أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبد الغني سلامه - المنهج التكفيري عند الإسلاميين















المزيد.....


المنهج التكفيري عند الإسلاميين


عبد الغني سلامه
كاتب وباحث فلسطيني

(Abdel Ghani Salameh)


الحوار المتمدن-العدد: 3320 - 2011 / 3 / 29 - 11:13
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


منطلقات المنهج التكفيري

عند الحديث عن الأزمة التي يعيشها العالم الإسلامي الآن، وتحليل أسباب تخلفه وعجزه، أو حتى بالنظر إلى التاريخ الإسلامي نفسه وتاريخ الفلسفة والفكر الإسلامي، سنجد دوما إشكالية العلاقة ما بين العقل والنقل، وما بين السياسي والديني، وستثار أسئلة عدة، منها: أيهما سبب الأزمة الشاملة الفكرية والعلمية والثقافية بل والدينية ؟ هل هو العقل أم النص أم هما معاٌ ؟ ومن المسئول عن هذا العجز والتخلف في التراث الإسلامي المكتوب والمسكوت عنه ؟ هل هو الخوف والترهيب والإرهاب ؟ أم هو في فهم النص ؟ أم في آلية التعامل معه ؟
فهناك العديد من القضايا التي يخاف المفكرون والأدباء والفقهاء والمثقفون الاقتراب منها أو الفتيا فيها، حيث كانت دوما تتربص بهم قوى الظلام وهي ترفع راية التكفير عالية خفاقة في وجه من تجرأ واجتهد أو فسّرَ أو أفتى !! فالنص عند هؤلاء سماوي مقدس له قدسية التابو، بينما العقل دنيوي مدنس، وفي المقابل سنجد عند البعض الآخر أن العقل له مرتبة عليا من القداسة، وأنه لولا العقل ما كان للنص وجود وما كانت له أهمية، لأن النص حتى لو كان إلهياً فإنه يخاطب العقل، وهذا يتطلب إيجاد علاقة جدلية وتفاعل حي بينه وبين النص، ومن البديهي أن العلاقة الجدلية قد تتفاقم وتأخذ منحى الأزمة حينما يتعامل العقل مع النص الديني بالتحديد، وتصبح المسألة إشكالية بالغة التعقيد وليست مشكلة فقط، وهذا ناتج من طبيعة فهم هذه العلاقة الجدلية التي تتمحور في نقاط معينة تمثل فيما تمثل البيئة التي نشأت فيها منهجية التكفير:
- بداية، يقوم منطق أهل التكفير على الإدعاء بامتلاك العلاقة الحصرية بالسماء وأحقية امتلاكهم للنص وتفسيره، ويستندون في ذلك على فهمهم بأن النص الديني مقدس ومطلق والعقل البشري أرضي ومحدود، وأنهم وحدهم أصحاب ومُلاّك ملكية مطلقة للنص لا يجوز لأي إنسان التعامل معه أو فهمه أو تفسيره إلا من خلالهم فقط، وتعاملوا مع الآخرين بمنطق الوصاية والرقابة، واعتبروا أن البشرية غير مؤهلة لقيادة نفسها وغير مؤهلة لتشريع نظام حياة خاص بها، وأن التشريع للبشر هو من اختصاص الله سبحانه وحده، وقد تناسى هؤلاء أن الله سبحانه قد جعل من الإنسان خليفته في الأرض، وأنه أمّنَهُ عليها، ومنحه العقل دونا عن سائر المخلوقات، وأن العقل البشري قد خلقه الله وأبدعه ليكون قادرا على حمل الأمانة، فتعامل أصحاب هذه المدرسة مع العقل كما لو أنه عقيم أو كائن شيطاني رجيم .. ومن هنا نشأت أزمة العلاقة بين الديني والدنيوي، ومن هذا الزعم والإدعاء باحتكار الصواب واحتكار النص الديني صار كل من يخالف هؤلاء كافراٌ ملعوناٌ ومطرودا من رحمة الله.
- النقطة السابقة ستؤدي حتما إلى حالة من الخلط بين النص وبين فقهاء النص، بحيث يكتسب الفقهاء قداسة النص نفسه، وتنمحي الحدود الفاصلة فيما بينهما، ويصبح الكل متحدا في هالة من القداسة تحيطها جدران سميكة من المحرمات التي يصعب اختراقها أو حتى التشكيك بها، وهذه الهالة ستمنح الفقهاء القوة اللازمة لإطلاق فتاوى التكفير لكل من يتجرأ على المساس بهم، وحالة التماهي هذه تُعد من أخطر المشاكل، لأنها مبرر فكرة رجال الدين وأصحاب المذاهب والمدارس الفقهية والمرجعيات الدينية في كل الأديان وليس في الإسلام فقط، وقد صار هؤلاء يمارسون الإستبداد والإرهاب الفكري بمنطوق النص لا بمفهومه، أو كما يفهمونه هم، ومن البديهي أن يتم تطويع النصوص بما يخدم مصالحهم ومصالح السلطة التي طالما اقترنوا بها.
- وطالما صار الخلط بين النص المقدس ورجال الدين بهدف توحيدهم في قالب واحد، وطالما اكتسب هذا الخلط صفة القداسة المطلقة، فإن الخطوة الحتمية التالية هي الخلط بين السياسي والديني، أي بعد أن يطوع رجال الدين النصوص لصالح المشروع السياسي ليصبح هو أيضا مقدسا، ومن بوابة قداسة النص سيدخل كل ما هو سياسي ولكن بثياب رجال الدين، وبالتالي فكل من يخالف المشروع السياسي فقد خالف النص المقدس ومن يخالف النص فقد تجرأ علي الله وأصبح كافرا تتوجب لعنته من على المنابر والدعاء عليه بالهلاك، وقد رأينا هذا النمط من تقديس السياسة وتلبسيها لبوس الدين حينما رأينا الحكومة الربانية والنصر الإلهي وجيش الرب .. .
- المنهج الذي يقوم عليه الفكر التكفيري يرتكز على الخلط المتعمد بين الأساسي والثانوي وحتى مع الهامشي جدا، كالخلط مثلا بين ما ورد في القرآن الكريم من نصوص لها علاقة بالعقيدة وبجوهر الدين من ناحية وبين ما كان من شئون الدنيا في تفاصيلها الصغيرة من ناحية أخرى، أو عدم التمييز بين نصوص العبادات ونصوص المعاملات ، أو الخلط بين أركان الدين الأساسية من جهة مع بعض التوجيهات المتعلقة بالآداب الشخصية وحسن السلوك من جهة أخرى، وهذا الخلط المعمول به جعل القداسة ملازمة لكل فعل أو إشارة أو سلوك فردي سواء من ناحية الشكل أو الموضوع لكل من يدعي تمثيل الدين، ومع تعدد الآراء والخلافات حول جزئيات معينة أو تفاصيل صغيرة من أركان العبادة مثلا، تمّ تكفير البعضُ للبعض، حيث هنالك من يعتقد أنه على صواب والآخر على خطأ، وهذا الخطأ عند هؤلاء يرقى إلى مستوى الكفر، وقد يكون هذا الخطأ مجرد اجتهاد نظري، وبما أنهم يحرّمون إنشاء أي علاقة جدلية أو حوارية مع النص "المقدس" ، وحيث أنهم يعتبرون أن النصوص المقدسة لم تغب عنها شاردة ولا واردة ولم تترك أمر من الأمور إلا وتحدثت عنه ولا مشكلة مستعصية إلا أوجدت لها الحل المناسب، وبالتالي سيدخل إي اجتهاد جديد لم يتطابق مع النص المقدس في نطاق البدعة التي تؤدي للضلالة أي للكفر، ولم يتوقف موضوع التكفير عند الاجتهاد النظري بل تعداه إلى كل فعل لا يتفق مع النص، فتصبح عند "حُماة النص" أصغر القضايا مثل أكبرها، فلبس الثوب الطويل كالقتل، وحلق اللحية كشهادة الزور، وإفطار يوم من رمضان مثل الشرك والكفر !!
- الشعور الخاص والخفي الذي يراود أصحاب كل ديانة أو أتباع أي طائفة أو مريدي أي شيخ أو كاهن واقتناعهم بأن الله قد اصطفاهم دوناً عن العالمين وخصّهم بنبيّه أو كتابه أو ميّزهم عن سائر الأمم والشعوب، سيدفعهم للإعتقاد بإمتلاك الحكمة وباحتكار الصواب وحيازة الحقيقة المطلقة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، وهذا بدوره سيقود بالضرورة إلى شعورهم بالإستعلاء على الغير، وبالتالي الإستقواء عليهم، بحيث يتولد لديهم شعورا طاغيا بأنهم هم أصحاب الحق في الحياة وأن الآخرين إنما يعيشون على هامشها إذا هم سمحوا لهم بذلك كرما منهم ونبلا في أخلاقهم، ولكن بشروطهم (دفع الجزية مثلا)، ومن البديهي أن الشعور بالإستعلاء والتفوق سيغذي اتجاهات العنف والتطرف، والتي كثيرا ما تنتهي بموجات القتل الجماعي على خلفيات طائفية وعنصرية ترتكز أساسا على فكرة تكفير الغير.
- يرتكز الخطاب التكفيري مثله مثل أي خطاب تطرفي على الثقافة السطحية ومخاطبة العواطف وتهييج الغرائز، ويهاجم النفس البشرية في نقاط ضعفها، وعادة ما يستقطب الضعفاء والفقراء والجهلة، وهذه مقومات الثقافة الشفهية التي يعتمدها التكفيريون، لأنها قليلة العناء سهلة التلقي وتعتمد على العناوين المثيرة والشعارات البراقة، لذلك تستريح إليها النفس وتتقبلها دون الحاجة للتفكير والتمحيص.
- حتى لو كان العنف والعدوانية التي تظهرها بعض الجماعات الدينية المتعصبة هي تعبير عن الشعور باليأس وإنسداد الأفق والشعور بالتهميش والعزلة لدى تلك الفئات المحرومة أو المضطهدة أو الجاهلة، وليست انعكاسا لقيم الدين نفسه وتعاليمه السمحة، وأياً كانت درجة الدقة في هذا الرأي ، إلا أن خيار القوة المسلحة الذي تنتهجه الجماعات الأصولية المتطرفة له ما يوازيه من التاريخ الإسلامي وما يسنده من النصوص المقدسة، أو على الأقل في فهم وتفسير تلك النصوص، خاصة وأنه بالإنتقائية – وهي أسلوب تلك الجماعات – سيجد المتعصب ما يبحث عنه في تلك النصوص، سيّما إذا ما تتبعنا التغير في خطاب ومحتوى تلك النصوص ما بين المرحلة المكية والمرحلة المدينية، فرغم أن الآيات الكريمة ووقائع السـيرة التي تعبر عن كل مرحلة قد جاءتا في بيئتين متغايرتين تماما، فالدعوة بالحسنى والتبشير بالتي هي أحسن،  وَلَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينْ  حدثت في زمن الإستضعاف، أما آية "السيف"،  وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ  والسرايا والغزوات فقد لازمت مرحلة تأسيس الدولة وحماية المشروع الجديد وجاءت في مرحلة تتطلب بعض القوة والحسم، إلا أن هذا الفهم التاريخي غير وارد في عقلية تلك الجماعات، لذا انتقت آية "السيف" ( الآية 5 من سورة التوبة ) وبنت عليها أيديولوجيتها العنيفة، ورأت أنها جبّت آيات المسالمة والصفح والعفو، وأنه يتوجب قتل كل من هم على غير دين الله بما في ذلك قتل الأسـرى ( وقد طبق ذلك محمد بن عبد الوهاب في القرن التاسع عشر الميلادي في الجزيرة العربية ) ، وكذلك رأت في قتل كعب بن الأشرف وأبي رافع بأمر مباشر من النبي محمد  سندا شرعيا يجيز لهم تصفية خصومهم السياسيين تصفية جسدية بالقتل والاغتيال، بحجة أن كلاً من كعب وأبي رافع لم يكونا من المقاتلين ولم يحملا السلاح أصلا إنما كانت عداوتهم للنبي قاصرة على اللسان، وكذلك رأت في آية  وَلا تأمَنوا إلاّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ ، وآية  وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الَيَهُودُ وَالنّصَارَى حَتّى تَتّبَِعَ مِلَّتَهُمْ  أنها أوامر واضحة بقتل اليهود والنصارى جميعا أو أن يدفعوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون، والأخطر أنها فهمت آية  إِنَّ الّدينَ عِنْدَ اللهِ الإسْلامْ  كما لو أنها أساس تصنيف الناس بين مسلم وكافر، ومن هنا تأسست فكرة دار الإسلام ودار الكفر، وفسطاط الحق وفسطاط الباطل، الأمر الذي يضع تلك الجماعات في عداء مطلق مع باقي سكان الكرة الأرضية.
- وبنظرة متأنية وتحليل علمي لحقيقة أمر الجماعات الأصولية التي تنتهج التكفير أسلوبا ومنطلقا، سنجد أنها حركات احتجاج سياسية / اجتماعية تعبر عن واقع مادي معين، ولكن بثوب ديني يتقوّى بنصوص دينية، وترتكز على التعبئة الدينية في التحريض وفي استقطاب الشرائح الاجتماعية المختلفة، وبالتالي فإن وسم تلك الجماعات للمجتمعات التي يعيشون فيها بأنها كافرة وجاهلية إنما هو نابع من سخطهم ورفضهم لتلك المجتمعات التي لم يجدوا فيها فرصهم في النجاح وحظهم في حياة كريمة، كذلك سنجد أن توصيف تلك الجماعات للحكام والرؤساء بأنهم كفرة وطواغيت إنما هو منزع سياسي بحت وليس ديني إلا بالشكل، فشعائر الإسلام في تلك الدول مقامة على رؤوس الأشهاد والقوانين المطبقة في أغلبها متطابقة مع الشريعة الإسلامية وما تصويب البندقية نحو صدور الحكام إلا بهدف إزاحتهم والحلول مكانهم والوثوب على كراسي السلطة ، الذي هو هدف تلك الجماعات وغايتها وحلمها الذي يداعبها صباح مساء.
- غالبا ما نجد التطبيق الفعلي الذي يلي التكفير هو القتل، والقتل كما جاء في الإسلام يعد أكبر الكبائر وأفظعها وهو تالي في حرمته للإشراك بالله سبحانه، ولم يرد في القرآن الكريم تغليظ لجريمة ولا تبيان لحدوها بالوضوح والتركيز الذي جاء في وصف جريمة القتل، قال تعالى: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنّمَ خَالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدّ لَهُ عَذاباً عَظيما ،  وَمَنْ قَتَلَ نَفسْاً بِغَيْرِ نَفْسٍ فَكَأنّما قَتَلَ النّاسَ جمَيعا ، والآيات تبين أن قتل النفس بحد ذاته حرام بغض النـظر عن النفـس المســلمة أم الكافـــرة، وقد وصف القـرآن الكــريم المؤمنــين قــائلا:  وَلا يَقْتُلُونَ النّفْسَ الّتيِ حَرّمَ الله  أي النفس بعمومها ولم تقل الآية النفس المسلمة، وقال الرسول الكريم : " لقتل مؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا" ، أما عن حرمة التكفير فقد قال عليه الصلاة والسلام: " من كفّـر مسلمـاً فقد بـاء بـه أحدهما "، والأحاديث الواردة في هذا المعنى كثيرة، نذكر بهذه المناسبة قصة ذلك الصحابي الذي بارز مشركاً، فلما رأى المشرك أنه صار تحت ضربة سيف المسلم الصحابي قال : أشهد أن لا إله إلا الله، فما بالَ لها الصحابي، وقتله ! فلما بلغ خبره النبي صلى الله عليه وسلم أنكر عليه ذلك أشد الإنكار، فاعتذر الرجل وبرر فعلته بأنه ما قالها إلا خوفاً من القتل، فكان جوابه صلى الله عليه وسـلم: " هل شَقَقتَ عن قلبه ؟" ومع كل هذا الوضوح في تحريم القتل والتكفير إلا أن أمراء الجماعات الأصولية يتحايلون على ذلك ويجدون المبررات التي يسوقونها لأتباعهم كي يوغلوا في قتل "الكفار" وإراقة دماء " أعداء الإسلام".

الردة والتكفير

ما أن أكمل النبي محمد (ص) رسالته ونشرها في جزيرة العرب ودانت له القبائل وأعلنت انضمامها للدين الجديد، حتى كانت معالم الدولة الإسلامية ( القرشية ) قد بانت ملامحها وبدأت ترسي دعائمها، ومن حينها أصبح الإسلام بمثابة الهوية أو الجنسية التي يتعين أن يحملها كل فرد في أي قبيلة في أنحاء شبه الجزيرة العربية، ونظرا لتوحد عمليتي الخضوع للدولة والدخول في الإسلام، وانصهارهما في بوتقة واحدة فقد صار كل من يخلع نفسه من القبول في أي من العمليتين بحكم المرتد، ولكن إذا كانت عملية الخلع هذه سواء الكفر بالديانة أو رفض الولاء للدولة على المستوى الفردي ولا تشكل خطرا على الدين الجديد ولا تهديدا للدولة الفتية، فإن ذلك يُوصف بالعمل الخبيث ويُترك فاعله في شأنه، كما دلت قصة الإعرابي الذي أعلن إسلامه أمام النبي ثم جاء في اليوم التالي وطلب من الرسول أن يقيله، ولما أصر على موقفه قال له النبي (ص): " المدينة كالكير تنفي خبثها وينصع طيبها "، ولكنه سمح له بالإقامة فيها .
لكن هذا التساهل يصير شدة وصرامة على أشد ما تكون الصرامة، حينما يتعلق الأمر بمصالح المسلمين أو يشكل تهديدا للدولة أو ينذر بتفتيت وحدة المجتمع أو يضع مشروع الأمة موضع تساؤل، أي عندما لا تكون الردة على المستوى الفردي بل على شكل مجموعات وثورات داخلية، كما يسمى في الوقت الراهن مناطق متمردة أو عصيان مسلح أو ثورة مضادة، وهذا ما حصل بالفعل في أواخر عهد النبوة وبداية عهد الصديق أبو بكر، ونظرا لحساسية تلك المرحلة وخطورتها على الدولة الناشئة كان من البديهي أن توصم أعمال التمرد بالردة وأن يُشهر في وجه العصاة والخارجين حد الردة.
فمنذ أن تولى الصدّيق الخلافة حتى انتفضت في وجهه العديد من القبائل وأعلنت رفضها لحكم قريش، ولكن شدة أبا بكر وحِرْصهِ على الإسلام جعلته يقف في وجه التمرد بكل قوة وحزم، فاعتبر الخروج على حكمه بمثابة خروج من الدين نفسه، لأنهما صارا حالة واحدة ولا يجوز التفرقة بينهما أو التساهل في أي جزئية منهما، حتى القبائل التي بقيت على الإسلام ولكنها رفضت دفع الزكاة للحكومة المركزية في يثرب جوبهت بالقتل والحريق، فقال أبو بكر فيها: " والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليه " .
ولكن هذه الشِدّة صارت لينا وتساهلا في عهد عمر بن الخطاب، حيث ترسخت دعائم الدولة وقويت شوكتها وتدفقت عليها الغنائم وتوسعت حدودها فلم يعد هنالك خوف من أي من المعارضين والمناوئين، ولم تعد الصدقات التي تدفعها القبائل مهمة مقارنة بما يرد لخزينة الدولة من الغنائم من الأمصار المفتوحة، ويقول خليل عبد الكريم في هذا الصدد أنه عندما سمع ابن الخطاب عن جماعة نزعوا عنهم شعار " الدولة القرشية هي ذاتها الإسلام "، لم ينفعل ولم يأمر بقتلهم وتحريقهم بل أمر أن يودعوا السجن وأن يعطوا الفرصة للتوبة .
ومرة ثانية تعود الشدة وتصبح لازمة وضرورة لا بد منها، وذلك في عهد الإمام علي بن أبي طالب، أي مع تنازع كل من عائشة وطلحة والزبير الإمام في خلافته، ثم تنازعه مع معاوية وحروبه مع الخوارج، ومع اشتداد الخطر على دولة الخلافة وبروز الفتنة، صار من البديهي أن يبرز موضوع الردة ويرجع إلى ما كان عليه في الشدة الأولى أيام الصدّيق، بمعنى أنه كلما كان هنالك مِحنٌ وأزمات وأوقات عصيبة برزت الردة واحتلت الصدارة واتسم علاجها بالشدة والبطش، وكلما استقرت الأوضاع واختفت الأزمات كلما تراجع موضوع الردة وصار علاجها يتطلب لينا وحكمة.
على خلفية هذا المشهد التاريخي الموجز وبالعرض السريع للمرحلة التي برزت فيها الردة، لاحظنا كيف ارتبطت الردة بالسياسة وكيف تأثرت بها، وإضافة للعامل السياسي فقد كان حد الردة وأسلوب التعامل مع المرتدين منسجما مع التراث الثقافي والقيمي السائد آنذاك ومع التقاليد العربية التي كانت قبل الإسلام، فمثلا يقول خليل عبد الكريم في هذا الشأن أن معظم الحدود في الإسلام كان لها ما يشبهها في الجاهلية وهي امتداد لها ، مثل حد قطع يد السارق الذي ابتدعه الوليد بن المغيرة خوفا على أموال النخب الحاكمة من طمع "الأراذل"، وكذلك كان حد الجلد لقذف المحصنات الذي هو بمثابة إنكار للنسب ( طعن بالمواطنة وسلب الجنسية في المصطلحات الحديثة ) ومن المعروف أهمية النسب بالنسبة للبدوي، وكذلك حد الحرابة بقطع الأيدي والأرجل والصلب والنفي لجريمة النهب وقطع الطرق والإفساد في الأرض التي كانت تهدد الأمن والسلم المجتمعي وتهدد تجارة أثرياء مكة، أي أن أغلب الحدود في الإسلام تأثرت بنفس المؤثرات التي حكمت زمن الجاهلية، بمعنى أنها ارتبطت بظروف المجتمع الذي انبثقت منه، مثل العوامل الاجتماعية لحد القذف والعوامل الاقتصادية لحد السرقة والعوامل السياسية لحد الحرابة، وبهذا المعنى وفي نفس السياق جاء حد الردة مساويا وموازيا للجريمة ورادعا لخطرها ومانعا لتفاقمها.
ولم يكن حد الردة موجها في أي حال ضد شخص بعينه أراد أن يغير عقيدته، طالما أن ذلك يدخل في نطاق الحرية الشخصية وحرية الفكر اللتان يضمنهما الإسلام، وطالما أن ذلك لا يمس المجتمع ولا يؤثر على الآخرين ولا يشكل بذور فتنة، لأن الآية الكريمة تقول:  لا إِكْراهَ فِي الدّينْ ،  لَكُمْ ديِنُكُمْ وَلِيَ دينْ ،  لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكيلْ  ... فالإسلام احترم العقل وأعلى من شأنه، وبالتالي فإن أول وأهم مؤشرات احترام العقل هو ترك حرية الخيار له، وعدم إجباره على قالب محدد، لأن أي عملية إجبار في أي اتجاه كانت تتنافى مع طبيعة العقل القائمة على التفكير والاختلاف، وإلغاء لمفهوم الخيار الإنساني، والآية الكريمة تدل على أن اختلاف وجهات النظر بين الناس وتعدد آرائهم وتباين مواقفهم هي الركيزة الأساسية لإستمرار الحياة بوتيرتها الطبيعية، فالإخـتلاف هو قانون الطبيعـة الأزلي  وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضْ لُهُدِّمَتْ صَوامِعَ وَبِيَعٌ وَصَلواتٌ وَمَسَجِدَ يُذْكَرُ فِيها اسْمُ اللهِ كَثِيرا .
والقرآن الكريم لم يذكر في أي من آياته أن المرتد عقابه القتل، ولم يحدث أن ارتد أحد في زمن النبي (ص) لنعلم منه حكم السنة في الارتداد، باستثناء كاتب الوحي عبدالله بن أبي السرح الذي كان من ضمن من أمر الرسول (ص) بقتلهم يوم فتح مكة، ولكن عبد الله هذا استأمن بعثمان بن عفان فعفا عنه الرسول (ص)، والقرآن يذكر صراحة حكمه في المرتد :  وَمَنْ يَرْتَدُّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالَهُمْ في الْدّنْيا وَالآخِرةِ وَأوُلئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونْ ، فسبحانه هنا لم يقل اقتلوا من ارتد بل ادخر عقابه لنفسه في الآخرة، وفي آية كريمة أخرى:  يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدُّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةً عَلى الْمُؤمِنينَ أَعِزّةً عَلى الْكافِرينَ يُجَاهِدونَ في سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخَافُونِ لَوْمَةَ لائِمْ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمْ .



#عبد_الغني_سلامه (هاشتاغ)       Abdel_Ghani_Salameh#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- منهج التكفير في العقل الإسلاموي
- في اليمن هل ستغير ساحة التغيير شيئا ؟
- محاولة في فهم الاسلام السياسي - الجزء 3
- محاولة في فهم الاسلام السياسي - الجزء 2
- محاولة في فهم الإسلام السياسي - الجزء 1
- يوم المرأة في ربيع الديمقراطية العربية
- هل هنالك صحوة إسلامية ؟!
- نماذج عبثية في تطبيق الشريعة وإهدار قيمة الإنسان


المزيد.....




- “عيد مجيد سعيد” .. موعد عيد القيامة 2024 ومظاهر احتفال المسي ...
- شاهد..المستوطنين يقتحمون الأقصى في ثالث أيام عيد -الفصح اليه ...
- الأردن يدين سماح شرطة الاحتلال الإسرائيلي للمستوطنين باقتحام ...
- طلاب يهود بجامعة كولومبيا: مظاهرات دعم فلسطين ليست معادية لل ...
- مصادر فلسطينية: أكثر من 900 مستعمر اقتحموا المسجد الأقصى في ...
- مئات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى تحت حراسة إسرائيلية مش ...
- سيبدأ تطبيقه اليوم.. الإفتاء المصرية تحسم الجدل حول التوقيت ...
- مئات المستوطنين يقتحمون باحات الأقصى في ثالث أيام عيد الفصح ...
- أوكرانيا: السلطات تتهم رجل دين رفيع المستوى بالتجسس لصالح مو ...
- “خليهم يتعلموا ويغنوا ” نزل تردد قناة طيور الجنة للأطفال وأم ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبد الغني سلامه - المنهج التكفيري عند الإسلاميين