أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد صقر - الخطاب المسرحي في مسرحية مغامرة رأس المملوك جابر التراثية (رؤية نقدية تحليلية )-سعد الله ونوس















المزيد.....


الخطاب المسرحي في مسرحية مغامرة رأس المملوك جابر التراثية (رؤية نقدية تحليلية )-سعد الله ونوس


أحمد صقر

الحوار المتمدن-العدد: 3288 - 2011 / 2 / 25 - 18:14
المحور: الادب والفن
    


أثارت مسرحيات سعد الله ونوس فى جميع الأحوال جدلاً بين النقاد والكتاب وهى تستحق هذا الجدل والأسباب كثيرة ولعل من بينها أنه طرق العديد من الأشكال المسرحية وانعكست تقنيات الكتاب المختلفة على معظم مسرحياته حتى تجد عند تحليل كل مسرحية اتجاهاً قد يبدو فى أنه لا ينقل نقلاً حرفياً بل يضيف حتى يعطى لهذا الاتجاه أو ذاك ملامح خاصة بمسرحه تميزه بحيث لا يصبح ناسخاً لكن مبدعاً.
أما عن مسرحيته " مغامرة رأس المملوك جابر" فقد أراد من خلالها تصوير غياب دور الجماهير عن الفعل والقرار السياسيين وقد أثارت المسرحية فى حينها جدلاًً واسعاً فى أوساط المسرحيين، لكونها أتت جريئة فى طرح الموضوعات الملحة والأساسية، وللأشكال الفنية الجديدة التى تحتويها من حيث كسر العلاقة بين المنصة والجمهور" .
وواقع الأمر أن القضية الجوهرية التى تطرحها المسرحية هى علاقة المواطن بالسلطة والعكس صحيح، ذلك أن ونوس جعل الصراع يدور داخل العصر بين قطبين هما الخليفة الحاكم ووزيره المنشق عنه والداعى إلى محاربته والاستعانة بملك الفرس والخليفة لم يتصور حلاً آخر للصراع يبتعد عما فكر فيه الوزير ووسط كل هذه الأجواء فليس هناك حرية لأحد مهما كبر شأنه أو صغر، باستثناء الخليفة والوزير المنشق، كل واحد منهما يسعى لمصلحته والقمع هو دستورهما وليس هناك فرصة لأحد لكى يقول رأيه؛ حيث السجون والجلادون ينتظرون من ينسى نفسه ويتحدث، هنا يؤكد ونوس أن فقدان المواطن العربى لحريته مبدأ قديم ذلك أنه إذا تجرأ وصرح برأيه - حتى ولو كان الرأى سديداً ولصالح الحاكم- تصبح رأسه هى ثمن هذه الحرية لأنه منذ البداية وكما حدث مع جابر فكر، فى أن يدهش الوزير بفكرته فى إخفاء الرسالة برأسه فقدم رأسه كمثقف دون ثمن للوزير وسعى إلى الحل الفردى الذى ظن أنه تفوق فيه على الآخرين فيكون القتل والإطاحة بالرأس هى ثمن هذا التفريط والجرأة.
إن صورة المثقف " جابر" هنا تعكس قتامة المشهد وطبيعة الخطاب المسرحى الذى سيميز ملامح هذه الصورة القاتمة، فقد ظهر جابر بذكائه وحكمته انتهازياً، خان قضايا المواطنين عندما سعى إلى تقديم الحل إلى الوزير، وهى صورة سلبية لمواطن ظن أن علاقته بالسلطة ستصبح متساوية وسوف يمنح الحرية والمال والزواج، لكنَ ظنه يجلب عليه القتل، بل أكثر من ذلك فهو يسهم فى جعل الوطن ذليلاً فى أيدى من سيبسطون سلطانهم عليه دون أن يفكر فى كرامة هذا الوطن التى ستتحقق- كما يظن – على يد الغازى المحتل.
وقبل أن نتعرف على طبيعة الخطاب المسرحى فى هذه المسرحية وملامحه لابد أن نتوقف عند الهوامش التى أضافها ونوس للعرض والإخراج وقدم بها المسرحية، وتحدث عن مسرح التسييس وفرق بينه وبين المسرح السياسى أكد ونوس فى مقدمة المسرحية أن " مسرح التسييس هو حوار بين مساحتين الأولى هى العرض المسرحى الذى تقدمه جماعة تريد أن تتواصل مع الجمهور وتحاوره والثانية هى جمهور الصالة الذى تنعكس فيه كل ظواهر الواقع ومشكلاته لذا كان عليه أن يدرك منذ البداية أنه لن يستخدم صيغ المسرح السياسى وأشكاله التقليدية ، بل لابد من استحداث صيغة جديدة اتفق على تسميتها بمسرح التسييس " تهتم بإقامة حوار مرتجل وحقيقى أى يعبر عن المشكلة وعمقها ولابد أيضاً أن يكون بين الممثلين والجمهور، لذا كان من الطبيعى أن نفكر أن بعض مخرجينا وضعوا الممثلين بين الجمهور لكسر الإيهام وإلغاء المساحة الفاصلة بين الصالة والخشبة ، غير أن ونوساً لجأ إلى صياغة مسرحية تجعل وجود الجمهور طبيعياً داخل الحدث وشارك فيه، لذا افترض للمسرحية مكاناً تجرى فيه الأحداث هو المقهى الشعبى بكل أجوائه وما يدور فيه بين الزبائن والحكواتى الذى يمتعهم فى ليالى السمر، وصولاً إلى اعتبار هذا الشكل هو الشكل المسرحى الذى يحقق مفهوم ونوس لمسرح التسييس".
تبدأ أحداث المسرحية داخل المقهى الشعبى فيصبح المقهى هو خشبة المسرح ويصبح رواد المقهى هم الممثلون والمشاهدون ونصبح نحن جزءاً من جمهور المقهى نشاهد ونعلق على ما يحدث بحيث يقترب هذا التكنيك من تكنيك المسرح داخل المسرح ويبدأ العم مؤنس " والمقهى على طبيعته يزدحم بالوارد ثم ينقسم الحدث بعد ذلك لنصبح أمام حدثين أو مستويين للحدث هما : مستوى المقهى الشعبى ومستوى تتجسد فيه أحداث حكاية المملوك جابر على خشبة المسرح كما سيسردها العم مؤنس، ويؤدى المسرحية مجموعة من الممثلين غير الذين يقومون بأدوار رواد المقهى فهم- مثلنا- يشاهدون ويمثلون وهنا نتذكر نجيب سرور فى رائعته " يابهية وخبرينى "
تتضح ملامح الخطاب المسرحى هنا مبكراً " فونوس " بعد أن يقدم رواد المقهى وهم يتحدثون ويتسامرون ويطلبون من الحكواتى أن يقص حكاية الظاهر بيبرس تعلق زبائن المقهى بقولهم:
زبون 2 : أى زمان.
الحكواتى : زمان الاضطراب والفوضى.
زبون2 : هذا الزمان نعيشه.
زبون 1: نذوق مرارته كل لحظة.
زبون 3: فلا أقل من أن ننسى همنا فى حكاية مفرحة.
زبون 2: حكاية البارحة كانت كئيبة يسود لها قلب السامع .
إن الخطاب المسرحى السابق يعلن صراحة أن الناس تعيش زمانا غير مفرح وأن مرارة هذا الزمان جعلت الحكايات كلها كئيبة وكأن المؤلف يؤكد أن الأمس مثل اليوم وعلينا أن نفكر لكى نغير ما ساد واستقر من عصور ظالمة سابقة.
نستطيع أن نرصد ملامح الخطاب المسرحى من خلال ثمانية أماكن قسمها الحكواتى حين شرع فى حكى حكايته الخاصة بالخليفة شعبان المنتصر بالله ووزيره محمد العبدلى ففى المستوى الأول تدور الأحداث فى قصر الخليفة والمستوى الثانى هو قصر الوزير محمد العبدلى والمستوى الثالث غرفة شبيهة بالكوخ تمثل حال شعب بغداد وطفلاً رضيعا يبكى ووالده عاجز وأمه عن اطعامه والمستوى الرابع هو الغرفة المظلمة التى سجن فيها جابر وزيارة زمرد له، وأخيراً ياتى قصر ملك الفرس وبين هذا المشاهد تتفرع ثلاثة مشاهد أخرى.
المستوى الأول وملامح الخطاب المسرحى
يدور الحوار بين اثنين من المماليك الأول هو جابر والثانى هو منصور ونفهم أن حال البلاد ساء وأن الخلاف دب بين الخليفة والوزير وأن المملوكين قد خاضا فى أحوال البلاد وعن الشقاق الذى دب بينهما ومن سيكسب الجولة وهنا يعكس الحوار التالى ملامح الخطاب السياسى ولكن ليس لأولى الأمر ولكن للرعية:
جابر : لو ذبح أحدهما الآخر، ستصبح فى بغداد وظيفة شاعرة.
منصور: ونحن ؟ هل فكرت ماذا سيحل بنا ؟
جابر: ماذا سيحل بنا ! ننزوى جانباً ونتفرج.
منصور: قد تتفرج على جهنم قبل ذلك. بالله كيف تريدنا أن نتفرج على فتنة تقع بين الخليفة وسيدنا الوزير .
جابر : كما يتفرج كل الناس ... نفتح أعيننا ونتسلى لمتابعة ما يجرى.
منصور : ويريد أن نتسلى أيضاً ! أما مجنون ! فكر فى مصيرنا لو شبت نار الفتنة.
تعكس ملامح الخطاب المسرحى السابق ما تمر به بغداد من انقسام بين الخليفة والوزير العبدلى وكيف ينظر المماليك إلى هذا الخلاف وكيف يفكرون فيما سوف يحدث لو قتل أحدهما الآخر، مما يؤكد خاصية الخطاب المسرحى السياسى القائمة على مدى عمق فهم الرعية للعبة السياسية، فكل الذى يهمهم من سيكسب المعركة وهو تأكيد على مدى قدم وطبيعية مثل هذه المواقف. لكنَ الجديد هو وعى أحدهما بأهمية ما يحدث ووعى الآخر بأهمية هذه اللحظة لكى يستفيد منها فهو ابن زمانه لا يعنيه إلا مقدار المكاسب التى سيجنيها.

المستوى الثانى فى سوق بغداد أمام أحد المخابز
تتسع رقعه مساحة الخطاب المسرحى المملوكين وتصل إلى عدد من رعايا الشعب وهم يتجمعون أمام أحد الأفران لشراء الخبز بعد أن انتشر خبر الخلاف بين الخليفة والوزير وتوقع الناس أن تتطور الأحوال للأسوأ، لذافالخبز هام يؤمن احتياجات الناس تتجمع النسوه والرجال أمام الفرن ونسمع منهم:
الرجل الثالث: سأقول لك شيئاً ... عشت عمراً طويلاً يكفى لكى يتعلم المرء كيف تجرى الأمور هنا . مهما اشتدت الخلافات بين سادتنا، وفرقت بيهم المصالح، فإنهم يظلون متفقين على شئ واحد. أتعرف ما هو أيها الرجل الذى لا تنقصه الفطنة؟
الرجل الرابع: أتمنى أن أعرف ما هو.
الرجل الثالث: هو ألا نتدخل نحن العامة فى شؤونهم وخلافاتهم. ولو فعلنا لتوحدوا فوراً، واتجهوا بكل قواهم نحونا .
يعكس الخطاب المسرحى السياسى السابق نظرة العامة إلى أهل السلطة وأنهم يعلمون أنهم مهما كانوا سيئين فإنهم عندما يكتشفون حاجتهم لبعضهم البعض فإنهم يتوحدون ضد الرعية، وهو ما يعكس مدى تملك " ونوس" للقدرة الدرامية والجمالية من جعل الخطاب المسرحى لا يفتقد قدرته الدرامية فى النقاش الدائر بين الشخصيات، كما أنه لم يفقد النواحى الجمالية فى تصوير كيفية استخدام كل من الرجلين محاورة تدل على علمهم بأدوارهم وأدوار الحكام.
المستوى الثالث فى قصر الوزير

يفصح الخطاب المسرحى فى قصر الوزير عن انتشار خبر الخلاف بين الخليفة والوزير وأن الخليفة طلب من جنده أن يغلقوا أبواب بغداد .
ياسر: رأيتهم يا حفيظ .. منذ قليل كنت هناك . سيدنا الوزير منزعج للغاية. أرسلنى كى اتجسس له، وأخبره بما يجرى على الأبواب . وعندما اخبرته غضب منى.
ولكن ماذا أفعل؟ هل أستطيع أن أكذب ؟ وصفت له ما يحدث دون زيادة أو نقصان رأيتهم بعينى يقفون على كل الأبواب، ويفتشون كل من يحاول الخروج تفتيشاً أدق من حساب الآخرة يا حفيظ .. يرتعد المرء كأنه أمام الموت . لا يتركون جيباً أو ثنية، جردوا بعض الناس من ملابسهم ، ومزقوا بطانتها والويل لمن يتباطأ أو يحتج .
يعكس الخطاب المسرحى السابق حال بغداد والخوف الذى سيطر على الخليفة ومن ثم على الوزير فالكل يرتاب بعضه فى البعض حتى ترجم الخوف فى تفتيش الناس الداخلين أو الخارجين إلى ومن بغداد تفتيشاً أدق من حساب الآخرة. ولعل جمال هذا الخطاب المسرحى أنه قدم دفعاً للحدث الدرامى فلم يفقد وظيفته الدرامية كما أنه لم يفقد وظيفته الجمالية فى وصف حال الناس وكأنهم فى يوم الحساب.

المستوى الرابع فى ديوان الوزير
يدور حديث بين الوزير وأحد أمراء بغداد عبد اللطيف يناقش فيه عبد اللطيف الوزير فى رغبته طلب المدد والعون من قوات أجنبية ليستعين بها على الخليفة:
عبد اللطيف : ليس سهلاً أن تطلب غزواً أجنبياً دون تقدير.
جيد للموقف أنت تعرف ماذا يعنى الجيش الغازى عندما ينتصر إنه خراب طائش، قد تستحيل السيطرة عليه.
يعكس الخطاب المسرحى السابق حال العرب حينما يستعينون بالغريب على بعضهم البعض ويتسارعون دون أن يفكروا فيما سوف يحدث عندما تنتهى اللحظة ويسيطر الأجنبى على مقاليد الأمور، كيف سيعود الملك والسلطان لمن ظن أنه سيستمر حاكماً بقيوده وشروطه. إن الخطاب المسرحى السابق يعكس حال الأمة العربية السياسى عندما استعان العرب بالغرب فى العراق وماذا حل بهم.
يختار هذا المملوك جابر لحظة ضعف بشرى اصابت الوزير فقد جن جنونه من أجل رغبته فى خروج رسالة منه إلى ملك الفرس وينجح جابر فى إقناع الوزير بأنه سوف يجعل وزيره وبغداد كلها تضحك من الخليفة وعسكرهم:
جابر: راقبت الحراس ساعات طويلة يامولاى، رأيتهم كيف يفتشون، وكيف تتغلغل أصابعهم كالثعابين فى كل شئ يمزقون الثياب. يقطعون الأحذية يؤلمون الناس وهم يغرسون أظافرهم فى كل قطعة من أجسادهم ... البطون والظهور ... وأحيانا ما بين الأفخاد ... ولكن أحداً منهم لم يخطر بباله أن يفتش تحت شعر الرأس .
يلوح الخطاب المسرحى السياسى السابق بان جابراً توصل إلى حيلة ستخرج الرسالة من بغداد سالمة دون أن يكتشفها أحد، وفى هذا الخطاب ما يؤكد تنامى روح الحيلة والخديعة بين الناس حتى أن المملوك جابر انتهز هذه الفرصة ليقدم للوزير حلاً لم يخطر على بال أحد ممن حوله:
جابر: إذن إليكم التدبير .. تنادى الحلاق، فيحلق شعرى، وعندما يصبح جلد الرأس ناعماً كخد جارية جميلة، يكتب سيدنا الوزير رسالته عليه. ثم ننتظر حتى ينمو الشعر ويطول، فأخرج من بغداد بسلام .
إن هول هذه الفكرة عندما تغلف خطاب المملوك جابر تزعج الوزير، برغم أنها ستنقذه وتنقذ خطته، غير أنه خشى على نفسه من عقل هذا المملوك، لذا وبدافع السياسى الخبيث يفكر فى التخلص منه، وعليه يوافق على الفكرة ويكتب على رأسه رسالة نجاة للوزير وهى نفسها رسالة نهاية حياة هذا المملوك.
إن صنيع الوزير مع المملوك جابر يدل دلالة واضحة على أخلاق السياسيين وعلى فكرهم وعلى فحوى خطاباتهم السياسية، فقد فكر الوزير وقرر أن يعزل المملوك جابر فى غرفة مظلمة حتى ينبت شعره ووضع على باب الغرفة حارساً قوياً لمنع دخول أحد إليه.

المستوى الخامس فى قصر الخليفة:

يلتقى الخليفة مع أخيه عبدالله ويرتبون خطوات طلب المدد من الولاه المؤيدين لهم، غير أن الخليفة يخشى على ملكه ممن سوف يأتون مؤيدين ومن أهل بغداد الذين فكر عبد الله فى أن يفرض عليهم ضريبة مقدسة لمساعدة الخليفة فى حربه ضد اعدائه:
الخليفة: (باسماً) ضريبة مقدسة ! حمانا الله من دهائك هى فكرة معقولة ولكنها لا تخلو من مزالق. أخشى أن تثير الضريبة تذمر الناس، وفى مثل هذا الظرف من السهل أن يتحول التذمر إلى فتنة حيئذ قد تنقلب الأمور رأساً على عقب.
عبد الله : فتنة ! عامة بغداد تحدث فتنة ! (تلوح على وجهه أبشع علامات الازدراء) .. ينقصك يا خليفة المسلمين أن تعرف رعيتك . أما أنا فأعرفهم جيداً، قد يتذمرون، ولكن ما إن يروا وجه حارس حتى يمضغوا تذمرهم، ويبلعوه مع ريقهم .. وفى النهاية يهرولون، لينبشوا الأرض من أجل تسديد الضريبة .
يلمح الخطاب المسرحى السابق للخلاف أبعاد القضية السياسية وكيف يرى " ونوس" موقف الحكام العرب فى نظرتهم إلى رعيتهم وكيف يفكر من حولهم من الأعوان فى وصف الرعية بأبشع الأوصاف وكلها ملامح تعكس بحق كيف يرى الحكام المحكومين وكيف يحاول " ونوس" أن يحرك صمت الناس وضعفهم من أجل تغيير هذا الثبات والجمود ليصبحوا أكثر فاعلية مما هم عليه .

المستوى السادس فى غرفة شبيهة بالكوخ

تنتقل الأحداث مرة ثانية إلى الرعية حيث أسرة فقيرة مكونة من أم وطفلها الصغير والأب يسعون من أجل توفير الطعام للصغيرة، لكن الأم تعجز فقد جف الضر والزوج (الأب) عاجز ولعل هذا العجز يترجم ملامح الخطاب المسرحى السياسى الذى يود
" ونوس" من وراءه أن يدفع الناس إلى العمل إلى تغيير منهجهم فى الحياة وطبيعته، إن "مسرح التسييس" عند " ونوس" يطالب الناس بأن يتحركوا وأن يدركوا مشكلتهم لأن هذا الحوار الذى يطلقه الأب إنما عليه أن يحرك كل أب فى الصالة لأنه حوار صادق حقيقى يدور بين الصالة وبين الممثلين ويشملنا نحن:
الزوج: (ينفجر قهره) ماذا أفعل ؟ تضعين كل شئ على رأسى، وكأنى المذنب .. أأنا المسئوول عما يحدث فى بغداد! أأنا من أوقع الفتنة بين الخليفة والوزير ! أأنا من أحدث الكساد، وأوقف الأعمال ! قولى لى ماذا أفعل ؟ لست ساخراً ولا رجل معجزات، تعرفين أن قلبى ينزف، وأن صرخه يكوننى فى الأعماق.


المستوى السابع المملوك جابر فى الغرفة المظلمة تزوره زمرد :

تتطور أحداث المسرحية وصولاً إلى لحظة لقاء زمرد مع " جابر" غير أن هذا اللقاء كشف عن مخاوف " زمرد " مما سوف يحدث له، إنه سعيد متفائل غير مهتم بأى شئ فقط أمله فى أن ينجز مهمته ويعود ليقابل حبيبة قلبه " زمرد "، ينمو خوف وقلق " زمرد" ليصل إلى التصريح بهذا الخوف مما يغلف هذا الخطاب ليس فقط بخوف " زمرد" ولكن بخوف كل من يشاهد أحداث المسرحية فالحكام يعدون الناس بوعود ربما لا تتحقق ولعل هذا ما كانت تخشاه " زمرد" لأنها الجانب الآخر فى معادلة تصديق أو كلام الحكام ووعودهم أو عدم تصديقه .
زمرد : هل تعرف ما تحتويه الرسالة؟ لاشك أنها مليئة بالحماقات اعرف كيف تكون مراسلات الحكام. ولكن ليكتب مايشاء تعنينى المكافأة لا محتوى الرسالة.
زمرد : ( مترددة بقلق) لا أدرى .. كنت أتمنى ألا تورط نفسك ومن يعرف ! لو افتضح الأمر، فلن تلمسنى إلابيد باردة ميتة .
جابر: لا تقلقى ... ستكون يدى مشتعلة بالحياة عندما تلمسك لست ذبابة حمقاء تسقط فى أى فخ . الأمر أبسط مما تتصورين سأنطلق، كالريح، أبلغ الرسالة، وأعود لئلا تفترق بعدئذ .
يعكس حوار " زمرد " مع " جابر " خوفاً عظيماً من أن تكون هذه الرسالة سببباً فى وقوع " جابر" فى التهلكة، إنها تعتقد أنه ربما يكون قد ورط نفسه وأنه ربما لن يعود وعندما يعود ستكون يده بارده ميتة، لكنه يؤكد لها - وبكل ثقة - أنه سيعود قبل أن تنتهى من زينتها. وتزداد ثقة " جابر" بنفسه حتى أنه يظن أن ما يحدث لا يهمه وأن كل الذى يهمه هو الحصول على المكافأة، حتى لو تخلص أحدهما من الآخر فالأمر لا يعنيه.
جابر : وتشغلين نفسك بالخليفة والوزير فخار يكسر بعضه يا زمرد .
إن ظن " جابر" ونظرته للأمور إنما تعكس ملامح خطاب مسرحى يغطيه الغرور والكبر حتى أنه من ثقته الزائدة بنفسه ظن أنه سيكسب المعركة وسينال الجائزة بأن يرتقى درجة ويحصل على المال ويتزوج من " زمرد" .
المستوى الثامن فى ديوان الوزير مع جابر

يأتى اللقاء الأخير بين الوزير " محمد العبدلى " والمملوك " جابر" حيث يرى الوزير أن شعر المملوك قد أصبح يغطى رأسه وأنه وقت الرحيل. فى هذه اللحظة يفصح خطاب الوزير عن مكر وخداع يجعل المشاهد يرفضه ويعرى أمامه أخلاق الوزراء والحكام وسخريته ممن خدمه وساعد على إنقاذه من الهلاك:
الوزير: (يبتسم ويمسح على شعره. يطوف فى نظرته معنى غامض) كم تعجنى همتك! لو كان لدى عشرة من أمثالك لغزوت بهم الدنيا. تدبيرك يا " جابر" لن ينساه وزير ولا أمير ولا مؤرخ فى بغداد.
جابر: جاد على سيدنا الوزير بأعلى مما تستحقه خدمتى التافهة وعوده لا يحلم بمثلها مملوك.
الوزير: الوعود محفوظة سننفذها ونزيد، إن كنت تسأل عنها .
إن خطاب الوزير تزينه ملامح الغدر والخيانة بينما خطاب جابر إلى وزيره تزينه ملامح الطاعة والأمانة وأنه مهما قدم للوزير فهذا قليل ولا يرقى إلى مستوى ما يستحق الوزير، بينما الوزير يؤكد أن وعوده محفوظة وهو مضلل فإن" جابر" يثق أنه أمام وعود هى مالم يحلم يمثلها مملوك من قبل.
المستوى التاسع فى قصر الملك " منكتم بن داوود " الفارسى:
يعرض هذا المشهد لقاء " الملك " منكتم بن داوود " والمملوك "جابر" ويسلم المملوك الرسالة ويأمر الملك السياف بأن يأخذ المملوك ويقطع رأسه وبالفعل يحدث ذلك. بعد أن يقتل المملوك يطالعنا " ونوس" بخطاب الزبائن الرافض لما حدث والمستنكر لهذه النهاية وكأن المؤلف يؤكد مقولته الهامة التى صدر بها مقدمة المسرحية حيث تحدث عن مسرح التسييس وأكد أن للجمهور كلمة فيما يحدث لان عليه دوراً كبيراً فى أن يحطم صمته وأن يقضى على هذه السلبية فى هذه الحياة:
زبون 2: ما هذا ؟
زبون 3: يقطعون رأسه بعد كل ما فعل!
زبون 2: لا يجوز.
زبون 1: ما هذا الجزاء !
زبون 4: قلت لكم ، يمكن أن تنتظره أيضا أسفل المراتب.
زبون 2: إننا لا نقبل.
زبون 1: نهاية غير عادلة.
زبون 3: ينبغى أن ينال ما تستحقه فطنته .
إن ملامح الخطاب المسرحى السياسى لزبائن المقهى – الذين هم جزء من أحداث المسرحية – إنما يؤكد دور الجمهور فى رفض هذه النتيجة وهو وإن دل على شيئ فإنما يدل على ما نادى به " ونوس" فى أن يتخطى الجمهور دوره السلبى ولا يصبح مشاهداً فقط للقضية السياسية، بل عليه أن يغير هذا الواقع الاليم وأن يتخطى هذا الدور ويدرك أن مشكلة " المملوك" هى مشكلتنا كلنا ويسعى لحلها بأسلوب وطريقة نقتنع بها ونوافق عليها.
تنتهى المسرحية بخطاب مسرحى يلخص لنا مرارة واقعنا، هذا الواقع الذى حدث ببغداد فى زمن الخليفة هو ما حدث فى الزمن المعاصر عندما اجتاح الاعداء بغداد، وهو نفس ماحدث بغزة عندما اجتاحها الصهاينة، علينا أن ندرك أننا نشارك فى صنع حاضرنا ومستقبلنا وان خطاب المسرحى السياسى لم يفرض علينا ولكننا صنعناه.
الجميع : (معاً إلى الزبائن والجمهور) من ليل بغداد العميق نحدثكم . من ليل الويل والموت والجثث نحدثكم ، تقولون .. فخاريكسر بعضه . ومن يتزوج أمنا نناديه عمنا..لا أحد يستطيع أن يمنعكم من أن تقولوا ذلك، لكل واحد رأى وتقولون .. هذا رأينا . لا أحد يستطيع أن يمنعكم من أن تقولوا ... هذا رأينا . لكن إذا التفتم يوماً، ووجدتم أنفسكم غرباء فى بيوتكم .



#أحمد_صقر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مسرح المونودراما وخصوصية البنية النصية والعرض .
- ماذا ننتظر وينتظر مبارك من بقائه في شرم الشيخ .
- الثورة المصرية بين وطنية النشأة وعولمة العلاج في التصدي لها
- المونودراما ... ظاهرة المسرح الفردي بين القبول والرفض .
- ملفات الفساد
- المسرح المدرسي وإشكالية مسرحة المناهج .
- المسرح المدرسي ..تعريفه..أهميته..مصادره..ومقوماته الفكرية وا ...
- مستويات الزمان والمكان في مسرحية الزفاف الدامي للكاتب الأسبا ...
- لقاء مع كل من الدكتورة المستشارة نهي الزيني وأمهات الشهداء.
- مفهوم الهوية في أجواء العولمة .
- شهدائنا مع الأنبياء والشهداء والقديسين في علياء الجنان
- ثقافتنا العربية في ضوء الانفتاح والعولمة والثورة
- الرؤية المستقبلية
- تحقق أمل التغيير وأصبح واقعا ولكن كيف نترك الفاسدين ؟ قراءة ...
- مفهوم العولمة وصراع الحضارات .
- مفهوم الثقافة وخصائصها في عصر العولمة .
- ثقافة التغيير بين القبول والرفض.. الشعب يغيير والرئيس والحاش ...
- السلطان الحائر ..الرؤية النصية وقضايا الديموقراطية
- قراءة نقدية تحليلية في اطار نظرية التلقي لمسرحية اللصوص للكا ...
- ازدهار العلاقة بين المسرح والمجتمع في الفترات الثورية .


المزيد.....




- فنانون يتدربون لحفل إيقاد شعلة أولمبياد باريس 2024
- الحبس 18 شهرا للمشرفة على الأسلحة في فيلم أليك بالدوين -راست ...
- من هي إيتيل عدنان التي يحتفل بها محرك البحث غوغل؟
- شاهد: فنانون أميركيون يرسمون لوحة في بوتشا الأوكرانية تخليدً ...
- حضور فلسطيني وسوداني في مهرجان أسوان لسينما المرأة
- مهرجان كان: اختيار الفيلم المصري -رفعت عيني للسماء- ضمن مساب ...
- -الوعد الصادق:-بين -المسرحية- والفيلم الأميركي الرديء
- لماذا يحب كثير من الألمان ثقافة الجسد الحر؟
- بينهم فنانة وابنة مليونير شهير.. تعرف على ضحايا هجوم سيدني ا ...
- تركيز أقل على أوروبا وانفتاح على أفريقيا.. رهان متحف -متروبو ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد صقر - الخطاب المسرحي في مسرحية مغامرة رأس المملوك جابر التراثية (رؤية نقدية تحليلية )-سعد الله ونوس