ تشيرُ في تلك الأثناءِ إلى الثانيةِ وعشرِ دقائق مِن فجرٍ خريفيٍّ بَصْريٍّ باردٍ . الله لم يعُد موجوداً في تلك الأيامِ والأهلُ تقاسمتْهم المغترباتُ وأنا كعصفورٍ فقدَ آخرَ الملاذاتِ . بخرقةٍ عصّبوا عيوني وإلى الوراء كتّفوا يديّ وساقوني أمامَهم بالركلاتِ ثم أصعدوني إلى حوضِ سيارةٍ ربما كانت " بيك آب " .. أحاطني رجالٌ لم أسمعْ منهم سوى ضحكاتٍ بلهاء وبنا مضتِ السّيارةُ التي لم تكن وحيدةً على مايبدو فهناك تناهى إلى سمعي أصواتُ سياراتٍ أخرى . بعد مدّةٍ مِن الزمنِ توقّفت السياراتُ وأنزلوني . صرتُ عارياً إلاّ مِن سروالٍ قصيرٍ لسترِ العورةِ . أمام مديرِ أمنِ البصرةِ وقفتُ . سألني :
ـ أنتَ فلان ؟
قلتُ :
ـ نعم
بصقَ في وجهي .. تلك البصقةُ كانت إيذاناً ببدئ التعذيبِ . هم يضربون وأنا أحلمُ في تلك الأثناءِ بكتابةِ نصٍّ عن عمّالِ الميناء .. هم يضربون وأنا أحلمُ في تلك الأثناءِ بكتابةِ قصيدةٍ عن عمّالِ المسطرِ أو عن بنات " نهير الليل " لا أتذكّر تماماً ، لكني أتذكّرُ أني كنتُ أحلُم :
الليلةَ هل زارَكُم البحرُ ؟
إذاً عاد البحّارُ الذي انتشلتْهُ في أعالي الموجِ حورية
وعادَ العقدُ الضائعُ
وبريقُ اللؤلؤِ وصوتُ الجان
وعادت أنغامُ الرّيحِ وطيورُ المُرجان
هل عادَ البحّارُ بثيابِ القرصان
فأين البحرُ إذاً
وأين المركبُ والقبطان ؟
هل زارتْكم بحارٌ ، أنهارٌ ؟
هل عادَ السّمكُ المسحورُ بلوعةِ الخلجان ؟
هل خيّمَ الليلُ فوق سماءِ "نهير الليل" ؟
هل نامتْ بعد اللذّةِ بناتُ "نهير الليل" ؟
إذاً إنحسرَ البحرُ وجفلتْ سفينةٌ
بعدئذٍ تكرر في الخدمةِ العسكريةِ الإلزاميةِ اعتقالي .. صرتُ سهلَ القيادِ لكلِّ ذي سلطةٍ وأنا بين أيديهم .. لكلِّ مَن هبَّ ودبَّ . صرتُ كبشاً في كلِّ عيدٍ . صرتُ فرساً لا يُغادرُ اصطبلاً وكلّما عنَّ لأحدِهم امتطاءُ صهوتِه امتطاها .

***

32 ـ

تعطّلي وبالأرضِ تشبّثي وبنا لا تقلعي فعدن زيَّنَتْنا بالخواتمِ وبالأساورِ طوّقتنا .. على أرضِ المطار لا تفرشي جناحيك فهنا نتركُ أرواحَنا ونقصدُ المجهولَ . بنا أيتها الطائرةُ المجنونةُ لا تقلعي .. إلى أين ؟ إلى الشامِ حيث تخرجُ الحورياتُ صباحاً بماء الوردِ وتنامُ بناتُ الفيء ضحى . مالنا والشام ؟
***



#صبري_هاشم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ما قبل اللذّة .. الجزء الأول - شيوعيون ولكن .. -
- الاحتفاء بزمن الانطولوجيا
- نثرتُ الهديلَ
- خذوا أشياءكم
- نصوص للسيد الدكتاتور
- برلين مدينة الكراهية
- في مكان ما
- لن تذبل الوردة
- التمثال والمثّال
- مساء الحكايا
- الخلاسيون رواية
- حديث الكمأة .. رواية صبري هاشم
- كتابي .. الأعمال الشعرية الناقصة .. الجزء الثالث
- كتابي .. الأعمال الشعرية الناقصة .. الجزء الثاني
- كتابي الأعمال الشعرية الناقصة .. الجزء الأول للشاعر صبري ه ...
- تلك الطائرة التي أقلتنا
- صوفي أيها النبيل
- أرض الرؤيا
- الفراش لا يُحبّ العاصفة
- قمر في بحري عينيك يسبح


المزيد.....




- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صبري هاشم - ما قبل اللذّة .. الجزء الثاني - شيوعيون ولكن .. -