أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادارة و الاقتصاد - محمد علي زيني - خارطة طريق اقتصادية (الحلقة الثانية)















المزيد.....


خارطة طريق اقتصادية (الحلقة الثانية)


محمد علي زيني

الحوار المتمدن-العدد: 3279 - 2011 / 2 / 16 - 20:35
المحور: الادارة و الاقتصاد
    


خارطة طريق اقتصادية (الحلقة الثانية) (1)


«لا يمكن أن تكون هناك حرية فردية
حقيقية مع غياب الأمن الأقتصادي»
«جستر باولز»

تحدثنا في الحلقة الأولى عن الأنتكاسة الرهيبة التي تعرض لها الأقتصاد العراقي خلال الثلاثين سنة الماضية، وقمنا بتخمين الأموال الأستثمارية التي سيحتاج أليها العراق لأعادة أعماره واسترجاع قدرته الأقتصادية. وكنا نتكلم في تلك الحلقة عن التنمية الأقتصادية والتطور الأقتصادي وكأنهما مصطلحان مترادفان. يستحسن في هذه الحلقة، وقبل المضي قدماً في خارطة الطريق، أيضاح هذين المصطلحين وما هو المراد بهما لكي نزيل أي التباس قد يعتور هذا الموضوع وليصبح القارئ الكريم على بينة من هذا الأمر، وذلك باستدعاء نبذة يسيرة من تأريخ التطور الأقتصادي الحديث.
تطور الغرب الاقتصادي
إن التطور الاقتصادي الذي حصل للدول المحيطة بالحوض الشمالي للمحيط الأطلسي ـ وهي أوربا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية ـ لم يحدث بمدة قصيرة وإنما بدأ منذ نحو خمسمائة سنة. ولم يحصل ذلك التطور نتيجة خطط تنموية واعية، كالخطط الخمسية للتنمية الاقتصادية التي مشت عليها العديد من الدول النامية منذ منتصف القرن الماضي ولا يزال العديد منها مستمر حتى الآن، وإنما حصل نتيجة نشوء النظام الرأسمالي والذي بدأ في إنجلترا أولاً.
إنّ من أهم خصائص النظام الرأسمالي هو توفير الفائض من الأموال التي تزيد عن حاجات الاستهلاك وإعادة استثمار ذلك الفائض لتوسيع قاعدة الإنتاج. إن تلك الاستثمارات، وبمرور الزمن، أدّت إلى تراكمات كبيرة في رؤوس الأموال المنتجة وإلى خلق ثروات طائلة. لقد ساعدت التراكمات المستمرة لرأس المال والثروات الناتجة عنها إنجلترا على تحويل الأفكار العلمية النظرية إلى حيّز التطبيق وقيام الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر واتخاذ نظام المصنع كصيغة متطورة لنمط الإنتاج(1). ولقد ساعدت الثورة الصناعية، بدورها، على تسريع تراكمات رؤوس الأموال ونشوء قواعد صناعية عريضة ومتطورة في تلك البلدان تولدت عنها ثروات رأسمالية طائلة أعيد استثمارها لتوسيع القواعد الصناعية وتطويرها، وهكذا تكاملت حلقة التطور واستمرت.
إن التطور الصناعي للغرب خلال الخمسمائة سنة الماضية قد صاحبه تطور علمي مشى معه يداً بيد. فحينما كانت رؤوس الأموال المنتجة تتراكم وتنتقل من جيل إلى جيل كانت المعرفة أيضاً تتراكم وتنتقل من جيل إلى جيل. فالعلوم كانت تتطور وتترجم إلى تكنولوجيا تطبيقية تستند إليها وسائل الإنتاج. إن تطور التكنولوجيا يستند إلى تطور العلوم، وتطور وسائل الإنتاج يستند إلى تطور التكنولوجيا. إن تطور وسائل الإنتاج يحسّن الكفاءة الإنتاجية، فهو يزيد الإنتاج أو يقلل الكلفة أو كليهما معاً، وهو بالتالي يقود إلى زيادة بالأرباح ومزيد من فائض رأس المال. ولم يكن يستثمر جميع الفائض من رأس المال في وسائل الإنتاج فقط، إذ كان يستثمر جزء منه في البحث العلمي وتطوير العلوم والتكنولوجيا، وبالتالي تطوير وسائل الإنتاج التي بدورها، تقود إلى مزيد من الأرباح. وهكذا تكاملت حلقة تطور أخرى. ولم يشمل التطور وسائل الإنتاج والعلوم والتكنولوجيا فقط، وإنما نمت وتطورت معها أفكار المجتمع ونظرته إلى العمل وأساليب الإنتاج. وفوق هذا وذاك كانت تبرز إلى الوجود وتتطور على مرّ الزمن مؤسسات تطلبتها طبيعة الإنتاج وحاجات المجتمع كالبنوك وأسواق رأس المال وغرف التجارة والصناعة والنقابات والاتحادات المهنية وأنواع متعددة أخرى من المراكز والجمعيات.
لقد عملت تلك المؤسسات – وهي جزء من مؤسسات المجتمع المدني- على توفير الخدمات وتطوير أساليب الإنتاج والإدارة وحماية العمال وأرباب العمل والمستهلكين. كما أصبحت تلك المؤسسات وجهاً من أوجه تعددية المجتمع، لها وزنها المهم وصوتها المسموع، فساهمت في تطوير عملية المشاركة في الحكم، وحدّت من هيمنة الدولة. كما ساهمت في تطوير وحماية حقوق المواطنين بما فيهم المستهلكين والمنتجين.
توسع التجارة الخارجية
ومنذ نهاية القرن الخامس عشر اتجه الأوربيون أيضاً بجهودهم إلى الخارج فاكتشفوا الأمريكتين والطرق البحرية إلى الهند وشرقي آسيا. وأدّت تلك الاكتشافات إلى توسّع كبير في التجارة الخارجية ساهمت بدورها في التطور الاقتصادي لأوربا الغربية.
لقد استعمر الأوربيون، لفترات متفاوتة، أمريكا وأفريقيا والعديد من مناطق آسيا، حيث أضحت تلك المستعمرات مصدراً جيداً للعمالة البخسة والخامات الرخيصة من ناحية، وسوقاً لتصريف البضائع المصنعة من ناحية أخرى. إن تلك العلاقات التجارية وما ترتب على أثرها من سيطرة استعمارية قد ساهمت على مرّ القرون بنقل ثروات طائلة جداً من المناطق المستعمرة إلى أوربا الغربية فأدّت إلى إثراء الأخيرة على حساب الأولى.
وعندما أطلّ القرن العشرون وجد العالم نفسه مقسماً إلى مناطق قوية وغنية ومتطورة اقتصادياً وهي أوربا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية، ومناطق فقيرة متخلفة اقتصادياً يقع أغلبها تحت النفوذ الاستعماري، وهي قارات أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.
الدول النامية والدول المتطورة
بعد الانحسار التدريجي للسيطرة الاستعمارية إثر انتهاء الحرب العالمية الثانية، بدأت تظهر إلى الوجود دول نالت اسـتقلالها السياسي حديثاً من الدول الاستعمارية، وقـد تركزت معظم تلك الدول في آسـيا وأفريقيا. وقد سُمّيت تلك الدول، مع دول أمريكا اللاتينية ومجموعة أخرى من الدول، نالت استقلالها السياسي سابقاً، تارة بالدول المتخلفة (Backward)، وتارة أخرى بالدول الأقل تطوراً (Less - Develped)، وقد استقرت التسمية أخيراً على مصطلح الدول النامية (Developing Countries).
وربما كان من الأحرى أن يطلق على هذه الدول مصطلح (الدول في حالة التطور) بدلاً من الدول النامية لأن التطور (Development) يختلف عن النمو (Growth)، ذلك أن التطور أشمل من النمو، والنمو هو جزئ من التطور، كما سنرى. غير أن هذا المصطلح قد شاع استعماله باللغة العربية ونحن بدورنا سنستعمل في هذا المقال مصطلح الدول النامية كما هو شائع. وسنستعمل كلمة "التنمية" وكأنها مرادفة لكلمة "التطوير" فنقول، مثلاً: خطط التنمية وهذه خطط لتطوير البلدان النامية وليس لتحقيق نموها فقط. وإذا قصدنا، في أمكنة مختلفة من هذا المقال، بكلمة النمو معناها الحقيقي وهو أضيق من معنى كلمة التطور فإن ذلك سيتجلى إلى القارئ الكريم من سياق الكلام.
لقد استعمل اقتصاد التنمية حصة الفرد من الناتج القومي الإجمالي(3) كمعيار رئيسي في الخمسينات والستينات من القرن الماضي للتمييز بين الدول النامية والدول المتطورة. غير أن هذا المعيار لم يكن كافياً لوحده ليميز، في بعض الحالات، بين دولة نامية وأخرى متطورة. ولنأخذ مثلاً على ذلك إيطاليا في سنة 1964 وفنزويلا بنفس السنة. فحيث كانت حصة الفرد الإيطالي من الناتج القومي الإجمالي تعادل 714 دولار كانت حصة الفرد الفنزويلي تعادل 772 دولار. ولكن، مع ذلك، اعتُبرت إيطاليا دولة متطورة في حين اعتُبرت فنزويلا دولة نامية.
إنّ هذا التضارب بين المعيار المستعمل وحقيقة تطور البلد قد اشتد إثر انفجار أسعار النفط في سنة 1973 وحصول بعض الأقطار المصدّرة للنفط، كالكويت والإمارات العربية المتحدة وقطر والمملكة العربية السعودية، على مدخولات نفطية عالية جداً، الأمر الذي وضعها في مصاف أكثر الدول تقدّماً، إن أُخذ النمو لوحده كمعيار للتطور. فحصة الفرد من الناتج القومي الإجمالي في الولايات المتحدة الأمريكية كان 7200 دولار في سنة 1975 في حين بلغت حصة الفرد في الإمارات العربية المتحدة من الناتج القومي الإجمالي أكثر من 14,000 دولار في نفس تلك السنة(4). فهل كانت الإمارات ستعتبر دولة متطورة لمجرد ارتفاع الدخل الفردي فيها؟ الجواب سيكون بالنفي طبعاً والسبب واضح، ذلك أنّ مساهمة الصادرات الكلية في تكوين الناتج القومي الإجمالي الإماراتي لسنة1975 بلغت 79 بالمائة وأن 94 بالمائة من تلك الصادرات كانت نفطية وأن الاقتصاد الإماراتي في ذلك الوقت لربما كان سينكفئ إلى مستوى الكفاف بحالة غياب النفط! إن هذا الأمرانطبق في ذلك الوقت أيضاً على المملكة العربية السعودية وقطر والكويت ولا يزال ينطبق على ليبيا. من أجل هذا يصبح لزاماً علينا أن نميز بين النمو والتطور لكي نزيل دواعي الالتباس.
معنى التطور الاقتصادي
إن عبارة «التطور الاقتصادي» بحد ذاتها لا تعبر عن مفهوم واضح جداً. ومن أجل تحديد صورة تقريبية لهذا المفهوم نحاول هنا توضيح الفرق بين «التطور الاقتصادي» و«النمو الاقتصادي» عبر تشبيه الاقتصاد القومي بجسم الإنسان. فالنمو في جسم الإنسان يعني زيادة في الطول أو الوزن (أو زيادة حصة الفرد من الناتج القومي في حالة النمو الأقتصادي) في حين أن التطور يعني التقدم الوظيفي في القدرات المختلفة لجسم الإنسان (أو تطور الاقتصاد القومي في حالة التطور الأقتصادي)(6). فبينما النمو الاقتصادي يعني زيادة في الإنتاج، كما يدلّ عليه هذا التشبيه، فإنّ التطور الاقتصادي يعني أكثر من ذلك بكثير. إنه يتضمن، إضافة إلى ذلك، تغيّرات بنيوية ومؤسساتية!.
ثم يأتي البنك الدولي في تقريره السنوي عن التطور العالمي(7) لسنة 1991 ليجعل الحياة الأفضل للإنسان هي الغاية الأساسية من التطور الاقتصادي وأن الحرية الفردية هي جزء من هذا التطور فيقول: إن التحدي الذي يفرضه التطور، في أوسع معانيه، هو تحسين نوعية الحياة. إن نوعية من الحياة أفضل، خصوصاً في بلدان العالم الفقيرة، تستدعي دخلاً أعلى، ولكنها تشتمل على أكثر من ذلك بكثير. فهي تشتمل، كغايات في حدّ ذاتها، على مستويات أعلى من الصحة والتغذية، فقر أقل، بيئة أنقى، تكافئ فرص أكبر، حريّات فردية أوسع، وحياة ثقافية أغنى.
فعملية التطور الاقتصادي، بناءاً على هذا التوسع في التعريف، يصاحبها تغييرات بنيوية في القطاعات الاقتصادية المختلفة وفي أساليب الإنتاج. وينتج عن تلك التغييرات توسع مستمر في الناتج القومي وحصة الفرد من الناتج القومي مع عدالة في التوزيع. إن كل ذلك يقود إلى تحسن راسخ، مستمر وغير مؤقت، في المستوى المعاشي للمواطنين. كما يصاحب عملية التطور الاقتصادي تغيّر جذري في نظرة المواطنين إلى العمل والإنتاج، وتحسن مستمر في مستويات التغذية والصحة والتعليم. إن كل ذلك يتطلب ضرورة مشاركة الناس، بتنظيماتهم ومؤسساتهم على تعددها وتنوعها، في عمليات التخطيط والاختيار والتنفيذ، فالإنسان هو المقصد النهائي من عملية التطور الاقتصادي. إن مشاركة التنظيمات والمؤسسات في التخطيط، وإعطائها دوراً في الاختيار والتنفيذ يتعارض مع مركزية الحكم واستبداد الدولة، لذلك فإن عملية التطور الاقتصادي تحتاج إلى قدر من التعددية والمشاركة واللامركزية وتوفر الحريات بما تمليها الحقوق الأساسية للإنسان.

لابد من التصنيع
لا توجد استراتيجية محددة يتبعها بلد ما لتحقيق عملية التطور الاقتصادي. فالبلدان النامية، بعد الحرب العالمية الثانية، وجدت أن القاعدة الأساسية التي ترتكز عليها عملية التطور الاقتصادي هي تحقيق النمو الاقتصادي المستمر، أي تحقيق نسبة زيادة سنوية مستمرة في الناتج القومي الإجمالي، أو الناتج المحلي الإجمالي تتجاوز نسبة الزيادة السنوية بالسكان، وبذلك يزداد الدخل الفردي ويرتفع المستوى المعاشي. ومن هذه القاعدة تنطلق عملية التطور الاقتصادي، بتخطيط من الدولة ومشاركة من الشعب، لتحقيق الغايات المختلفة التي تنشدها هذه العملية.
فالقاعدة الأساسية إذن التي ينطلق منها التطور الاقتصادي هي القضاء على الفقر وتحقيق نمو مستمر في الدخل الفردي. ولم تكن هناك وصفة جاهزة لتحقيق نمو اقتصادي منشود وإنما اتُّبعت سياسات فشل بعضها ونجح البعض الآخر. وقد تفاوت أثر تلك السياسات من بلد لآخر، فحيث نجحت سياسة معينة في بلد معين، لم تحقق تلك السياسة نفس المستوى من النجاح في بلد آخر، وربما فشلت فشلاً ذريعاً. وبصورة عامة توجهت أغلب الدول النامية في بادئ الأمر، وكان ذلك في بداية النصف الثاني من القرن الماضي، نحو التصنيع بواسطة إحلال الواردات (Import Substuting Industrialisation).
إن الفكرة العامة لهذه السياسة هي أن الصناعات الناشئة ستنتج سلعاً صناعية كان يتم استيرادها من الخارج. كذلك ستقوم بعض هذه الصناعات الناشئة بتصنيع المواد الأولية المتوفرة محلياً. والنتيجة ستؤدي إلى تنوّع في الإنتاج الاقتصادي، وقلّة في الاعتماد على واردات المواد المصنعة وصادرات المواد الأولية. وعندما يتحسن دخل المواطنين، خصوصاً أولئك العاملين في الصناعة والزراعة، تظهر أسواق جديـدة تتطور معها الصناعات الناشـئة من حيث الحجم والكفاءة وتـبدأ بتحقيق وفورات الحجم (Economies of Scale) التي ستساعد، بدورها، هذه الصناعات على تحقيق الأرباح والقدرة على المنافسة. وفي النهاية ستقوم هذه الصناعات بخلق تشابكات خلفية (Backward Linkages)من شأنها أن تحفز على قيام صناعات جديدة لتلبية حاجات الصناعات القائمة، وبالتالي ستقوم بإنتاج المعادن الأساسية والسلع الرأسمالية، كمكائن الخراطة وما شابه ذلك من العدد والمكائن الرأسمالية.
لقد كانت سياسة التصنيع بإحلال الواردات أوسع سياسات التنمية انتشاراً في البداية، وقد جربتها ـ بدرجات متفاوتة ـ كافة البلدان النامية تقريباً. وقد صُمِّمت هذه السياسة لتحويل البلدان المصدرة للمواد الأولية إلى بلدان صناعية. إلاّ أنّها أثبتت فشلها في العديد من البلدان، وخصوصاً البلدان الصغيرة المتميزة بصغر أسواقها، وكذلك البلدان التي هيمن فيها القطاع العام على تلك الصناعات حيث تعشش الأدارة والعمالة غير الكفوءة ما يؤدي الى قيام صناعات خاسرة ذات أنتاج عالي الكلفة ومتدني الجودة لا يمكنها الأستمرار بدون حماية ودعم مالي من خزينة الدولة، فهي لا تقوى على المنافسة. وهذا ما حدث للصناعات العراقية في ظل القطاع العام.
كان يُظن في البدايات الأولى للتنمية الأقتصادية إن الاندماج مع الاقتصاد العالمي من خلال التجارة الخارجية سيزعزع عملية التنمية. ولذلك أتجه قادة الدول النامية في بادئ الأمر نحو سياسة التصنيع من خلال إحلال الواردات. ونتيجة لذلك التوجه تكرّست السياسات الحمائية في الواردات وتقلصت التجارة الخارجية لتلك البلدان. بدلاً عن تلك السياسة اتجهت العديد من البلدان الى تبني سياسة النمو بقيادة الصادرات المصنعة (Manufactured-Export-Led-Growrh). إن الفكرة التي تقوم عليها هذه السياسة هي إنشاء صناعات من أجل التصدير، وقد ثبت نجاحها في العديد من البلدان وخصوصاً في شرقي آسيا. إن مزيتها على سياسة التصنيع بإحلال الواردات هي أولاً: إنها تولد العملات الصعبة للبلد (كما تولدها صادرات الموارد الأولية كالنفط) من غير التضحية بهدف التصنيع، فالاثنين يحدثان معاً، وثانياً: إن هذه الصناعات، لكي تنجح، لا بد لها من تخفيض كلفة الإنتاج حتى تتمكن من المنافسة في الأسواق الخارجية. لذلك تغلبت هذه الصناعات على المشاكل التقليدية التي تواجهها صناعات إحلال الواردات كالعمالة الفائضة، السعات التشغيلية العاطلة، والخسائر الناجمة عن التشغيل. يضاف إلى ذلك فإنّ هذه الصناعات تتمتع بأسواق عالمية كبيرة بخلاف الأسواق المحلية الضيقة التي تواجهها صناعات إحلال الواردات، كما هي أسواق العراق مثلاً.
والزراعة أيضاً
عندما بدأت الدول النامية تحقق استقلالها السياسي كان الهم الأكبر الذي يسيطر على قادة تلك الدول هو تحقيق التطور الاقتصادي جنباً إلى جنب مع تطور البلاد السياسي. وقد كان الفكر السائد آنذاك هو أنّ الاعتماد على الاقتصاد الزراعي هو سبب من أسباب التخلف ولا بد من الاتجاه نحو التصنيع لتحقيق النمو الاقتصادي. وكان ذلك الفكر ينبع من عنصرين أحدهما سايكولوجي والآخر واقعي. فالعنصر السايكولوجي: هو ارتباط الزراعة بالعهود الاستعمارية وهيمنتها على اقتصاديات البلدان المستعمَرة. والعنصر الواقعي: هو تخلف الزراعة الفعلي في تلك البلدان والاعتقاد آنذاك بعدم جدوى الاعتماد على القطاع الزراعي كمحرك لقيادة عملية التنمية ولا بد من التوجه نحو التصنيع.
على أن النظرة الآن للزراعة قد تغيرت تماماً. ففيما كان التوجه نحو الصناعة في بادئ الأمر يعني إهمال الزراعة، أصبح التوجه نحو التطور الصناعي يصاحبه توجه نحو التطور الزراعي إن لم يكن يسبقه. فإضافة الى تعزيز أمن البلد الغذائي بواسطة بناء قطاع زراعي نَشِط ومزدهر، أدركت العديد من الدول النامية أن فشل القطاع الزراعي أو بقاءه متخلفاً يعني ضيق السوق المحلية وضعف الطلب على المنتجات المصنّعة. وحتى في تلك الدول التي اتجهت في التصنيع نحو الأسواق الخارجية فإنّ جزءاً مهماً من الطلب على منتجاتها يأتي من السوق المحلية(8). فبالإضافة إلى أنّ الصناعة تعتمد بشدة على سكان الريف في طلب منتجاتها، فإنها تعتمد أيضاً على المنتجات الزراعية من أجل تصنيعها، وعلى الصادرات الزراعية من أجل توليد العملات الصعبة والاستثمار لبناء مصانع جديدة، وعلى القطاع الزراعي من أجل تزويد المصانع بالأيدي العاملة.
الأعتماد الحذر على آلية السوق
كان يظن في المراحل الأولى من عملية التنمية إن الأسواق سوف لن تتمكن من تأدية عملها كما هو مطلوب، وكان لا بد من تدخل الدولة لتوجيه عملية التنمية. غير أن الأفكار حول تحقيق التطور شاهدت تغيّراً مستمراً بمرور الزمن. وكان التغيّر في السياسات ينشأ نتيجة لفشل أو نجاح التجارب التي كانت تمرّ بها البلدان النامية. وتبلورت بعد خمسين سنة من التجارب مبادئ أصبحت تلاقي قبولاً عاماً من جميع المهتمين بشؤون التطور الاقتصادي وإن لم ينشأ اتفاق عام – وربما لا يمكن أن ينشأ – عمّا يمكن الأخذ به لتحقيق التطور الاقتصادي لبلد ما من البلدان النامية. فلم يـعـد التركـيز على تكوين رأس الـمـال مقتصراً على العنصر الـمـادي منه، بل أصبح الاهتمام يـتـجـه بصورة متزايدة نـحـو تكوين رأس الـمـال البـشـري (Human Capital Formation) حتى أصبح معلوماً الآن أن رأس المال البشري هو من أهم العوامل التي تقود عملية التطور الاقتصادي إن لم يكن أهمها(9).

أما التجارة الخارجية فقد تبدلت النظرة لها هي الأخرى. فالتوجه في التصنيع نحو إحلال الواردات قلص التجارة الخارجية وساعد على نشوء صناعات داخل البلدان النامية عالية الكلفة لا تقوى على المنافسة الخارجية ولا يمكنها العيش بدون الحماية الحكومية. وقد أدركت العديد من الدول النامية، وخصوصاً دول شرقي آسيا، خطل هذه السياسة فانفتحت على الاقتصاد العالمي والتجارة الخارجية. وقد ساعدت التجارة الخارجية ـ إضافة إلى مساهمتها في نقل التكنولوجيا ـ في نشوء صناعات عالية الكفاءة في تلك البلدان، قليلة الكلفة وقادرة على المنافسة العالمية.
وأخيراً فإن الدول النامية أدركت أنّ تدخل الدولة في السوق، وخصوصاً في عملية الإنتاج، يعرقل عملية النمو الاقتصادي، وأن الأسواق التنافسية تحت إدارة القطاع الخاص هي أفضل وسيلة لتنظيم عملية الإنتاج وتوزيع السلع والخدمات. وعلى الدولة أن تبتعد عن دور «اللاعب» وتتخذ دور «الحكم» وأن تتدخل حيث تفشل السوق، كما هي الحالة في ضرورة تبنّي الدولة عمليات الاستثمار في البنية التحتية المادية والبشرية إضافة، الى تأمين الضمان الأجتماعي للعاطلين والعاجزين عن العمل. هذا من حيث الاستثمار، أما من حيث الرقابة فإن الدولة يجب أن لا تتراخى في أداء واجبها بهذا المضمار. ذلك أن السوق، ولأسباب عدة ومنها الجشع، قد تنحرف في الأداء في قطاع مُعيّن من الاقتصاد، بغياب الرقابة المحكمة من قبل الدولة، فيتعرض ذلك القطاع وبمعية القطاعات الأخرى المتشابكة معه إلى الأذى الكبير، وربما الانهيار، تماماً كما حدث في العام 2008 في أسواق المال في الولايات المتحدة الأمريكية والأسواق الأخرى المتشابكة معها في أنحاء العالم، ما عصف بالاقتصاد الأمريكي – وكذلك العالمي – لينتهي بكساد شديد، لم ير العالم مثل شدته منذ الكساد العظيم (Great Depression) الذي حدث في بداية ثلاثينات القرن الماضي.
-----------------------------------------------------------------
(1) هذا المقال مقتبس – مع أجراء بعض الحسابات والتحوير – من كتاب الدكتور محمد علي زيني "الأقتصاد العراقي: الماضي والحاضر وخيارات المستقبل"، الطبعة الثالثة 2010. يمكن تنزيل الكتاب كاملاً من الموقع:
www.muhammadalizainy.com
(2) Dillard, Dudley, 1967, Economic Development of the North Atlantic Community: Englewood Cliffs, New Jersey, Prentice Hall, Inc., p.8
(3) الناتج القومي الإجمالي (Gross Ntional Product): هو قيمة السوق لجميع السلع والخدمات النهائية التي ينتجها اقتصاد البلد في الداخل والخارج خلال سنة واحدة. وحصة الفرد من الناتج القومي الإجمالي (Per Capita GNP) تنتج عن حاصل قسمة الناتج القومي الإجمالي على عدد السكان. على أن هناك العديد من الدول النامية، ومنها العراق، لا تنتج شيئاً مهماً من السلع والخدمات في الخارج فيصبح الناتج المحلي الأجمالي (GDP) مساوياً تقريباً للناتج القومي الأجمالي (GNP)، ولذلك نستعمل في حالة العراق الناتج المحلي الأجمالي بدلاً من الناتج القومي الإجمالي – الذي لاتتوفر إحصائياته في غالب الأحيان – كمؤشر عن حجم الأقتصاد وكذلك الدخل الفردي في حالة قسمته على عدد السكان، وهذا ما فعلناه في الحلقة الأولى.
(4) World bank Atlas, 1978 – 1981
(5) Todaro, Michael p.1978, Economic Development in the Third World: New York, Longman, Inc., P.60.
(6) Kindleberger, Charles P., and Herrick, Bruce, 1977, Economic Development, Third Edition: U.S.A., Mc Graw-Hill Book Company, P.3
World Bank, 1991, World Development Report 1991, The Challenge of Development: USA, (7)
Oxford University Press, P.4.
Hamilton, Clive, 1987, Can the rest of Asia emulate the NICs?, in Third World Quarterly, Vol.9, No.4, (8)
October 1987: London, Third World Foundation for Social and Economic Studies, p.1236.
(9) إن برنامج التنمية التابع للأمم المتحدة لا ينظر للإنسان كرأس مال، وإنما ينظر إليه كغاية بحد ذاتها، فهو يجعل التنمية البشرية هي المادة الأساسية للتطور، وبدأ يصدر لهذا البرنامج منذ سنة 1990 تقرير سنوي عن حالة التنمية البشرية في العالم
(Human Development Report)



#محمد_علي_زيني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- خارطة طريق إقتصادية (الحلقة الأولى)(1)
- الفساد في العراق (الحلقة السادسة، وهي الأخيرة)(1)
- الفساد في العراق (الحلقة الخامسة)(1)
- الفساد في العراق (الحلقة الرابعة)(1)
- الفساد في العراق (الحلقة الثالثة)(1)
- الفساد في العراق (الحلقة الثانية)(1)
- الفساد في العراق (الحلقة الأولى)*
- صفقة الغاز مع شل مُدمّرة للصناعات العراقيية
- نعم جولتي التراخيص النفطية هي تبديد لثروة الشعب العراقي، بل ...
- الغاز الطبيعي العراقي: هدرٌ أم استغلال لمصلحة الوطن ؟
- وزارة النفط وغاز العراق ومحنة الشعب العراقي
- الاقتصاد العراقي: الماضي والحاضر وخيارات المستقبل
- دولة القانون تبدد 75 مليار دولار من أموال الشعب العراقي وتعر ...


المزيد.....




- -بلدنا- القطرية تستثمر 3.5 مليارات دولار لإقامة مشروع للحليب ...
- خبراء يفسرون لـCNN أسباب خسارة البورصة المصرية 5 مليارات دول ...
- اقتصادي جدا.. طريقة عمل الجلاش المورق بدون لحمة وبيض
- تحد مصري لإسرائيل بغزة.. وحراك اقتصادي ببريكس
- بقيمة ضخمة.. مساعدات أميركية كبيرة لهذه الدول
- بركان ينفت الذهب في أقصى جنوب الأرض.. ما القصة؟
- أبوظبي تجمع 5 مليارات دولار من طرح أول سندات دولية منذ 2021 ...
- -القابضة- ADQ تستثمر 500 مليون دولار بقطاعات الاقتصاد الكيني ...
- الإمارات بالمركز 15 عالميا بالاستثمار الأجنبي المباشر الخارج ...
- -ستوكس 600- يهبط ويتراجع عن أعلى مستوى في أسبوع


المزيد.....

- تنمية الوعى الاقتصادى لطلاب مدارس التعليم الثانوى الفنى بمصر ... / محمد امين حسن عثمان
- إشكالات الضريبة العقارية في مصر.. بين حاجات التمويل والتنمية ... / مجدى عبد الهادى
- التنمية العربية الممنوعة_علي القادري، ترجمة مجدي عبد الهادي / مجدى عبد الهادى
- نظرية القيمة في عصر الرأسمالية الاحتكارية_سمير أمين، ترجمة م ... / مجدى عبد الهادى
- دور ادارة الموارد البشرية في تعزيز اسس المواطنة التنظيمية في ... / سمية سعيد صديق جبارة
- الطبقات الهيكلية للتضخم في اقتصاد ريعي تابع.. إيران أنموذجًا / مجدى عبد الهادى
- جذور التبعية الاقتصادية وعلاقتها بشروط صندوق النقد والبنك ال ... / الهادي هبَّاني
- الاقتصاد السياسي للجيوش الإقليمية والصناعات العسكرية / دلير زنكنة
- تجربة مملكة النرويج في الاصلاح النقدي وتغيير سعر الصرف ومدى ... / سناء عبد القادر مصطفى
- اقتصادات الدول العربية والعمل الاقتصادي العربي المشترك / الأستاذ الدكتور مصطفى العبد الله الكفري


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادارة و الاقتصاد - محمد علي زيني - خارطة طريق اقتصادية (الحلقة الثانية)