أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جاسم المطير - رواية المريض الشيوعي 8















المزيد.....


رواية المريض الشيوعي 8


جاسم المطير

الحوار المتمدن-العدد: 985 - 2004 / 10 / 13 - 09:22
المحور: الادب والفن
    


ماريـّا و يوسف العراقي..
المريض الشيوعي
جاسم المطير
( الفصل الثامن من رواية جديدة )

(8)
ظلت ماريـّا تزداد جمالا كل يوم ، بل هي بنظره أجمل امرأة في الدنيا في عصر جورج بوش وماركَريت تاتشر والروسي جيرنوفسكي . جميعهم يؤكدون في سلوكهم أن الكون خلق من أجلهم ومن اجل أن يكونوا هم وليس غيرهم أبطال المشهد الأخير في كل قضية ومسرحية لكن العينين الرقيقتين الحساستين عند ماريـّا تشعان بفرضية أخرى شديدة الإغراء ملخصها أن الله خلق الكون من اجل الإنسان من كل جنس ولون ودين ورغم أنها لم تؤد قسم ابوقراط حين تخرجت من معهد التمريض غير أنها تستند إلى فلسفة سقراط مسلـّمة نفسها لعدالة الله ومسلـّمة عملها لعدالة ضميرها . يوسف العراقي مريض عنيد صعب المراس يواجه موتا يتصدى له بالصبر بلا أمل بينما تشقى هي بتعاطف شديد كي لا تأسى بموته فتتضرع إلى الله أن ينجيه ممتلئة بقوة الإرادة في أن تنتصر على الموت لتكسب رهان المد في حياته ، تريد أن تسمع ما لا يمكن أن تصدقه : شفاء يوسف العراقي .
هو أيضاً يرغب في أن يرى نفسه بما لا يمكن أن يكون متأهباً لسماعه أو تصديقه : شفاء تاما لقدميه كي يضع نفسه في حركة قوية دائمة . يريد قبل موته أن يحقق أسمى ما يمكن تحقيقه على الأرض في بلد مخضوضر حتى صخره . يريد أن يرى خدود الزبيريات طرية وشفاههن هنية . يريد أن يملك ماريـّا أجمل النساء كي يرتفع معها صامتا في الظل الشاجي تحت سعف النخيل في ضفاف شط العرب .

لا تملك ماريـّا مؤهلات سياسية أو إيديولوجية بل هي تملك قوة الممارسة لتكتشف إرادة يوسف العراقي كل يوم كي يعيش غدا كي يحتفظ بها بروح تنظر إلى الأمام دائما حيث يكون المستقبل كنزا كبيرا لشعوب وادي الرافدين . هي بعيدة جداً عنه ومع ذلك فهي أقرب الناس إليه بذات الوقت . يعترفان معاً أنهما أسيران في قفص واحد .. هو في قفص المريض وهي في قفص التمريض . كل واحد منهما يفيض صدره بالحنين إلى الآخر .

لا يريد أن يهرب من الحياة إلى الموت مثلما لا تريد هي أيضا أن تهرب من ثقة نفسها للخضوع إلى من يريد أن يستحوذ على حياتها . يموج يومها بالمنفعة الطبية والاجتماعية وتتوق إلى خلق وجود خاص لمريض يحتضر بمشقة وهي على خلاف يقين مع المركزية الشديدة في سلطة الزوج على الزوجة أو سلطة الرجل على المرأة أو سلطة الأقوى على الضعيف .. تعتقد أن جميع الناس أغنياء وفقراء سواسية فكل أجدادهم انحدروا من صلب القردة .
كلما أمعن النظر إليها تبدو بملامح وجهها أن في حلقها كلمة لا ترغب في قولها .. يجدها أميلُ للعصبية بصمتها كأنها ملكة مقهورة من نزولها عن العرش . اختلت بسببه أيام حياتها الزوجية مع تقادم عمر زواجها فلم تعد ترى في العلاقة الزوجية غير مشاكل تربية الأطفال والتسوق وهوامش الحياة اليومية التي كان زوجها يزيدها أثرا سلبياً كلما عاد من عمله راكداً أو متجهاً نحو الهدوء الذي تعتبره إهمالا لوجودها أو تعالياً عليها وكان يتأرجح متأففا متذمرا كلما ورد ذكر اسم المريض يوسف العراقي على لسان ممرضته ماريـّا. فيجدان نفسيهما بالجدل انهما مشرفان على هاوية العلاقة الزوجية :


- يوسف العراقي إنسان مفقود في ظلام عظيم ينبغي على الإنسان الآخر أن ينقذه..

كان يجيبها بعصبية :

- علينا أن ننعم بأمان ودفء بيتنا لا شان لنا بواقع الناس المرضى مهما كان قاسيا..

كان تمردهما يزداد كلما وجد زوجها نقصا ما في حاجات البيت أو في ثلاجة البيت كان يعزي سببه بأقوال في غاية الخطورة :

- لولا خطيئة اهتمامكِ بالمريض يوسف لما حدثت هذه النقائص .

فتجيبه بعصبية :

- ممارسة العمل الإنساني فضيلة وليست نقيصة.

- ممارسة الإنسانية مع مريض فضيلة لكنها خطيئة إنْ كان الممارس يهمل أطفاله وعائلته فتغدو الفضيلة نقيصة .

- قل لي بربك .. أي مكان في العالم لا توجد فيه نقائص ..؟

لم تكن من هاويات اقتناء الذهب أو الحلي الفضية رغم أن يوسف العراقي يظن أنها أجدر بحمل اللآلئ البيض على صدرها وعلى معصميها ومتدلية من أذنيها . تشعر في أعماقها أنها تريد أن تغزو قلوب المرضى كجيش لا يقهر .. تريد أن تقهر المرض ولا تــُقهر، غنائمها في هذه الحالة كلمات طيبات معتنى بها : ماريـّا منقذة حياتي .



افتقد الزوجان إجماع رأيهما حول موقعها الإنساني كممرضة في حياة مريض رغم انهما متفقان على أن لكل إنسان مريض حق البقاء على قيد الحياة حتى ولو كان مولعا باسم ممرضته أو رسمها .. مضت أيامهما بأوقات عصيبة حتى وصلت إلى نقطة وجدا فيها أن لا خسارة لأي منهما في افتراقهما .

منذ يوم تخرجها ممرضة قالت أمام معارفها جميعا : ما أجمل مهنة التمريض ..

لم تغضب على مريض ذات يوم ولم تأسف لإساءة تصدر عن يائس أو موشك على الموت . تتسلق السبل الصعبة من أجل أن لا تغضب بوجه أحد ولا تأسف من شيء . كل ما تتمناه في يومها أن يكون لصدى أوامرها الطبية وقع لدى المريض . كان صدى أفعالها في كفاحها من اجل بقاء يوسف العراقي على قيد الحياة واضحا بسرعة ومنجزا بانسجام رغم أن هذا الصدى يدوي في جمجمة زوجها وتضايقه شكوك من دون داع .

تستيقظ قبل موعد شروق الشمس وتعود للبيت بعد موعد غروبها . سنوات تزيد على العشرين تواصل اكتشافاتها اليومية في المستشفى وفي بيتها قبل زواجها وأثناءه وبعده أن التلاميذ في المدارس يتعلمون دوران الأرض ويتعلمون كيف ولماذا تشرق الشمس وتغرب . ينتهي كلام المدارس والكليات والجامعات أن غاليلو كان على حق وان الكنيسة كانت على باطل . ماريـّا تدور في المستشفى بما يكفي من الوقت ولا ينتهي كلامها عن المرضى الراقدين والمرضى المراجعين . كلهم يبحثون عن الشفاء وعن عمر أطول وأحسن وأجمل .

رُزقت بطفلتها الأولى بعد زواجها بعامين . وبعد ذلك رزقت بثلاثة أبناء آخرين. منذ كانت فتية مولعة بالأطفال تراقب تصرفاتهم وهم في طريقهم إلى المدرسة . كانت تتمنى دائماً لو تُرزق بدستة كاملة منهم ، وكثيراً ما كان والداها يسمعان قولاً تردده:
- ما أحلى الأطفال.
وتضيف :

- سأجعلهم موجودين في حياتهم بصحة ممتازة . أنا ممرضة .. سأكون ممرضة ممتازة .

لم يكن موضوع تربية الأطفال من دون خلافات بين الزوجين . جدل عقيم متواصل حول كل قضية حتى صارت تعتقد أن السحرة يعيشون معها في نفس البيت كي يفسدون حياتهم فغيرا مسكنهما اكثر من مرة بأمل معاقبة السحرة برميهم في الشوارع . لكن الأزمة تتصاعد والإجراءات لحلها بدون جدوى .

ترى في الطفولة ينبوعاً من الإمكانيات العظيمة ويخطر على بالها دائماً لو أنها تبقى طفلة إلى الأبد. تراقب ردود أفعال الأطفال أينما شاهدتهم في الشارع والسوق والبيت والمدرسة. تراقبهم حول كل أحداث اليوم كالباحث العلمي تهتم بصياحهم وصراخهم وكلامهم كأنما تريد أن تعرف من أين يأتي ذلك إليهم وكيف يترك آثاره فيهم. انتقلت الحالة إلى بيتها.
صار بيتها بعد ولاداتها لأربعة أطفال مثل روضة الأطفال على صغره وصغر مساحته. فيه أطفال تحبهم تحب حروفهم المنطلقة من ألسنتهم تعلمهم واحداً واحداً تؤيد عفويتهم واسترسالهم وصدقهم على موقف أو طلبات أو رغبات يلحون في تحقيقها أو أحياناً ترفض ما يصرون عليه من تحقيق إرادتهم وتزجرهم كتعبير ورسالة في التعليم والتربية .علمتهم بجهد كبير أصول الحياة كلمة كلمة وجملة جملة. أدخلت الطمأنينة والسكون إلى نفوسهم .قالت لابنتها مرة:
- أريدك يا سيزي هادئة مثل قنوات المياه في الحقول .
لكنها نفسها لم تكن كذلك . تشبه مياه بحر الشمال على ضفاف جزيرة (تسل) صاخبة بهدوء أو هادئة بصخب. في كثير من الحالات ترمي حجارة كلامها بوجه الآخر فتربك تصرفاته وتثور أمواج كل منهما لتتصارع مع الأخرى تاركة ردّات فعل عفوية سلبية في نفس سيزي كما كانت تحس ردّات فعل أخوتها وصدق الأثر الذي تتركه معارك الأمواج العصبية على أرواح أشقائها الشفافة.
الليل طويل إنْ في الصيف أو في الشتاء .
الهواء راكد في الغابة أمام البيت .
البرامج مملة ومكررة في أغلب شاشات التلفزيون .كلها يعتمد على نقل نشرات إخبارية حية قادم أغلبها عن الاحتلال الأمريكي للعراق. انتهت توا من قراءة عدة مقالات في الصحيفة الأسبوعية الصادرة عن البلدية .. صفحتها الأولى وغيرها تلخص النظرات الدولية إلى العراق وهو أمر بطبيعة الحال لا يبعث على الراحة لا في نفسها ولا في نفس يوسف العراقي اللذين راقبا بداية الحرب الثالثة دقيقة دقيقة من على شاشة التلفزيون . اندلعت حرب الخليج الثالثة بنزول أول صاروخ على مدينته الزبير مشعلة النار في آبار نفطها مهدمة هياكل خشبية مهترئة في ميناء أم قصر. لم يكن لا يوسف العراقي ولا ماريـّا يعتقدان أن الحرب ستقوم . الحرب بنظرهما مفرطة الأذى لجميع الناس ولا ينتج عنها سوى مصائب جسام .
- هل تذكر يا يوسف العراقي لقد استولى الوهم علينا .

قالت ماريـّا في أول يوم نشوبها .

- تظل الحرب بكل الحالات وهم قبيح حتى لمشعليها .

ظنت أنه حل لغز هذه الحرب بهذه الكلمات .

كان كبار رجال السياسة في أمريكا وبريطانيا وإيطاليا وأسبانيا وحدهم يتوقعون قيامها بل هم أنفسهم خططوا لها بينما كان كبار الساسة في روسيا وألمانيا وفرنسا قد نسوا عملية الربط بين التسلسل الزمني للأحداث والوقائع المتلاحقة المتصارعة مع الأبواب المزدوجة المفتوحة للحرب أكثر من انفتاحها للسلم .. هناك ساسة كبار ومنهم صدام حسين وضعوا الحقائق حتى اللحظة الأخيرة السابقة لطلقة الحرب في دبر آذانهم فما كانوا يسمعون دق الطبول . وصفتهم ماريـّا ساخرة بعد سقوط أول صاروخ بقولها :
- مسكين جاك شيراك كان غبياً .. مسكين الرئيس بوتين .. مسكين شرويدر الألماني .. سجنوا مواقفهم في المسرح القاتم ..
قال يوسف العراقي مع نفسه :

- انتابهم الهذيان طيلة سنوات لا يبصرون ماذا جرى ويجري في العراق لأهله وهم في قلب غابة وحشية لا يجول فيها غير ذئب انتشى في برك دمائها 35 عاما .

قالت ماريـّا :

- تكابر الأمريكان وتعاظموا وأسقطوا أقنعتهم وكشفوا حقيقة النغمة الشهوانية في أعماقهم للحرب . لقد اختاروا الحرب .

صار حساب الأسابيع الثلاثة من الحرب ومضة واحدة في عيني ماريـّا ويوسف العراقي . دمرت مدنا كثيرة وقتلت ناسا مقتولين وتحول الأحياء الباقين إلى هائمين في الشوارع يبحثون عن ركن الأمان ينامون فيه بلا عقاب من مجانين وسرّاق وإرهابيين وقتلة استخرجوا أموال الدولة القديمة من دفائنها ليحرقوا بأوراقها الذهبية أجساد الناس في شوارع المدن قبل أن يبلغوا بناء دولة جديدة .

يوسف العراقي يشاهد الصور .. يسمع الأخبار وهو لا يستطيع أن يتفوه بكلمة ولا يستطيع أن يرفع يده بإشارة ليقول لماريـّا أن مشكلات العالم تزداد كلما ازداد العالم تطورا .. هكذا تعلـّم من فلسفة هيجل . اكثر كتاب المقالات يجمعون على أن العراق غدا بلدا يشيع فيه فساد كثير و كثر فيه تمرد الجماهير وتمرد ولاة عشائريين ونبلاء عائلات كبيرة في المال والإنتاج والطمع والسلطانية تحت التشريفات الأمريكية .
ربما يكون تطلع الروح السامية في أعماق ماريـّا في صالح صحة يوسف العراقي وهو ينتصر في مقاومة بعض جوانب المرض في جسده.. لطائف ماريـّا ورقتها معه تزيده قدرة على مقاومة الضعف في بدنه ومقاومة همومه حول مصير بلده المهدد بخسيسين جدد ، بعضهم من رجال دين وبعضهم من فرسان يصولون ويجولون منذ سقوط صنم كرنفال الجريمة في فردوس بغداد .
ليس هناك من شيء يمكنها فيه قتل الوقت غير الجلوس والاستماع إما إلى دقات قلبها أو استعادة الذكريات. بالطبع تفضل استعادة الذكريات كأنها اللهو باستئجار كامرة فيديو وتعلم كيفية نصبها وأخذ اللقطات المهمة بعد ضبط الصورة والصوت. يوم قريب في الأسبوع القادم هو موعد الاحتفال بعيد الميلاد السبعين ليوسف العراقي .. كان يحلم أن يحتفل بهذه الذكرى في بغداد أو في مدينة الزبير لكن ذلك أمر مستحيل فالواقع دائما يتغلب على أحلامه وقد توصل في تلك اللحظة إلى استنتاج مفاده انه دائما ضحية انتصار الواقع والوقائع.
من الآن حتى نهار يوم الميلاد السبعين ليس طويلا غير أن التهيؤ لاحتفال عيد الميلاد يتطلب وقتا طويلا خصوصا مع وجود حالات من الملل والضجر داخل هذا البيت . نظرت إلى وجهه بتمعن وسألت نفسها :
- هل توحي هيئته انه أبن السبعين حقا ...

- كلا يا ماريـّا .. بإمكاني القول أن هيئتي تفصح بأكثر من ذلك .

كأنها تصغي إلى صوته الخفيض يأتيها بأجوبة كثيرة على أسئلة كثيرة .

- نعم يا ماريـّا أنا رجل في السبعين أحمل على كتفي أثقال السبعين عاما الماضية حملتُ جميع أحداث ودقات وآليات الساعة الكونية في مدينة الزبير .

نظر إليها أحست أنه يقترب من الذكرى وهو مسرور .

- أمسرور أنت يا يوسف لبلوغك السبعين ..؟

- رغم تقدم سني فما زلت تلميذا في هذه الحياة . سأستمر بالدراسة والتعلم يا ماريـّا ..

ابتسمت ماريـّا . رفعت كأس الواين الأحمر نحوه كأنها استجابة ليديه غير القادرتين حتى على مس الكأس أو تحسسه وليس رفعه . كان ينظر إليها بتكاسل وبشبه إغماض ينظر إلى شفتيها الممتلئتين الرطبتين بالواين الفرنسي الذي تحب تناوله اكثر من غيره من أنواع الواينات .

تعود هذا البيت منذ سنوات على الاحتفال كل عام بذكرى ميلاد يوسف العراقي . أصدقاء وصديقات وزملاء وزميلات ورفاق ورفيقات ينتظرون حفل هذا اليوم بصورة خاصة بعد أن بلغ السبعين من عمره متجاوزا كل أنواع المد الإرهابي المحيط بحياته منذ ساعة دورانه في مدار السياسة ضمن قمر كان يحلم ان يحط في كوكب الاشتراكية باعتبارها التحدي الأعظم لكمال الإنسانية .. زال انحراف الضوء في وطن الرافدين في نيسان فهل يستطيع يوسف العراق التلاؤم مع فجائيات الأحداث المتلاحقة في أرضه وسمائه ..؟



ظل طيلة فترة الصباح مغمض العينين بينما هي منشغلة بالتفكير في شؤون التحضير لساعة الاحتفال . تتناول الواين كأساً بعد أخرى .. سيكَارة بعد أخرى . أتمت قبل ساعة طبخ وجبة العشاء كعادتها كل يوم . التنظيف أكملته . لكن لا كلام عندها .. كلما تنظر إليه تجده جثة هامدة . هل مات ..؟ كلا .. كل الأجهزة الإلكترونية تشير إلى صعود النفس في قلبه .

- هل أنت نائم يا يوسف ..؟

لا جواب غير صوت خفيف من الشخير .

كان يتفرج من شباك الطائرة الصغير في مطار امستردام . المطر غزير وعاصفة الرياح لم تتوقف بعد . إلى جانبه جلست امرأة عراقية محجبة تشير ملامحها إنها في الستين تبدو منتشية وهي تتطلع لرؤية بلدها بعد فراقه لأكثر من عشرة أعوام ..

كان محرك الطائرة قد بدأ ضجيجه بالارتفاع . تحركت الطائرة قليلا إلى الخلف . وجد نفسه يحملق في نقطة ما في أرض المطار بتوتر شجيد . هل حقا انه مسافر إلى العراق . هل حقا أنه سيحتفل بعيد ميلاده السبعين في مدينة الزبير .

مرت دقائق عشر بعد انطلاق الطائرة من مدرجها في طقس عجيب . جميع الركاب مسمرون في مقاعدهم بينما أعادت المرأة المحجبة قراءة سورة الفلق عشرة مرات وهي شاحبة الوجه بينما كان يوسف العراقي يلقي نظراته إلى السماء الملبدة بالغيوم السوداء تبحث الطائرة من خلالها عن منفذ لها نحو الشمس . ثم جاء صوت فتاة مضيفة يدخل مسرعاً إلى أسماع يوسف العراقي :

أهلاً بكم في طائرة KLM على الرحلة 786 المتجهة إلى بغداد . كابتن الطائرة جونار برنارين وجميع طاقم الطائرة يحيونكم متمنين لكم رحلة ممتعة . هذه هي أول رحلة تقوم بها طائرة مدنية أجنبية إلى مطار صدام الدولي وسط عاصفة هوجاء شملت اليوم جميع أنحاء المملكة الهولندية تجاوزها قائد الطائرة بصعوبة .أرجو الاطمئنان سيداتي سادتي ان أجواء الكرخ في بغداد طبيعية جداً فلا يوجد قتال اليوم في بغداد عدا بعض التفجيرات المفخخة في المنطقة الخضراء بينما القتال شديد في الفلوجة بين المارينز الامريكي والمسلحين الفلوجيين . درجة الحرارة في بغداد لهذا اليوم 38 درجة . نرجو للسيد يوسف العراقي رحلة ممتعة .

تنهد يوسف مبتسما للمضيفة الشقراء الواقفة قبلته .

لحظات بعدها وتحركت المضيفات والمضيفين بوجوه مبتسمة . جاءت إحداهن نحو يوسف العراقي :

- هل أنت مرتاح يا سيدي ..

- نعم يا سيدتي .. أنا مرتاح .

أجابها بتردد قائلا لنفسه : من أين تأتيني الراحة وأنا هنا بدون ماريـّا .. كيف أكون مرتاحا وأنا أغادر مدينة هورن البهيجة المملوءة بالغابات الخضراء والروابي والأنهار وقنواتها المائية ومروجها السندسية وحقولها المشعة بالخير كيف ارتاح وأنا أغادر خلوتي في بيت أنيق صغير معمور بأجهزة طبية وإلكترونية تمدني بأسباب الحياة كيف ارتاح وأنا ذاهب إلى ميادين وشوارع وساحات جميعها تشتهر بالسيارات المفخخة وبمحلات القصابين المملوءة بالذباب يتزاحم الناس في الشوارع الضيقة غير المبلطة وسقوف بيوتها ومبانيها العالية متهدمة تسير فيها الدبابات الأمريكية بدون تعقل ماذا دعاني إلى السفر .. لماذا اتجه بإرادتي إلى بلاد الأهوال حيث ما زالت النيران تشتعل وتشعل حولها خلافات الناس والأحزاب ..

أفاقت جارته فجأة وهي تسوي حجاب رأسها وتعدله بيديها بعد أن هدأت الطائرة في سيرها المنتظم بسرعة 800 كيلومترا في الساعة على ارتفاع 30 ألف قدم . ألتفتت إلى يسارها نحو يوسف العراقي :

- أنا أم أنور أقيم مع ولدي المهندس الإلكتروني في روتردام . أنا ذاهبة لزيارة النجف الاشرف حيث تقيم والدتي إلى جانب الإمام علي ابن أبى طالب مات والدي عام 1963 بالبيان رقم 13 ومات زوجي عام 1991 بصاروخ أطلقه الحرس الجمهوري على بيته في النجف ومات أخي الجندي في معركة المحمرة عام 1981 أمي مريضة على وشك الموت بسبب إصابتها بمرض في قلبها من دون حصولها على دواء وعلاج مناسبين أخرجوها من المستشفى إلى البيت أخشى أن تموت قبل رؤيتها .

نزلت دموع من عينيها ثم سألته :

- من أي بلد أنت ..؟

- أنا من مدينة الزبير . احب رؤيتها سريعا.. لم استطع صبرا من دون أن أراها. اسمي يوسف العراقي أقيم في مدينة هورن ..

- هل تقيم مع عائلتك ..

- لا .. مع ماريـّا ..

- زوجتك ..

- لا ..

- أختك ..

- كلا ..

- أستغفر الله .. استغفر الله ... هل هي كَرلفريند ..

- كلا .. هي ممرضتي .. أنا مريض وهي التي تسمعني نغمات الحياة كل يوم تقف وحدها في بيتي تذبل كالعشب في المرج كي تعينني على البقاء حيا تزودني بسياج متين لتمنع اقتراب الموت مني ..

لم يجد رغبة في متابعة الحديث معها . ليس متعبا حسب بل لم يكن راغبا في كشف حقيقة معاناته في الماضي بينما يبحث عن إرادة قوية تخلق عنده حياة جديدة وأفكارا جديدة . يريد أن يعيد شبابه لكن هذا نوع من المستحيل . شيخوخته لا تعينه على شيء . الشيخوخة بنظره دافعا للتفكير والحلم ليس غير . حتى حين كان شابا وضع خطة بعد أخرى من اجل تطوير حياته لكنه لم ينجح في تحقيق آماله سوى بقاءه حيا متألماً من الماضي غير خائف من المستقبل . عليه أن يدير رأسه إلى أبنه يعقوب فهو الجدير الآن أن يكون خارج السحب الداكنة لينقل مدينة الزبير من واقع البداوة إلى واقع المدنية . عجبا هل يستطيع يعقوب يوسف العراقي الخلاص من رش البخور والطمأنينة في ركوب البساط السحري للتكنولوجيا كما يفعل شبان هولندا أم سيظل متمسكا برغبته القديمة بالهروب إلى باريس ..؟ الشباب وحدهم يبنون العالم .. الشباب وحدهم يعيدون مثالية الروح البابلية بين النهرين .

حالته لا تسمح له بمزيد من الكلام مع هذه المرأة الطيبة . فهو مقعد ومتعب وهذه المرأة لا تعرف شيئا لا عن مرضه ولا عن تعبه وقد بدت أمامه كامرأة تحب الثرثرة بكشف همومها الكثيرة أمامه . كانت تظن من كثرة اهتمام المضيفين والمضيفات به وتقديم خدمات استثنائية له أكثر من أي مسافر آخر . في البداية ظنت انه ربما يكون وزيرا من وزراء النظام الجديد أو ربما مسؤولا كبيرا فيها . لكنها عرفت الآن أن مشوارها الطويل في الطائرة يجعلها مسؤولة أيضا عن رعايته وعليها أن لا تؤذيه باللغو والثرثرة عما فات من أهوال زمنها أو زمنه .







افترسه الصمت لحظات . أدركت أم أنور أن الكآبة والخوف يعتصران وجهه وقلبه . لا يقوى حتى على الأنين .

- تشجـّع يا يوسف .. ساعات قليلة نصل بعدها إلى بغداد بسلامة .

وقعت كلمات المرأة في سمعه المرهف بكل وضوح . لم يكن لديه اعتراض عما قالت . الشجاعة ليست رضاه الوحيد فقد بلغ الخوف مبلغه كثيرا في الشعر والأدب وفي الفن أيضاً .. ألم يخف دستويفسكي في فنه .. ألم يكن فريدريك جوليو كوري خائفا من تطور العلوم .. ألم يكن كثير من الثوار خائفين من الثورة .. ألم يكن الشعب الفرنسي كله خائفا عندما طوقته مقاصل الثوار أنفسهم .. ألم يكن الشعب العراقي خائفا حين ألقى عراقيون بثورة تموز إلى محرقة قصر النهاية ..؟

طالما يعقوب موجود فهو لا يخشى حتى من الموت . حتما سيكون هو صوته في مدينة الزبير والبصرة كلها . سيشاركه فاوست العراقي في تغيير كل شيء حتى ملامح الناس ستتغير مع احتلال العراق وفي أعقابه . ألم يتغير الرومان بعد اكتساح القوط للإمبراطورية الرومانية من الشرق ومن الغرب .. ألم تتغير فرنسا بعد غزو الفرنجة لبلادهم .. ألم تتغير بريطانيا بعد الفتح السكسوني لها .. ألم تتغير إيطاليا بعد استيلاء النورمان عليها .. ألم تتغير أوربا كلها كولايات عظيمة بعد أن زال من بدنها عظم فاشية هتلر .

- اللعنة على التاريخ هو الجيش الأعظم الذي يحطم الدول .. دولة إثر دولة .

- ماذا قلت يا يوسف ..؟

- مرايا كثيرة أمام عيني أرى بها مستقبل الدنيا كأنني سأعيش بها ألف عام آخر . الكون مصنوع من أجلنا مثلما هو مصنوع للطليان والألمان والرومان . لكنني أخجل من القول أن كوننا سيظل بلا مؤهلات من دون ماريـّا .

- ماريـّا .. هل قلت ماريـّا يا يوسف ..

سألته أم أنور .

- نعم .. ماريـّا تملك هواء أخلاقية تكفي لكي أتنفس بصحو وحرية . أريد صحبة ماريـّا ..







- أين هي الآن ..؟
لم يجب ..

- أين هي الآن يا يوسف ..؟

نظرت في عينيه فوجدته في غيبوبة ونادت بأعلى صوتها :

- أيتها المضيفة تعالي .. الوضع خطير ..



رن جرس التلفون في بيت ماريـّا كأنه الصاعقة التي أيقظت يوسف العراقي من نومه ليجد نفسه على سرير مرضه وليس على كرسي الطائرة فاقدا حلما من أحلامه الكثيرة .



عندما نظرت إليه تألمت كثيراً كان راقداً على ظهره وقد انزاحت البطانية عن نصف جسمه .. من الأسفل تحركت البطانية فصارت تحت ساقيه السمراوين الرفيعتين . ينبعث منه شخير بسيط متقطع متناغم ناتج عن أنبوبة صغيرة مربوطة بجهاز يساعده على التنفس. .
ملامحه غير مريحة أحست برباط خفي يشدها إليه في تلك اللحظة. لكن ماذا بإمكانها أن تفعل غير العناية بدوائه ومراقبة تنفسه حتى يستعيده كاملاً.
غدا موعد ميلاده السبعين .. هل يموت قبل الاحتفال أم بعده هل يكون له ترحيب لائق وهو في هذه الصورة بعد أن تخلص من كآبته رغم وجود ضباب على عينيه لا يجعله يرى بوضوح ما يجري في بلده..
قالت لنفسها :
- لست ادري هو نـَفـَس في تيه أم في موج ..؟



#جاسم_المطير (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مسامير - أنا وخالد القشطيني وهربجي كرد وعرب..
- الفصل الأخير من رواية المريض الشيوعي
- مسامير 712
- مسامير عن وفدنا العراقي في مؤتمر الصحفيين العرب ..!...!
- مسامير جاسم المطير 709
- مسامير عن خط بارليف الزرقاوي 707
- مسامير جاسم المطير706
- مسامير نداء الملــّة جويبر
- مسامير جاسم المطير
- المريض الشيوعي - الفصل السابع من رواية جديدة
- مسامير- المزاج السياسي والمسألة الكبرى
- مسامير 701 تايه عبد الكريم ..تايه ..!
- مسامير 700 يا عواذل فلفلوا ..!
- مسامير جاسم المطير 698
- المريض الشيوعي - الفصل السادس
- مسامير جاسم المطير 696
- مسامير 697 إعادة هيكلة الجامعات العراقية إسلامياً ..!
- 694مسامير لكل مواطن شطفة أرض
- المريض الشيوعي- الفصل الخامس من رواية جديدة
- مسامير693ستراتيجية السمفونية الأمنية ..!!


المزيد.....




- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جاسم المطير - رواية المريض الشيوعي 8