أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - رباح حسن الزيدان - رؤية هيجل للمجتمع المدني















المزيد.....


رؤية هيجل للمجتمع المدني


رباح حسن الزيدان

الحوار المتمدن-العدد: 3326 - 2011 / 4 / 4 - 19:32
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


يعتبر هيغل الأسرة، والمجتمع المدني، ميداني فهم للدولة، وميداني نهائيتها. أولاً، الأسرة، باعتبارها كلاً جوهرياً، هي التي يتعلق بها قبل أي شيء، التبصر من أجل الفرد في هذا الوجه الخاص، سواء من وجهة نظر الوسائل والقابليات الضرورية، لينال نصيبه من الثروة الجماعية، أم من جهة نظر معاشه ونفقته، في حال حدوث العجز . وتمثل الأسرة الكلي. أما المجتمع المدني، فهو يقطع هذه الرابطة ويبعد أعضاء الأسرة بعضهم عن بعض ويعترف بهم بوصفهم أشخاصاً مستقلين (...) وعلى هذا النحو، يصبح الفرد في المجتمع المدني، الذي بإمكانه أن يطالب به، بيد أن الفرد تكون له أيضاً حقوق عليه" .‏ - يمثل المجتمع المدني لحظة الجزئية. أما الدولة فهي ضرورة خارجية وقوة أسمى، من جهة مقابل دوائر الحس الخاص والمصلحة الخاصة للأسرة والمجتمع المدني، فبطبيعتها تلحق قوانينها ومصالحهما التي تتعلق بها. ولكنها من جهة أخرى، غايتهما المتضمنة فيهما وقوتها في وحدة غايتها النهائية الكلية ومصالح الأفراد الخاصة، وهي وحدة تعبر عن نفسها في حقيقة أن لهؤلاء، الأفراد واجبات حيالها، ضمن الحد الذي لهم فيه حقوق في الوقت ذاته" .
والخلاصة التي يمكن التوصل اليها من خلال العرض المكثف السابق هو أن الأساس التاريخي لمفهوم المجتمع المدني ضمن ارتباطه بالواقع البرجوازي، وضمن الشروط التاريخية التي تشكل فيها، يقوم على ما يلي:‏ أولاً: على أساس مضمون الحياة المدنية الحديثة والمعاصرة، الذي جوهره التحرر السياسي، وعلى التمييز بين الإنسان المطلق والإنسان الديني، أو بالأحرى على انفصال واستقلال الإنسان الديني، عن مواطن الدولة المدنية، باعتبار هذا التمييز، أو هذا الاستقلال هو البذرة العقلية للتحرر السياسي بالذات. ولكن علينا أن نؤكد أن تحرر الدولة السياسي من الدين، لا يعني بأي حال تحرر الإنسان الفعلي من الدين، فالدولة تستطيع أن تتحرر تماماً من الدين، حتى حين لا تزال أغلبية الشعب أو الأمة متدينة، علماً أن بقاء هذه الأغلبية دينية لا يعدو أن يكون بقاءا دينياً خاصاً.‏ إن عملية الانتقال هذه، هي التي كانت أساس ولادة العلمانية للدولة السياسية من ناحية، وللمجتمع المدني من ناحية أخرى.ثانيا : ينجم عن الملاحظة السابقة أن التحرر السياسي، قلما يقضي على التدين الفعلي للإنسان، مثلما لا تعني العلمانية الإلحاد. ومن هذا المنظار، تصبح العلمانية روح المجتمع المدني، ولا يمكن تحقيقها إلا في درجة جذرية من انفصال السياق الديني عن الدولة، وبالقدر الذي تبرز به الدرجة المعنية من تطور الروح البشري للإنسان، حيث أن التحرر السياسي، هو التعبير عنها، لكي تبني نفهسا به في شكل دنيوي. وهذا ما لا يمكن حدوثه إلا في ظل سيادة العقلانية، واستقلال المجتمع المدني عن السلطة الدينية، واستقلال السلطة الدينية عن السلطة الزمنية، وفي ظل سيادة الدولة الديمقراطية الحديثة والمعاصرة، حيث أن كل إنسان مطلق بمفرده، مؤمناً كان أم متديناً، متعصباً لدينه وأصولياً أم غير ذلك، ظلامياً أم عقلانياً، يكون فيها كائناً إنسانياً نوعياً سائداً.
ثالثاً: يقوم المجتمع المدني على أساس احترام حقوق الإنسان، وهي جزئياً الحقوق السياسية، ومضمونها يكمن في المشاركة السياسية في الدولة. ومن هذا المنظار، فهي تدخل في مقولة الحرية السياسية. وحقوق الإنسان هي حقوق عضو المجتمع المدني المتحرر سياسياً، أي حقوق الإنسان الأناني، أو الفرد البرجوازي. أما مرتكزات إعلان حقوق الإنسان، فتتمثل في المساواة السياسية والقانونية، والحرية والملكية الخاصة، والأمن. من الناحية التاريخية، والسياسية، والأخلاقية، إن حق الإنسان في الحرية يعني فعلياً وعملياً حق الإنسان في الملكية الخاصة. يقول ماركس معلقاً على هذا الموضوع، "ومن هنا ينجم أن حق الإنسان في الملكية الخاصة هو حقه في انتفاع بملكه والتصرف به على هواه (a som gré) دون أي علاقة بالناس الآخرين، بصورة مستقلة عن المجتمع، أنه حق المصلحة الشخصية" .‏ رابعا: إذا كان المجتمع المدني ببعده التاريخي العالمي، يشكل الأساس الطبيعي للدولة البرجوازية الحديثة والمعاصرة، فإنه لا يعني بأي حال من الأحوال اعتبار المجتمع المدني هو الليبرالية عينها فقط، كما يروج له بعض الكتاب.‏ ومع أن هذا المجتمع المدني قد اكتمل تطورهفي المجتمع البرجوازي الحديث، في أوروبا الغربية، وباحتوائه كل الحياة التجارية والصناعية، في إطار درجة معينة من تطور القوى المنتجة والنقابية، في الحياة السياسية، وبتخطيه جدلياً حدود الدولة القومية والأمة، ليعتنق رحاب العالمية، إلا أن الايديولوجية البرجوازية الليبرالية تحاول تقزيمه بإبرازه خارجياً في صورة القومية، وداخلياً في صورة الدولة.‏ خامساً: إن المجتمع المدني بهياكله الاقتصادية، وانقساماته الطبقية والفئوية، وتبايناته الاجتماعية وتكويناته السياسية والنقابية، الذي تحكمه مبادىء المواطنة، والمساواة السياسية والقانونية بين الأفراد في الحقوق والواجبات، والمشاركة السياسية من خلال الانتخابات التشريعية، والبلدية والمحلية، لانتخاب الممثلين عنه للاضطلاع بأعباء السلطة في الدولة البرجوازية، باعتبار أن الشعب أو الأمة، هو مصدر السلطات، الذي لا يتحقق كمبدأ، إلا في ظل سيادة الديمقراطية، بوصفها أيضاً الساحة التي يتقاطع فيها المجتمع المدني مع الدولة، فإن هذا المجتمع المدني عينه، هو مجتمع الاختلاف، والتعدد، والتعارض، والتناقض، داخل بنيانه، وهياكله الاجتماعية والسياسية.‏ سادساً: وعندما نؤكد على الجوانب الايجابية والتقدمية للمجتمع المدني، علينا أن نعترف بأن أوروبا الغربية، كانت لحظة تاريخية مهمة كبيرة وحاسمة، وحيوية، في التبلور التاريخي لهذا المجتمع المدني بعمقه العالمي، وإن كان هذا الاعتراف ليس مقترناً بالنزعة التماثلية، أو بالتبعية للمركزية الأوروبية، بقدر ما هو نابع من منهج نظري، يتخذ من الجدل ركيزة أساس في بنيانه الداخلي.
ماركس والتخطي الجدلي للتناقض بين المجتمع المدني والدولة السياسية‏
في البدء لابد من الإشار الى أنه ليس ثمة نظرية تبدو للوهلة الأولى أنها على تناقض جذري صارم مع النظرية الليبرالية الكلاسيكية أكثر من الماركسية، فإن المبادىء الأساسية المتعلقة بامكانية خلق مجتمع مدني متجانس قائم على أسس واقعية للديمقراطية، والعقلانية، والمواطنة، وحقوق الانسان، والالتحام بين الحرية والمساواة، هي مبادىء مشتركة بين الاثنتين .
ومع أن الليبرالية والماركسية تتناقضان بشكل حاد بخصوص الغايات والأساليب، والدور التاريخي الذي قدّر للبروليتاريا أن تلعبه، إلا أن على حدودهما كان يتم تداخل الواحدة منها بالأخرى، باعتبار أن الماركسية، التي ترعرعت في موروث الفلسفة الليبرالية الكلاسيكية الأوروبية، شكلت تحولاً تاريخياً على نحو متواصل، وقفزة ثورية وفق نمط مترابط منطقياً، حيث أبدعت جدلاً نوعياً جديداً في غمار النضال الثوري، مستفيدة، ومنقذة، ومحافظة في الوقت عينه، في سيرورة تطويرها للنواة العقلانية الحقة لجدل هيغل، ومنتقدة إياه من مواقع نظرية نوعية. فإذا كان الاقتصاد السياسي الانكليزي، والاشتراكية الفرنسية، والفلسفة الكلاسيكية الألمانية، قد شكلت المصادر النظرية الأساسية للفلسفة الماركسية، فإنه والحق يقال تمثل النظرية الماركسية الوريث الشرعي للمنجزات الجدلية المثالية، من القرن السادس عشر إلى منجزات هيغل الجدلية، التي طرحت مسألة تطابق الجدل من المنطلق ونظرية المعرفة، والتي كانت في الوقت عينه، نقطة انطلاق لأسس الماركسية، والتجاوز الجدلي الخلاق والمبدع للنظرية الليبرالية الكلاسيكية الأوروبية عامة.‏
يستخدم ماركس مصطلح المجتمع المدني بطريقتين، الاولى وردت في " المسألة اليهودية" حيث المجتمع المدني، هنا، كحياة مادية خاصة مقابلة للحياة العامة والمجردة للدولة الحديثة، حيث يتم التحديد، هنا، بالتقابل (التعريف بالنقيض)، والمجتمع المدني هذا هو المجتمع البرجوازي. أما في " الايديولوجيا الالمانية " فإن ماركس يماثل بين المجتمع المدني وعلاقات الانتاج التي تشمل العلاقات الاقتصادية (علاقات السوق) والعلاقات الاجتماعية، أي علاقات الملكية الخاصة.
وفي المؤلفات اللاحقة وخاصة في " رأس المال "، يستغني ماركس عن مصطلح المجتمع المدني كبنية تحتية ويبقي على مفهوم علاقات الانتاج الاجتماعية – الاقتصادية كمسرح للتاريخ. أي على اعتبار أن التاريخ اساسا هو الانتقال من شكل سائد للملكية الخاصة الى شكل جديد. هذا التخلي عن المفهوم جاء على أرضية الارهاصات الثورية لمنتصف القرن التاسع عشر (ثورات 1848 الديمقراطية)، وعلى أساس التحضير النظري لقلب السلطة البرجوازية وتحطيم سلطتها ومعها مجتمعها المغترب – مجتمعها المدني.
وكما معلوم فإن الماركسية درست، وحللّت، واستخلصت الدروس، التي قدمتها الثورات البرجوازية الأوروبية في الماضي، فيما يتعلق بمفهوم المجتمع المدني وعلاقته ببناء الديمقراطية، وبخاصة الثورة الانكليزية خلال أعوام 1640- 1649، والثورة الفرنسية الكبرى خلال أعوام 1789- 1794، وربيع ثورات 1848، التي اجتاحت أوروبا، وهدّمت عروش الملكية المطلقة، وقضت على الاقطاعية، ونجحت في مرحلة صعودها في إحداث تطورات تاريخية عظيمة لا تتزعزع في مجال بناء مجتمع مدني منعتق سياسياً، يسود فيه مبدأ الحق البرجوازي، حيث تشكل الملكية الخاصة عامة، والملكية الخاصة لوسائل الانتاج بخاصة، الضمانة الحقيقية لنظام الدولة السياسية البرجوازي.‏
ترتبط مفاهيم " المجتمع المدني " و " الديمقراطية " بسياق محدد وهو الذي يسمح ببروز مفهوم " المواطن " أو " الفرد ". هذا السياق هو الذي " يختزل الانسان الى عضو في المجتمع البرجوازي " والى الفرد الاناني المستقل من جهة، والمواطن، الشخص المعنوي من جهة اخرى، على حد تعبير ماركس. وليس هذا السياق التاريخي غير العصر الذي يصبح فيه الفرد متساويا من الناحية الحقوقية على الاقل) مع كل فرد وأخر، فينزل الى حلبة الحياة مجردا من انتمائه الى العشيرة أو الطائفة، أو الملة.
ولاحقا، مع التطورات الحاصلة في التشكيل الاجتماعي الرأسمالي والتطورات الحاصلة في العلاقات بين الدولة والمجتمع المدني وكذا تطور الممارسة الديمقراطية وبروز ظواهر جديدة تستهدف معالجات جديدة، أعاد المفكر الايطالي المعروف غرامشي اكتشاف وبلورة هذا المفهوم واستخدامه ومنحه مضامين جديدة.
إن مفهوم المجتمع المدني عند ماركس ينطلق من السياسة كتجريد، حيث يمثل " نقد فلسفة الحق لهيغل 1843 "، و " المسألة اليهودية "، النقد الأكثر جذرية، التي كان موضوعه الحق والدولة الدستورية التمثيلية الحديثتين، وذلك باسم الديمقراطية الجذرية. لقد بقيّ هذا النقد أدنى بكثير من الناحية النظرية من نقد الرأسمال، ولكنه شكل مرحلة انتقالية، المحرك لايصال نقد السياسة إلى نقد الاقتصاد السياسي، أي إلى نقد رأس المال، باعتباره يدخل في سياق عميق التحليل النظري لنمط الانتاج الرأسمالي، وللعلاقات الانتاجية الرأسمالية الجديدة. كتب ماركس في مقدمة كتاب: " مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي "، يقول"... وساقتني أبحاثي إلى النتيجة التالية، وهي أن العلاقات الحقوقية، شأنها بالضبط شأن أشكال الدولة لا يمكن فهمها لا بحكم ذاتها، ولا بحكم ما يسمى التطور العام للروح البشرية، وإنما على العكس، تمد جذورها في العلاقات الحياتية المادية التي يسمى هيغل، مجموعها "بالمجتمع المدني" على غرار ما فعل الكتاب الانجليز والفرنسيون من القرن الثامن عشر، وأنه ينبغي البحث عن تشريح المجتمع المدني" .‏
ويظهر أول نقد علمي للاقتصاد السياسي، الدولة السياسية البرجوازية، كامتداد، تعبر عن علاقات الانتاج الرأسمالية، التي تتمفصل عليها، وإن استقلاليتها مرتبطة، بتبعيتها لبنية التبادل من أجل الانتاج، أي بتشكل المجتمع المدني في طبقات متناقضة.‏وهكذا، فالمجتمع المدني، يختزله ماركس إلى مواجهة ذريه للمصالح الخاصة واعتباره مجتمع غير سياسي، تحدده تناقضات المصالح فيه، الدولة السياسية البحتة و"شكلياتها وبيروقراطيتها كتوسط مجرد وعاجز لمصالحه".‏
ومن الطبيعي التأكيد على أنه لا يمكننا أن نفهم هذا الموقف السلبي من الدولة، ووضع " المجتمع المدني " مقابلاً لها إلا إذا نزّلنا المفهوم الماركسي في الظرفية التاريخية للنضال الفكري السياسي، والاقتصادي الاجتماعي الذي عرفه النصف الثاني من القرن التاسع عشر..... وهكذا يمكن القول : إن المفهوم قد اكتسب في الرؤية الماركسية معنى مادي نأى به عن المفهوم المعرفي البحت، ومعنى ثوريا ليتحول في العمل اليومي الى سلاح سياسي ضد السلطة الاستبدادية. ويقطع كل من ماركس وانجلز بالمفهوم شوطا جديدا في الايديولوجية الالمانية (1864) حين يصلح مفهوما تاريخياً عالمياً مرتبطاً بالمجتمع الرأسمالي، ومتطوراً بتطور طبقة البرجوازية، وإنتقال قاعدتها الانتاجية من درجة الى درجة اخرى أكثر تقدماً.
لقد نظر ماركس إلى الموضوع من منظار التناقض الذي كشف عنه في مسيرة الحداثة البرجوازية ذاتها ومشروعها التحرري نفسه. ففي نظر ماركس إن مشروع التحرير السياسي الذي قامت به البرجوازية بالفعل عندما نقلت المجتمعات من النظام القديم إلى النظام الحديث ليس في العمق إلا مشروع استلاب جديد. بل إن السياسة هي في قلب هذا الاستلاب وهي تجسد أعظم أشكال هذا الاستلاب. ففي اللحظة ذاتها التي خلقت فيها برجوازية الدولة كمجال للعام، خلقت أيضا مجال الخاص. وبذلك قضت على الفرد بالتصدع أو الانشقاق في ذاته وهويته نفسها بين ماهيتين متنابذتين ولا يمكن التوفيق بينهما، ماهيته كمواطن، وماهيته كمنتج. فالعام (المواطنية وما تعنيه من حق المساواة) فيه يعيش حالة صدام ونزاع مستمر مع الحقيقة الانتاجية الاجتماعية الفعلية التي تعني التفاوت والتباين الشديدين في شروط الحياة والعيش والممارسة. لذلك سوف يقول إن الحرية التي تعكسها المواطنية التسووية هنا شكلية تماما، ولن يكون هناك تحرر حقيقي للفرد إلا عندما تتوافق شروط الحرية السياسية مع شروط الحرية الاجتماعية. وهذه هي، حسب ماركس، غاية الشيوعية وبرنامجها، أي المطابقة بين العام والخاص، بين الدولة إطار الحرية لكن الشكلية والمجتمع المدني إطار المصالح لكن البرجوازية الخصوصية فحسب، وذلك بتجاوز الدولة والمجتمع المدني البرجوازي الطبقي في الوقت نفسه. فكلاهما الدولة والمجتمع البرجوازيان مجال للاستلاب. وليست الشيوعية سوى برنامج التجاوز التاريخي هذا للدولة الديمقراطية الشكلية وللمجتمع المدني البرجوازي الرأسمالي معا، ومثالها أن تأتي بنظام مجتمعي تكون حرية الفرد فيه شرطا لحرية المجموع، أي يتحقق فيه الانسجام المطلق بين العام (الدولة- النظام، الحرية) والخاص (المجتمع المدني-الفردية، المصلحة) وتتعانق فيه الفردية والجمعية معا. إن الصدع الذي أحدثته البرجوازية بين العام والخاص في كل فرد هو أصل السياسة التي يوجه إليها ماركس نقدا قويا باعتبارها أكبر تجسيد للاستلاب البرجوازي.
ومن جهة اخرى لابد من الاشارة الى أن النتيجة التي توصل إليها ماركس في نقده فلسفة الحق العام عند هيغل، هي مسألة الانفصال بين المجتمع المدني والدولة السياسية، الذي يتم في العالم البرجوازي، المترافق مع تأكيد سلطة البرجوازية كطبقة مسيطرة، والدولة الديمقراطية البرجوازية، تؤكد هذا الانفصال، الذي يصيب كل عضو فرد في المجتمع المدني. إنها تؤكد هذا الانشطار بين الوجودين، وجود الفرد البرجوازي العيني، الفردي، الانساني في المجتمع المدني، ووجود المواطن المجرد الشامل والمساواتي في الدولة السياسية، التي يمارس فيها سيادة مجردة ووهمية.‏
هذه الحياة المزدوجة للإنسان، وهذا الإنشطار في حياة الإنسان، وهذا النزاع الذي يتواجد فيه الإنسان، هو الذي يفضي على حد قول ماركس إلى الانشقاق الدنيوي، بين المجتمع المدني والدولة السياسية.
إن السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل يمكن تجاوز هذا التناقض العقلاني بين الدولة السياسية التمثيلية والمجتمع المدني الممزق، من خلال تحويل الديمقراطية التمثيلية إلى ديمقراطية فعلية. وذلك بواسطة تسييس المجتمع المدني؟ " إنه ميل المجتمع المدني إلى اتخاذ وجود سياسي، أو إلى جعل الوجود السياسي وجوده الفعلي الخاص به"، يسمى هذا الميل حتى اليوم مشاركة"، وإن يكن ماركس يتصوره بطريقة تبدو الآن محدودة (بيد أنها ذات مغزى كبير تاريخياً)" بوصفها أهم مشاركة ممكنة في السلطة التشريعية" .
وإذا كان التحرر السياسي للمجتمع المدني، فقد شكل خطوة تقدم كبيرة، حيث أن الديمقراطية البرجوازية قد حطمت الامتيازات الاقطاعية، وأعلنت المساواة السياسية، عبر المشاركة السياسية للمجتمع المدني، ولكنها بمقابل ذلك أبقت على الامتيازات الاقتصادية الرأسمالية، والاضطهاد، والاستغلال البرجوازي. وتأسيسا على ذلك فان هذا التحرر السياسي عينه، متطابق مع سيادة الرجل الخاص البرجوازي في الدولة السياسية، وبالتالي فهو ليس كل التحرر الإنساني بل إنه تحرر مخادع ولأن الديمقراطية البرجوازية من وجهة النظر الماركسية لم تشكل أبداً تخطياً جدلياً للانشقاق، أو الانفصال، أو التناقض المزدوج بين المجتمع المدني، من دون أن يكتمل ببعده الملازم له، أي التاريخي والعالمي، أي التحرر الاجتماعي والإنساني يظل ويستمر اغتراباً سياسياً، حيث سلطة الدولة السياسية تتجلى في سيادة سلطة الملكية الخاصة لوسائل الانتاج.
من هنا يندرج البرنامج الثوري لماركس، الذي يطرح على مختلف مكونات المجتمع المدني السياسية، والنقابية، وهياكله الاجتماعية والطبقية المستغلة، والمضطهدة، لاستعادة، ولامتصاص "قواهم الخاصة"، بغية التخطي الجدلي لهذا التناقض المزدوج بين المجتمع المدني والدولة السياسية البرجوازية الضامنة الرئيسة لملكية البرجوازية لوسائل الانتاج، ومصالحها، عبر الثورة الاجتماعية، باعتبارها ثورة تهدف إلى تحرير المجتمع المدني بأسره، وإلى تحرير الدولة البرجوازية ككيان قائم منفصل عن هذا المجتمع المدني المأزوم. ولقد أعطى ماركس هذا الدور التاريخي والتحريري لطبقة من طبقات المجتمع المدني، هي "البروليتاريا"، باعتبارها الطرف الحاسم في هذا التناقض الأساس في هذا المجتمع البرجوازي، القادر على حله، وانطلاقاً من رؤيته العقلانية للتطابق الحاصل بين ثورة الشعب مع تحرر الطبقة العاملة. "ولا يمكن لهذا التحرر الاجتماعي أن يرتكز إذن إلا على الغاء التفكيك السياسي، وليس على الديمقراطية، بل على نقد قواعد الديمقراطية، ليس على الدولة الحرة، بل على تحرير الدولة السياسية" .
إن هذا التحرر الاجتماعي والإنساني الحاسم، يعتبر مكملاً للتحرر السياسي للمجتمع المدني البرجوازي السابق، الذي من الواجب الاستفادة منه، من مختلف الحقوق السياسية والمدنية، والحرية، والمساواة، التي تحققت في عهد البرجوازية، باعتبارها حقوقاً مثلت تقدماً عظيماً بالنظر إلى الامتيازات الاقطاعية، من أجل توظيفها بشكل صحيح نحو بناء علاقات اجتماعية وسياسية وحقوقية إنسانية جديدة، خالية من الاضطهاد، والاستغلال، والعسف.
‏المرحلة الثالثة وتشمل النصف الأول من القرن العشرين وذلك في إطار احتدام الصراع الثوري وفي سياق إعادة بناء الاستراتيجية الثورية في مجتمعات أوربا الصناعية. وكان أكبر مسؤول عن تطوير هذا الاستخدام الجديد المفكر الايطالي الشيوعي أنطونيو غرامشي. وغرامشي هو الذي ترك أكبر الأثر على المفهوم كما يستخدم اليوم، بعد استبعاد عناصر فلسفية وعقائدية كثيرة منه.



#رباح_حسن_الزيدان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مفهوم المجتمع المدني
- العلمانية في الدساتير الفرنسية
- هل تغيرت العلاقة بين الدين والدولة في فرنسا ؟
- إشكاليات قانون العلمانية في فرنسا
- إدارة العلمانية في ألمانيا
- الولايات المتحدة : العلمانية والدين بين المجتمع و الدولة
- الثورة اليسارية في الاسلام
- المفاهيم المبهمة للعلمانية
- الجابري والاعراب نظرة ورأي
- موت النزعة الانسانية في العالم الاسلامي
- ابن خلدون ومكيافيلي في عيون الوردي
- من اسباب الخلاف بين الدين والسياسة
- أول أنتصار للدولة على الدين في الاسلام
- المعتزلة وتبني منهج العقل
- شر البلية ما يضحك
- تاريخ الالحاد
- يا حوم اتبع لو جرينا *
- خوارق اللاشعور
- عصر التنوير : ظهور مفهوم جديد للدين
- الأنا العربي والأخر الأوروبي


المزيد.....




- مسجد وكنيسة ومعبد يهودي بمنطقة واحدة..رحلة روحية محملة بعبق ...
- الاحتلال يقتحم المغير شرق رام الله ويعتقل شابا شمال سلفيت
- قوى عسكرية وأمنية واجتماعية بمدينة الزنتان تدعم ترشح سيف الإ ...
- أول رد من سيف الإسلام القذافي على بيان الزنتان حول ترشحه لرئ ...
- قوى عسكرية وأمنية واجتماعية بمدينة الزنتان تدعم ترشح سيف الإ ...
- صالة رياضية -وفق الشريعة- في بريطانيا.. القصة الحقيقية
- تمهيدا لبناء الهيكل المزعوم.. خطة إسرائيلية لتغيير الواقع با ...
- السلطات الفرنسية تتعهد بالتصدي للحروب الدينية في المدارس
- -الإسلام انتشر في روسيا بجهود الصحابة-.. معرض روسي مصري في د ...
- منظمة يهودية تستخدم تصنيف -معاداة السامية- للضغط على الجامعا ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - رباح حسن الزيدان - رؤية هيجل للمجتمع المدني