أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سلام إبراهيم - تتبع جذور النص















المزيد.....

تتبع جذور النص


سلام إبراهيم
روائي

(Salam Ibrahim)


الحوار المتمدن-العدد: 3319 - 2011 / 3 / 28 - 16:29
المحور: الادب والفن
    


تتبع جذور النص



سلام ابراهيم



تتبع جذور النص





لما يكون الإنسان وحيدا وفي جو موحش يحوم فيه الموت قادما من السماء بضجة الطائرات المغيرة تارة، أو بطعنة أو طلقة من مندس، أو في مواجهة مع كمين، أو معركة مختارة تشتعل أمكنة الماضي شموسا صغيرة تضيء وحشة الوحيد. في ذلك المناخ المفعم بروح المقاومة كنت أجد بحبية عمري وهي جواري سلوى وفسحة آمان أخلد إليها في ليل الجبل. لكنني في شتاء 1987 بقيت وحيدا. والثلج اللعين لم يكف عن التساقط طوال الموسم فقطع الطرق الجبلية ستة أشهر وجعلها تنوء وأنوء من ثقل فراقٍ مرٍ أبقاها في مكانٍ يبعد عن القاعدة التي كنا نعيش فيها قرابة ستة أيام من المسير المتواصل. ذهبت للعلاج في إيران من ألم كليتيها وبقيت وحدي. وحدي بقيت أقرض الوقت في الضجر والذكرى، فوجدتني أنفصل عما حولي وأعيش تجربة روحية مختلفة ليس لها علاقة بوضعي ذاك كمقاتل بين الثوار. وجدتني أعود متلمسا أمكنة مدينتي وبشرها. أصدقاء يحيون في الأمكنة الخبيئة من القلب. أصدقاء ضاعوا في الخضم العراقي المتلاطم في الثمانينات من القرن الماضي. فصرت أجلس كل مساء في غرفتي الخاوية منها متواجدا مع كيانات غابت أو مصائرها مجهولة وقته، مع صديقي "صلاح مهدي الصياح" فكتبت نص "الصراط المستقيم" المنشور في مجموعتي القصصية "رؤيا اليقين" في نفس الأيام، ومع "علي الشباني" الشاعر فعشت لحظات كانت وقتها أي وقت التذكر وكتابة النص "أول باب" عن أصدقاء ربما أفقدهم إلى الأبد وعي واحد من أولئك الأعزاء، لكنني بعد أكثر من خمسة عشر عاما سأعود للمدينة ـ الديوانية ـ لأجده حيا يعاني من وحدة قاحلة بعدما خسر العائلة، وزوجاته المتلاحقة وصار كائنا مقلقا وكأنني أراه مثلما لقيته أول صباي يبيع قوالب الثلج بمدخل شارعنا العريض في حي العصري أواخر الستينات من القرن الماضي .. وحيدا أيضا لتوه خرج من السجن، يحاول الإمساك بشيء، مفعما بالأمل، بينما وجدته مفعما باليأس والأفق المسدود وكأنه كان بحاجة إلى ذلك المخاض كي يندمل بأشعاره المبشرة بخواء الإنسان.

وجدتني أبيت في غرفة كابية في الجبل، خاوية منها، أتتبع بقايا رائحتها العالقة في السرير ملابسها الستارة دفاترها، علبة المكياج التي تخفيها في الحقيبة. أعب من عطرها وكأنني سوف لا أراها ثانية وذلك ليس كلاما عابرا بطرا فالكثير من الثوار فقدوا حبيباتهم قتلا في الكمائن أو في المدن لما تسللنَّ. أفرزني الوجد وعاد بيّ إلى أكثر الناس قرباً، فوجدتني أتسكع في العتمة المفتوحة من طرف حي الجمهوري إلى معامل الطابوق وملعب كرة القدم أوائل سبعينات القرن الماضي كنت في سني المراهقة وكنت متوثبا عنيدا ممتلئاً عاشرت من هم ليس بعمري فتحملت من جراء ذلك سوء الكلام لكنني لم أهتم أنا الممتلئ بأفكار ماركس وسارتر والصوفية والوقح بمقاييس البيئة العراقية الصارمة. في الظلمة الكثيفة للفضاء المفتوح بطرف " الحي الجمهوري" كان علي الشباني ينشد لي قصيدته الملحمية الشهيرة "خسارة". وكنت أوقفه أمام باب كل بيت شعري كي يفتح لي تجربته الروحية وكان يفعل ذلك بحماس. اكتشفت أن خلف كل بيت شعري حقيقي تجربة روحية عميقة.. قصة.. ممكن أن تسرد.. في توقي المجنون ذاك كنت أتتبع منابع القصيدة وعلي يخبرني وكأنه يعرف بالضبط ما أريدهُ منه. أقصر كلامي الآن عن بيت كان سببا لكتابتي نص "أول باب" ولكتابة "علي الشباني" نص " البلبل الحر" لما قرأ لي ونحن نتمشى كسكارى في صمت العتمة تلك " خسارة" وبلغ هذا البيت الذي أذهلني وقتها وما يزال :

"من يغني الكاولي

كلكم سكوت

غنه خوفة المبتلي بروحة بعد ما خضر الخنجر وسط كلبه ولمع بسكوت

لو دره البلبل بواجيه غنه يبلع لسانه ويموت!."

سألته عن هذا البلبل الذي يبلع لسانه ويموت. فقص علي القصة التي صورتها في "أول باب" بالضبط أو كما تفاعلت في مخيلتي.. لكن بعد أكثر من سبعة عشر عاما من السماع. كنت في وحدتي في غرفة منسية بوادٍ منسي أيضا. وحيدا أقرض الوقت في الذكرى منفصلا عن الثوار المعبأين بأحلام الأيدلوجيا الوردية التي تخفف عبأ الواقع المعاش وصعوباته. في تلك اللحظة وجدت نفسي أهمس للورق بنص " أول باب " عن تجربة ذاك الصديق البعيد والذي كنت أعتقد أنني سوف لا أراه أبدا شأنه شأن الأحبة الذين قتلوا في زمن الدكتاتور. فرأيتني في لحظة وجدٍ وكأنني هو عند عودته إلى محلتنا "حي العصري" لما أطلق سراحه عقب حرب حزيران 1967. كنت أعيش في منطقة الأحلام والأخيلة. وحدي في غرفة في الجبل. حبيبتي زوجتي بعيدة حجزها الثلج في موقع بعيد. ومدينتي بعيدة في الجنوب ممنوعة، وحيداً مثل سجين في غرفة. لما عدت سراً إلى الداخل من الجبل وحكيت لـ "علي" تفاصيل الحياة في مقرات الثوار التفت نحوي وقال:

ـ هي حياتكم بالضبط مثلما كنا في سجن الحلة قبل عشرين عاماً.

وجدتني أستعيد تلك التجارب العابرة الخاطفة. فكتبت في جلسة واحدة "أول باب".. النص نشر في الثقافة الجديدة عام 1988، لم أضمه لمجاميعي القصصية وسأعيد نشره في هذا العدد من نصوص.والنص المنشور الآن هو غير النص المنشور في الثقافة الجديدة قبل قرابة عشرين عام. لكن ما يهمني الآن تجربة النص والكتابة.

ما قصه عليّ "علي الشباني" في ظلمة الفضاء المفتوح هو غير ما وجدته بالنص الذي بعث به لي "البلبل الحر" كقصة قصيرة جدا. بعث النص في عام 1999 وهذا يعني أنه كتب نص نثري عن تجربة كتبها شعراً قبل أكثر من عشرين عاماً. وكتبها شعرا بكثافة محيرة. لكنه يعود بعد حفنة من السنين كي يكتب قصة عن نفس التجربة ليعوق معنى البلبل ويجعله عاجزاً إلى الأبد..بعودته للقفص.

نصان عن تجربة واحدة مختلفان تيمة وبنية!.



أول باب




منذُ طفولته كان يحلم بكسر قيدٍ غير مرئي يكبله.. يحلم بأجنحة العصافير، فكان يقضي النهار في حقول وبساتين مالك الأرض حيث يشتغل أبوه مشغل مضخة ماء. كم كره الحجرة الطينية المحاذية لشط الديوانية التي تحتجز أباه مع ضجيج الماكنة حتى المساء، مالك الأرض وهو يزجره بقسمات قاسية ومفردات خشنه كلما تعطلت المضخة. كان ينزوي خلف جذع نخلة محطما وهو يتملى ملامح أبيه الخائفة المتوسلة، لحظتها كان يتمنى لو يكسر عصا السيد التي يلوح بها في وجه أبيه.. يتمنى و يمتلئ غيضاً.. يختنق، فينسحب راكضا شاردا من مشهد وجه أبيه المذلول إلى عمق البستان ليضيع بين النخل وذرات الشمس والفيء والعشب والسواقي الصغيرة حالماً بأرض أخرى غير هذه لا يُحْرَجُ أباه فيها.

وبسبب حلم الأجنحة ذاك واجهته الكثير من المتاعب والصعاب، ولم يَجدِ معه التحذير والتهديد.. إلى أن أُدِعَ الزنزانة في ليلة هادئة وقتها لم يجاوز السادسة عشر بعد.

في سجن "الحلة" أصبحت أصغر الأشياء حلماً.. دفء البيت، ألفة المحلة، غبشة الشوارع، ضجيج فرن الخبر، صياح الديكة، المقاهي، وجه العبدو السكران، صبايا الديوانية الجميلات.. وأمل بنت الجيران. كان يفيض شوقا وحنيا لما يغنى السجين "عادل" كل مساء غناء موحشا يشبه النواح، ويعّد السنين بالثواني إلى جاء الفرج في حزيران 1967 ففتحوا أبواب السجن. كان يظن لما ركب عربة سيارة السجن المشبكة أنهم سيطلقون سراحه، لكنه وجد نفسه في مديرية الأمن العامة في بغداد، في غرفة التحقيق المعتمة. نفس الغرفة التي أفضت به قبل خمسة أعوام إلى المحكمة. وحيدا في غرفة عارية إلا من كرسيين وطاولة، وضوء قوي مسلط عليه، يحجب عنه وجه المحقق ونبرته الخشنة وهو يكرر:

ـ أكتب براءتك.. وسنطلق سراحك يا حرامي!.

ـ ...

.. في ليل مظلم نفذ من خلال شباك ثانوية الديوانية وجاء بالمطبعة إلى بيت من طين في طرف " حي العصري".

ـ أكتب ليس لدينا وقت!.

ـ ...!

كان شاردا يستعيد وجه الحاكم العرفي الذي نطق بالحكم "عشر سنوات" والحذاء الذي قُذِفَ من قفص الاتهام ولطمه على وجهه فانهد بالشتائم البذيئة:

ـ سفلة.. ملحدين.. عملاء عشرون سنة.. عشرون".

وضاع صوته وسط نشيد

ـ السجن ليس لنا نحن الأباة

السجن للمجرمين الطغاة ـ

يستعيد الوجوه المنشدة المحتقنة في الكتلة المتلاحمة والحرس ينهالون عليهم بالعُِصيّ البلاستيكية.

ـ ..

.... يا أيها المحقق البليد علامَ إذن تحملت كل السنين الخمس بلياليها، ونهاراتها، وآلامها وحرماناتها؟!.

ـ ...

ـ وتبتسم بسخرية.. يا كلب!.

ضرب ضرباً مبرحاً حتى الإغماء، وحجز في سجن "الفضيلية" شهرين آخرين قبل أن يلفظوه إلى شارع ببغداد، فوجد نفسه بمواجهة أفق مفتوح، وشمس متوهجة دون قضبان. خطى مستعجلا ساعيا نحو " كراج العلاوي" القريب هامساً لنفسه:

ـ ثلاث ساعات.. ثلاث تفصلني عن مدينتي الحبيبة.



* * *



رغم مروره في سوق التجار ذي السقف الصفيحي المثقب الصدئ.. لم يتعرف عليه أحد، قال مع نفسه:

ـ أيكون شاربي وخشونة بشرتي وسيل الشيب المنهمر من فوديّ قد غير شكلي؟!.

يجوز.. فكل شيء تغير في غيابي، هاهي الكثير من الوجوه الغريبة والبيوت الجديدة.. البيوت التي هُدَتْ وبُنيت من جديد.

في مدخل شارع طفولته أكتشف أن كل البيوت أعيد بناؤها، فانفصلت عن تلاصقها الحميم ساجنة كتلتها وسط حدائق وممرات تدور حول الغرف كالسور. أحس بها تشبه أقفاصا مغلقة متباعدة.. كم حلم طوال سنين السجن برؤية أشياء الشارع بجدران بيوته وأبوابه الغائرة في النفس؟!، لكن كل شيء تغير.. لا "أبو علي" ودكانه الواطئ في طرف الشارع، ولا "حسنية" وقدر الباقلاء، ولا "كاظم عزره" وطيوره الحائمة دوائر في سماء الحي، ولا رجاء رفيقة صباه التي تجلس عصرا أمام باب بيتها ملفوفة بالغنج والعباءة.

الشارع ساكن، غريب، مختلف.

ـ رجاء.. رجاء طيفك كان يدور في أحلام نومي ويقظتي، أين أنت الآن؟!.. يا من لم أنس طوال السنين الخمس نعومة نهديك المضيئين وأنا أدس كفيّ المرتجفين تحت ثوبك المنزلي الفضفاض وأحررهما من ستار القماش، لم أنس لهاثك ولمعان استدارتهما الكمثرية تحت شلال النور المتدفق من قرص القمر المستدير.. بقيت كل تلك السنين أشم رائحة نهديك التي ملأتني حينما مرغت أنفي فيما بينهما، وحلمتيك ظلتا تنبضان وتنتفضان كل ليلة بين أسناني.. أين أنت يا رجاء؟!.

كان بابهم الجديد مغلقا، جاوزه.. و..

ـ ما هذا؟!. باب بيتنا منزوعا ومركون إلى الجدار!.

حث خطاه مقترباً، وجمد على مسافة أمتار من كوة الباب يتأمل ضائعا بفضاء الحوش الواسع.. غرف البيت نصف مهدمة وأكداس الطابوق منثورة حول السدرة الهرمة الشاهقة التي بدت موحشة في ذلك الغروب الكابي.. أثاث الغرف منتشرة في الفناء..

ـ ماذا يجري؟..

وأحس بشيء مقبض يثقل أنفاسه، نفث حسرة هامساً:

ـ أي.. يا أشياء طفولتي المبعثرة!.

كم حلم بأشياء الغرف، بمنقلة الجمر في ليالي الشتاء، بالصور المعلقة على الجدران، بجص الحيطان المتآكل، بالنافذة الصغيرة الواطئة المفتوحة على زقاق جانبي ضيق، بفراشة المنزوي في طرف الغرفة، بالحصير العتيق، بثقوب الزوايا والجدران.. برائحة الغرف المهدمة الآن تحت ناظريه.. كم ودَّ حد البكاء لو يعبّ من رائحة تلك الغرف مرة واحدة فيما تبقى من العمر وخصوصا لما يشعل السجين "عادل" الحنين بصوته الشجي عند حافة المساء. أزدحم بالنشيج. كان لم يزل ساكنا على بعد أمتار من بقايا الباب القديم، شاردا، حزينا حينما ضجَّ سكون الشارع، نسوة وزغاريد، صراخ، صبية يخرجون ويدخلون من الأبواب، ثم وجه أمه الهائج المجنون وحضنها الدافئ برائحته الأليفة التي أذهبت من وحشته قليلا.



* * *



ضايقته كثير من الأشياء التي أحس بها محصورة في أقفاص، أولها القفص المعلق بالسدرة. جلس في باحة البيت جوارها على حصير عتيق بسطته في ظل حائط الجيران العالي وشرعت تقول:

ـ تزوجت "رجاء" رجلا يكبرها عشرين عاما، بكت كثيرا، بكت طويلا، لكنها صمتت أخيرا وذهبت معه إلى بغداد!.

ـ سريع مطر قُتِلَ بحرب الشمال!.

ـ ليلى بيت حميدة الخبازة نحروها ليلاً على السطح!ّ.

ـ العبدو السكران وُجِدَ مقتولا قرب بيوت الغجر!.

كان يلزم الصمت شارداً مع كائنات الكلام القادمة من فم والدته والتي سوف لا يراها أبداً.

ـ ...

ـ أحكِ يا بني.. أحكِ!.

كان مشدوهاً بالبلبل الدائر مثل مجنون يضرب جناحيه بقضبان القفص الخشبي، منصتاً للرفيف العنيف وكأنه صدى روحه اللائبة في مساء السجن. وجد نفسه ينطق بشرود:

ـ من حبس البلبل يا أمي؟!.

ـ اشتراه أبوك!.

ـ ...

تابع فوران الطائر الدائر في شحوب الغسق بعينين موشكتين على البكاء. ومن طرف الباحة البعيد أقبل والده مسروراً، وجلس على صف آجر مصفوف وأشار نحو القفص قائلا:

ـ سيغني بعد دقائق!.

حط البلبلُ لافاً قدميه الصغيرتين حول مشبك الخشب الرفيع، وشرع بالزغردة نبرة حزينة أخذته إلى مساء باحة السجن و "عادل" الحاضن قضبان النافذة المطلة على الباحة الأمامية، وصوته النائح المذبوح يصعّد ألماً مراً من الأعماق ويرحل بهم بصمتٍ إلى الأحبة والأزقة والغرف والدفء والسلام المستحيل.. يطلون على حافة البكاء، فيتحاشون التطلع إلى وجوه بعضهم البعض، إلا ذلك المفوض الجلاد الذي يقترب منصتا بوجه منتشٍ يتلون بضوء مصباح الباحة الباهت المتأرجح من سقف الرواق ليجلس على كرسيه قبالة الشباك منصتا.

ـ أسمع.. أسمع.. بدأ يقرأ!.

الغسق يلقي ظلالا شاحبة على الغرف المهدمة والقفص.

... ماذا أسمع يا أبي.. ماذا؟!.

ـ ..

ـ اشتريته بدينارين!.

ـ ...

كان يغور في الصمت، في الشرود سامعا صوت "عادل" المتكسر يختلط بنواح البلبل في غسقٍ أعتم وتوحد. لم يكن يغني نواحه إلا حينما أخبرته والدته في المواجهة بزواج خطيبته من رجل ثري يسكن في مدينة بعيدة!.

التفت بعينين حزينين إلى وجه أبيه المنتشي وهو يقول:

ـ يغني مرتين.. مع طلوع الفجر.. وقبل نزول الظلام!.

.. نعم يا أبي.. نعم.. ينوح مرتين.. ينزف مرتين.. في الفجر حينما يستيقظ ويجد نفسه في القفص.. ولما يقبل المساء وباب القفص لا يزال مغلقاً.. مثله مثلنا.. أكثر الأوقات وحشة على النفس الفجر والغروب، حينما نقوم من النوم خارجين من حلم جميل فنجد أنفسنا في قاعة السجن، وحينما نرى عبر قضبان النوافذ ذرات العتمة تنهمر بصمت جالبة في لونها أشياء الأحبة وليلا طويلا وبابا مقفولا.

ـ ألا يطربك غناء البلبل!.

ـ ..

... أنه يغمني يا أبي!.

ـ أعلّمكَ السجنُ الصمتَ والحزنَ يا ولدي؟!.

ـ ...

ـ أسمع يا ولدي.. أسمع.. أنه السحر!.

ـ الساحر.. الساحر!.

ـ بلبلي.. أليس كذلك يا ولدي؟!.

ـ الساحر.. هو الباب المفتوح!.

ـ أي باب؟!..

ـ لا شيء.. لا شيء يا أبي لا شيء!.

... أين لك يا أبي أن ترى الأبواب المغلقة، مداخل المدن، نقاط التفتيش، باب السجن، باب القفص، باب القتل، باب النسيان، أين لك أن ترى أبواب سجون النهار الكثار!.

لا يزال البلبل ينوح في القفص مغيراً مكان تعلقه المضطرب بين دقيقة وأخرى، والليل يتساقط بذراته الداكنة بصمت على وجهيهما وأحجار البيت وثوب الغروب الكالح والقفص الضاج بروح البلبل الحالم بالبستان.

ـ أنتبه يا ولدي.. أنتبه!.

كان يمدُّ أصابعه بهدوء ليحرر العود المحشور في الحيز الضيق بين الباب وإطارها. فتح باب القفص. كور كفه حتى تمكن من حشرها داخل القفص. سكن البلبل صامتاً، متوثباً في الزاوية السفلية البعيدة. أمسكه بهدوء وسحب يده. كان ينتفض تحت أصابعه. رفعه إلى مستوى النظر، وتأمل عينيه الصغيرتين الفزعتين، سمع أبوه يقول:

ـ جميل يا أبني أليس كذلك؟!.

أرخى أصابعه المحيطة بالجسد الصغير النابض، فأنفلت رافاً في عتمة الفناء.

ـ لا.. لا.. ماذا فعلت يا ولدي؟!.

كان يرقب بغبطة رفيف الجناحين، والبلبل يغيب في فضاء باهت النجوم.

كانون أول/ 1987

أرياف دهوك





البلبل الحر
علي الشباني



بعد غيبة طويلة، عاد.

كان يغرد في قفصٍ بعيد، يذبح صوتهُ الطري جدار كالح.. ولكنهُ وباستمرار كان يوسعُ من مسافته الضيقة بالغناء، والأمل.

عادَ.. يتأبطُ صوتهُ المتأرجح، ورغبة جامحة تجتاحه نحو الحرية والحلم.

ـ طرق الباب ـ

كانت الدهشة تشعُ في الوجوه المتوقدة بسمات مضطربة أكثرهم اضطراباً الأمُ التي أمسكت به بقوة وصمتت بذهولٍ غريب، بعد أن غادرت الكلمات من أعماقها الحائرة، لا تدري ماذا تفعل.. ماذا تقول؟!.

أخذت تدور بالدار بلا إرادة، ثم توقفت أمام قفصٍ يحتوي على بلبلٍ قلق:

ـ كنت قد قررتُ أن أفتح هذا القفص في وجهكَ، وأطلق البلبل في الهواء نذراَ لحريتك الغالية.

فتحت باب القفص بنشوة،ٍ وأمسكت بالبلبل ورمتهُ عالياً في سماء الدار... ولكن، ووسط دهشة الجميع عاد البلبل إلى فناء الدار وأسرع نحو القفص المفتوح ليدخل بيته الصغير.

صاحت الأم:

ـ ياه.. ماذا؟!.

أما العائد تواً فقد جلس على الأرض، وأخفى بيديه وجهه المغمور بالأسف والدموع.



1999 ديوانية





#سلام_إبراهيم (هاشتاغ)       Salam_Ibrahim#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- يوميات العراق والمنفى – 5 - ظهر – هذا التراب المر.. حبيبي –* ...
- يوميات العراق والمنفى -3 – عشيقة علي الشباني، والكآبة، والمد ...
- يوميات العراق والمنفى 2- ميم – الداعر واللذة والحرب والتوبة ...
- يوميات العراق - الموت والصدفة والضجيج -
- الصحفيون، والمثقفون والكتاب والفنانون قاطعوا صحافة الأحزاب ا ...
- أخوض بلا
- عن رواية - الحياة لحظة - لسلام إبراهيم _ حوار خالد بيومي – ا ...
- موواويل ودراميات وأبوذيات للشاعر علي الشباني
- حب، خاطر مكسور، وذرة ضائعة
- رسائل حب
- لا معنى للتفاصيل والغمر
- ماذا والجنة
- شاعر عراقي شاب متمرد أسمه – مالك عبدون –
- مع الأكراد والقردة فوق الجبل..!!
- الحياة...لحظة - د.سعود هلال الحربي
- الرواية العراقية المعاصرة والتاريخ
- سلام إبراهيم عن‮ -‬الإرسي‮- ‬والعسكر ...
- الواقع حق والايديولوجيا باطل
- الروائي العراقي سلام إبراهيم: سوف أبقى أنهل من سيرتي الذاتية ...
- الحياة لحظة* رواية سلام إبراهيم.. الرواية الوثيقة..


المزيد.....




- هتستمتع بمسلسلات و أفلام و برامج هتخليك تنبسط من أول ما تشوف ...
- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سلام إبراهيم - تتبع جذور النص