أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كامل الجباري - الأيام الأخيرة















المزيد.....

الأيام الأخيرة


كامل الجباري

الحوار المتمدن-العدد: 3277 - 2011 / 2 / 14 - 23:23
المحور: الادب والفن
    


كانت غرفة صغيرة ، طولها ثلاثة أمتار و عرضها متران، قد بنيت من الطابوق الطيني (اللبن) بناءاً سيئا . لقد بناها جنود وحدتنا العسكرية لتكون سجناً يودع فيه المعاقبون لفترة زمنية قصيرة لمخالفتهم للأوامر و القوانين العسكرية،أو من أصحاب المجالس التحقيقية الذين ينتظرون محاكمتهم . كانت الغرفة أشبه بصندوق عتاد رباعية (الشلكا) المضادة للطائرات ، و إن اختلفت معه في الإبعاد ، و كذلك وجود فتحة صغيرة للتهوية لا يستطيع النفاذ منها سوى حيوان صغير بحجم القط .
على الرغم من هشاشة هذا البناء ، حيث يخيل إليك أنك تستطيع هدمه بركلة قوية ، إلا أنك تشعر، نفسيا ، بجدرانه و كأنها " جدار برلين " في إحكامه و الحراسة المشددة عليه ، رغم إن حارس السجن هو جندي يمسك ببندقية (كلاشنكوف) ، يقضي واجبه الممل و هو ينظر في ساعته اليدوية بضيق من حين لآخر في انتظار بديله ولا يقل تأزما و حنقا و سخطا عن المحبوسين ، و قد يكون واحدا منهم في يوم من الأيام .
نحن ألآن في حالة حرب طويلة ضروس حيث يدخل الجيش فيها ما يسمى بالحركات الفعلية و تنتشر الوحدات العسكرية خارج معسكراتها الثابتة . كان معسكرنا واحدا من تلك المعسكرات المتناثرة في منطقة ( النشوة ) حيث بدت تلك المعسكرات كجزر متناثرة في هذه البيداء الواسعة الإطراف ، إضافة إلى وجود بعض المزارع و القرى الصغيرة التي بقي فيها ساكنوها غير عابئين بالخطر الشديد الذي تسببه المعارك الشرسة لهم على جانبي الحدود ، حيث الأصوات المزمجرة للطائرات الحربية و القصف المدفعي ، و كذلك هدير الدبابات والعجلات العسكرية الذي يكاد أن يكون طقسا يوميا حيث رائحة الموت هي الرائحة السائدة .
كانت غرفة السجن تغص بالسجناء تارة ، و تخلو منهم تارة أخرى، فيما بقي هو الساكن الوحيد الثابت في انتظار ترحيله إلى ( محكمة الثورة ) في بغداد بتهمة سياسية قد تؤدي به إلى ألإعدام . لم يكن يؤنسه في وحدته هذه سوى وريقات و قلم يبثها همومه و شجونه.
لقد كنا صديقين ، ولدنا في شهر واحد وترعرعنا معاً . قلت له : لا أستطيع أن أتصل بك مباشرة فأنت تعرف أن حاسة الشم عندهم عالية . و كان بعض المتعاطفين معه ينقلون لي رسائله التي يبعث بها إلى أهله و أصدقائه حيث احملها لهم في أجازاتي الدورية .
كان آخر ما أرسله إلي خواطره التي دونها قبل ترحيله إلى المحكمة ، و قد ارتأيت نقلها ، بعد تردد مني ، كما هي بدون تدخل.
أحلامي ألأخيرة
مضت علي شهور طويلة ثقيلة ، كليل بهيم حالك لا يبدوا أنه سينجلي ، و أنا قابع في هذه الغرفة الطينية المعلبة بانتظار موعد المحاكمة المعروفة النتائج سلفاً بالنسبة للقضايا السياسة . إن القضايا "السياسية" عندنا متنوعة و غريبة قد تبدأ بتجريمك إذا ما لففت حذائك الجديد أو بقايا طعامك بجريدة، بدون انتباه منك ، فيها صورة القائد أو شعاراً حزبياً. أو تذمرت من شيء كانقطاع الكهرباء أو اختفاء بعض المواد الغذائية . أما قيام مجهول بكتابة شعار ينتقد الحكومة على جدار بيتك ليلاً فهو النهاية لك و لعائلتك . لازلت اذكر أحد الطلبة الذي شاهد مناماً فيه انقلاب عسكري على السيد الرئيس و باح به إلى عدد من أصدقائه و من ثم اختفى بعدها و لم يعرف عنه شيئاً . إما قراءتك لمنشور سري أو انتمائك إلى تنظيم سياسي فهو الطامة الكبرى لك و لعائلتك .
أمسكت قلمي بعد أن تلاشت أصوات المدافع و انفجارات القذائف المختلفة التي مزقت سكون الليل . لقد قضيت الليلة منزويا في زاوية ضيقة من زوايا غرفة السجن الطينية ، طلبا للاحتماء من القصف ! قد يبدو ذلك مضحكا ، فما الذي تستطيع فعله ، هذه الجدران الطينية ، تجاه أبواب جهنم التي فتحت على مصراعيها و ألقت بحممها ؟! إن الغريق قد يتعلق بقشة، كما يقال ، رغم أنها لا تنفع و لا تضر ، و لكنها غريزة التعلق بالحياة . أليست لعبة الحرب هي لعبة الموت؟
ألآن ، بعد أن بلغت بموعد محاكمتي ، أحسست برغبة جارفة في تدوين مشاعري الأخيرة على الورق . قد تستغربون كثيرا من " سياسي " التحدث بما سأتحدث عنه في أيامي الأخيرة . عادةً ما يتحدث السياسيون ، في مناسبات مثل هذه عن ذكريات النضال و مصاعبه ، و حكمتهم الأخيرة و توصياتهم ، إلا أني لم احلم و لم أفكر سوى بحبيبتي !
أرجوكم ألا تشجبوا أو تستنكروا و اسمحوا لي أن اعرض وجهة نظري . لقد فكرت كثيرا قبل أن اكتب اعترافي هذا ، و لكن بدا لي إن اللحظات الأخيرة هي لحظة الحقيقة و الصدق "فمن يوقف نزيف الدم في ذاكرة المحكوم بالإعدام ؟! " قد تجدون ألأمر غريبا و قد تقولون عني : ياله من حسي فاسق ، حيث أني قد أمضيت هذه الشهور و أنا احلم بأحضان حبيبتي ، و لكنني سأصدم فضيلتكم الزائفة بكلمات ( لوركا ) لحبيبته :( كيف أهبك قلبي إذا لم أكن حرا؟) وأنا أقول لكم كيف أكون حرا و أدافع عن قضية ما و أنا اخجل من احتضان حبيبتي ؟!
رؤى و أحلام عديدة قد راودتني طيلة هذه الشهور الثقيلة و لكنني سأدونها برمزية ، حتى لا افرح جلادي إذا ما عثر على هذه الوريقات ، فالجلاد لا يفهم الرمز لأنه غبي دائما و متبلد الذهن ، و حتى لا تصادر هذه الوريقات كما صودرت أحلامي !
* كليل متلفع بالسواد ، ينتظر ضوء القمر .. انتظرتك
و عندما أغتسل الليل بضياء فضي ..
انزوت روحي في ظلال عميقة.
* اقتاد روحي ، ذات مرة في ليلة حالكة ، ملاك لم أرى له مثيلاً .
وحين شاهد عذاباتي ، غاب كشهاب سطع لوهلة .
لقد تركني وحيداً أجتر ألمي .
* عجيب أنا ..
يضنيني ألتوق إلى الارتواء .
وعندما أقترب من حافات روحك ..
ينهار في داخلي رجل شجاع .
* ذات يوم قررت أحلامي أن تغادر إلى بر متشح بلون أخضر .
امتدت أمامها صحراء قاحلة ليس لها نهاية .. ولكن بلا واحات .
رؤى كثيرة ، كوساطات عقيمة ، لم تصالحني مع ذاتي المتمردة . لقد كان هنالك الكثير مما أردت قوله ولكنني لن أمنحهم نشوة معرفة كل شيء عني . سأدع الفضول يقتلهم . لقد راودتني أسئلة شتى لم تجد الإجابة بعد وقد لفها الليل بذأباته المشعثة ، وحيث أني ذاهب إلى ( درب الصد ما رد ) كما تحكي أحدى الحكايات الشعبية ، فأن رجائي الأخير ، والذي أتمنى ألا يصادر أيضاً ، رجائي لمن يعثر على هذه الوريقات أن يرسلها إلى حبيبتي ، وإن تعذر عليه ذلك أرجوا أتلافها مع شكري مقدماً ... وداعاً .
النشوة
1985م
لم أستطع العثور على حبيبته حيث إنها اختفت فجأة ، وهو أمر كثير الحدوث في بلدي ، مما أضطرني إلى أخفاء هذه الوريقات كما أخفي دليلاً جرمياً خطيراً . مرت عقود ثقيلة وتبدل الحاكمون . وحيث إننا لم نعرف مصيره قط حتى أستأذنه في نشر أحلامه الأخيرة لجأت إلى استئذان والدته العجوز .
- أماه .. لقد تغيرت الأمور وصارت عندنا فسحة من التعبير . هل تأذنين لي بنشر أحلامه ؟
ردت العجوز بقرف ولا مبالاة .
- ما الذي تغير ياولدي ، فما زالوا يمنعونه من احتضان حبيبته ؟!
أطرقت برأسها هنيئه ثم قالت : تيتي تيتي .. مثل ما رحتي أجيتي .
أغضبني يأس ومرارة الكلمات التي فاهت بها ألامرأة العجوز ومن أجلها وأجلنا جميعاً صممت على نشر أحلامه علها تساعدنا على احتضان حبيباتنا قبل أن يطبق الظلام تماماً علينا من جديد .



#كامل_الجباري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الثورة الخلاقة ضد الفوضى الخلاقة
- تونس – مصر
- ثورة تونس - قراءة أولية
- ثورة تونس وخطر الالتفاف
- عندما يفهم السيد الرئيس !
- الانسان واساطيره-2-
- ليس شتما سيدي النقيب
- واقع الطبقة العاملة العراقية
- أبناء الاجواد
- الارهابي
- الرفيق بوش والراسماليون الجدد
- شجرة الصفصاف
- الإنسان وأساطيره
- هلوكوست غزة
- إشكالية كركوك
- شاهد من الزمن الجديد-4-
- مشاهد من ‘‘الزمن الجديد’’ -1-
- الإشكال اللبناني
- قصص قصيرة جدا -الحكاية الرابعة عشر لهلكان العريان
- رسائل (هلكان العريان)الثانية والعاشرة


المزيد.....




- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كامل الجباري - الأيام الأخيرة