أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هادي الخزاعي - الـمُــعــــــــــادِلاتْ 4















المزيد.....

الـمُــعــــــــــادِلاتْ 4


هادي الخزاعي

الحوار المتمدن-العدد: 989 - 2004 / 10 / 17 - 11:24
المحور: الادب والفن
    


( القسم الرابع )
أغلق صفحات الرواية ، وأخذ نفسا عميقا، يشبه شهقة غريق قبيل غطيطه الأخير الى القاع، وندت منه زفرة قاسية أستحوذت على مخارج تنفسه، قاذفا مع زفرته ما علق بها من حسرات داهمته وهو يتمثل الصور، وأن لم تكن هي بعينها، غير أن ظلالها وجواهر لحظاتها، كانت تتقيأ تحت شجرة مخيلته الضاجة بالتداعيات الشبيهة بالأحلام وحكايا السندباد، فلونية مخزون هذه المخيلة المتخمة بحوادث أنبتها الواقع، جعلها تجنح منه الى تخوم وشواطيء الأساطير، تتسربل بملامحها، وتتخذ أشكالها، لذا فقد كانت هذه الصور، وفي غالبها، أنعكاس لصورة الذات المحاكمة من ذوات الآخرين المبتعدين عن اللامبالاة، أو المباهات بالفواجع ودماء الآخرين.
أزدرد ريقه، وأزاح بحركة خفية، ظل الصورة الطاغي. هذا الظل الصامت الذي يقطع عليه دروب القراءة بأستمرار، والذي يتسرب خدرا يُزْرقُ ببطء في العروق.
" ... وأذا برقت في السماءالغبراء أولى قذائف الدافع، ألتفت تشاباييف ناحية فيدور قائلا : -
- لقد بدأ القتال!
- نعم!... "
ألتمعت فجأة على رداء الظلمة المهفهف، بروق البداية، من صاروخين، هما الحد الفاصل بين ما كان وما سيكون .. بين السكون والعاصفة. فغادرالأنكماش والجزع قلوب الذين طال بهم السكون، وتعثرت بهم الآمال بعدما أستحالت وقائعهم الى دهور، وأهدافهم الى مومياءات مكفنة باللعنة لتصد صوت الأمل المنطلق الى مستقبل أبعد من الماضي المدمى، ولتقطع عن الأجفان سيرورة الحلم بأقنعة شيطانية، لتصد التحفز والوثوب الى الآتي من زمن صالح، برماح تنينية لها ألف رأس.
تضرج الفضاء بلون جمرات القذائف ولهبها الذهبي، ولسع الأطلاقات وشظايا القنابل اليدوية.
لقد أرتعش كل شيء في غابة الظلمة الفضية المروعة، بعدما أشتعل فتيل الغضب الذي راح يتلاعب بمواطن العاطفة. فلا شيء يحول أملاح العواطف الى بارود متفجر، غير غضب البارود.
سقطت جميع المواقع قبل الأوان المحسوب. سحقها تنين الثورة والحقد المبرر، وهال عليها ذرات الأنسحاق تلالا من العتمة المضافة الى عتمة الليل المنجلي لا محالة، ولم تلحْ في الآفاق البعيدة والقريبة ، غير الأطلاقات المذنبة، وهي تصرخ بحناجر الذين حملوا حلمهم على كف ، وحياتهم على الكف الآخر....
تعثرت الآمال، وطال السكون في الركن الفريد الضاج بدوي مئات الأنفجارات الملتهبة. فلما يزل موقع قيادة فوج المطار المحاصر من عشرات الأنصار، يقاوم الأنسحاق، ويجلي العتمة بكثافة من نيران البنادق والصواريخ، في شيء يشبه صحوة الموت، لمقارعة المستحيل المتوثب للمستقبل بكل ما يملك من ثقة.
- يا حوم أتبع لو جرينه... يا حوم أتبع لو جرينه...
- هسه مو وكت هوسات أبو كريم..
- جا شوكت يا بو ظافر.. ولك هسه وكتهه..هسه.
كان ألق العيارات يرتعش في فضاء المعركة كفراشات فسفوريةن تُرى من بعيد، وهي تحوم فترسم في جب الظلمة متوازيات تألق وتنطفي بسرعة ، تُوهم بأن الزمن قد توقف أو حرن.
أستقرت الظلمة والصمت بلا حراك بلا حراك على قميصه الكاكي، وقد فاحت منه رائحة الألم، وتقطرت من حنجرته حشرجة يابسه غير معتادة.. حشرجة بعيدة عن الرخامة والصفاء اللذان يؤلفان صوت أبو كريم الذي يعرفه القاصي والداني.. حشرجة تستمد أيقاعها من الظلمة والسكون الذي أنفرد به في تلك اللحظة المستشرية، وهو يتطوى داخلا خارجا فيه ومنه...
- أمروتك ابو ظافر.. لا تعوفني..لاتعوفني..
- بس لا انجرحت ابو كريم ؟!..
وبدلا من أن ينتهيا من الصمت، ازدادت وتائره بينهما أطنان ثقيلة، وفراسخ زمنية، تنضغط ونتفخ بضغط الألم والدم النافرمن ملابسه، بعدها حرنت أصابع صديقه أبو ظافرعلى لزوجة الدفء المتبدي من بطنه، فادرك معنى الألم الحارق الذي يرتسم على وجه ابو كريم الخابي في زحمة الوجع، وقد صارتا عيناه مثل ابهامين مغروزين في الجسد المتكور بلا حول غير حول التوجع، فبدا كشيء قد أستقر على رفوف الحقائق المفجعة، المرصوفة منذ زمنن وهي تنفصل شيئا فشيئا عن الواقع. وكأن ماكان يجري ، انما في خريف آخر، وفي مكان هذا المكان.. مكان خالي من الحواشي والشواهد....
حمله وساردون أن يثير هو او أقدامه أي ضجيج أو صخب، فكانت اقدامه تقع على الوحل أو الصخر وقوعا اقل نعومة من سقوط أوراق الشجر على الرض. وبعد دقائق وصل به الى مكان آمن. أجلسه منسدحا بين كومة من الأوراق اليابسة الهامسة برفق الى وئيد نفسيهما المتسارع، ووئيد ما تزفره الأرض في تشرينها الصارم الريح. حاول حمله من جديد، فلم يجد في عضلاته من القوة ما تعينه على حمل جريحه.أقترب لهاثه من الوجه الغارق في العتمة والوجع، فلم يسمع سوى آهات وأنات اختمرت بها مفردات يتشظى منها لحن الموت المروع....
- ابختك رفيق.. تره مصاريني تشتعل.. ولك أبو ظافر مصاريني توّجْ..
بهذا المسار دب الموت الى الأحشاء، متعرجا في الجسد بهدوء، نازلا من الجمجمة المخذولة بكومة من النكبات التي شكلت جل زمانه وكيانه, وهيكل انسانيته المترامية المبسوطة مع أنبساط الأرض وهي تستصرخ المستحيل.أخذ الأسى يسكن القلوب المدمية ، حتى بعد تعليق اللأفتة الكبيرة على صدر بناية مطار بامرني العسكري( المجد للذكرى السبعين لثورة أكتوبر الأشتركية )، فلا يزال ذلك الدفتر الرضي المُستّرْ من كل جوانبه بحاجز ترابيأ، يقاوم ويقاوم بعنف وبقوة مئات الرجال. الحال الذي توجس منه الجميع بعدم امكانية اسقاطه، حتى لو استمر التراشق الى الصباح...
- سينتهي الوقت المحدد للعملية.. يجب التهيؤ للأنسحاب... أعطني الموقف.
- أخلي الأسرى والغنائم.. لدينا أربعة من الرفاق جرحى... لايزال مقر فوج المطار يقاوم بكثافة نيران عالية...
- في تمام الساعة الثالثة والنصف يبدأ الأنسحاب..بلغ.
- سابلغ حميع المجاميع بذلك ايها الرفيق.
- قبل ان تذهب .. من هم الجرحى؟ وما هي جراحهم؟
- أبو جاسم وأبو نصار وابو كريم جروحهم صعبه، أما يونس فجرحه بسيط..
- اذهب وبلغ قرار الأنسحاب.
أجتازت الشوارع أشباح ناحلة، تتخطر على مهل، ساحبة نفسها من عتمة الى عتمة، ومن جدار الى جدار. فشظايا قنابل مدفعية السلطة تألق مدوية على طول مئات أمتار خطوط الأنسحاب الأجبارية، صعودا الى قمة جبل متين، حيث يكون الأمان، قبل ان يفقد، أذا ما لاح الفجر وبزغت الشمس.
تلفعت نجمة الصباح بالغيوم، وابتعد عنها مطلع الفجر، وكأن الشفق يقبض عليها ليمنعها من الصعود، فبدت كشمس شتوية خالية من الحرارة ، وقد ألقت عليها عملية الليلة براقع من دماء متخثرة باردة، وتلوث الهواء الفجري الرقيق الهش برائحة البارود الخبيثة ، فكانت الأوقات متفاوتة في توقيعاتها ومسارات أفعالها الآدمية، فجيشانهم يجعلكتسمعهم في أحايين، أصواتا تضحك حين لا ترى ما يُضحكْ، ودموعا تؤطر الأحداق حين لا تلحظ ما يبرر البكاء.
رنا ببصره الى ارجاء الفضاء العريض، بضيائه الرمادي الذي تحدث فيه الأشياء الساكنة، ظلالا وتنوعات آدمية وغير لآدمية، فبدا له أن كل ما فعله ليس إلا ضلالا، وأن كل ما لمسه أو عاينه راح يتخذ شكلا مرئيا شكسا مناكدا دونما داع.
الأشياء والظلال، تضج في روحه، وتصرخ في وجدانه بأصوات وأفكار باطنية..." أكون أو لا أكون.."
- تعبان ابو ظافر .. تعبان.
- منيش أبو كريم؟! منيش؟؟؟
- من الوكت أبو ظافر.. ومن النار اللي تشتعل بمصاريني.. آآآآخ... آآآآآآآآخ.. آخ أبو ظافر.. آخ من الوكت...آآآآآخ... ترس هذا الوكت...
لم يعقل وهو يطوي الرواية، أن مع زحف الزمن البطيء تبرأ الأحزان والجراح، وايضا لم يعقل أن الأنسان محكوم بصدفة المضاجعة والحمل، مثلها مثل رمية زهر ممسوح الوجوه في لعبة النرد، ويموت صدفة من رمية مغشوشة من ذات الزهر....
- آه من عرش التأمل... لا تستقرعليه الأفكار... لقد سجل الألم في مرمى يوميّ كرة أخرى..أنا لا أستطيع الظن بأن ما كان يؤلمني في يوم ما، قد تعب أو فاحت منه رائحة الشيخوخة والهرم، فأبو كريم واقرانه ابناء حزني....
تدفق نبض الدم اللاهب في الجسد المترنح، عندما أمتزج الألم بالألم بابدية مطلقة، يندلع ، ثم يخبو كلهب تشربته الظلمةالأزلية، حتى ذاب طعم النوم الندي في صمت الطويل للحنجرة، وفي وئيد الأقدام المهرولة ، وفي شفاه الأفواه الهامسة وهي تنظر الى الحياة من خلل زجاجة ملونة...
- نزلوني هنا... تعبت... أكلكم تعبان .. نزلوني...
" ... فأشاح تشاباييف متأففا!
" لم يتعب أحد... لقد ألتقيت أمس بأحد جنود الجيش الأحمر يتسكع وحيدا في الغابة، وقد علت ساقه الضمادات.. شاب صغير نحيل كالسحابة فسألته. ما هذا؟ مالك تعرج؟.. فأجاب قائلا : لقد أصبت في ساقي - ولماذا لا تدعها تلتئم؟ فقال ليس امامنا وقف نضيعه. أيها الرفيق ليس الوقت مناسبا للراحة، علينا أن نحارب.. فاذا قتلت سارقد في قبري، وهناك سوف لا يكون لدي شيء أفعله. وبذلك يتسع الوقت لجرحي كي يلتئم... "
شهق في الفضاء، بين الصمت والعدم، حيث ترتعش النجوم في صفاء وتلبد الجو، فقد قبل الهزيمة، وتحول صخبه الى شيء لم يكن ، بعدما ابتعد عنه هدير العالم، وانعطف الى عالم من الظلام وأصداء الأقدام ، وهي تحكي متوالية عن حزن البشر، وهم يقتحمون حقائق لا تقبل الجدل، وهي تلصف كمرآة تملء كل بياض العين
وسوادها.
وتصعد المحفة الجبل المتضاءل تحت الأقدام الآدمية المنهكة الحزينة، رغم كل ذلك الفرح المتاتي من مسمارهم الذي دقوه عميقا في المطار، فتركوا فيه نيرانهم توقيعا يتراقص في الجو كشموس معلقة من حافة الأفق.
( يتبع )























#هادي_الخزاعي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الـمُـعـــــــــــادِلاتْ 3
- المُعـــــــــــادِلاتْ 2
- المعادلات ( رؤية تسجيليةعن أستشهاد النصير أبو كريم في العملي ...
- طابا التي تأن، من يان لها؟!
- لم ترحل أيها الشفيف سلمان شمسه
- لفت انتباه للسيد صلاح عمر العلي
- رحلة المهام النبيلة للمجلس الوطني العراقي
- أسئلة غير محرمة للمناضلة الرفيقة سعاد خيري
- سكاكين مثلومة؟! تضامنا مع الكاتب يوسف أبو الفوز
- مكاييل عربية!؟ القوات السورية في لبنان والقوات متعددة الجنسي ...
- مكاييل عربية؟! حسين الحوتي ومقتدى الصدر نموذجا
- عراقيامطلوب أشراك الجماهير الشعبية في أدانة سارقي قوتها وأمن ...
- خرف العمر يا سعدي يوسف أم جفاف القريحة؟!
- هل سيكون الأول من تموز ميلاد جديد للعراقيين؟
- - يا رفاق الفكر والدم ناضلو....أحنه وأنتوا بدرب فرج الله الح ...
- الشهيد الشيوعي الفنان التشكيلي العراقي معتصم عبد الكريم
- من يعوض العراقيين عن قتلاهم؟
- الجلبي وتحت موس الحلاق
- الباججي و يا مغرب ، خرب
- الحكومة الجديدة، مشروع للضمير العراقي القادم


المزيد.....




- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هادي الخزاعي - الـمُــعــــــــــادِلاتْ 4