أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمد الحداد - قراءة في طبائع الاستبداد ج 3















المزيد.....


قراءة في طبائع الاستبداد ج 3


محمد الحداد

الحوار المتمدن-العدد: 3270 - 2011 / 2 / 7 - 23:23
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


تحدثنا في الجزء الأول بصورة موجزة غير موسعة عن حياة عبد الرحمن الكواكبي صاحب كتابنا طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد الذي نحاول مناقشته في هذا الجزء والأجزاء القادمة، ومن أراد التوسع بمعرفة أكبر عن حياته وما عاناه فيها من أجل حرية الكلمة، فعليه بكتاب حفيده القاضي سعد زغلول الكواكبي المسمى عبد الرحمن الكواكبي سيرة ذاتية.
وجدت أثناء بحثي عن كتاب طبائع الاستبداد نسختين في النت، احداهما بصيغة ملفات أدوبي صادرة عن دار النفائس، يذكرون على غلافها أنها طبعة كاملة ومنقحة، صدرت بمناسبة المئوية الأولى لوفاة المؤلف عبد الرحمن الكواكبي، وهي تحوي تقديم للدكتور أسعد السحمَراني، ونسخة ثانية بصيغة ملفات وورد ويندوز بمقدمة للمؤلف فقط أسماها فاتحة الكتاب .
لذا سيكون نقلي للنص عن نسخة وورد لسهولتها، ومع ذلك سأقوم بمراجعة كل فقرة فيها مع نسخة أدوبي لاحتمالية وجود اختلافات في النص .
كما أود القول بأني سأذكر فقط كلمة المؤلف، وأعني بها تحديدا هنا عبد الرحمن الكواكبي، وذلك حتى لا يعاد ذكر اسمه دائما .
يبدأ الكتاب بكلمة أنقلها لكم كما هي :
الرحالة ك
طبائع الاستبداد
و
مصارع الاستعباد


وهي كلمة حق و صرخة في واد
إن ذهبت اليوم مع الريح
لقد تذهب غداً بالأوتاد
انتهى الاقتباس .
وهنا نجد أن المؤلف استعمل كلمة الرحالة ك، وهذا دليل على أن طبعته الأولى للكتاب والتي انتهت من السوق بسرعة في حياته، لم تكن تحمل اسمه الحقيقي، بل اسما مستعارا، وذلك يدلنا على شيئين، أولهما أن همه كان منصبا على توصيل الفكر الموجود بالكتاب، ولم يكن يعنيه أن تعرفه الناس، أو أن يكون انتماء الكتاب إليه، وهذا ديدن من يريد نشر الفكر والموضوع دون شهرة شخصية.
وثانيهما يبرز مدى تخوفه المبرر من سلطة الاستبداد في حينها بسبب ما خبره منها، وكثرة التضييق الذي مارسته ضده، وقد خاف أن يصادر الكتاب بسبب اسمه لو وضع عليه قبل أن يقرأه كثرة من الناس .
وهذا حل عملي جدير بالإتباع لمن يرى تضييقاً لا خلاص منه، فيستطيع النشر بأسماء مستعارة حتى يبعد الشبهة عنه، وتستطيع افكاره الوصول لمتلقيها .
ولكني لا أحبذها دائما كما يفعل كثير من المعلقين على شبكة النت بانتحال اسماء مستعارة للطعن بكاتب معين أو عمل معين، فحقوق الملكية الفكرية وجب حفظها واحترامها دائما، والتخفي وراء اسماء من اجل الطعن بالناس لن يكون مبررا مطلقا، فالتبرير مقيد للضرورة القصوى كوجود تقييد سلطوي مثلا .
في المقدمة التي قدمها الدكتور أسعد السحمراني في نسخة أدوبي، جاء التالي :
مقدمة
الاستبداد داء تبتلى به بعض الشعوب في بعض مراحل التأريخ، وهو أسوأ أنواع السياسة، وأكثرها فتكاً بالإنسان وبغير الإنسان في المجتمع المحكوم بالظلم والطغيان، مما يؤدي الى التراجع في كافة مرافق الحياة ووجوهها، والى تعطيل الطاقات وهدرها، والى سيادة النفاق والرياء بين مختلف فئات الشعب، حكاما ومحكومين .
وقد أكتوى الكواكبي، وكل مجتمعه وأمته، بمثل هذا النوع من الحكم، وتكتوي مجتمعات وبلدان كثيرة، في يومنا هذا، به ، ويصح القول : ما أشبه اليوم بالأمس . هذا الواقع هو الذي دفعنا الى الاهتمام بكتاب الكواكبي طبائع الاستبداد، فقمنا بتحقيق نصه وضبطه، وقدمنا له بموضوع تحت عنوان ( بين الحرية والاستبداد) . والقصد من ذلك تعميم فائدة الاطلاع على هذا الكتاب الصغير بحجمه، الكبير بمضامينه، والذي كان فيه صاحبه مثالاً للرجل المؤمن، الذي يجاهد بنفسه في سبيل إعلاء كلمة الحق وإشهارها .
أننا نرى الكواكبي في هذا الكتاب يتحدث بجرأة وصراحة متناهيتين في عصر يسوده الاستبداد، وتخنق فيه الكلمة في الحناجر، وفي ظل حكم لا يرحم، ولا يسمع أو يعي .
أن هذا الكتاب لا يجرؤ على تسطيره إلا رجل آمن بالله فجاهد حق الجهاد، وآمن بالإصلاح فوقف له حياته وكل ما يملك .
وكتاب طبائع الاستبداد بما تضمنه، ليس نقدا للحكومات فحسب، بل فيه تبصير للشعوب بواقعها المؤلم، وفيه دعوة للاستنهاض وأيقاظ النيام لكي يثوروا على كل مستبد ظالم، وعلى كل مستعمر طامع .
لكل هذا أدعوا شبابنا الساعي للإصلاح وللتحرر والتقدم، لقراءة هذه الصيحة المدوية، وهذه الكلمة المعبرة الجريئة، بشكل متأنٍ حتى تأتي فعلها في نفوسهم، فيكونوا من طلاب المجد لا التمجد والتمجيد .

الدكتور أسعد السحمراني
وبذا تنتهي مقدمة الدكتور أسعد السحمراني القصيرة والرائعة بآن واحد، ليتحدث بعدها بعجالة عن نشأة وحياة المؤلف، وكنا قد تعرضنا لها في السابق، فلا داعي للتكرار.
ثم جاء بعدها فصل الحرية والاستبداد بقلم الدكتور أسعد كإضافة رائعة للكتاب، برغم إيماننا أنه لا يحتاج لإضافات من غيره، لكن لا ضير في التوسع بموضوعنا، والأخذ بأكثر من منبع حيوي، كي نزداد علما ونورا، فجاء التالي:
كانت الحرية، وستبقى، مطلباً وغاية يسعى لها كل آدمي بكل ما أوتي من قدرة، وبالمقابل كان الإستبداد، وسيبقى، داءاً معطلاً لحركة التقدم في المجتمعات، ونمطاً سياسياً يمقته ويحاول التخلص منه الآدميون الذين فطروا على قرار إلهي (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) .
من تلمس معنى هذه الآية الكريمة يلاحظ أنها قد أعطت الإنسان نوعاً من الحقوق المقدسة التي لا يجوز المساس بها، وهذه الحقوق تشمل كافة جوانب حياته، بدءاً بحرية العقيدة التي ترك الإختيار فيها للفرد، لأنه المحاسب على ذلك دون غيره في الآخرة، وبالتالي فليؤمن، أو فليكفر طالما أنه بما كسب رهين.
وانطلاقاً من ذلك، أعطي، ليس البشر فحسب، وإنما الرسل أنفسهم، حق الدعوة بالحكمة، والإقناع، والمجادلة بالتي هي أحسن، ولم يعط لا رسول، ولا نبي، ولا بشر عاديون، حق إكراه الآخرين على الإيمان، ولهذا كان الخطاب للنبي محمد ( فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ ) .
ومن هذا القبيل، في مجال حرية العقيدة، كان التشريع البين في قوله تعالى ( لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ).
من حرية العقيدة هذه، ومن التوحيد نفسه الذي هو مقدمة للإيمان وأساس له، ومن موضوع تكريم الإنسان، أي إنسان، يكون المؤمن بالضرورة حكيماً في تقدير الآخرين، ورعاية حدودهم وحقوقهم. لذلك فإن المؤمن لا يستعبد أحداً، وبمقابل ذلك لا يرضى بالعبودية. والمؤمن لا يظلم أحداً، وبمقابل ذلك لا يرضى بالظلم، أو يستسلم للظالم.
هذا عن حرية العقيدة، وبعدها نرى أن الحرية مضمونة للمؤمن في ثوابت التشريع، وحتى لغير المسلم في المجتمع الإسلامي، لأن الإكراه ممقوت، ومعاقب عليه من أي إنسان صدر ولأي إنسان وجه، وهذا ما تحدده الآية الكريمة عن ضرورة التزام العدل من قبل صاحب السلطة و المسؤولية، دون أن يستثنى أحد من التزام العدل تجاهه، وقول الله تعالى في ذلك لا يقبل التأويل: (وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ ) .
تأسيساً على ما تقدم، يمكننا القول: إن السياسة هي إدارة شؤون أبناء المجتمع وفق أصول وقواعد تحفظ حقوق كل إنسان، وتكون هذه الإدارة بالتعاون والرضا من الجميع حاكمين ومحكومين.
وإذا كان التكامل والتكافل عنصرين رئيسيين لضمان الوحدة المجتمعية، فإن العدالة التي تؤسس على نظام التآخي بين أفراد المجتمع، والتي تعطي لكل ذي حق حقه، هي الأرض الخصبة التي ينموا فيها هذا التكامل والتكافل، حتى يكون أبناء المجتمع كأعضاء الجسد الواحد فعلا في توادهم وتلاحمهم. وهذا النمط السياسي هو ما أسسه الإسلام، وما عرف بالنظام الشوروي المأمور به. وانسجاماً مع هذا الاستنتاج ترسخ في ضمير الناس أن العدل طريق البناء والتقدم، وأن الظلم والاستبداد هما طريق التخلف والتأخر، مما جعل ذلك متلخصاً في مثل شعبي تتناقله الألسن، وتتوارثه الأجيال وفيه: الظلم إن دام دمر، والعدل إن دام عمَّر .
لقد جعل الله تعالى الإنسان خليفة في الأرض، وجعل له مهمة إعمارها، والسعي الدائم لحياة أفضل تتحقق فيها سعادة الجماعة، لا نزوات الفرد. وتحقيقاً لهذه الغاية، كانت الاستقامة والاعتدال نقيض الظلم والطغيان الذين يولدان التنافر بين الجماعة، ويفسدان وحدتها، ويورثانها التنازع والتغالب بشيء من الحيوانية التي تنحط كثيراً عن قدر السلوك المفترض اتباعه إنسانياً. وفي هذا الجانب من خطورة الظلم والطغيان أمر الله تعالى عباده التائبين بهجره فكان قوله الحق: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا ) .
وفي الجانب الآخر من موضوع الطغيان، أي في حال أراد شخص ما أن يظلم الآخرين، ويخضعهم لسلطانه ليكونوا مستضعفين لديه، عبيداً له، فإن الإنسان مأمور بمقاومة ذلك ومجابهته، لأنه من غير الجائز أن يقبل المؤمن بعبودية لغير الله، وإذا ما ارتضى لنفسه الذل، وقبل بالظلم دون أن يثور عليه، فإن عقابه لا يقل عمن مارس الطغيان.
فالطاغية كالقابل بالطغيان، والظالم كمن إرتضى الظلم، فالنار هي للإثنين معاً، وهذا الحكم نراه في قول الله تعالى : ( فَأَمَّا مَن طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى )، وكذلك قوله تعالى ( وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ) .
لقد نهى الله تعالى عباده عن التظالم فيما بينهم، وكيف لا وهو الذي حرم الظلم للناس حتى على نفسه جل جلاله. ولأن النهي عن الطغيان وعن التسليم للظالم بيِّن مأمور به، فإن الإنسان هو المسؤول وحده عن إيجاد صيغ الحكم الإستبدادي، ونمط العلاقات الإجتماعية التي يعيش فيها صيف وشتاء على سقف واحد، ويقيم فيها ظالم ومظلوم في آن واحد. إن إتباع قانون الحكم بالعدل المأمور به شرعاً، والتزام المؤمن لخط الحركة الجهادية ضد كل منكر هما سفينة النجاة للإنسان ولمجتمعه، ومعاكسة ذلك مدعاة لسيادة الظلم الذي يكون الإنسان مصدره في مثل هذه الحالة، وهذا ما نتلمسه في مدلول حكم الآية الكريمة التي جاء فيها : (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ).
أكتفي بهذا القدر من فصل الحرية والاستبداد للدكتور أسعد السحمراني، وأنتقل الى فاتحة الكتاب التي كتبها الكواكبي نفسه، حيث جاء التالي:

بسم الله الرحمن الرحيم
فاتحة الكتاب
الحمد للّه، خالق الكون على نظامٍ محكم ٍ متين، والصّلاة والسّلام على أنبيائه العظام، هداة الأمم إلى الحقّ المبين، لاسيما منهم على النبيّ العربيّ الذي أرسله رحمة ً للعالمين ليرقى بهم معاشاً ومعاداً على سلّم الحكمة إلى علّيين.
أقولُ وأنا مسلم عربي مضطر للاكتتام شأن الضّعيف الصّادع بالأمر، المعلن رأيه تحت سماء الشرق، الرّاجي اكتفاء المطالعين بالقول عمًّن قال: وتعرف الحقّ في ذاته لا بالرجال، إنني في سنة ثماني عشر وثلاثمائة وألف هجرية هجرتُ دياري سرحاً في الشّرق، فزرتُ مصر، واتخذتها لي مركزاً أرجع إليه مغتنماً عهد الحرّيّة فيها على عهد عزيزها حضرة سميًّ عم النّبي ( العباس الثاني ) النّاشر لواء الأمن على أكناف ملكه، فوجدتُ أفكار سراة القوم في مصر كما هي في سائر الشّرق خائضةٌ عباب البحث في المسألة الكبرى، أعني المسألة الاجتماعية في الشّرق عموماً وفي المسلمين خصوصاً، إنما هم كسائر الباحثين، كلّ ٌ يذهب مذهباً في سبب الانحطاط وفي ما هو الدواء. وحيثُ إني قد تمحّص عندي أنّ أصل الدّاء هو الاستبداد السّياسي ودواؤه دفعه بالشّورى الدّستورية. وقد استقرَّ فكري على ذلك ـ كما أنّ لكُلّ نبأ مستقراً ـ بعد بحث ثلاثين عاماً... بحثاً أظنّهُ يكاد يشمل كلّ ما يخطرُ على البال من سبب يتوهّمُ فيه الباحث عند النظرةِ الأولى، أنهُ ظفر بأصل الدّاء أو بأهمّ أصوله، ولكنْ؛ لا يلبث أنْ يكشف له التّدقيق أنّه لم يظفر بشيء، أو أنّ ذلك فرعٌ لا أصل، أو هو نتيجة لا وسيلة .
فالقائلُ مثلاً: إنّ أصل الدّاء التّهاون في الدّين، لا يلبث أنْ يقف حائراً عندما يسأل نفسه لماذا تهاون النّاس في الدّين؟ والقائل: إنّ الدّاء اختلاف الآراء، يقف مبهوتاً عند تعليل سبب الاختلاف. فإن قال: سببه الجهل، يَشْكُلُ عليه وجود الاختلاف بين العلماء بصورة أقوى وأشدّ... وهكذا؛ يجد نفسه في حلقة مُفرغة لا مبدأ لها، فيرجع إلى القول: هذا ما يريده الله بخلقه، غير مكترث بمنازعة عقله ودينه له بأنّ الله حكيمٌ عادلٌ رحيمٌ...
وإنّي، إراحةً لفكر المطالعين، أعدّد لهم المباحث التي طالما أتعبتُ نفسي في تحليلها، وخاطرتُ حتّى بحياتي في درسها وتدقيقها، وبذلك يعلمون أنّي ما وافقتُ على الرّأي القائل بأنّ أصل الدّاء هو الاستبداد السّياسي إلا بعد عناءٍ طويل يرجحُ قد أصبتُ الغرض. وأرجو الله أنْ يجعل حُسنَ نيَّتي شفيع سيئاتي، وهاهي المباحث:
في زيارتي هذه لمصر، نشرتُ في أشهر جرائدها بعض مقالات سياسية تحت عنوانات الاستبداد: ما هو الاستبداد وما تأثيره على الدّين، على العلم، على التّربية على الأخلاق، على المجد، على المال... إلى غير ذلك.
ثم في زيارتي إلى مصر ثانيةً أجبتُ تكليف بعض الشبيبة، فوسّعتُ تلك المباحث خصوصاً في الاجتماعيات كالتربية والأخلاق، وأضفت إليها طرائق التخلُّص من الاستبداد، ونشرتُ ذلك في كتاب سمَّيته (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) وجعلته هديةً مني للنّاشئة العربية المباركة الأبية المعقودة آمال الأمة بيُمْنِ نواصيهم. ولا غروَ، فلا شباب إلا بالشباب.
ثمّ في زيارتي هذه، وهي الثالثة، وجدتُ الكتاب قد نفد في برهةٍ قليلة، فأحببتُ أن أعيد النّظر فيه، وأزيده زيداً مما درستُهُ فضبطتُه، أو ما اقتبستُه وطبَّقتُه، وقد صرفتُ في هذا السبيل عمراً عزيزاً وعناءً غير قليل... وأنا لا أقصد في مباحثي ظالماً بعينه ولا حكومةً وأمَّة مخصصة، وإنما أردتُ بيان طبائع الاستبداد وما يفعل، وتشخيص مصارع الاستعباد وما يقضيه ويمضيه على ذويه... ولي هناك قصدٌ آخر؛ وهو التنبيه لمورد الداء الدّفين، عسى أن يعرف الذين قضوا نحبهم، أنهم هم المتسببون لما حلَّ بهم، فلا يعتبون على الأغيار ولا على الأقدار، إنما يعتبون على الجهل وفَقْدِ الهمم والتّواكل.. وعسى الذين فيهم بقية رمقٍ من الحياة يستدركون شأنهم قبل الممات...
وقد تخيّرتُ في الإنشاء أسلوب الاقتضاب، وهو الأسلوب السّهل المفيد الذي يختاره كُتَّاب سائر اللغات، ابتعاداً عن قيود التعقيد وسلاسل التّأصيل والتّفريغ. هذا وإنّي أخالف أولئك المؤلِّفين، فلا أتمنى العفو عن الزلل؛ إنما أقول:
هذا جهدي، وللناقد الفاضل أن يأتي قومه بخير منه. فما أنا إلا فاتح باب صغير من أسوار الاستبداد. عسى الزمان يوسِّعه، والله وليُّ المهتدين.


1320هـ- 1902م
و أتت بعدها المقدمة، وهي التالية :

مقدمة

لا خفاء أنّ السّياسة علمٌ واسعٌ جدّاً، يتفرّعُ إلى فنون كثيرة ومباحثَ دقيقة شتّى. وقلّما يوجد إنسان يحيط بهذا العلم، كما أنّه قلّما يوجد إنسان لا يحتكُّ فيه.
وقد وُجد في كلِّ الأمم المترقية علماءُ سياسيون، تكلّموا في فنون السّياسة و مباحثها استطراداً في مدوّنات الأديان أو الحقوق أو التاريخ أو الأخلاق أو الأدب. ولا تُعرف للأقدمين كتبٌ مخصوصة في السّياسة لغير مؤسِّسي الجمهوريات في الرّومان واليونان، وإنّما لبعضهم مُؤلّفات سياسية أخلاقية ككليلة ودمنة ورسائل غوريغوريوس، ومحرّرات سياسية دينية كنهج البلاغة وكتاب الخراج.
وأما في القرون المتوسطة فلا تؤثر أبحاث مُفصّلة في هذا الفن لغير علماء الإسلام؛ فهم ألّفوا فيه ممزوجاً بالأخلاق كالرّازي، والطّوسي، والغزالي، والعلائي، وهي طريقة الفُرْسِ، وممزوجاً بالأدب كالمعرّي، والمتنبّي، وهي طريقة العرب، وممزوجاً بالتاريخ كابن خلدون، وابن بطوطة، وهي طريقة المغاربة.
أمّا المتأخِّرون من أهل أوروبا، ثمَّ أمريكا، فقد توسَّعوا في هذا العلم وألّفوا فيه كثيراً وأشبعوه تفصيلاً، حتَّى إنّهم أفردوا بعض مباحثه في التّأليف بمجلّدات ضخمة، وقد ميّزوا مباحثه إلى سياسة عمومية، وسياسة خارجية، وسياسة إدارية، وسياسة اقتصادية، وسياسة حقوقية، إلخ. وقسّموا كلاً منها إلى أبواب شتَّى وأصول وفروع.
وأمّا المتأخِّرون من الشرقيين، فقد وُجد من التّرك كثيرون ألّفوا في أكثر مباحثه تآليف مستقلّة وممزوجة مثل: أحمد جودة باشا، وكمال بك، وسليمان باشا، وحسن فهمي باشا، والمؤلّفون من العرب قليلون ومقلّون، والذين يستحقّون الذكر منهم فيما نعلم: رفاعة بك، وخير الدّين باشا التّونسي، وأحمد فارس، وسليم البستاني،والمبعوث المدني.
ولكنْ؛ يظهر لنا أنّ المحرِّرين السّياسيين من العرب قد كثروا، بدليل ما يظهر من منشوراتهم في الجرائد والمجلات في مواضع كثيرة. ولهذا، لاح لهذا العاجز أنْ أُذكّر حضراتهم على لسان بعض الجرائد العربية بموضوع هو أهمّ المباحث السّياسية، وقلَّ من طرق بابه منهم إلى الآن، فأدعوهم إلى ميدان المسابقة في خير خدمة ينيرون بها أفكار إخوانهم الشرقيين وينبِّهونهم ـ لاسيما العرب منهم ـ لما هم عنه غافلون، فيفيدونهم بالبحث والتّعليل وضرب الأمثال والتّحليل (ما هو داء الشّرق وما هو دواؤه؟).
ولمّا كان تعريف علم السّياسة بأنّه هو «إدارة الشّؤون المشتركة بمقتضى الحكمة» يكون بالطّبع أوّل مباحث السّياسة وأهمّها بحث (الاستبداد)؛ أي التّصرُّف في الشّؤون المشتركة بمقتضى الهوى.
وإنّي أرى أنّ المتكلِّم في الاستبداد عليه أن يلاحظ تعريف وتشخيص ((ما هو الاستبداد؟ ما سببه؟ ما أعراضه؟ ما سيره؟ ما إنذاره؟ ما دواؤه؟)) وكلُّ موضوع من ذلك يتحمّل تفصيلات كثيرة، وينطوي على مباحث شتّى من أمهاتها: ما هي طبائع الاستبداد؟ لماذا يكون المستبدُّ شديد الخوف؟ لماذا يستولي الجبن على رعية المستبدّ؟ ما تأثير الاستبداد على الدّين؟ على العلم؟ على المجد؟ على المال؟ على الأخلاق؟ على التَّرقِّي؟ على التّربية؟ على العمران؟
مَنْ هم أعوان المستبدّ؟ هل يُتحمّل الاستبداد؟ كيف يكون التّخلص من الاستبداد؟ بماذا ينبغي استبدال الاستبداد؟
قبل الخوض في هذه المسائل يمكننا أن نشير إلى النّتائج التي تستقرُّ عندها أفكار الباحثين في هذا الموضوع، وهي نتائج متَّحدة المدلول مختلفة التعبير على حسب اختلاف المشارب والأنظار في الباحثين، وهي:
يقول المادي: الدّاء: القوة، والدّواء: المقاومة.
ويقول السّياسي: الدّاء: استعباد البرية، والدّواء: استرداد الحرّيّة.
ويقول الحكيم: الدّاء: القدرة على الاعتساف، والدّواء: الاقتدار على الاستنصاف.
ويقول الحقوقي: الدّاء: تغلّب السّلطة على الشّريعة، والدّواء: تغليب الشّريعة على السّلطة.
ويقول الرّبّاني: الدّاء: مشاركة الله في الجبروت، والدّواء: توحيد الله حقّاً.
وهذه أقوال أهل النظر، و أمّا أهل العزائم:
فيقول الأبيُّ: الدّاء: مدُّ الرّقاب للسلاسل، والدّواء: الشّموخ عن الذّل.
ويقول المتين: الدّاء: وجود الرّؤساء بلا زمام، والدّواء: ربطهم بالقيود الثّقال.
ويقول الحرّ: الدّاء: التّعالي على النّاس باطلاً، والدّواء: تذليل المتكبّرين.
ويقول المفادي: الدّاء: حبُّ الحياة، والدّواء: حبُّ الموت.

محمد الحداد
07 . 02 . 2011



#محمد_الحداد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ماذا قال مبارك لوزرائه في أعقاب يوم الغضب؟
- قراءة في طبائع الاستبداد ج 2
- قراءة في طبائع الاستبداد ج 1
- بحث مقارن ج 14
- قصيدة مجهولة النسب
- بحث مقارن ج 13
- بحث مقارن ج 12
- بحث مقارن ج 11
- بحث مقارن ج 10
- بحث مقارن ج 9
- بحث مقارن ج 8
- بحث مقارن ج 7
- بحث مقارن ج 6
- بحث مقارن ج 5
- بحث مقارن ج 4
- بحث مقارن ج 3
- بحث مقارن ج 2
- بحث مقارن
- أعوانُ الظَلَمَة
- دستور الجمهورية العراقية


المزيد.....




- في وضح النهار.. فتيات في نيويورك يشاركن قصصًا عن تعرضهن للضر ...
- برج مائل آخر في إيطاليا.. شاهد كيف سيتم إنقاذه
- شاهد ما حدث لمراهق مسلح قاد الشرطة في مطاردة خطيرة بحي سكني ...
- -نأكل مما رفضت الحيوانات أكله-.. شاهد المعاناة التي يعيشها ف ...
- -حزب الله- ينعي 6 من مقاتليه
- صفحات ومواقع إعلامية تنشر صورا وفيديوهات للغارات الإسرائيلية ...
- احتجاجات يومية دون توقف في الأردن منذ بدء الحرب في غزة
- سوريا تتهم إسرائيل بشن غارات على حلب أسفرت عن سقوط عشرات الق ...
- -حزب الله- ينعي 6 من مقاتليه
- الجيش السوري يعلن التصدي لهجوم متزامن من اسرائيل و-النصرة-


المزيد.....

- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل
- شئ ما عن ألأخلاق / علي عبد الواحد محمد
- تحرير المرأة من منظور علم الثورة البروليتاريّة العالميّة : ا ... / شادي الشماوي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمد الحداد - قراءة في طبائع الاستبداد ج 3